تأملاتٌ سريعة في سورة الإخلاص المباركة
إن النظر في آيات سورة الإخلاص المباركة يضعنا أمام تصوّرٍ يمكن الانطلاق منه في تحديد الغاية المحورية التي دارت حولها آياتها وعبائرها. وهذا ليس بمستبعدٍ، خصوصًا مع ملاحظة أن عدد آياتها قليلٌ نسبيًا، فهذا يعين إلى حدٍ بعيد على تثبيت دعوى أن للسورة محورًا محددًا ترتكز عليه مطالبها.
مرادنا هو القول إن من المتسالم عليه صعوبة ادعاء وجود محور واحدٍ ومحددٍ لأي سورة من سور الكتاب، إذ السور المباركة عادةً ما تغطي بآياتها وعباراتها مروحةً كبيرةً من الموضوعات والمسائل التي تتنوع في العادة بين قضايا الاعتقاد، وآيات الأحكام، والقصص القرآني، وآيات الإرشاد، والوعظ وغير ذلك من المسائل. إلا أننا مع سورة الإخلاص يمكن أن ندعي أن بإمكان قارئها اقتناصُ محورٍ محددٍ تناولته آياتها، وهو بكل وضوحٍ عنوان “التوحيد”؛ وهو أحد أسماء هذه السورة كما هو معروف.
سينصبّ المسعى في هذه العجالة على محاولة تقديم جملة استفادات لاحظناها في سياق تعاملنا مع هذه السورة، وهي استفادات تقع في إطار دعوى كون التوحيد هو محور هذه السورة، والله هو المستعان.
مرورٌ على آيات السورة المباركة
قبل الشروع بذكر الفوائد النظرية التي تسنّى لنا استنتاجها من آيات السورة، لا بد من المرور على هذه الآيات ومحاولة تحديد الدلالات المباشرة التي يمكن أن يستفيدها القارئ منها.
ابتدأت السورة بادئ الأمر بفرض الإقرار بوحدانية الله سبحانه، حيث قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، وهذا أمرٌ منه لنبيّه الكريم (ص) بأن يقول بلسان القال ولسان الحال والإقرار إن الله سبحانه أحدٌ، والأحد هو بسيط الذات الذي لا تَرَكُّبَ في وجوده وحقيقته، لا من حيث المفهوم ولا من حيث الحقيقة والوجود الخارجي.
ثم اتجه السياق إلى الكلام عن صمديّته تعالى، {اللَّهُ الصَّمَدُ}، والصمد هو الذي إليه تقصد الخلائق في حوائجها على الدوام، فالمطلوب هنا تثبيت كونه هو ملجأَ الخلائق ومرجعَها، في حوائجها الوجودية والتكوينية {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ}، كما وحوائجها الهدائية والتشريعية {ثُمَّ هَدَى}.
ثم نفت الآية الثالثة عنه تعالى أن يكون من شأنه أن يلد فيكون له مولود يسانخه، {لَمْ يَلِدْ}، كما نفت عنه أن يكون من الذين وُلدوا في زمان من الأزمنة، {وَلَمْ يُولَدْ}، بل النفي هنا يعمّ كل معاني التحقق الوجودي الذي يكون بعد العدم، فيعم الأمر نشأة ما فوق الزمان أيضًا، وفيه إشارة إلى أزليّته سبحانه.
وبعد هذَين النفيَين ورد نفيٌ ثالثٌ في الآية الرابعة متعلّقُه أن يكون لله سبحانه كفؤًا يعدله ويكافئه، {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ}، ودلالة هذا النفي أن صفاته سبحانه هي على حدٍ من الكمال لا يمكن معه فرض أن يشاركه أحد أو يماثله في الاتصاف بمثلها.
وكما نرى، فإن جملة المطالب المبثوثة في طيات السورة تتعلق كلها بمسألة التوحيد، وتعبّر كل واحدةٍ منها عن فرعٍ من فروعها، فمن الأحدية، إلى الصمدية، إلى نفي الولادة والانولاد، ثم نفي الكفؤ، نجد أننا إنما نتعاطى مع مطالب نظرية يمكن الاستناد إليها، وتوظيف بعض الخلفيات التأسيسية، لاستفادة بعض القضايا الفلسفية أو الكلامية التي طُرحت في المباحث التقليدية.
