by معهد المعارف الحكميّة | ديسمبر 10, 2021 1:52 م
بعد تطورات عرفتها الحياة الإنسانيّة في مختلف وجوهها باتت المواطنة تعني الاشتراك على قدم المساواة في حقوق وواجبات يفرضها الانتماء إلى مجتمع سياسيّ، وبات المواطن هو من يتمتّع بتلك الحقوق التي يقرّها المجتمع وتحظى بحمايته، من جهة، ويتحمّل تلك الواجبات ويحاسب على التقصير في أدائها من جهة ثانية.
معنى المواطنة هذا، يتجاوز المعنى الذي طالما كانت تبعثه اللفظة في الذهن، أي الاشتراك، مع آخرين في سكنى حيّز جغرافيّ يطلق عليه عادة اسم الوطن، فهذا الاشتراك، لا يترتّب عليه ذاتيًّا أكثر من شعور عاطفيّ يشدّ المواطن إليه لأنّه شكّل شاهدًا على تفتّحه ونموّه، ومسرحًا لأنشطته وفاعليّاته وعلاقاته مع من يشاركونه الإقامة فيه، ولم يعد مجرّد حيّز جغرافيّ يحدّد بتضاريسه ومعالمه كما تبدو لدارس يتوخّى الموضوعيّة والدقّة، بل أصبح عبارة عن محطات للتذكّر، يثير كلّ معلم من معالمه يمكن أن يكون قد شهده من ذكريات المواطن الحلوة والمرّة، وعلاقات الاستلطاف والنفور، والمحبّة والكره، والتعاون والتنافس، ويبعث في الوجدان أعمق المشاعر الإنسانيّة وأشدّها حرارة تجاه فعل الزمن بالإنسان في نفسه وفي علاقاته.
المواطنة بمعناها الحديث، إذ تتجاوز معناها التقليديّ، فإنّها لا تلغيه، بقدر ما تتأسّس عليه وتكمله. فالمواطنة بمعناها التقليديّ تُنشيء بين المواطنين أنواعًا من العلاقات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة، وشعورًا أوّليًّا وغامضًا بمشتركات ينبغي الاهتمام بها والمحافظة عليها، وربّما تكليف من يسهر عليها، وإن على نطاق محلّيّ يضيق أو يتّسع تبعًا لضيق واتّساع عمليات التبادل والأمكنة التي تجري فيها. ولا يتّخذ الوطن معناه الذي بات متعارفًا عليه، أي مكان إقامة شعب بكامله، أو أمّة بكاملها، إلّا بعد فرز الشعوب على أساس من التجانس النسبيّ الناتج عن عوامل عديدة متشابكة ومعقّدة، لا مجال للكلام عليها ولا على خلافات المنظّرين حولها، لأنّ المهمّ هو أنّ هذا التجانس النسبيّ قد حصل فعلًا، ولأنّ التنظير له إنّما يتمّ بعد حدوثه بهدف فهمه وليس بهدف تأسيسه أو العمل على إحداثه.
والمواطنة لم تأخذ معناها الحديث المشار إليه، إلّا بعد تأسيس الكيانات السياسيّة أو الدول على أسس من هذا الفرز، أي نشوء الدولة القوميّة أو الوطنيّة كما عرّفها التاريخ الحديث، ولا ريب أنّه كان للاشتراك في الوطن بمعناه الجغرافيّ، خلال حُقب متطاولة، دور كبير في إنجاز التجانس النسبيّ المشار إليه، وهذا ما يجعل المواطنة بمعناها الحديث لا تلغي المواطنة بمعناها التقليديّ، وإنّما تشكّل أحد أسسها.
ولكنّ الانتقال من المواطنة بمعنى التشارك في الانتساب إلى وطن وما يولّده من مشاعر متنوّعة… إلى المواطنة بمعنى الاشتراك في مجتمع سياسيّ وما يولّده من حقوق وواجبات، يشكّل نقلة نوعيّة في مفهوم المواطنة احتاج إنجازها إلى كلّ التطورات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة التي امتاز بها العصر الحديث… والتي سنعود إلى الإلمام بها لاحقًا.
