إشكالية الإخبار وأزمة الكتابة التاريخية في لقاء مع الدكتور محمود إسماعيل
س: في البدء، دعنا نتساءل: هل هي أزمة تاريخ أم أزمة مؤرخ؟
ج: الفصل بَيْن الطرفين غَيْر مبرر؛ لأنّ المؤرخ يؤرخ على الواقع، وفي نفس الوقت هو ابن لهذا الواقع، وخصوصًا طبيعة هذا الواقع في هذه المرحلة: مرحلة الانحطاط التي لَمْ يشهدها العرب مِن قَبْل..
فالأزمة ليست أزمةً، بل هي كارثة، وتركت بصماتها على الجميع بدرجة أو بأخرى.
فالواقع المعقد مختلط ينعكس هذا على عقلية المؤرخ، والمؤرخ ترمومتر يتأثر بالحرارة والبرودة، وعلى ذلك نجد إذا كان الواقع يعرج على كارثة فمن المنطقي جدًّا أنْ يضطرب المؤرخ في أداء وظيفته..
فمثلًا.. على الرغم مِن أنّ الأزمة واضحة تمامًا إلا أنّ رؤى المؤرخين تختلف وتتضارب، وخاصةً في مسائل التحليل والتأويل والتعديل، فيوجد مِن المؤرخين مَن يختلف حتى في إدراك درجة الكارثة، ويجد مَن يقول أنه لا توجد أزمة أصلًا..
لكن ليس معنى هذا أنّ العملية عبثية؛ فالمؤرخ ـ بطبيعة عمله ـ لن ننتظر مِنْه الكلمة الفصل أثناء الأزمة نفسها؛ لأنّ ما يجري لَمْ يتحول بَعْدُ إلى تاريخ، بمعنى أنّ مرحلة الفوران لَمْ تُفْضِ إلى حالة نهائية ثابتة، وعندما يحدث ذلك يأتي دور المؤرخ.
أمّا الأزمة الراهنة.. فهي ضِمن اهتمامات المشتغلين بالعلوم السياسية؛ حيث يقدّم تحليلات مرتبطة بمجريات الأحداث نفسها، لكنه لا يستطيع أنْ يصل إلى القول الفصل. وإذا كنا نتحدث عن أزمة مؤرخ فهي أزمة تشمل النخبة المفكرة كلها، وهذا يفسر الخلل العام في مقاربة ما يجري.
س: مع أنّ التاريخ صناعة عربية، إلا أن أزمة القراءة التاريخية ظلت لعنةً لصيقةً بالعقل العربي.. هل أنتم ـ كمؤرخ ـ ما زلتم على أمل في أنْ يصحو الخطاب التاريخي العربي يومًا مِن سبات المأزق الأسطريوغرافي؟
ج: هذه دعوى خاطئة، وهي ليست جديدةً؛ فهي مرتبطة بالنزعات العنصرية والتفوق العِرقي، وهي أحطّ درجات التفكير؛ فالله لَمْ يعطِ لأحد قدرةً أكثر مِن آخَر، فهي مسألة ظروف ومعطيات..
وهذه القضية مرتبطة بفكر الجابري الذي يقول: “إنّ العقل العربي عقل مستقيل”.
وهي نفسها أخذها عن الاستشراق الكلاسيكي الذي كان أساسًا يقدم معلومات للاستعمار، وكان يستهدف الترويج لمركزية الحضارة الأوروبية، علمًا أنّ هذه الحضارة باعتراف الغربيين أنفسهم (وأي حضارة) ما هي إلا خطوة على طريق التقدم البشري، ولكي تتقدم وتتطور لا بدّ أنْ تستوعب الرصيد الحضاري السابق، فهي لَمْ تبدأ مِن درجة الصفر.
أيضًا.. هناك الفكر الفاشستسي، عمومًا، الذي يصنف الناس على أساس درجات عقلية، فالتفاضل العِرقي لا وجود له أصلًا؛ بدليل أنّ الحضارة العربية في العصور الوسطى هي التي كانت تقود العالم.
الجابري أخذ الأفكار وأطلقها على العقل العربي ووصفه بأنّه بياني عرفاني تهويمي غَيْر عقلاني.
والعالم العربي ـ رغم الظروف الآنية ـ يوجد فيه عقول تناطح عقول الأوروبيين والأمريكيين.
