الفلسفة السياسيّة في الإسلام: بنية النصّ المؤسّس دلالات محتملة
بنية النص المؤسس التي أشرنا إلى بعض خصائصها في العجالة السابقة توحي، أو تشير إلى بعض الدلالات التي توصف بأنّها محتملة، لأنّ الحسم في مثل هذه الأمور بصورة يقينيّة ليس في متناول الإنسان الذي لا يملك أكثر من الترجيح.
I أبرز هذه الدلالات في ما يعود للسياق التأليفي
على الرغم من تنوّع مفردات الهداية بذاتها، وتعدد المحاور التي تنتمي إليها، فإنّ هذه المفردات يلابس بعضها بعضًا، ويؤازر بعضها بعضًا بحيث تشكّل مجتمعة كلًّا لا يؤخذ بعضه دون بعض، ولا يُلتَزَم ببعضه دون بعض إلا شوّه الكل والبعض معًا. فمفردات الهداية العباديّة، كما رأينا، تكمل مفردات الهداية الأخلاقيّة والاجتماعيّة والسياسيّة، وهذه تكتسب طابعًا عباديًّا إذا التُزِمَ بها بنية الطاعة لله، سبحانه وتعالى ومفردات الهداية الإيمانيّة تفقد الكثير من معناها وقيمتها إذا لم تتجسد، على صعيد الحياة الإنسانيّة في هذه الدنيا، في مفردات الهداية العباديّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة والسياسيّة. وهذه بدورها تفتقد الكثير من معناها وقيمتها إذا لم ترتبط نيةً ومقصدًا وسلوكًا بمفردات الهداية الإيمانيّة وفي مقدّمتها مفردة التوحيد بأوسع دلالاتها ومقتضياتها.
لكلّ من مفردات الهداية مستويان من المرامي أو الأهداف: الأول هو مستوى المرامي أو الأهداف الدنيويّة. والثاني هو مستوى المرامي والأهداف الأخرويّة. المستوى الدنيوي يرمي إلى تحقيق خلافة الله في إعمار الدنيا بالحق، بدءًا بإعمار النفس بتزكيتها، وانتهاءً بإعمار المجتمع تنظيمًا، وإنتاجًا، وتوزيعًا، وعلاقات مع المجتمعات الأخرى بالقسط والعدل، مرورًا بنظم أمر الجماعات التي يتكوّن منها المجتمع (الأسرة، الجماعة المهنيّة، الجماعة السياسيّة إلخ…) في علاقات أفرادها بعضهم ببعض، وعلاقات كلّ منها مع المجتمع بعيدًا عن التظالم، وبما يحقق التناصف، ويغلّب سنّة التعارف على سنّة التدافع، ويؤدّي إلى رضا الله وكسب نعيمه واتّقاء سخطه وعذابه من خلال الاستجابة لما أمر به والانتهاء عما نهى والجماعيّة، وفي أي مجال كانت هذه الشؤون والقضايا.
مرامي المستوى الدنيوي طريق لمرامي المستوى الأخروي، ومرامي المستوى الأخروي هادية ومرشدة لتحقيق المرامي الدنيوية بالحق. وهذا ما يجعل العلاقة بين المستويين علاقة جدلية لا تقبل الانفصام.
يمكن أن يكون لهذه الجدلية دلالتان:
الأولى: تلازم طرفي الجدلية (المرمى الدنيوي والمرمى الأخروي لمفردة الهداية) في تفاعلهما وتبادلهما التأثر والتأثير بحيث إنّ أيّ فصل بينهما يؤدي إلى التشويه في كليهما، ويتناقض مع السياق التأليفي للقرآن الكريم.
الثانية: تصويب النظرة إلى الحياة الإنسانيّة في هذه الدنيا في مواجهة نظرتين لها وموقفين منها: الأولى النظرة التي تعتبرها مسرح بداية الحياة الإنسانيّة ومسرح نهايتها. ما يجعل الإقبال عليها ونيل ما يمكن من ملذاتها هدفًا لا هدف بعده. والثانية النظرة التي تعتبرها مسرحًا لارتكاب المعاصي والذنوب والآثام ما يجعل العزوف عنها والزهد فيها والتفرّغ للعبادات فيها تقرّبًا إلى الله وطلبًا لنعيمه الأخروي هو الموقف السليم.
وإذا كان الكثير من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبويّة الشريفة تصوّب هاتين النظرتين نصًا، فإنّ الجدلية المشار إليها تؤكد هذا التصويب اعتبارًا: فإذا كان تحقيق الهداية على مستوى التعاطي مع الشأن الدنيوي وسيلة لتحقيق النعيم الأخروي. فكيف يتسنّى لنا فصل الغاية عن وسيلتها، وكيف يمكن أن نجيد استعمال هذه الوسيلة إذا لم نتصالح مع الدنيا، ونقبل عليها ونعمل لاستجادة ما يمكننا من الانتفاع بخيراتها من أدوات وآلات وأنشطة وتنظيم حتى لكأننا ننسى الموت “اعمل لدنياك (أو في دنياك) كأنك تعيش أبدًا”.
