by إيمان شمس الدين | ديسمبر 3, 2021 2:33 م
تدور رحى الصراعات حول قطب الجغرافيا، وما لها من أبعاد هامة خاصة اقتصادية في توجيه السياسات وتصنيف المحاور والتوجهات السياسية المؤدلجة، ولا يمكننا إبعاد الدين أبدًا عن هذا الصراع، كونه القطبة الخفية التي تتحرك في اتجاهات الجغرافيا.
اليوم الصراع قائم بكل تفاصيل الماضي، فهو كان وما زال المكون الرئيس في صناعة الحاضر والمستقبل.
صراع الصليبيين مع المسلمين، والعثمانيين المسلمين مع الغرب، وأهل قريش في مكة مع رسالة النبي محمد (ص)، والتي اختصروها بصراع نفوذ وزعامات ولم يدركوا رسالته الإلهية.
صراع دين العولمة والقطب الواحد، ومحاولة بسط نفوذ الثقافة والفكر الذي يراه هذا القطب بحجة التفوق والتحضر، صراع ثروات حول جغرافيات غنية بالثروات وبالممرات المائية التي تشكل ثقل اقتصادي في التبادل التجاري لدول مطلة عليها، بالتالي تشكل نقطة ضعف تتصارع عليها تلك الدول لبسط نفوذها وإملاء سياساتها على الدول المطلة المجاورة.
وضع حجر الأساس
كانت الصراعات منذ القرن التاسع عشر قائمة على التوسع المنهجي جغرافيًّا خاصة بعد سقوط الدولة العثمانية والتسابق بين القوى العظمى على وراثة الإرث الجغرافي العثماني، خاصة الجغرافيا الغنية من جهة بالثروات، ومن جهة أخرى بمواقع استراتيجية رابطة ومحورية في المسارات التجارية. هذا فضلًا عن الاهتمام بنقاط القوة التي تجمع هذه الجغرافيا وأهمها على الإطلاق الدين والعروبة والأوطان.
ولتحقيق استراتيجيات نابليون التوسعية تم توظيف التالي:
كان الخوف يكمن في استمرار تلاقي القوة القومية العروبية خاصة مع القوة الدينية الإسلامية خاصة، واستمرار الجمع بين هاتين القوتين يشكل مركز قوة رادع لكل محاولات التوسع والهيمنة.
هذا فضلًا عما تشكّله الجغرافيا الممتدة من النيل إلى الفرات من ثراء تمثل في:
“مصر النيل متصلة اتصال غير قابل للانفصال مع السهل السوري الذي يشكل معها زاوية قائمة تحيط بالشاطئ الشرقي – الجنوبي للبحر الأبيض، وهذه الزاوية القائمة بضلعها الجنوبي في مصر تمد تأثيرها بالعرض إلى كل الساحل الشمالي لأفريقيا، وبالطول إلى الجنوب حتى منابع النيل، ومن ضلعها الشمالي في سوريا تلامس حدود بلاد ما بين النهرين (العراق) وشبه الجزيرة العربية والخليج، وحتى طرق الاقتراب البري البحري إلى فارس والهند.
أي أنه وعلى طول العصور كان لا بدّ أن تكتمل الزاوية الجنوبية الشرقية للبحر الأبيض لتدخل في إطار سياسي واحد يجعل كل ضلع منها تأمينًا للضلع الثاني”[1][1].
فجاء الاستعمار بعد سقوط الدولة العثمانية، ليعزز توسعه الجغرافي بخطوة أولية تضمن له ضرب الاتصال العروبي الإسلامي، وتعبّد له الطريق للدخول والخروج لمنطقتنا كيف ما شاء ووقت ما شاء.
وكانت هذه الخطوة باصطناع كذبة دينية إنجيلية توراتية اسمها وطن اليهود وحقهم التاريخي في أرض كنعان.
وكان أول من التفت إلى هذه الفكرة نابليون بونابارت حيث يقول المفكر محمد حسنين هيكل في كتابه “المفاوضات السرّية بين العرب وإسرائيل”: “إن بذور المقدّسات: المحرّمات العربية تجاه الصهيونية وإسرائيل تعود في بداياتها وأصولها إلى القرن التاسع عشر”.