فإذا كان العالم العربي يعاني أزمة فكر فهو نتيجة طبيعية لأزمة واقع، وليس هناك واقع ثابت إلى الأبد، بل إنّ قانون الحركة والصيرورة يجعل مِن التغيير أمرًا حتميًّا..
لكن متى؟!
هذا ليس في يدنا، ويوم أنْ يتغير الواقع سيتغير الفكر، وهذا يذكِّرنا بمقولتنا عن سوسيولوجية الفكر.
س: هل ينظر المؤرخ اليوم إلى التحدي العربي..وهل العولمة مِن شأنها المساهمة في نقد الوثيقة أم أنها ستزيد مِن تعويم الحقيقة التاريخية؟
ج: التحدي العربي للمؤرخ هو هاجسه وشاغله، بل إنّ فكرة التحدي والاستجابة هي مقولة مؤرخ (توينبي)، وهي الفكرة التي تؤدي إلى الحراك التاريخي..
ولِذلك يقول: إنّ العقل البشري يعمل بكل طاقاته وقدراته وملكاته عند مواجهة التحدي.
فعلى سبيل المثال.. الأزمة العربية الراهنة عندما يقرأها المؤرخ يقرأها على أنها تحدي، لِذلك هو معنيّ بالاستجابة لهذا التحدي، ولحظة الاستجابة هذه هي لحظة تاريخية (هيستورك)، لحظة مفصلية؛ لأنها هي توأم الانتقال مِن حال متخلف إلى حال أرقى.
مِن هنا يهتم المؤرخ بتلك الحالات المفصلية باعتبارها تشكّل البدايات للتغيير.
أمّا بالنسبة للعولمة: فهي مصطلح غَيْر بريء، فيمكن قراءتها على أنها شيء إيجابي، بمعنى التواصل بَيْن الحضارات والمزيد مِن التعرف على مزيد مِن التقدم..
لكن الذي يحدث هو أنها مصطلح مراوغ يُستخدَم كغطاء لمشروع الهيمنة الأمريكية، ويُفهم هذا مِن خلال طموح هذه الهيمنة إلى فرض الثقافة الأمريكية على العالم، وهذا غَيْر ممكن في حد ذاته، خصوصًا إذا كانت هذه الثقافة ـ ثقافة الكاوبوي ـ غَيْر مؤهلة لتكون ثقافةً عامّةً للبشرية.
وواجب المؤرخ أنْ يفطن إلى تلك المغالطة؛ لأنه الخبير بالثقافات وتراثها الطويل في عمر البشرية.
وقراءة استقرائية لطبيعة العلاقة بَيْن الثقافات تؤكد الاختلاف النوعي، وهو أمر إيجابي؛ لأنه يعني التعددية..
وهنا تبرز المفارقة الأمريكية حول العولمة: كيف تتحدث عن الديموقراطية على أنها وعاء التعددية، وفي نفس الوقت تلح على أنْ تسود ثقافتها الأحادية لِتَجُبّ كُلّ الثقافات؟!
كذلك بالنسبة للمؤرخ.. إنّ العولمة لَمْ تُختبَر بَعْد، وبالتالي لَمْ تصبح تاريخًا بَعْد لكي يتعامل المؤرخ معها، لكنها البدايات تؤكد بطلانها باعتبارها أيديولوجيا ذرائعية أي تبريرية للهيمنة.
س: لقد كاد التاريخ أنْ يصبح صناعةً شعريّةً تحلّ محلّ ما أداه الشعر ـ هجوًا ومديحًا ـ قَبْل عصْر التدوين.. ما قصة العقل العربي مع الشعر والتاريخ؟
ج: توجد مبالغة في الطرح؛ فالطرح بشكله الحالي طرح شعريّ أكثر مِنْه تاريخيّ..
ولكننا لا نصادر على أنّ التاريخ وثيق الصلة بالشعر كأهم تجليات الأدب العربي..
ففي العصر الجاهلي كان الشعر (وزارة الثقافة والإعلام)، والشعر الجاهلي في غياب المادة الوثائقية والكتابات التاريخية تأسيسًا على مقولة خاطئة بناءً على كلمات الفقهاء بأنّ الإسلام يَجُبّ ما قبله، والنظرة الدونية لما قَبْل الإسلام، عزف المؤرخون عن تاريخ ما قَبْل الإسلام، وأصبح الشعر الجاهلي يمثل التاريخ.
فالشعر هو ديوان العرب كما يقال، والتاريخ نفسه ينظر إليه باعتباره نوعًا مِن الأدب؛ فهناك الأدب التاريخي.