المواطنة والانتماء إلى مجتمع سياسيّ.
يشكّل الانتماء إلى مجتمع سياسيّ جزءًا لا يتجزّأ من تعريف المواطنة الحديثة. والانتماء إلى مجتمع سياسيّ يعني الانتماء إلى مجتمع تجاوز مقولة المجتمع، كما ينظر إليها علماء الاجتماع، أي المجتمع مجرّدًا عن السياسة ليتخذ شكل المجتمع المسيَّس، أيّ المنظّم والموحّد، حيث يتمّ تجاوز خصوصيّة العلاقات الاجتماعيّة المتنوّعة، كما نجدها في أيّ مجتمع، باتجاه عموميّة العلاقات عبر تجسّدها في علاقات ذات طابع سياسيّ يحرّكها ويسيّرها الاهتمام بالشأن العام أو الصالح المشترك لمجموع مكوّنات المجتمع، أو ما يسمّيه هوبز Hobbes “الشخص العام” الذي يمثّل النظام الواحد والإرادة الواحدة ممثّلة في السيادة العامّة التي تنفي وجود أيّ منافس أو مساوٍ داخل المجتمع السياسيّ، ولا تتسامح في ذلك إلّا مع الخارج الذي يملك سيادة مشابهة داخل مجتمعه السياسيّ الخاص.
إنّ تنظيم المجتمع وتوحيده ليكتسب صفة المجتمع السياسيّ يفترض إقامة نظام (دستور وقوانين ومؤسّسات وأجهزة) يحدّد لكلّ ما له وما عليه، أي ما يحقّ له وما يتوجّب عليه، سواء كان فردًا أو جماعة اجتماعيّة، أو مفصلًا من مفاصل إدارة الشأن العام، أي السلطات التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة، وأجهزة الأمن والإدارة والجيش وغيرها… كما يحدّد شروط الانتساب إلى هذا المجتمع، (شروط اكتساب الجنسيّة…) وما يترتّب على هذا الانتساب من حقوق وواجبات. هذه الشروط وما يترتّب على توفّرها من حقوق وواجبات يتمتّع بها ويخضع لها الجميع بالتساوي هي المواطنة بمعناها الحديث، ما يعني أنّه لا مواطنة خارج دائرة مجتمع سياسيّ ينتمي إليه المواطن أصلًا أو ينتسب له لاحقًا (بالتجنيس أو بالاكتساب). كما يعني أنّ حقوق المواطنة وواجباتها ليست واحدة، أو ليس بالضرورة أن تكون واحدة في كلّ المجتمعات السياسيّة، لأنّها تتعلّق بالدستور، العرفيّ أو المكتوب، الذي يعبّر عن “الشخص العام” لهذا المجتمع. ينتج عن هذه العلاقة بين المواطنة والدستور أمران، يضافان إلى كون حقوق المواطنة وواجباتها ليست واحدة في جميع الدساتير ويعطيان أمثلة محسوسة على هذه الاختلافات.
هذان الأمران هما:
حقوق المواطنة وواجباتها.
على الرغم من تفاوتات واختلافات في حقوق المواطنة وواجباتها كما نصّت عليها دساتير حديثة، فإنّها تلتقي غالبًا على ما يلي:
حقوق المواطنة.
تتعدّد مجالات حقوق المواطنة التي ترد في الدساتير الحديثة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
– الحقوق السياسيّة؛ وتعني حقّ المشاركة في الاستفتاء والانتخاب والترشيح لأيّ منصب سياسيّ. وحقّ نقد التدابير الحكوميّة، ونشر الآراء والأفكار في هذا المجال وفي غيره، شرط عدم إساءة استعمال هذا الحقّ.
– الحقوق الاجتماعيّة؛ وتعني الحقّ في الحياة الكريمة والتعليم والرعاية الاجتماعيّة بمختلف وجوهها.