ثم لفت هيكل إلى أن “طوال القرن التاسع عشر كان العالم مشغولًا بأربع قضايا: ظاهرة الوطنية، وظاهرة التسابق إلى المستعمرات والتنافس عليها بين القوى الأوروبية، والمسألة الشرقية أي التربّص بإرث الخلافة العثمانية، والمسألة اليهودية، فقد كان اليهود هدف عداء استفحل خصوصًا حول تواجد كثافة الوجود اليهودي في شرق أوروبا وروسيا ووقتها كان 90 بالمائة منهم يعيشون على تخوم ما بين روسيا وبولندا”.
واستطاع نابليون – حسب هيكل – الربط والتوليف بين المسائل الأربع، وقد التقط في البداية آخرها وهي المسألة اليهودية.
وكانت حملة نابليون على مصر التي سميت حملة النيل كما يرى هيكل تستهدف هدفين:
“احتلال مصر كبداية لعملية إرث الخلافة، والزحف منها إلى فلسطين والشام. فنابليون لم يكن ينظر إلى مصر وحدها وإنما كان يراها في اتصال غير قابل للانفصال مع السهل السوري الذي يشكّل معها حجر زاوية قائمة تحيط بالشاطئ الشرقي الجنوبي للبحر المتوسّط، وهذه الزاوية القائمة بضلعها الجنوبي في مصر تمدّ تأثيرها بالعرض إلى كل الساحل الشمالي لأفريقيا وبالطول إلى الجنوب حتى منابع النيل، ثم أنها بضلعها الشمالي في سوريا تلامس حدود بلاد ما بين النهرين وشبه الجزيرة العربية والخليج وحتى طرق الاقتراب البري والبحري إلى فارس والهند”.
واختياره لتلك المنطقة يعود لذكرياته التاريخية في الحرب الصليبية الإسلامية، وما شكلته هذه المنطقة الجنوبية سواء من خطر خارجي أو من الإسلام والعروبة في مصر وسوريا- ضلعي الزاوية -، اللذين سبق لهما خلال الحروب الصليبية أن صنعا قوة ذاتية تتشجّع على الانفلات من قبضته.
وهو ما يتطلب زراعة كيان لا عروبي ولا إسلامي تابع لفرنسا، وفي ذات الوقت مناهض للعروبة والإسلام، فيفصل ثقل القوة عن بعضه ليصبح بونابارت أكثر قدرة على التحكم والهيمنة وتطويع المنطقة لإمبراطوريته الحالمة.
لذلك وظف نابليون لهذا الهدف الخطاب الديني في ورقته اليهودية التي وزعت على كل اليهود كنداء منه إليهم حيث قال: “من نابليون بونابرت القائد الأعلى للقوات المسلّحة للجمهورية الفرنسية في أفريقيا وآسيا إلى ورثة منطقة فلسطين الشرعيين.
أيها الإسرائيليون، أيها الشعب الفريد، الذي لم تستطع قوى الاحتلال والطغيان أن تسلبه اسمه ووجوده القومي، وإن كانت قد سلبته أرض الأجداد فقط.
إن مراقبي مصائر الشعوب الواعين المحايدين ـ وإن لم تكن لهم مقدرة الأنبياء مثل إشعياء ويوئيل ـ قد أدركوا ما تنبّأ به هؤلاء بإيمانهم الرفيع أن عبيد الله (كلمة إسرائيل في اللغة العبرية تعني أسير الله أو عبد الله) سيعودون إلى صهيون وهم ينشدون، وسوف تعمّهم السعادة حين يستعيدون مملكتهم من دون خوف.
انهضوا بقوة أيها المشرّدون في التيه. إن أمامكم حربًا مهولة يخوضها شعبكم بعد أن اعتبر أعداؤه أن أرضه التي ورثها عن الأجداد غنيمة تقسّم بينهم حسب أهوائهم.. لا بدّ من نسيان ذلك العار الذي أوقعكم تحت نير العبودية، وذلك الخزيّ الذي شلّ إرادتكم لألفي سنة. إن الظروف لم تكن تسمح بإعلان مطالبكم أو التعبير عنها، بل إن هذه الظروف أرغمتكم بالقسْر على التخلّي عن حقكم، ولهذا فإن فرنسا تقدّم لكم يدها الآن حاملة إرث إسرائيل، وهي تفعل ذلك في هذا الوقت بالذات، وبالرغم من شواهد اليأس والعجز.