والعلاقة بَيْن التاريخ والأدب عمومًا علاقة تكاملية وليست متضادّةً..
فالأدب يمثل الرؤية الوجدانية للواقع، ورغم إسرافه في الخيال إلا أنه ينطوي على حقائق.
بينما التاريخ يمثل القراءة العقلية للواقع في الماضي.
أمّا أنْ يتحول التاريخ العربي بالذات إلى مديح وهجاء: فليس ذلك ذنب التاريخ، بل ذنب المؤرخين بما ينمّ عن تدني المستوى.
وتلك الظاهرة موجودة عند المؤرخين العرب بوجه خاص، ولها جذورها التاريخية وأبعادها الآنية الواقعية؛ فحالة التشرذم العربي والصراعات العربية العربية تحول المؤرخ مِن عين موضوعية لرصد حقائق الواقع إلى لسان سليط هجّاء أو مأجور مادح.
وهذا ـ في نظري ـ ليس تأريخًا بحال مِن الأحوال؛ لأنّ أهم شرط لِلمؤرخ هو الموضوعية: لماذا وكيف جرى لِلكشف عن الواقع بسلبياته وإيجابياته، أمّا أنْ يتحول لرجل دعاية فلا يجوز له أنْ يتشرف بلقب “مؤرخ”.
س: إذا كانت الأيديولوجيا صاحبة الجلالة في كُلّ تفكير ولو تعلق الأمر بالخطاب التاريخي: فهل وظيفة المؤرخ ستصبح معقدة؟
ج: أولًا: الأيديولوجيا ليست سُبّةً كما يجري التعامل معها في الخطاب العربي المعاصر، بل إنّها تمثل درجةً راقيةً مِن درجات التفكير؛ إذ هي حصاد واقع المجتمع بكل جوانبه منظومةً في تصور استقرائي لهذا المجتمع، ولقد تصدى كارل بوبر لتنقيد مفهوم الأيديولوجيا لا على الأساس المعرفي، وإنما لأنه كان يحاول هدم المادية التاريخية.
وماركس نفسه لَمْ يهاجم الأيديولوجيا ذاتها، بل هاجم الأيديولوجيا الألمانية لخصائصها السلبية.
ولا يوجد مشتغل بالفكر ـ خاصّةً في العلوم الإنسانية والاجتماعية ـ إلا وأن يَكون متأدلجًا، وحتى الذين يرفضونها باعتبارها معوقًا للمعرفة متأدلجون شاؤوا أم أبوا.
أمّا عن وظيفة المؤرخ: فهي معقدة أصلًا؛ لأنّه لا يتعامل مع واقع مصمت، بل هو واقع متعدد الجوانب والأطراف متنوع الأيديولوجيات، ومن ثَمّ لا بد أنْ يَكون متمرّسًا، وهو رصد الحقيقة التاريخية بمعرفة الأيديولوجيات السائدة..
فعليه ـ مثلًا ـ أنْ يضع في اعتباره ثقافة السلطة وثقافة المعارضة، عليه أنْ يقف على مقاصد القوى المتصارعة وغاياتها باعتبار التاريخ هو الصراع بَيْن هذه القوى.
ومن ثَمّ.. فالأيديولوجيا، بالنسبة للمؤرخ الفطن، تشكّل عاملًا مساعدًا إذا أعيته السبل في الوصول إلى الوثائق، لكن المؤرخ غَيْر الفطن تشكل الأيديولوجيا عبئًا جديدًا يحول بينه وبَيْن مجرد رصد الوقائع.
ما يتعلق بأدلجة المؤرخ نفسه: فهي تشكل حاجزًا غَيْر منظور وغَيْر مباشر دون الوصول إلى الحقيقة؛ لأنه يقرأ الماضي مِن خلال تصوره الذاتي، فالحقيقة منوطة برؤيته لها، وليس بالضرورة أنْ تكون صادقةً، وهنا يأتي الاعتساف؛ فتحت تأثير منظوره الأيديولوجي يسكت عن وقائع ويذيع أخرى حسب هذا المنظور، وقَدْ كان هذا هو السبب وجود الكثير مِن المسكوت عنه؛ لأنّ هذا المسكوت عنه يناقض تصوره الأيديولوجي، وهذا يظهر أكثر في مقولة الذاتية.