– الحقوق الشخصيّة؛ وتعني حقّ التملّك، والحريّة الفرديّة، وتكافؤ الفرص، وعدم الاتهام والتوقيف أو الحجز إلّا تبعًا للأحكام المبيّنة في القوانين… ويلحق بالحقوق الشخصيّة، تبعًا لاختلاف الدساتير المعمول بها، بعض أو كلّ الحقوق الواردة في الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة عام 1948، شرط التمييز بين حقوق الإنسان في انتسابها ذاتًا وضمانًا إلى دائرة الخاص، وحقوق المواطن في انتسابها ذاتًا وضمانًا إلى دائرة العام، كما سيتّضح لاحقًا.
هذه الحقوق تضمنها الدساتير على وجه الإجمال والقوانين على وجه التفصيل، وتحميها الحكومات بوساطة الهيئات القضائيّة المستقلّة وأجهزة الأمن.. ولا تمنع هذه الحقوق أو بعضها إلّا بحكم قضائيّ مستند إلى قانون.
الواجبات.
في مقابل هذه الحقوق تفرض على المواطن واجبات، أهمّها:
– الولاء التام للوطن، لا بما هو حيّز جغرافيّ، وإنّما بما هو أرض يقوم عليها مجتمع سياسيّ ينتمي إليه المواطن. الولاء التام للوطن يعني إذن، الولاء التام للمجتمع السياسيّ الذي يقوم فيه، من دون أن يعني ذلك بالضرورة، ولاء للنظام السياسيّ أو للسلطات القائمة. ذلك أنّ معارضة النظام أو السلطات القائمة أو بعض قراراتها أو تدابيرها هو أحد أهمّ الحقوق السياسيّة (حريّة الرأي، وحقّ الدعوة إليه). شرط أن يكون منطلق هذه المعارضة رؤى متعلّقة بالعام، أي لا تدفع إليها إلّا المصلحة العامّة أو الخير المشترك لمجمل المجتمع السياسيّ، وليس الدوافع الشخصيّة أو المصالح الفرديّة أو الفئويّة.
– الخضوع لكلّ التكاليف المشتركة، من مثل دفع الضرائب، الاستجابة للخدمة العسكريّة والمشاركة في الدفاع عن الوطن حتّى في حال المعارضة الشخصيّة لها.
– عدم اللجوء إلى محاربة سياسات الحكومة بوسائل عنيفة، والاكتفاء بالنقد والمعارضة الإعلاميّة، مهما كانت المعتقدات أو الآراء الشخصيّة ومدى حِدَّتها في معارضة هذه السياسات، ولا يجوز اللجوء إلى العصيان المدنيّ إلّا إذا كانت السلطة عاجزة فعليًّا عن حماية المواطنين وحقوقهم، وأساءت بصورة منتظمة ومستمرّة إلى هذه الحقوق.
– سائر الواجبات التي تحدّدها الدساتير والقوانين تبعًا لأوضاع كلّ مجتمع سياسيّ.
المواطنة بين الخاصّ والعامّ.
لأنّ المواطنة مرتبطة بالانتماء إلى مجتمع سياسيّ في شروط استحقاقها وفي ما يترتّب على هذا الاستحقاق من حقوق وواجبات، ولمّا كانت السياسة هو ما يمثّل العام Le public في مقابل الخاص Le privé فإنّ المواطنة، من هذه الزاوية، تنتسب إلى دائرة العامّ الذي لا يخصّ فردًا بعينه أو جماعة بعينها، وإنّما يخصّ الجميع على قدم المساواة، ومن دون أيّ تمييز على أساس الخصائص الشخصيّة المهنيّة أو الأخلاقيّة أو الاعتقاديّة للفرد. وهذا ما تنبّه إليه مبكرًا أرسطو Aristotle، عندما ألحّ على واقعة أنّه لا يوجد تطابق بين فضيلة المواطن وفضيلة رجل الخير، أو بين السياسة والأخلاق كما كان يرى سلفه سقراط Socrates. يقول أرسطو بهذا الصدد: المواطنة تنتسب بصورة رئيسيّة إلى دائرة العام. ولذا، فهي مستقلّة عن الخصائص الشخصيّة والمهنيّة والأخلاقيّة للفرد. يكون إنسان مواطنًا لأنّه يشارك في حياة المدينة، في مساواة الحقوق والواجبات، وليس لأنّ استقامته وشرفه وكفاءته تتفوّق على ما لدى الآخرين منها. يستوي في ذلك الغني والفقير، المتديّن والملحد… ولهذه التفاوتات عواقبها في مجالات أخرى وليس في مجال التفاوت في مستوى المواطنيّة، أي في مستوى ما يترتّب عليه من حقوق وواجبات عامّة. وإذا اقتضى الأمر تفاوتًا ما، فإنّ العامّ هو الذي يحدّده ويقرّه، وبصورة استثنائيّة. فإذا استحقّ مثلًا فرد أو جهة مكافأة إعفاء من الضريبة أو من الخدمة العسكريّة، فإنّ هذا الإعفاء لا يقرّ إلّا بقانون، أي بتدخّل من دائرة العام، وليس برغبة تعود إلى دائرة الخاص.