الفائدة الأولى: مراتب التوحيد في سورة الإخلاص
انطلاقًا من الفهم المتقدم لمضامين الآيات المباركات، فإن بالإمكان، فضلًا عن ادعاء كون محورها الأساس هو التوحيد، أن نتعدّى – بشيءٍ من التجوّز – إلى القول إن في طياتها عرضًا لمراتب التوحيد أيضًا، والتي عجّت بها كتب العقيدة والكلام، والقول إنها أشير إليها – في الجملة – في آيات هذه السورة. وإليك ذكر مراتب التوحيد مع بيان مورد الإشارة إلى كل واحدة منها في السورة المباركة:
1- التوحيد الذاتي: وهي أولى مراتب التوحيد المطلوب الإقرار بها، وقد أشير إليها في قوله تعالى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، ويستدل على التوحيد الذاتي هنا بظهور لفظ “أحد” في الدلالة على وحدة الذات الإلهية.
2- التوحيد الصفاتي: وقد أشير إليه في قوله تعالى {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ}، ويستدلّ عليه في الآية بما بيّنّاه من فهمٍ لها، من أن صفاته على أعلى درجات الكمال بحيث لا يدانيه ولا يكافيه أحد في الاتصاف بمثلها، مع إضافة مقدمة أخرى وهي أن صفاته لمّا كانت على أعلى مستويات الكمال لزم أن تكون كلها حقيقةً واحدة، لأن الكمال المطلق لا يُتصوّر تعدُّده أو تكثُّره، فتثبت مسألة وحدة صفاته تعالى، وبالبيان عينه يثبت أيضًا أن صفاته عين ذاته، لأن ذاته أصل كل وجود وكمال، فلو كانت صفاته تحققًا للكمال المطلق فلا يتصوّر أن تكون شيئًا خارجًا عن ذاته. وبهذا تثبت عينية الصفات والذات.
وهذان المطلبان، أعني وحدة الصفات وعينية الصفات مع الذات، هما لبّ معنى التوحيد الصفاتي الذي هو ثاني مراتب التوحيد النظري المطلوب الإقرار بها.
3- التوحيد الأفعالي: ويمكن الاستدلال عليه في السورة في قوله تعالى {اللَّهُ الصَّمَدُ}، إذ الصمد كما بيّنّا هو الذي تلجأ إليه الخلائق في حوائجها، ولمّا كان الحال كذلك، فهذا إنما يفيد أن الخلائق كلّها عاجزة في ذاتها عن تحقيق أي حاجة من حوائجها دون الارتكان إلى قدرته ومشيئته تكوينًا، ويستفاد منه أن عجزها المطلق لا يقتصر على تحقيق غاياتها من الأفعال، بل يشمل حتى نفس مسألة الإتيان بتلك الأفعال.
وتوضيح ذلك، إن صمدية الله سبحانه إنما تعني الحاجة المطلقة إليه سبحانه في كل شأن من شؤون التحقق والفعلية، فأصل الوجود راجع إليه، ثم بقاء الوجود متوقف على إرادته، كما والفعل في صفحة الوجود متوقف أيضًا على إذنه، فالكائنات لا سلطة لها على التصرّف والفعل لولا إذنه تعالى، وهي إنما تفعل بإرادته ومشيئته، وذلك ليس على نحو الجبرية في كل الموجودات، بل هي مع الإنسان تتحقق باختياره – وهي السمة المميزة التي حباه الله سبحانه إياها – ولكن على فرض كونِ اختيارِه جزءَ علةِ تحقُّقِ الفعل، وعدم كفايته في ذلك لولا إذن الله سبحانه وإرادته.