فالمؤرخ الأمين وهو يتصدى لواقعة تاريخية عليه أنْ يترك جانبًا ذاتيته التي هي نتاج وضعه الطبقي ومذهبه الديني وعقيدته ورؤيته العامة للكون والحياة.
س: كيف تعالجون أسطورة الحياد ـ والمفهوم لبورديو طبعًا ـ في الكتابة التاريخية؟
ج: الوصول إلى الحياد والتجرد الكامل لا يمكن أنْ يتحقق إلا بالنسبة للذات الواعية المتسامية، والتي هي نتاج ثقافات عريضة تضفي إلى تأصيل ما يمكن أنْ يسمى بـ “نزعة الهيومانية” (الإنسانية العامة).
في غياب ذلك يصبح الحياد محض خرافة.. فعلى سبيل المثال.. يوجد مِن مفكري الغرب “نعوم تشومسكي”، وهو يهودي وصل إلى هذه الدرجة مِن التسامي وتحقيق النزعة الإنسانية بحيث يدافع عن القضية الفلسطينية، أو أي قضية أخرى في العالم ربما أكثر مِن أصحاب القضية.
ومثال آخر: أرنولد توينبي ـ وهو ابن الحضارة الغربية ـ يتصدى لهدم نظرية مركزية الحضارة الأوروبية.
وول ديورانت له عبارة مشهورة تعبر عن واقعنا الراهن عن أنّ الحضارة الأوروبية ابنة مدللة لآسيا وإفريقيا.
فالتجرد والحياد يوجدان عندما يتجاوز المؤرخ الحزازات والعصبيات.
فابن عربي ـ مثلًا ـ كمتصوف عرفاني تسامى حتى فوق الأديان وغلب قضية الإنسان، ولا يحدث هذا إلا في طور مزدهر مِن الحضارات، وللأسف دومًا يَكون هؤلاء قلة محدودة.
بوردبو ـ مثلًا ـ رغم أنه عاش مرحلة الاستعمار الفرنسي للجزائر لكن أفكاره وحتى معايشه آثر أنْ تكون في الجزائر نفسها، كان في ذلك الوقت صوتًا نشازًا وسط المفكرين والسياسيين الفرنسيين الذي كانوا يقولون بفرنسا الشمال الإفريقي، وغالبًا ما يصطدم أصحاب هذه الرؤى السامية مع الساسة، وإن شذ بعضهم: مثل ديجول الذي فاجأ العقلية الاستعمارية بتحرير الجزائر.
س: كتبتم عن أسطورة ابن خلدون والمبالغات التي أحاطت بتاريخه.. هل ما زلتم على موقفكم.. وما هي منقولات ابن خلدون أو بالأحرى سرقاته؟
ج: نعم ما زلت مصرًّا، لا لشيء إلا لأنّ كُلّ ما كُتب عن الموضوع لَمْ يتمكن مِن دحض مقولتنا هذه..
فجُلّ الكتابات كُتبت مِن منطلق الصدمة، صدمة هدم الثابت أو المتواتر، فكانت انفعاليّةً وعاطفيّةً أكثر منها علميّة.
ومن حسن الحظ أنه بَعْد انفضاض هذه الحالة وبعد البحث والدرس ظهرت كتابات علمية ترسخ مقولتنا، بل تضيف إليها قرائن جديدةً..
فمثلًا.. كتب الأستاذ محمد أسعد نظامي ـ وهو سوري يعمل في جامعة باريس ـ بحثًا معمّقًا أثبت فيه أنّ عِلْم العمران عند ابن خلدون منقول برمّته عن أرسطو؛ إذ أضاف قرائن جديدةً عن السرقات الخلدونية.
بل وقبله وقبلي أنا، كتب كراشكوفسكي في الثلاثينات مِن القرن الماضي عن الأدب والجغرافيا عن أنّ ما عند ابن خلدون مأخوذ عن أرسطو وإخوان الصفا.
وهناك أصوات أخرى عربية ـ مثل علي الوردي وطه حسين ـ قد كشفوا عن بَعْض سرقات ابن خلدون.
ما قمنا به نحن بَعْد دراسة ثقافية ومقارنة للنصوص أثبتنا أنّ كُلّ الآراء العظيمة التي نُسبت لابن خلدون وادعى هو نفسُه أنها جاءته عن الوحي منقولة عن إخوان الصفا.
كما أثبتت تلميذة لنا جزائرية أنّ ما كتبه ابن خلدون بصدد موضوع النظم منقول بنصه عن كتاب قدامة بن جعفر.