في مفهوم المواطن، ليس هنالك، إذن، أيّ تراتب داخليّ؛ أي أنّه لا يمكن لأحد أن يكون مواطنًا أكثر من الآخر. المواطنة لا تعرف إلّا المساواة أمام القانون، وإمكانيّة الوصول إلى وظائف سياسيّة، أو ممارسة دور سياسيّ، والاختلاف في درجة الذكاء والإرادة وغيرها من الاختلافات تبقى خارج إطار فكرة المواطنة، مأخوذة بمعناها الدقيق.
هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإنّ المواطن المتمتّع بحقوق المواطنة، والمتحمّل لواجباتها هو، في نهاية الأمر عبارة عن فرد، أي عن معطى خاصّ يحدّد له العامّ حقوقه وواجباته، وبالتالي، حدود خصوصيّته المسموح له بممارستها. وإذا كان العامّ ينزع بطبيعته للتضييق من دائرة ما يعود إلى الخاصّ، فإنّ الخاصّ ينزع بطبيعته للتوسيع من دائرته على حساب العامّ، ومن هنا ينشأ التوتّر بين الخاصّ والعامّ. على صعيد المواطنة، يأخذ هذا التوتّر صورة سعي من المواطن لتوسيع دائرة حقوقه وتضييق دائرة واجباته، بينما يكون اتّجاه العامّ معاكسًا. وإذا كان هذا التوتّر مصدرًا محتملًا، في بعض الأحوال، للنزاعات والاضطرابات وربّما الثورة داخل المجتمعات السياسيّة، فإنّه يشكّل بالمقابل مصدرًا للتجديد والتغيير، بما يفرزه من احتجاجات وانتقادات ومطالبات يمارسها مواطنون قبال الحكومة التي تمثّل العام. وما يدفع هذه الأخيرة، في أحيان كثيرة، وتبعًا لشدّة الضغوط عليها، إلى التغيير من تدابيرها وحتّى من بعض قوانينها.. وهذا ما يعطي مستوى أو آخر من الحيويّة داخل المجتمع السياسيّ.
وهذا ما نلاحظه في اختلاف حيويّة المجتمعات السياسيّة، وبالتالي قدرتها على التطور باتجاهات إيجابيّة، تبعًا لاتّساع أو ضيق الحقوق التي تمنحها دساتيرها وقوانينها لمواطنيها، وحرصها أو عدم حرصها على احترام هذه الحقوق، واحترام ممارستها من قبل المواطنين، في إطار القوانين المرعيّة الإجراء. والأمر يعود أخيرًا إلى الروحيّة التي يمارس بها المعنيون بالشأن العامّ وما إذا كانت روحيّة توظيف العامّ للصالح الخاصّ (صالحهم طبعًا)، أم توظيف العامّ للصالح العامّ والخير المشترك لمجموع المجتمع وبالتالي لجميع مكوِّناته.
المواطنة والحريّة.
لا يوجد مواطن ولا مواطنة من دون وجود حقوق وواجبات يضمنها دستور وقانون، وتحميها سلطة سياسيّة، وتصونها هيئة قضائيّة، كذلك لا يوجد مواطن ومواطنة من دون حريّة يكفلها القانون وتحميها سلطة سياسيّة وتمكّن المواطن من ممارسة حقوقه والاعتراض المحتمل على بعض واجباته.
