رؤى العالم بنظرة غربيــة: الإثنوجرافيا الجديدة

رؤى العالم بنظرة غربيــة: الإثنوجرافيا الجديدة

نشأت الإثنوجرافيا الجديدة New Ethnography في الولايات المتحدة الأمريكية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، في سياق الاهتمام بمدخل منهجي يركّز على العلاقات بين وحدات اللغة ووحدات المعرفة، وقد سمّيَ هذا الاتجاه بعدة أسماء: الأنثروبولوجيا المعرفية Cognitive Anthropology، وعلم الدلالة الإثنوجرافي Ethnographic semantics، والعلم العرقي Ethno Science، وكلها مسميات بمعنى واحد، ويفضي كل منها إلى الآخر[1].

والإثنوجرافيا الجديدة تتصف عمومًا بطرائق وأساليب منهجية لإنشاء شكل مناسب لمنهجية في علم اللغة، من خلال ربط اللغة بالأنثروبولوجيا الاجتماعية، وهذه المنهجية تفترض تصنيف الدلالات في شكلها اللغوي إلى فئات أو موضوعات معينة لتصلها بفئات ثقافية ذات معنى. وهذا يعني أن هذا الاتجاه “تمثيل منهجي”، أو طريقة لاكتشاف الفئات أو الموضوعات الثقافية ذات معنى في اللغة[2].

وهي تبحث في المعرفة الثقافية والمعرفة المتضمنة في الكلمات والقصص، القطع الأثرية والتحف الفنية. وكل النتاجات الإنسانية التى يمكن أن يتعلم من خلالها الإنسان ويتقاسمها مع غيره من البشر[3].

تمثل اللغة في الإثنوجرافيا الجديدة المدخل الأساسي للكشف عن أنساق رؤيا العالم، والتصورات حول الموضوعات والأشياء في الثقافات المختلفة، باعتبار اللغة تمثل وسيلة لتنميط وتشكيل الخبرة الاجتماعية والفردية إلى جانب كونها وسيلة للاتصال بين أفراد المجتمع. فاللغة – كما يرى إدوارد سابير- هي المادة الخام التي يشكّل منها الناس نظرتهم إلى العالم، وأن انطباعاتنا عن العالم يتم تنظيمها من خلال اللغة القائمة في عقولنا طبقًا لبنيامين وورف، ولا تتجاهل الإثنوجرافيا الجديدة العلاقة الارتباطية بين اللغة والثقافة، فكون اللغة وسيلة للتعبير فهي تمثّل نوعًا من السلوك الإنساني، يعكس الجوانب الاجتماعية لأفراد المجتمع، وفي إطار ذلك كان الاهتمام البارز بعلم الدلالة         semantic since – كفرع من علم اللغة- على أساس أنه يتخذ من المعنى موضوعًا أساسيًّا له، ويمثل الوظيفة الحقيقية للغة، ويهتم بعادات الناس وطرائقهم الاجتماعية، وطرق اتصالهم بعضهم ببعض، والإثنوجرافيا الجديدة تنظر إلى الثقافة بوصفها “نسق معرفي أو إدراكي، فأنساق القيم والتفكير والإدراك والخبرات في الأساس عمليات تتم من خلال “التصورات العقلية”، ومن ثم النظر للثقافة بوصفها صور الأشياء كما تمثُل في عقول الأفراد وأساليبهم المتميزة في إدراك الأشياء والموضوعات المختلفة وربطها بعضها ببعض وإيجاد التفسيرات لها”[4].

ومن ناحية أخرى تؤكد الإثنوجرافيا الجديدة على ما يسمّى “النسبية اللغوية”، ومفادها أن بناء لغة ما يوجه محدثيها لسمات معينة في العالم، ويدفعهم لتجاهل السمات الأخرى، ومن ثم تصوير الواقع بطريقة معينة ومختلفة وهو ما يفرض اختلاف في الرؤى والتصورات طبقًا لتباين الألسنة.

وأكدت الإثنوجرافيا الجديدة على أن الأساطير يكمن داخلها العديد من المعاني والدلالات الرمزية التى تكشف لنا الأسلوب الذي يفكر من خلاله شعب ما، ووجهة نظره في العالم الذى يعيش فيه، وعلاقته بغيره من البشر والبيئة الطبيعية المحيطة. وهو ما تضمنته أسطورة “الكنتو” KINTU عند قبائل البوجيندا في وسط أوغندا، حيث تناولت تلك الأسطورة أصول الموت وكيفية مجيئه إلى العالم، المرض والمعاناة، وفصلت بين ما هو سماوي وما هو أرضي، وبين الرب الخالق والجنس البشري، وأوضحت أسلوب تفكير شعب البوجيندا، وكيف ينظر إلى ذاته، وكيف يفسر الأحداث من حوله.

 

 

[1]  ي. م. عيد، أصول علم الإنسان: الأنثروبولوجيا، (الإسكندرية: دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، 2007)، الصفحة 47.

[2] D. M. A. Gerald, “Ethnographic Analysis Of Tenejapa Ladino Weddings, American Anthropologist, Vol 65, No 5,1963,P.P:1076:1101.In Www. Jstor.Org.

[3] R. D. Andrade, The Development Of Cognitive Anthropology , Cambridge University Pres, 1995, P. P:Xiv.

 

[4]  ف. م. إبراهيم، و م. ح. الشنوانى، مدخل لدراسة الأنثروبولوجيا المعرفية، (الرياض: دار المريخ للنشر، 1992)، الصفحات 21و 54و 62.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
الإثنوجرافياالإثنوجرافيا الجديدة

المقالات المرتبطة

اللغة والقول الفلسفي

اللغة أداة تواصل إنساني ومحتوى وعيه أو لاوعيه، بالتالي لا يمكن التعامل معها باعتبارها مجرد أداة تواصل، فهي تشكل مرآة عاكسة للذات في بنيتها العميقة والظاهرة

قصيدة نزار قباني عن الإمام الحسين (ع)

القصيدة من بحر الكامل والقافية الباء الساكنة، وهي عبارة عن حوار دار بين أحد الروافض ومخالف له، وتقع في سبعة عشر بيتًا.

من كلّ فجٍ عميق

هذي الفجاج عميقةٌ جدًّا وقلبي يرتجي الوصال في وادٍ غير ذي زرعٍ ألبي إلى المولى أريد الارتحال   خلق الكمال

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<