فإذا كان لنا مِن دور فهو الكشف عن قضية السرقات في التراث العربي وأي تراث إنساني آخَر.
س: هل تعتقدون بأنّ السياسة الفكرية القائمة على الاختزال وأسطرة المعرفة هي لازمة للعقل العربي؟ وهل نحن ضحايا الرشدية في ابتكاراتها الرينانية كما تورطنا في الخلدونية في ابتكاراتها الروزنتالية.. مَن يَصنع أوهامنا؟
ج: ثقافة الاختزال بالنسبة للغرب شيء طبيعي بَعْد أنْ درسوا واقعهم وتاريخهم إلى درجة مِن الاتفاق حول الثوابت، فثقافة الاختزال لهم أمر طبيعي بَعْد أنْ أصبح تراثهم بَعْد الفحص والدرس وصل إلى المرحلة البديهية. لكن وضعنا مختلف؛ فتراثنا ـ رغم ما كُتب فيه ـ لا يتفق اثنان في تقويم موضوع بعينه، فلا زلنا لَمْ نتجاوز مرحلة الوصف، أمّا التحليل والتأويل فهي سابقة لأوانها.
ومِن ثَمّ هذا التراث الغزير لا بدّ مِن بحث تفصيلاته وجزئياته، لا لأن تختزله في مقولات، خصوصًا وأنها (صناعة أجنبية).
أنْ نصل في بحث التراث العربي إلى مرحلة البديهية لا بد أن تسبقه مراحل طويلة مثل المرحلة الاستقرائية والمرحلة الاستنباطية، ويسبق ذلك كله مرحلة التثبت والتحقق مِن الجزئيات؛ فأنت لا تستطيع أنْ تؤسس أي تصورات علمية عن تراث زاخر وما زالت وثائقه موضع خلاف.
أمّا بالنسبة لِكوننا ضحايا الرشدية في تصورها الريناني: فأجزم بأنّنا لَمْ نصل بَعْد إلى درجة مِن فهْم ابن رشد أو لأي درجة مِن وعيه.
فابن رشد حسَم قضايا كثيرةً ـ مثل قضية العقل والطريق إلى اليقين، وقضية العلاقة بَيْن الدين والعِلْم ـ حسمها ابن رشد جميعًا، ومثل مقولته عن أممية الحضارة وغَيْرها مِن القضايا والنتائج المهمة التي لَمْ يستطع معظمنا مِن تفهمها بَعْد.
ولي بحث قدّمته مِن عدة سنوات لِمؤتمر المجلس الأعلى للثقافة المصري (نَحْو خطاب ثقافي عربي جديد)، وكان اسم البحث “الاسترشاد بالرشدية في صياغة خطاب ثقافي عربي جديد”.
ابن رشد ما زال حلمًا، وقيمته ظلت مهدرةً في عصره، وحتى الآن هناك مَن يتهمون ابن رشد، رغم أثره الفكري المسيحي واليهودي على السواء، ولَمْ نعرف قيمته إلا بَعْد حديث الغرب عنه.
س: إلى أي مدى يستطيع مؤرخ كالدكتور محمود إسماعيل أنْ يحتفظ بمسافة عقائدية في العملية التأريخية؟
ج: كثيرون ـ للأسف ـ يخلطون بَيْن مَن يدين بالماركسية مِن جانب وكعلم أصولي لقراءة واقع المجتمعات في تطورها، وبَيْن تدينه مِن عدمه..
ماركس لَمْ يُفهَم مِن معظم مَن قرأه مِن العرب؛ فالفلسفة الماركسية تَختلف عن أي فلسفة أخرى في كونها فلسفةً أرضيّةً بحتة.
أمّا عدم الميتافيزيقا (ما يتعلق بالعقيدة) فليس مِن شأنها؛ فهي رصدت المجتمع ورصدته، وتستطيع تحليله وتفسيره بعيدًا عن الميتافيزيقا، فهي مِن هذه الزاوية عِلْم ماركسيولوجي يدرس المجتمع والصراع وحركة التاريخ والصيرورة البشرية، كُلّ هذه الأشياء عِلْم..
ولَمْ يستطع حتى المفكرين الرأسماليين أنْ يسلموا بهذا العِلْم..
فرأيت ميلز ـ مثلًا ـ يقول: إنّ الذي يتجاهل المادية التاريخية في قراءة واقع ما لا يستطيعون أنْ يروا ما هو أبعد مِن أقدامهم.