المواطن إذن، هو من يتمتّع بهذه الحريّة المشتركة، وبحماية السلطة، حيث تبدو مقولتا الحريّة والسلطة أساسيتين ومتلازمتين في هذا التعريف، إذ لا وجود لمواطن خارج دولة، أو خارج علاقة عامّة تتطلّب، بما هي عامّة، سلطة بالضرورة. الحريّة التي تستبطنها المواطنة، إذن، هي الحريّة التي تقنّنها وتسمح بها وتحميها دائرة العام، أي دائرة الاهتمام بالشأن السياسيّ، ويشترك فيها الجميع على قدم المساواة من دون أيّ تمييز يرجع إلى دائرة الخاصّ، أي كلّ ما يخصّ فردًا أو فئة اجتماعيّة، فيميّزهما عن غيرهما.
إذا صحّ ذلك، فإنّ المواطنة تفترض تجاوز دائرة الخاصّ، والتجاوز هنا لا يعني الإلغاء، إذ يستحيل إلغاء دائرة الخاصّ ومفاعيلها، لأنّه يستحيل إلغاء سائر الانتماءات الفرديّة والفئويّة التي تعطي للفرد أو للفئة نوعًا من الخصوصيّة الذاتيّة. التجاوز يعني وضع دائرة الخاصّ في إطار دائرة العامّ، وتحديد مفاعيلها بصورة تبقيها في هذا الإطار، فعندما ينصرف المرء بصفته مواطنًا، فإنّه لا يلغي خصوصيّاته كفرد، وإنّما يضع هذه الخصوصيّات بين مزدوجين، أو يخضع مفاعيلها لمتطلّبات العامّ ومقتضياته. وما يُقال عن الفرد يُقال عن الفئة أو الجماعة الاجتماعيّة أو الاقتصاديّة أو السياسيّة. وهذا الإخضاع كما رأينا، مشروط بأن لا يسعى العامّ إلى إلغاء الخاصّ أو التضييق عليه إلى درجة تهدّد بإلغائه، ما يستثير لدى الخاصّ نزوعًا إلى العصيان أو التمرّد، لا لإلغاء العامّ وإنّما لإصلاحه وإعادته إلى موقعه.
المواطنة، من هذا المنظور، هي انتماء خاصّ إلى عامّ، وهي انتماء لا يفرضه العامّ إلّا لأنّ له مرتكزًا في الخاصّ، ما يعني أنّ العامّ ليس شيئًا مفروضًا على الخاصّ من خارجه، وبالتالي، فهو ليس إكراهًا ينزع حريّة الخاصّ أو يلغيها، وإنّما هو استثارة للعامّ الكامن في الخاصّ ونوع من التقنين له. ذلك أنّ الإنسان، أيّ إنسان، لا يصبح إنسانًا بالفعل بتأثير الوراثة البيولوجيّة فحسب، وإنّما يحتاج بالإضافة إليها، إلى وراثة ثقافيّة، يتمّ من خلالها استدخال ما يشكّل اجتماعيّة المجتمع، أيّ ثقافته السائدة بالمعنى الواسع لكلمة ثقافة (اللغة، المعتقدات، أنماط التعبير، أنماط الإنتاج، أنماط الاستهلاك، أنماط التطلّعات…)، بحيث لا يعود الفرد الإنسانيّ، فردًا لا يصدر في سلوكاته إلّا عن ميول ورغبات فرديّة خاصّة، وإنّما أيضًا عن ميول ورغبات اجتماعيّة ناجمة عن استدخاله ثقافة المجتمع. وإذا كان فلاسفة الماضي قد علّلوا كون الإنسان اجتماعيًّا بالطبع لحاجته إلى التعاون مع آخرين لإشباع حاجاته، فإنّ التعليل الذي أُشير إليه للتوّ، يُضاف إلى التعليل الأوّل ويجعله أكثر وضوحًا وعمقًا ويؤكّد أنّ جانبًا من العامّ، أي ممّا يشكّل اجتماعيّة المجتمع كامن في الخاصّ، أي في الفرد، وبالتالي في الجماعات المكوّنة من أفراد… والتجاذب بين العامّ والخاصّ لا يتمّ على صورة تجاذب بين الأفراد والجماعات من جهة، والقيّمين على المجتمع السياسيّ من جهة ثانية، فحسب، وإنّما يتمّ أيضًا على صعيد الوجدان أو الوعي الخاصّ بكلّ فرد. ويكون دور العامّ بصيغته السياسيّة، هو تغليب الميول العامّة في الفرد أو الجماعة على الميول الخاصّة.. من خلال التقنين، وقبل ذلك من خلال التربية.