إن الجيش الذي أرسلتني العناية الإلهية به، ويمشي بالنصر أمامه وبالعدل من ورائه، قد اختار يروشلايم مقرًّا لقيادته، وخلال بضعة أيام سينتقل إلى دمشق المجاورة التي استهانت طويلًا بمدينة داوود ملك إسرائيل وأذلّتها.
يا ورثة فلسطين الشرعيين ..
إن الأمّة الفرنسية التي لا تتاجر بالرجال والأوطان كما فعل غيرها، تدعوكم إلى إرثكم بضمانها وتأييدها ضد كل الدخلاء.
انهضوا وأظهروا أن قوة الطغاة القاهرة لم تخمد شجاعة أحفاد هؤلاء الأبطال الذين كان تحالفهم الأخوي شرفًا لإسبرطة وروما، وأن معاملة العبيد التي طالت ألفي سنة لم تفلح في قتل هذه الشجاعة.
سارعوا، إن هذه هي اللحظة المناسبة ـ التي قد لا تتكرّر لآلاف السنين ـ للمطالبة باستعادة حقوقكم ومكانتكم بين شعوب العالم، تلك الحقوق التي سلبت منكم لآلاف السنين وهي وجودكم السياسي كأمّة بين الأمم، وحقكم الطبيعي المُطلق في عبادة إلهكم يهواه، طبقًا لعقيدتكم، وافعلوا ذلك في العلن وافعلوه إلى الأبد”.
”كان استهداف نابليون لمصر لموقعه الفريد كما قدره بنفسه حيث:
إذًا هو موقع جغرافي وثروات يمكن توظيفها بما يخدم المستعمر وأطماعه التوسعية عبر التاريخ[3][3].
فكان السعي لأسباب عدة أهمها:
التقسيم الجغرافي والاستعمار
بعد زراعة كيان في فلسطين يفصل بين ضفتي العروبة والإسلام مصر الأفريقية وما تشكله من مطلات جغرافية هامة على القرن الأفريقي، خاصة السودان الخصبة زراعيًّا ومائيًّا وبشريًّا، وسوريًّا وما تشكّل من عمق جغرافي يربطها بتاريخها وحضاراتها وتنوعها بجوار ثري ماديًّا وثقافيًّا، هذا فضلًا عن الثقل الاقتصادي لسوريا والذي صنعته جغرافيتها الممتدة بامتداد طريق الحرير القديم المتصل إلى الصين.
فطريق الحرير هو مجموعة من الطرق[4] المترابطة كانت تسلكها القوافل والسفن وتمرّ عبر جنوب آسيا[5] رابطةً تشآن والتي كانت تعرف بتشانغ آن[6]) في الصين[7] مع أنطاكية[8] في تركيا[9] بالإضافة إلى مواقع أخرى. كان تأثيرها يمتد حتى كوريا[10] واليابان[11]. أخذ مصطلح طريق الحرير من الألمانية[12] (زايدنشتراسه Seidenstraße))، حيث أطلقه عليه الجغرافي[13] الألماني[14] فريديناند فون ريتشتهوفن[15] في القرن التاسع عشر.
كان لطريق الحرير تأثير كبير على ازدهار كثير من الحضارات القديمة مثل الصينية[16] والحضارة المصرية[17] والهندية[18] والرومانية[19] حتى أنها أرست القواعد للعصر الحديث. يمتد طريق الحرير من المراكز التجارية في شمال الصين حيث ينقسم إلى فرعين شمالي وجنوبي. يمرّ الفرع الشمالي من منطقة بلغار[20]–كيبتشاك[21] وعبر شرق أوروبا[22] وشبه جزيرة القرم[23] وحتى البحر الأسود[24] وبحر مرمرة[25] والبلقان[26] ووصولًا بالبندقية[27]. أمّا الفرع الجنوبي فيمرّ من تركستان[28] وخراسان[29] وعبر بلاد ما بين النهرين[30] والعراق[31] والأناضول[32] وسوريا[33] عبر تدمر[34] وأنطاكية إلى البحر الأبيض المتوسط[35] أو عبر دمشق[36] وبلاد الشام[37] إلى مصر[38] وشمال أفريقيا[39][4][40].