لكن إذا كانت مرامي الهداية على المستوى الدنيوي طريقًا ووسيلة لتحقيق مرامي الهداية على المستوى الأخروي، فإنّ هذه الأخيرة تشكّل مرشدًا، وضابطًا وشرطًا لتحقق الأولى على الوجه الصحيح. وهنا تنقلب العلاقة نسبيًّا، فكأنّ مفردات الهداية المتعلّقة بالمستوى الأخروي تتحوّل إلى وسيلة لإرشاد وضبط الهداية على المستوى الدنيوي: “اعمل لآخرتك كأنّك تموت غدًا” ﴿وابتغِ في ما آتاكَ الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا﴾.
تكرار الكلام على العديد من مفردات الهداية، وبالدواعي التي أشرنا إليها (بنية النص: فقرة ب)، وربط أيّ منها بمفردات الهداية الإيمانيّة يحمل، من حيث الدواعي دلالة إضافيّة على أنّ حكمة الله اللطيف الخبير التي قضت أن يخاطب الناس، عبر أنبيائه ورسله، تبعًا لمقتضيات فطرتهم وظروفهم، هي نفسها التي قضت أن يتبع السياق التأليفي للقرآن ربط أي من مفردات الهداية، وفي أيّ مناسبة استدعت الكلام عليها، بمفردات الهداية الإيمانيّة وفي مقدمتها التوحيد… إذ من المعروف أنّ الإنسان، أيّ إنسان، عندما يجد نفسه في وضع يفرض عليه أن يختار واحدًا من عدد من المواقف الممكنة من مسألة إشكالية، فكرية أو عملية، فإنّه يتوقف ليفكّر ويقيّم تمهيدًا لاتّخاذ موقف، ويدخل في عملية التفكير والتقييم هذه:
احتمالات الموقف.
ما يترتب على كلّ احتمال من نتائج، وتأثير كلّ منها على رغباته إشباعًا أو حرمانًا.
المفاضلة بين الرغبات الماثلة في وجدانه واختيار أحدها ليكون الموقف استجابة لها.
هذه المفاضلة لا يمكن إلا أن تتأثر بنسق القيم الذي يتبنّاه وما فيه من تراتب يحدد، بالنسبة له الأدنى والأعلى، ونسق القيم بدوره لا يمكن إلا أن يتأثر بالرؤية العامة التي يكونها عن الوجود والحياة والإنسان والمصير، وهذه الرؤية، بالنسبة للإنسان المؤمن هي نفسها مفردات الهداية الإيمانيّة.
II السياق البياني
أمّا أهمّ دلالات السياق البياني فهي أنّ النص القرآني نص مفتوح لقراءات لا تفتأ تتعدد وتتكاثر، من دون أن يزعم أيّ منها أنّه قال الكلمة الأخيرة فيه، ومن دون أن يتخلى أيّ منها، إلا في ما ندر، عن السقوف الضابطة لهذا التعدد والتكاثر. وإذا اعترض بعض المفسرين على بعض، فإنّه ينهي اعتراضه غالبًا بقوله: “الله أعلم” تعبيرًا عن إدراكه أنّه، مهما تعمق واقترب ممّا أراده الله في تفسيره، فإنّه لا يصل إلى حدّ اليقين، وهذا ما يبعد، أو ما ينبغي أن يبعد، أي تعصب لتفسير دون آخر، ورؤية دون أخرى، ويفتح المجال واسعًا لتعايشها، وتعايش المؤمنين بها، على صورة تعايش التنوّعات في إطار الوحدة، وما يقال عن هذه الاجتهادات في التفسير تحت سقف الضوابط. يقال أيضًا عن الاجتهادات الفقهيّة المنشئة للمذاهب، والاجتهادات العقائديّة المنشئة للفرق الكلاميّة أو حتى للفلسفات الموصوفة بأنّها إسلاميّة.
المقالات المرتبطة
قراءة في كتاب “معرفى ونقد منابع عاشورا”
بَحثُ هذا الكتاب يدور حول مصادر واقعة الطف، حيث إن الكاتب “سيد عبد الله حسيني” قام بعملية مقارنة بين النصوص وقيّمها
مَناط الفعل الأخلاقي وخصائصه في التصور الإسلامي
تعتبر العلاقة بين الأخلاق والإنسان محور معظم الفلسفات، لذلك، يقدم الشيخ جعفر السبحاني في هذا البحث “مناط الفعل الأخلاقي بحسب الفهم الإسلامي”
جدل الدين والدولة في التجربة الغربية
على المستوى الغربي ثمة بلدان وتجارب حاربت الكنيسة الحداثة السياسية والثقافية، فنتج عن ذلك تقلص وتراجع حضور الدين في الحياة