والاستعمار الغربي نفسه أفاد مِن الماركسية للتعامل مع الطبقات داخل المجتمعات.
أمّا قضية الإيمان: فهي علاقة بَيْن الإنسان وربه، وأنا في غنى عن تبيان علاقتي بالله الخاصة والعامة.
فالخلط بَيْن علاقة الإنسان بربه إيمانًا أو إلحادًا، وبَيْن تبنيه لنظرية ما في العِلْم خلط لا مبرر له أصلًا.
س: يجب أن نكتب تاريخنا باستمرار- هكذا أكدت أحدث المدارس التاريخية وفي مقدمتها الأنال ـ هل كتب التاريخ العربي مرتين على الأقل؟
ج: بالنسبة للتاريخ الأوروبي قد استقر تمامًا على الأقل فيما يتعلق بأصولياته، فأصبح علمًا بديهيًّا كما قلنا مِن قَبْل..
لكن تاريخنا يحتاج إلى كتابة، فأزعم أنّ كُلّ ما كُتب يَفتقر إلى العلمية، وهذا يتعلق بالمسألة المنهجية والرؤية..
فمِنْ حيث المنهجية: ما زال مدلول كلمة منهج مضببةً عند مَن يتداولونها، لذلك فإنّ هذا التاريخ العربي حافل بالخرافات، وهو في أساسه تاريخ مناقب، وهو ليس علمًا.
أمّا قضية الرؤية: فهي رؤية دينية، بمعنى لا تعلل ولا تحلل، بل تتجاوز سلسلة العلل التي تتعلق بظاهرة ما إلى العلة الأولى وهي الله سبحانه وتعالى؛ فالتاريخ كله مِن صنع العناية الإلهية.
وهذا الحُكْم مصادرة على البحث والدرس، ومن ثَمّ فهو يحتاج إلى دراسة مِن الأصوليات..
وهذه الدراسة لا بد أنْ تتم على عدة مراحل: المرحلة الأولى جمع الأخبار، ثُمّ نقد المرجعيات والتحقق مِن صحة المروي، ثُمّ الرؤية الأفقية لتعقب الصيرورة والتحولات واستخلاص معالم عن طريق الاستقراء، والوصول إلى تفسير للكليات، بما يقود أخيرًا إلى مرحلة البديهة المستقرة.
كما أنه حتى بَعْد الوصول إلى هذه المرحلة يمكن أنْ يعاد كتابة التاريخ إذا ما توفرت نصوص جديدة، وهنا تبرز قيمة الوثائق..
فمثلًا ـ على سبيل المثال ـ يوجد في متحف فيينا ما يقرب مِن 2 مليون وثيقة عربية لَمْ تظهر للنور بَعْد، وظهورها ودراستها سيصحح الأخطاء ويوطد التاريخ الإسلامي باعتباره تفاعلات بَشَر يخطئون ويصيبون، وليس تاريخًا مقدسًا كما يزعمون.
س: هل تؤمنون بأنّ التاريخ يعيد نفسَه؟
ج: قديمًا قال الفيلسوف: إنك لن تضع قدمك في النهر مرتين؛ فماء النهر يجري..
وقانون الحركة سُنَّة حياة البشر، ومِن ثَمّ فإنّ التاريخ لا يعد نفسَه، لكن الذي يحدث أنّ البشرية في حركة صيرورتها المتحولة والمتقدمة إلى الأمام نجد بَعْض المجتمعات لظروف ما تتخلف، فكأنها تعيش عصورًا تاريخيّةً تجاوزتها البشرية مِن قَبْل، فيقولون: التاريخ يعيد نفسَه..
أو كنتيجة ـ أيضًا ـ لِخلل ما في بنية بَعْض المجتمعات المعاصرة تفضي إلى التخلف، فتصير ظروفها الموضوعية الآنية أشبه بظروف مجتمعات سابقة كانت تعيش في نفس الحال، فيسارع البعض ويقول: التاريخ يعيد نفسَه. هذا على صعيد الفهم العام.
وإنْ كانت هناك بَعْض النظريات تقول: هناك أدوار في حركة التاريخ يتطور فيها التاريخ ويتجاوز فيها ثُمّ ينتفض فيعود إلى الحالة الأولى، فتقول: إذن التاريخ يعيد نفسَه.