فكان لهذا الرابط دورًا عميقًا اقتصاديًّا وحضاريًّا جعل من المنطقة مقصدًا تجاريًّا وثقافيًّا ونهضويًّا، وللجغرافيا دورًا كبيرًا في تشكيله.
تطلع الاستعمار إلى المجيء إلى منطقتنا بنفسه مدّعيًا لنفسه التفوق والتقدم الحضاري، بالتالي وصايته على منطقتنا التي تخلفت كثيرًا عن ركب حضارته، بالتالي يصح للأمم المتقدمة قيادة وريادة الأمم المتأخرة بحجة الأخذ بيدها نحو التقدم والازدهار. وواضع معاني التقدم والتخلف. وقد أشارت نجلاء مكي في دراستها المعنونة “الاستغراب القسري في جدل التثاقف بين المركز والهوامش” إلى ذلك قائلة: “فوفقًا للتصور الأوروبي المبني على نظرة ثنائية للعالم ”برابرة ومتحضرون“ فإن الغرب هو منتج القيم الإنسانية والمحدد الوحيد لمسار انتقال أي ثقافة من البربرية إلى المدنية، وهي كل الثقافات غير الغربية، وواضع معايير التقدم والتخلف”[5][41].
بالتالي وجودنا كمتخلفين وفق تصنيف أوروبا المتحضرة في جغرافيا غنية بالثروات المعرفية والمادية، بالتالي غير مؤهلين لإدارة هذه الموارد الغنية، يخول الغرب وضع نفسه قيمًا حضاريًّا مخولًا في إدارتنا وإدارة مواردنا كما يرى، حتى انتقالنا للمدنية.
كان هذا هو العنوان العام لدعوى الغرب في الاستعمار، لكن التفاصيل كمنت بها كل شياطين الدنيا، فبالأصل يعتقد الغرب أنه عرق متقدم دومًا، وأننا عرق متخلف، فهو يعيش التمييز العرقي بكل تفاصيله بل بنى حضارته على أساسه، وشعّب مناطق استعماره وفق هذا المبدأ، هذا فضلًا عن خلفيته العقائدية التي تدعمها الكنيسة في ضرورة التبشير بالمسيحية، وقد استغلت القيادات السياسية في الغرب هذه النقطة العقائدية لتشجع شعوبها على نزعة الهيمنة والاستعمار، لكنها في حقيقة الأمر لا تتحرك غالبًا من بعد ديني بالأصل، بل يحركها عقيدتها الاقتصادية الرأسمالية التي تعزز لديها الرغبة الجامحة المستديمة نحو كل موارد وثروات مادية سواء معدنية أو غيرها، للهيمنة عليها لتضخم رؤوس أموالها فتكون هي المرجعية الاقتصادية الكبرى المهيمنة في العالم، إضافة لتمكنها وتقدمها التقني التكنولوجي والعلمي بالتالي تصبح حتمًا وإلزامًا قوة تفرض سياساتها على منطقتنا.
جاء الاستعمار العسكري لمنطقتنا كمرحلة ثانية بعد زراعة الكيان الصهيوني، يحاول أن يوطيء الأرض والجغرافيا لهذا الكيان ويمكنه ليتحول لقوة عظمى متقدمة تابعة له وتدير المنطقة وفق إرادته، إضافة لمحاولته تغيير هوية الشعوب بالاستعمار العسكري من جهة، والاستعمار الثقافي من جهة أخرى، فعمد إلى بناء مدارس وجامعات واستغلال العقول المميزة بتسهيل هجرتها للوطن الأصل، إلا أن مشروع تغيير الهوية وصياغتها وفق عناوين وتفاصيل المستعمر الثقافية لم يتحقق كمنجز استعماري كما تم التخطيط له، والسبب أن الوجود العسكري خلق حاجزًا نفسيًّا كبيرًا لدى الشعوب، ورفع عندها شعور الرفض والمقاومة، وهو دفع كثير من النخب لقيادة الشعوب في المنطقة نحو المواجهة وتحرير الأرض وربطها بالكرامة والعزة، وهو ما كبّد الاستعمار خسائر جمة، وأعاق خطته في تمكين الكيان الغاصب الصهيوني، وتحت ضغط المقاومات الشعبية المتنقلة، وضغط استنزاف طاقات المستعمر وعديده البشري، انتقل الغرب إلى مرحلة جديدة لإكمال مشروعه في الهيمنة خاصة بعد اكتشاف النفط الذي أفقده صوابه ودفعه للإصرار على المضي في خطة الاستعمار لكن هذه المرة بطرق أقل خسارة مادية عليه، وأكثر قدرة على الاختراق الثقافي الناعم.