المواطنة والمساواة.
هنالك مستويان من المساواة بين الناس:
المستوى الأوّل: هو المساواة بين الناس في الاعتبار والناجمة عن الانتساب إلى النوع الإنسانيّ والاشتراك في الماهيّة الإنسانيّة. وهي المساواة السابقة على أيّ كسب من شأنه أن يُحدث تفاوتًا أو اختلافًا ثقافيًّا أو اقتصاديًّا أو اجتماعيًّا أو غير ذلك. إنّها المساواة في الفطرة التي فطر الله الناس عليها ولا تبديل لخلق الله، كما ورد في القرآن الكريم. والتي تسبق أيّ تمجيس أو تهويد أو تنصير لأيّ اكتساب ثقافيّ وعقائديّ، كما ورد في المأثور عن الرسول الكريم صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ولكن، بفعل الحياة الاجتماعيّة، تنشأ بين الناس أنواع كثيرة من الاختلافات والتباينات في المجتمع الواحد وعلى شتّى الصعد الثقافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة… وكان لهذه الاختلافات والتباينات الواقعيّة في المجتمعات السياسيّة التي سبقت قيام الدولة الحديثة تأثيرات متنوّعة وكبيرة في تحديد الحقوق والواجبات تبعًا لهذه الاختلافات، وللجهات الاجتماعيّة التي تجسّدها: من المعروف مثلًا، التقسيم الذي عرفته معظم المجتمعات الأوروبّيّة في العصور الوسطى والذي يوزّع أفراد المجتمع السياسيّ إلى طبقات: النبلاء، والإكليروس، وعامّة الشعب… وكان لكلّ من هذه الطبقات حقوق وواجبات تترتّب لها وعليها، ولأبنائها وعليهم، بمجرّد الولادة فيها أو الانتساب إليها.
المستوى الثاني: في مواجهة هذه الحقوق والواجبات المترتّبة على مجرّد الانتماء الطبقيّ، طرحت فكرة المساواة في الحقوق والواجبات وأمام القانون لكلّ من يحملون هويّة المجتمع السياسيّ بصرف النظر عن أيّ اختلافات أو تفاوتات واقعيّة تقوم بين مواطني هذا المجتمع. وشكّل إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي أصدرته الجمعيّة الوطنيّة التأسيسيّة في فرنسا في عام 1789 أشهر وأهمّ انتصار وتثبيت لهذا الطرح، إذ نصّ بنده الأوّل على: “يولد الناس ويظلّون أحرارًا ومتساوين في الحقوق، لا تمييز ولا تفاضل بينهم إلّا في ما تقتضيه المصلحة العامّة”.
ولا يخفى أنّ هذا المستوى من المساواة يتجاوز المساواة من النوع الأوّل، إذ بينما يعتبر المستوى الأوّل أنّ الناس يولدون متساوين في الاعتبار والكرامة. يرى المستوى الثاني أنّهم يولدون ويظلّون أحرارًا ومتساوين في الحقوق ولا تمييز ولا تفاضل بينهم إلّا في ما تقتضيه المصلحة العامّة. وهذا تطوّر هام.
إذا كان صحيحًا أنّ المساواة من النوع الأوّل تشكّل ركيزة المساواة من النوع الثاني، فصحيح أيضًا أنّ الثانية تختلف عن الأولى:
– فبينما تنظر الأولى إلى الإنسان كمفهوم فلسفيّ مجرّد، تترجم الثانية هذا المفهوم الشموليّ إلى ممارسة واقعيّة.