التاريخ ـ باختصار ـ هو نتيجة فعاليات بَشَر، وهذه الفعاليات في درجاتها تشكل الآليات الحاكمة للواقع التاريخي.
س: كيف تقيّمون مواقف برنارد لويس مِن التاريخ العربي والإسلامي؟
ج: هذا السؤال صيغ في فترة اتهم فيها برنارد لويس ـ وهو مؤرخ مِن أصل يهودي درس في جامعات إنجلترا، والآن في أمريكا ـ بأنّه مِن وراء الحملة الضارية حاليًّا على الإسلام والمسلمين، تلك التي عبّر عنها بَعْض تلامذته مثل هانتجتون.
ولكن مِن وجهة نظري إنّ لويس في كتاباته ـ بوجه عام ـ يُعَدّ مِن أهم المستشرقين الذين عالجوا التاريخ الإسلامي بقدر كبير مِن الموضوعية والذكاء والفهم والوعي..
وحسْبه أنه صحَّح الكثير مِن النظريات الخاطئة، مثل ما جرى ويجري إلى الآن مِن اتهام المذهب الإسلامي بأنّ مؤسسه مِن أصل يهودي، فنَّد لويس هذا الزعم، وقدَّم نظريّةً مهمّةً في كتابه (أصول الإسماعيلية).. هذا مِن جانب.
مِن جانب آخَر يعد لويس مِن المستشرقين الذين عالجوا تاريخ الحركات المعارضة في تاريخ الإسلام بنظرة علمية ورؤية اجتماعية بل وطبقية، وفي كتيبه الصغير (العرب في التاريخ) يُعَدّ مِن المستشرقين القلائل الذين فلسفوا التاريخ العربي الإسلامي بقدر كبير مِن الموضوعية.
أمّا عن حرفيته كمؤرخ: فهو متميز إنْ لَمْ يكن متفردًا، وأذكر أنه منذ منتصف القرن الماضي كان الكثيرون مِن الدارسين العرب المتخصصين في التاريخ الإسلامي يتهافتون في التتلمذ عليه، مثل: سهيل ذكار والفاروق عمر وغيرهما كثيرون.
عقلية كهذه كان مِن الضروري أنْ يستفيد مِنْه الساسة الأمريكيون كخبير له شأنه في التاريخ العربي الوسيط والمعاصر..
وقَدْ قرأت له أخيرًا عرضًا لأحد كتبه في بَعْض الدوريات العربية تثبت أنه ما زال على موقفه هذا.
أمّا أنْ يوظَّف سرِّيًّا لتبرير المشروع الأمريكي فهذا لا علم لي به.
س: لقد استهان فلهوزن بمؤرخ عربي كبير كاليعقوبي مقدمًا ومرجحًا كُلّ روايات أبي مخنف.. هل لكم أنْ تشرحوا أوليات التحيز الاستشراقي؟
ج: فلهوزن مستشرق ألماني متميز، كتب عن المعارضة في الإسلام، وله رؤية خاصة في كتابة التاريخ مفادها هو عزل التاريخ السياسي عن الواقع الاجتماعي والاقتصادي؛ إذ يؤمن بأنّ التاريخ السياسي له قوانينه الحاكمة والثاوية في نفسه، بمعنى أنه معزول عن أية معطيات أخرى..
ورغم أننا لا نقول بهذا الرأي، ولكن في المجتمعات المستبدة فإنّ سياستها تدار مِن خلال الحكام بحيث يصدق حُكْم فلهوزن في هذا الصدد.
أمّا بالنسبة لاستهانته باليعقوبي: فالمقارنة بَيْن اليقعوبي وأبي مخنف غَيْر ذات موضوع؛ لأنّ أبا مخنف إخباري، بمعنى أنّه جامع روايات ليس إلا..
وفي هذا الصدد أشهد بأنّ كتابه عن أخبار صفين كان ذاخرًا بمعلومات وتفصيلات ليس لها نظير عند غَيْره، وإنْ كان منحازًا لَعَلِيّ في أحداث الفتنة الكبرى، وأنا شخصيًّا منحاز لِعَلِيّ؛ لأنّ التاريخ كُتِب في ظل نُظُم سنية معارضة للشيعة. واليعقوبي كان شيعي الهوى، ولكنه مِن خيرة رواد تاريخ الإسلام..
وتكمن أهميته في الآتي:
- أنه عدل عن منهج التاريخ الحولي وقدّم التاريخ كموضوعات متكاملة.