فهناك جبهات اشتعلت في مواجهة المخطط الجديد على المنطقة بسلب فلسطين من أهلها وجعلها واغتصابها ككيان لليهود وبلد قومي أيديولوجي لهم، وذراع استعمارية متقدمة، هذه الجبهات كان أهمها سوريا ولبنان ومصر والأردن، بل شاركت دول بعيدة جغرافيًّا في الخليج في بعض الحروب المشتعلة في مصر في مواجهة الكيان الصهيوني.
“وانطلقت شعلة المقاومة على أرض فلسطين ذاتها وحتى سنة 1993 م رصد عدد ما قدمته فلسطين في ساحات المقاومة وفي مواجهة الكيان الصهيوني منذ نشأته وكانت كالتالي:
261000 شهيد، و 186000 جريح، و 161000 معاق، قرابة مليونين لاجئ.
أما لبنان منذ عام 1948م إلى 1993م رصدت أعداد ما قدمه هذه البلد الصغير الحجم في مواجهة الخطة الاستعمارية الجديدة وكانت كالتالي:
90000 شهيد، 115000 جريح، 9,627 معاق، واضطر 875000 لبنانيًّا للهجرة خارج لبنان.
أما مصر فما بين 1948 م و 1973م وهي أكبر بلد تحمل عبء قيادة المواجهة في تلك الفترة قدمت:
39000 شهيد، 73000 جريح، 61000 معاق وأكثر من مليوني مواطن مصري اضطروا للهجرة من سيناء”[6][42].
وهذه أرقام تدلل على حجم المقاومة والمواجهة المشتعلة بين أصحاب الأرض والمستعمرين الجدد ورعاتهم، ويدلل على حيوية هذه الأمة، التي رفضت ابتداء رغم ما تعيشه من خلافات وضغوطات أي استعمار وتواطؤ على الأمة وجغرافيتها. وهذا ما يدفع اليوم المستعمرون الجدد؛ وأقصد بالجدد؛ أى المنهج الجديد في الاستعمار، يدفعهم لتشويه ثقافة المقاومة والجهاد وربطها بدلالات سلبية تجهض المصطلح في وجدان الشعوب مع التقادم، وتصنع له في ذاكرتهم دلالات وحشية إرهابية تبعدهم عن كل محاولات الرفض، وتصنع لهم ذاكرة ووجدان جديدين تصوغه مفاهيم الرضوخ، والتطبيع، والقبول، والنأي بالنفس عن أي محاولات نهوض ومناهضة.
الأنظمة الوظيفية وتحويل الأولويات
كانت خطوات الاستعمار في تكريس وجوده متلاحقة، وتعمل على تفريغ شعوب المنطقة من ثرواتها، إنتاجيتها الذاتية، طاقاتها البشرية من خلال هدم البنى العقلية، وتهجير عقولها أو القضاء عليها، وكان هذا يستلزم بسط نفوذ أنظمة مستبدة تعمل على هدر كرامة الإنسان، وقتله داخليًّا، ومنع كل محاولات النهضة وتحقيق المساواة والمواطنة الصالحة، وبناء الولاءات بين الحاكم والشعب ليس وفق مبدأ الدولة الوطنية والانتخاب، بل وفق مبدأ قبلي يبني جسور القرب والبعد بين الحاكم والشعب وفق مبدأ الموالاة له أو عدمها وعمق هذه الموالاة، وضرب منظومة القيم، والعمل على هزيمة الفرد نفسيًّا وإقناعه بعدم القدرة وعدم امتلاك الإرادة في التغيير، من خلال إجهاض كل محاولات الخروج على الأنظمة العميلة لها، وإحباط كل سعي نحو العدالة والتغيير.