– الأولى توحي بإمكانيّة تأسيس مبدئيّة للمساواة في الحقوق والواجبات، مجرّد إمكانيّة، الثانية تنصّ على المساواة في الحقوق والواجبات، وتؤسّس لإعطائها شكلًا إجرائيًّا واقعيًّا من صياغتها في قوانين تحميها مؤسّسة الدولة ويصونها القضاء ويتساوى أمامها الجميع بصرف النظر عن كلّ التفاوتات والاختلافات الناجمة عن اختلاف شروط الحياة الاجتماعيّة.
ومع ذلك، وعلى الرغم من هذا التطوّر الإيجابيّ، فإنّ الاختلافات والتباينات الواقعيّة تنذر بتحوّل هذه المساواة إلى نوع من التجريد الذي لا يجد مصداقه العمليّ على أرض الواقع، كما يرى منتقدو هذه المساواة في مقدّمتهم الماركسيون، وكلّ المتطلّعين إلى مساواة أكثر واقعيّة وعدالة.
صحيح أنّ المساواة في الحقوق والواجبات وأمام القانون، تشكّل تقدّمًا نوعيًّا باتجاه العدالة المشخّصة إذ تلغي الآثار الحقوقيّة والقانونيّة التي كانت تترتّب على هذه التفاوتات، في بعض المجتمعات السياسيّة. ولكنها لا تلغي أو لا تخفّف، على الأقل، من آثار هذه التفاوتات على ممارسة الناس لحقوقهم في شتّى المجالات التي ينصّ عليها الدستور والقوانين، وفي مقدّمتها الحقوق العائدة للمجال السياسيّ أو الاقتصاديّ. وكان للانتقادات الموجّهة إلى هذه المساواة، وللمخاوف التي أثارها تشكيل الأحزاب العمّاليّة ذات المنطلقات الاشتراكيّة دور في محاولة الأنظمة الليبراليّة تخفيف آثار الاختلافات من خلال تدابير منها فرض الضريبة التصاعديّة على الدخل، وتعميم التعليم، وتأمين الضمان الصحيّ والاجتماعيّ… وهذا ما شكّل تقدّمًا جديدًا باتجاه المساواة بين المواطنين، وأكسب المواطنة نوعًا من الحقوق الإضافيّة، التي باتت تشكّل مطلبًا جديدًا من مطالب المواطنين في البلدان التي لم تتحقّق فيها مثل هذه المكاسب.
المواطنة والتعدّديّة.
بعد أن كانت حدود المجتمع السياسيّ تتماهى مع حدود قوّة القيادة السياسيّة وقدرتها على التوسّع على حساب مجتمعات سياسيّة مجاورة أو قريبة أو حتّى بعيدة جدًّا (ممتلكات التاج البريطانيّ مثلًا) ما يجعل حدود المجتمع السياسيّ وحدود تابعيه من الناس متغيّرة تبعًا لهذا المعيار، من دون أيّ معيار آخر، وبعد أن كان ما كان من صراعات دامية ومدمّرة على هذه الحدود، وبعد مخاضات عسيرة تليها اتفاقات ومعاهدات لا تلبث أن تُنقض… انتهى الأمر إلى تبنّي معيار آخر لرسم الحدود هو معيار الموطن الخاصّ بشعب تضافرت عوامل الثقافة والتاريخ والعيش المشترك خلال حقب متطاولة من الزمن على إحداث نوع من التجانس النسبيّ بين أفراده وجماعاته.
وشكّل هذا المعيار، بصورة إجماليّة، ما عُرف بمبدإ القوميّات، الذي على أساسه يمكن رسم حدود الدول.
ولكنّ تطبيق هذا المبدأ واجه صعوبات أثمرت، مع عوامل أخرى، حروبًا طاحنة، اشتهر منها الحروب بين فرنسا وألمانيا على تبعيّة الألزاس واللورين، وانعكست هذه الحروب على التنظير للقوميّة ولا سيّما على العامل الحاسم في انتساب جماعة إلى قوميّة دون أخرى، فبينما اعتبر الألمان أنّ اللغة هي العالم الحاسم (سكّان الألزاس واللورين يتكلّمون اللغة الألمانيّة)، اعتبر الفرنسيون أنّ الإرادة هي ذلك العالم (معظم سكّان هذين الإقليمين يميلون للانضمام إلى فرنسا).