وعلى البيان السابق، تكون أفعال العباد مسندةً إليهم بوجهٍ يصح معه محاسبتهم عليها، ولكن يكون الفاعل الحقيقي هو الله سبحانه الذي خوّلهم أمر الفعل باختيارهم وأتاح لهم ذلك. وهذا هو معنى التوحيد الأفعالي المنصوص عليه في الكتب الكلامية عند الإمامية.
وبهذا، تكون مراتب التوحيد الثلاثة، الذاتي والصفاتي والأفعالي، منصوصًا عليها ولو بإلإشارة في آيات السورة المباركة.
الفائدة الثانية: تنقيح المعنى الصحيح للتوحيد
مما يعين عليه سياق الآيات في السورة المباركة هو أن الآيات تتضافر معًا في تنقيح معنى التوحيد الحقيقي الذي يريد الله سبحانه من الناس أن يفهوه ويؤمنوا به، وذلك عبر ذكر بعض العناوين التفصيلية، كالأحد والصمد، تارةً، ونفي عناوين أخرى، كالولادة والانولاد ووجود الكفؤ، تارةً أخرى. فكأنما أريد من هذه السورة المباركة أن توضح ما هي حقيقة التوحيد المطلوب؟
والنكتة في ذلك أن الإيمان بالتوحيد بالمستوى البسيط والساذج، والذي لا تناول فيه للمحدِّدات التي قد تكون ضروريةً في إثبات بعض الخصائص التي يتوقف عليها التصوّر الصحيح لمفهوم التوحيد الحق كما ونفي ما يمكن أن يلزم منه ما يعارض هذا المفهوم، أقول: هذا المستوى من الإيمان قد يكون مما تتفق عليه الأديان الكثيرة والملل المختلفة، السماوية وغيرها، فاحتاج المقام – والحال أننا أمام مفهوم التوحيد المطلوب من أتباع أكمل الشرائع والملل وأتمها – احتاج المقام أن يقف أهل الإيمان على المعنى الأتم والأدق لمفهوم التوحيد.
وهنا مسألة من الجيد الإلفات إليها، وهي أن اللجوء إلى هذا النحو من التحديدات المفهومية، عبر نفي بعض الخصائص المشتبهة أو المتشابهة عن مفهوم من المفاهيم في سبيل تقديم تعريف صحيح له، هو من الأساليب المعتبرة في بحوث المناطقة المعاصرين، في قبال الكلام التقليدي على عدم اعتبار ما سوى التعريف بالحدّ التام أو الناقص. فبعد الإقرار بتعسّر، بل بتعذّر، وضع اليد على فصول الحقائق وأجناسها القريبة أو المتوسطة، ذهبوا إلى القول بضرورة أن يأخذ هذا النحو من التعاريف مستوًى معتبرًا من الحجية. وحجتهم في ذلك أن التعاريف المنطقية المعتبرة يكفي فيها أن تميّز المفهوم المعرَّف عن غيره من المفاهيم المشابهة، وهذا ما يحقّقُه هذا النحو من التعريفات. وهذا الكلام ليس بجديد، بل هو موافقٌ لما ذهب إليه شيخ الإشراق السهروردي في بحوثه المنطقية من إنكار جدوائية الكلام في بحث التعريف عن التعريف بالحد، والتوجه إلى الاكتفاء بالتعريف القائم على ذكر الخصوصيات الـمُعِينة على نفي الاشتباه المفهومي وتمييز المفهوم المعرَّف عن سواه.