مرت المنطقة بمراحل متعددة بعد سايس بيكو أهمها:
المرحلة الأولى: الهدم المنهجي لوعي الشعوب
والخطوات في الهدم المنهجي اعتمدت على:
وسلب الحرية هو إغلاق للباب الذي يحقق العدالة وبالتالي الكرامة الإنسانية.
ولتحقيق هذه الخطوات الأهم تطلب ذلك زرع أنظمة مستبدة، ولكي تتمكن هذه الأنظمة من قيادة المجتمعات، كان لا بدّ من وسيلة ناجعة ومقنعة يمكن من خلالها الهيمنة على العقول والقلوب والوجدان، ولا يوجد عبر التاريخ وسيلة كالدين وتوظيفه في السياسة ليكون خادمًا لها، ومقننًا تشريعات وفق مقاساتها تمكن الحكام من السلطة ومن رقاب الناس، وتجعل المجتمعات طيعة سهلة الانقياد. خاصة أن منطقتنا تاريخيًّا معروفة في ميلها المحافظ وعمقها التاريخي المرتبط بالدين، حيث المقدس والمحرم من أساسيات ثقافتها وهويتها، بل هو في عمق وجدانها ومحرك قوي لها عبر التاريخ بل باعث لكثير من نهضاتها.
لذلك تم تمكين أنظمة تناسب كل مجتمع ونقاط ضعفه وثغراته التي يمكن من خلالها النفوذ والهيمنة.
المرحلة الثانية: الأنظمة والسياسات المزدوجة
هذه الأنظمة جاءت في ظل وعي أممي مناهض رافض للاستعمار واحتلال فلسطين، مما اضطر أغلبها لممارسة سياسة ذات وجهين:
وبينما كان كل من لبنان وسوريا وفلسطين والأردن كشعوب تواصل نضالها في مواجهة الكيان الصهيويني، كانت كثير من هذه الأنظمة التي وضعها المستعمر تعمل على إجهاض هذه المقاومات من تحت الطاولة، بل تتآمر على أي نظام يدعم الحركات المقاومة، كما حدث مع جمال عبد الناصر وما تعرض له من خيانات داخلية وخارجية.
فانتقل الاستعمار من استعمار الجغرافيا بنفسه، إلى إدارة المنطقة من خلال الأنظمة الوظيفية، ومع ذلك استمرت حركات المقاومة في مواجهة الاحتلال، لأن وعي الأمة كان ما زال يمتلك رصيدًا عميقًا من الرفض والكرامة والعزة، وما زالت ذاكرته ووجدانه ممتلئة بمنظومة القيم وعمقها التاريخي الديني المرسوم بحدود المقدس والمحرم.
المرحلة الثالثة: التطبيع واستمرار كي الوعي
وتدريجيًّا بدأت ملامح جديدة لهوية المنطقة ترتسم مجددًا من خلال جغرافيتها القديمة القيادية، فمصر التي طالما كان لها السبق في قيادة المنطقة نهضويًّا وأيضًا قيادتها في مواجهة الاستعمار والاحتلال، استطاع الغرب بعقليته الاستعمارية جرها إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني من خلال معاهدة سلام مذلة. وما إن دخلت مصر في مقدمة المطبعين حتى فرطت حبات السبحة. لتدخل الأردن بعد ذلك، والسلطة الفلسطينية، وتبقى سوريا والعراق بمعزل عن التطبيع بل تبقى سوريا متمسكة بمنهج المقاومة وداعمة له.
في هذه الفترة كانت أمريكا قد دخلت بقوة على خط الدعم الصهيوني، وما أعنيه هنا ليس تبنيها للمشروع بل وجودها ودورها فيه، أي بدأت بعد الحرب العالمية الثانية تشكل قوة عظمى في العالم، تتماهى ثقافتها مع المعسكر الغربي في ثقافته التوسعية، ونزوعه نحو الهيمنة وبسط النفوذ.
وكان لها ثقلًا وجوديًّا عسكريًّا واستخباراتيًّا في إيران، في إبان حكم رضا شاه بهلوي، وأيضًا لعبت جغرافيا إيران دورًا مهمًّا في اختيارها، خاصة جوارها للاتحاد السوفياتي القوة العظمى الثانية والند الرئيس لأمريكا إبان الحرب الباردة، فضلًا عن احتياجات الغرب وأمريكا للطاقة وما يشكله النفط في هذه المنطقة من ثروة هامة وثقل استراتيجي، سال لعاب الغرب وأمريكا له، وجدد الصراع والتسابق لأجل النفوذ والهيمنة بينهم.