هذه الصعوبة هي واحدة ممّا لا يُحصى من الأمثلة على صعوبات تطبيق مبدإ القوميّات في رسم حدود الدول وما تستتبعه من نزاعات وخصومات، وما أدّت إليه من تبنّي مبدإ تقرير المصير لحلّ تلك النزاعات والخصومات، لكنّ تطبيق هذا المبدأ والمطالبة بتطبيقه من قبل المتظلّمين من تبعيّتهم لهذه الدولة أو تلك، لا يخضع في الأعمّ الأغلب، لمعايير العدالة بقدر ما يخضع لموازين القوى والمصالح الخاصّة للدول المسيطرة على المؤسّسات الدوليّة.
هذه الصعوبات وآثارها المختلفة تشير إلى أنّ التجانس النسبيّ للشعب الذي تشكّل حدود موطنه حدودًا للدولة الحديثة الموصوفة بأنّها قوميّة أو وطنية لم يلغ أشكالًا متنوّعة من التعدّديّة الإثنيّة أو اللغويّة، أو الدينيّة، أو حتّى المذهبيّة.. ما يجعل من المواطنين الذين يجسّدون مظهرًا من مظاهرها يشعرون بأنّ لهم خصوصيّة في إطار المجتمع العامّ لا يتمكّنون من التخلّي عنها بسهولة (الخصوصيّة اللغويّة أو الثقافيّة لا سيّما عندما يكون لها علاقة بمعتقد ذي طابع تقديسيّ) وهذا ما يطرح مشكلة تعاطي المجتمع السياسيّ مع هذه الوقائع التعدّديّة في ظلّ مبدإ المواطنة بما باتت تعنيه من المساواة في الحقوق والواجبات وأمام القانون، هل تحترم هذه التعدّديّة ويسمح لها بالتعبير عن خصوصيتها، وإذا سمح لها بذلك ألا يسيء إلى مبدإ المواطنة؟ عندما ينصّ القانون مثلًا على أنّ لغة الدولة الرسميّة هي العربيّة أو الفرنسيّة، ويتمّ تجاهل لغة أقلّيّة من الأقلّيات داخل الدولة، ألا يشعر أولئك المواطنون بالحيف أو الظلم، خاصّة وأنّ اللغة ليست مجرّد وسيلة للتفاهم، بل هي غالبًا حاملة تراث ثقافيّ له أنماطه الخاصّة في التفكير والتعبير والحكم على الأمور، وبالتالي جزءًا لا يتجزّأ من مكوّنات شخصيّة الفرد حتّى عندما يتلقّاها شفاهًا؟ وعندما ينصّ القانون على المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة، ويجبر المسلم مثلًا في مجتمع سياسيّ علمانيّ على تطبيق هذه القاعدة، ومخالفة ما يعتقده من قواعد الإسلام في هذا المجال، ألا يشعر كذلك بالحيف والظلم لدى تطبيق مبدإ المواطنة عليه؟
إنّنا في معرض طرح المشكلة ولسنا بصدد حلّها، وإن كان يمكن أن يُشار إلى حصره بين حدّين: الأوّل، هو الحفاظ على وحدة المجتمع السياسيّ وعدم تعريضه للتفتّت من خلال السماح لكلّ أقلّيّة ذات خصوصيّة أن تتحوّل إلى كيان سياسيّ جديد، والثاني، هو احترام هذه الخصوصيات والسماح لها بالتعبير عن نفسها من دون المساس بمبدإ المواطنة لجهة التساوي في الحقوق والواجبات، إلّا حيث يتعارض مع تشريع مؤسّس على معتقد ذي طابع تقديسيّ بما يجعله جزءًا من حريّة الاعتقاد التي يتساوى بها جميع المواطنين، ويخرج مبدأ المساواة من معناه المبتذل والشكليّ (المساواتيّة) لتضعه في إطاره القيميّ والإنسانيّ الذي يقرّبه من مبدإ العدالة، إذ يجعله محكومًا بهذا المبدأ.
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/14115/newcitizenship/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.