- أنه تجاوز مرحلة الرصد والوصف إلى مرحلة التحليل والتعليل مع قدر كبير مِن الموضوعية.
- أنه جغرافي ومؤرخ في الوقت نفسه؛ فقد شاهد الأقاليم التي كتب عنها، وكان مِن الذين اتبعوا آلية النقد في التحقق مِن صدق الرواة..
وهناك نص له يقول: لقد كثرت أسفاري، وكنت إذا نزلت بأرض أو إقليم أسائل علماء أهله الواحد بَعْد الآخَر، ولا أكتب إلا ما أتحقق مِن صدقه.
- أنه أول مَن كتب مجال عِلْم (الجيوبولوتيقا) الجغرافيا السياسية، وكان حُجَّةً متفردًا بالكتابة عن طبيعة تاريخ تخوم الدول بَيْن بعضها البعض.
وأخيرًا.. فإنه أول مضن فطن ـ ربما بَعْد المسعودي ـ إلى أنّ الموضوع التاريخي يتجاوز الجوانب السياسية والعسكرية، فاهتم بمعلومات تتعلق بالتاريخ الاقتصادي والعقائدي.
وعلى حسب علمي إنّ فلهوزن لَمْ يَستهن باليعقوبي أبدًا.
س: كيف تقرأون استشراق إدوارد سعيد؟
ج: الحق أنّ كتاب “الاستشراق” لإدوارد سعيد مِن أهم نصوص الكتابات في تقويم حركة الاستشراق، وإذ تمحورت أهميته حول فضح دعاوى الاستشراق وربطه بالحركة الاستعمارية الأوروبية فهذه الفكرة معروفة قَبْل إدوارد سعيد..
أمّا الأهمية الحقيقية فهي أنه أول نص عربي يعالج موضوع طبيعة الاستشراق المعاصر، كاشفًا عن فرْق بَيِّن بينه وبَيْنه الاستشراق الكلاسيكي القائم على الدراسات التاريخية وكيف تحوَّل هذا الاستشراق الجديد إلى أسلوب في جمع المعلومات تقوم بها أجهزة الاستخبارات مباشرةً..
وفي هذا الصدد قدّم معلومات إضافيةً تنمّ عن جهود كبيرة كرّسها لإثبات تلك المقولة. ويُعزَى إليه الفضل ـ أيضًا ـ في كتابه “تغطية الإسلام” فضل السبق في استشراف ما يجري الآن تحت دعوى العولمة والتحامل المفزع على الإسلام والمسلمين.. فمثلًا.. كشف قَبْل انهيار الكتلة الشرقية عن أنّ الإسلام هو العدوّ القادم للغرب.
أخيرًا.. وسط هذه الموجة المتحاملة على الإسلام كشف لنا عن دور مسكوت عنه عن بَعْض الكتابات الأكاديمية الهامة التي تعامت عنها الدوائر الأمريكية، والتي تفند الدعاوى العدائية ضد الإسلام والمسلمين، مثل الثورة الإيرانية، والكتب الأكاديمية التي كُتِبَت عنها، بخلاف الرؤى التي تبناها الساسة في أمريكا.
س: كلمة أخيرة..
ج: إنّ المؤرخ قاضٍ، وقاضٍ منصف أيضًا، وعليه أنْ يتجرد مِن أيديولوجيته عند بحث الظاهرة التاريخية أو رصد تأريخ الحوادث الماضوية، وكتابة التاريخ العربي تحتاج إلى مَن يعطيه البديهية، وهذا دور المؤرخين القضاة.
المقالات المرتبطة
ومضات فكرية : العلاقة بين الفلسفة والأدب
ومضات فكرية
موضوع الحلقة: العلاقة بين الفلسفة والأدب
تقديم: الدكتورة بتول الخنسا
ضيف الحلقة: الدكتور أحمد ماجد
حوار مع الدكتور علي زيعور
حوار خاص ومميز أجراه مسؤول قسم الدراسات في معهد المعارف الحكمية، الدكتور أحمد ماجد، مع الدكتور علي زيعور حول الاتجاهات الفلسفية المعاصرة.
“داعش” في خلفياتها الفكرية والتنظيميّة
“داعش” أو “الدولة الاسلاميّة في العراق والشام” واحدة من الأسماء التي يتردّد اسمها في هذه الأشهر الأخيرة، أكثر من أيّ جماعة أخرى في الشرق الأوسط،