كانت حركات المقاومة في المنطقة تعتمد في تمويلها على ذاتها غالبًا، أو على دعم بعض الأثرياء، أو الأمراء الذين إما ما زالوا مقتنعين بثقافة المقاومة لقوميتهم العروبية، أو المتسابقين منهم على صناعة نفوذ بدعم مجموعات مقاومة ضد الصهاينة لتشكل ورقة في يدها تضغط بها على غرمائها لتحقيق مطالب سياسية أو اقتصادية. وما إن تحقق ما تريد توقف دعمها أو تنقلب عليهم وتسلم رقابهم إلى أعدائهم من الاستخبارات الصهيونية والأمريكية أو بعضها كان عربيًّا عميلًا. أو حتى بيعهم لآخرين يحتاجونهم كورقة للضغط باتجاهات مختلفة لتحقيق أيضًا مصالح اقتصادية أو سياسية.
في هذه الفترة كان للإعلام دورًا هامًّا خاصة من خلال الصحف ووكالات الأخبار، في نقل الأحداث وصناعتها، وكانت الحركات النهضوية في الأمة لا تخفت، سواء نهضة على مستوى الوعي المقاوم، أو نهضة على مستوى فهم الدولة ووظيفتها، أو نهضة على مستوى فهم الدين ودوره في الحياة.
ولكن كانت هذه النهضات تتم بفعل نخب دينية وفكرية وليست من قبل دول أو أنظمة، وكانت هذه النهضات تواجه من قبل كثير من الأنظمة بالقمع أو المنع أو الشيطنة، لخطورتها على وجود هذه الأنظمة التي ترفض أي حراك يؤدي للنهوض بالوعي وتغيير منهجية تفكير الشعوب، وصناعة وعي مغاير لما كرسته عبر سنين وجودها. هذا فضلًا عن محاولات استعمارية في تشتيت أولويات الأمة، وتوجيه انتباهها لقضايا فرعية عن القضية الأم فلسطين، فخاضت أمريكا حربًا مع الاتحاد السوفياتي ليس بشكل مباشر وإنما عن طريق أنظمتها الوظيفية التي ضخت المال والعديد البشري إلى أفغانستان تحت شعار الجهاد لتتشكل القاعدة فيما بعد، وترفع شعار الجهاد لا في فلسطين ولا ضد الكيان الصهيوني، وإنما باتجاهات متعددة شتت قوة الأمة واستنزفت طاقات شبابها في حروب بالوكالة، كي يتفرغ الكيان الصهيوني في بناء قوته وتمدده الجغرافي الاستيطاني في فلسطين، والأمة مشغولة في حربها مع الكفر تحت شعار الجهاد في سبيل الله.
استمرت هذه المرحلة المعنية بتطويع عقل الأمة وكي وعيها، والتمهيد للتطبيع الذي يجعل من الكيان الصهيوني الغاصب دولة مقبولة في جسد منطقتنا نتعايش معها لكنها دولة عظمى كذراع ممتدة في جسدنا للغرب، استمرت منذ تقسيم سايس بيكو وحتى نجاح حراك نهضوي تغييري شعبي في إيران حيث أطاح السيد الخميني بشاه إيران واستطاع إقامة جمهورية إسلامية، كانت أول من أعلنت فتح سفارة لفلسطين وحددت معالم الدولة بمناهضتها للكيان الصهيوني، ودعمها لكل المستضعفين في الأرض دون النظر لمذاهبهم وانتماءاتهم، ودعمها لكل حركات المقاومة الرافضة للظلم والاحتلال.
المرحلة الرابعة: المواجهة والشيطنة والتقسيم المعنوي
معالم هذه المرحلة بدأت ترتسم في لبنان وسوريا وفلسطين وإيران، حيث عادت الحياة مجددًا للمقاومات المناهضة للكيان الصهيوني، بعد أن تم تفتيت المقاومة الفلسطينية ورضوخ بعض قادتها للإملاءات الأمريكية ومهادنة الصهاينة وإن بشكل غير ظاهر.