الفائدة الثالثة: الغاية من طرح بعض الخصائص دون سواها
أشرنا في الفائدة الثانية إلى ورودِ جملةِ خصائص في السورة المباركة قلنا إنها وردت لتصرف الفهم إلى معنًى محدّد لمفهوم التوحيد، وهنا ينقدح سؤال: هل بالإمكان أن نجد جوابًا على سؤال الغاية من طرح هذه الخصائص بعينها دون غيرها؟ أي لماذا كانت هذه الخصائص بالتحديد هي المذكورة لتمييز المفهوم الصحيح للتوحيد عن غيره دون غيرها؟
وفي محاولة الجواب على هذا السؤال نقول: قد يُستشف من دلالات الآيات أن الخصوصيات المذكورة في السورة بأعيانها قد تكون وردت في سبيل دفع شبهات وردت على التوحيد في زمن الرسالة من أصحاب المعتقدات المختلفة. وهذا ما ينبغي تبيينه – ولو بشيء من العجلة – بالوقوف على هذه الخصائص ومحاولة استظهار الشبهة التي وردت كل خاصية في دفعها، وإليك بيانه:
1- الأحدية: وهذه الخاصية بما تفيده من معنى بساطة الذات، كما ذكرنا، إنما تنفع في دفع ما قد يُتوهّم من شبهة الجسمانية عنه تعالى، أو أن يكون مما يرزح تحت خط الزمان. وهذه الشبهات كانت إما موجودةً بعينها عند بعض أصحاب الديانات القديمة، أو لازمةً لما هو موجود عند بعض آخر.
2- الصمدية: وهي الخاصية التي يمكن أن تنفع في نفي شبهة أنه تعالى خلق الخلق وتركه لأمره، أو فوّض إلى بعض القوى والموجودات أمر تدبيره، وهذه كانت عقيدةً سائدةً عند عَبَدةِ الأصنام والمنحوتات، حيث كان مشركو مكة يعبدون الأصنام التي اعتبروها تجسيدات وتصاوير للآلهة المدبرة لشؤون العالم.
3- نفي أن يكون له ولد: وهذه الخاصية رد صريح ودفع ظاهر لما في عقيدة اليهود والنصارى – وهم من أهل التوحيد ظاهرًا – من قول الأوائل بكون عزيرٍ ابنَ الله وقول الثانين بكون المسيح ابنَ الله، بل لعل لهذه الشبهة جذورًا سابقة على اليهودية عند أصحاب الديانات القديمة.
4- نفي الكفؤ له سبحانه: وهي خاصية يندفع بها ما كان سائدًا عند بعض الملل من عقيدة تعدد الآلهة، كما هو وارد في أساطير بعض الشعوب كاليونان والرومان، أو عند أصحاب بعض العقائد الباطلة كالزرداشتية وغيرها.
وبهذا فكأن الخصائص المذكورة أريد لها أن تؤكد بطلان كل تلك المعتقدات على اختلافها، وإثبات الوجه الصحيح لأصل التوحيد، الذي هو أصل أصول الاعتقاد عند المسلمين.
خاتمة
كانت هذه محاولةً متواضعةً في استجلاء بعض المطالب والفوائد النظرية من آيات سورة الإخلاص، وإنا لنتّهم أنفسنا بالقصور ونستغفر الله على ما قد يكون بدر منه، كما ونؤكد على كون ما ورد في هذه الورقة لم يُستفد من كتب التفاسير وآراء المفسرين، بل هو نتيجة تأمُّلٍ في عبارات السورة، مع الاستفادة من جملة مطالب معرفية سبقت إلينا من كتب العلماء وتعاليمهم، فما في الورقة من الصواب فالفضل فيه إليهم، وما فيها من الخطأ فهو راجعٌ إلى كاتبها.
المقالات المرتبطة
تهافت “العصبية” الليبرالية لدى بعض العرب
صحيح أن الديموقراطية والليبرالية قد تتعايشان ردحًا من الزمن إلا أن ما يفصل بينهما في المعنى، حقلٌ شاسع. وبالتالي إن الخلط المفاهيمي بين هذين المصطلحين أو النمطين من التصورات السوسيو- سياسية يؤدي حتمًا لتعقيد المسالة
القضية في سياقها الجيوسياسي الجديد
في قراءة حول الحداثة والتحديث وسيرورتها في العالم الغربي، ونفوذها إلى عالمنا العربي، وارتباطاتها الفكرية والثقافية والجيوسياسية
الدين والأخلاق ثلاثة أنماط في العلاقة
بين الدين والأخلاق كثير من النقاط المشتركة( ). فالمفاهيم الخُلقية، مثل الواجب، وحرية الإرادة، والمسؤولية، والخير، والصواب..