في هذه المرحلة تحقق التالي:
وهنا لا يعني غياب أي مقاومة قبل نجاح ثورة الإمام الخميني، فالمقاومة نشأت منذ الاستعمار واحتلال فلسطين، ولم تهدأ أبدًا، لكن الخيانات والتآمر على المقاومة كان كبيرًا، ودعمها كان يأتي من أفراد وكان متقطعًا، فكانت تتوهج تارة ويخفت وهجها تارة أخرى، لا لضعف فيها، وإنما لكثرة التآمر عليها وخيانتها من الداخل والخارج.
ولكن عندما تتبنى دولة وما تملكه من قدرات وثروات، عندما تتبنى المقاومة وتدعمها بالمال والسلاح والتدريب، بشكل مستمر، بل تضع في دستورها كبند إلزامي دعم حركات التحرر والمقاومة، هنا يختلف تمامًا الوضع، ويختلف الأداء، بل تختلف ملامح وجود المقاومة واستمراريتها.
وتصاعدت وتيرة حركات المقاومة تدريجيًّا، نتيجة الدعم اللوجستي الإيراني، وبسالة المقاومين وإصرارهم على التحرير، مما هدد مشروع الاستعمار في منطقتنا كونه هدد استمرار وجود الكيان الصهيوني الغاصب من جهة، وهدد هيمنة الغرب من جهة أخرى، إذ نشأت دولة جديدة تتبنى النهج المقاوم، وتريد أن تعيد وعي الأمة لذاتها من خلال التخلص من أي تبعيات خارجية، والاعتماد على الذات، والوصول إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي، وهو ما يعني نهضة عقلية تغني سماء الأمة بكل أنواع الإبداعات النهضوية، ونجاح ثورة الشعب الإيراني في ظل جغرافيا تحكمها أنظمة وظيفية وقبلية، يعني انتقال عدوى الثورات للجوار، وتطلع الشعوب لنفس الخيارات، بالتالي كان على أمريكا والغرب قطع الطريق على محاولات إفشال مخططاتها، فقامت بعدة خطوات بعضها عسكري، وبعضها متصل بالثقافة والهوية:
فاستطاعت القيام بتقسيم جديد للمنطقة لكنه هذه المرة معنويًّا، قسم الشعوب إلى عرب وفرس وسنة وشيعة.
لكن كانت النتيجة كالتالي:
ونجاح الغرب وأمريكا لم يكن إلا لوجود وهن في جسدنا، وثغرات في وعينا، وتخاذل من كثير من أنظمتنا، لذلك ما زال يحاول عبر هذه الأنظمة الوظيفية، يمتص ثرواتنا عبرها من جهة، ويتآمر علينا عبرها من جهة أخرى، وهذا لا يعني عدم تقصيرنا، ولا يعني أيضًا استسلامنا بالكامل.
وستبقى محاولاته مستمرة وسنبقى نواجهه بكل ما نملك، من عتاد عسكري وعقلي وبشري، فإن كان يخيفنا بالموت، فعليه أن يعلم أن موتنا يعني وجودنا واستمرارنا، ويعني له موته وفناءه، وتهاوي كل مخططاته وفنائها إلى الأبد.
هذه من وجهة نظر قاصرة أهم المراحل التي مرت بها منطقتنا وبشكل مختصر، ركز على المفاصل التاريخية الرئيسية في مسار الأمة، والتي كان لها السبق في مواجهة المخططات ضدها، وكان لها الأثر في الانتقال المرحلي في المواجهة.
وعله فاتني ما هو مهم تقصيرًا مني لا تعمدًا، لكنها تبقى محاولة في طريق المحاولات المستقرئة للأحداث والمستلهمة منها قراءة في طريق الأمل والخلاص والنهضة.
[1][43] المفاوضات السرّية بين العرب وإسرائيل / محمد حسنين هيكل ص٣٦
[2][44] محمد حسنين هيكل، المفاوضات السرّية بين العرب وإسرائيل.
[3][45] مصدر سابق
[4][46] موسوعة ويكيبيديا.
[5][47] سلسلة استراتيجيات معرفية– نحن والغرب ١/ مقاربات في الخطاب النقدي الإسلامي
[6][48] المفاوضات السرّية بين العرب وإسرائيل / محمد حسنين هيكل
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/14098/geographiccurse/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.