محوريّة الدعاء في منهج الشيخ المصباح العرفاني
لا ينفصل منهج الشيخ العارف آية الله محمّد تقي مصباح اليزدي عن منهج أهل بيت النبوّة، عليهم السلام. فهو الذي نشأ، وترعرع بين دفّات آيات كتاب الله عز وجلّ، ونصوص أدعية أئمّة أهل البيت (ع)، فعكف على بيان هذه النصوص وتفسيرها، وأفنى حياته بالعبادة مستعينًا بها سيرًا وسلوكًا إليه تعالى.
ينبني المنهج العرفاني الذي ينتمي إليه الشيخ على عنصرين هامّين، لا ينفكّان عن بعضهما: الشريعة والطريقة، أو ما يسمّى بالمعرفة والسلوك. فالشريعة هي سبيل التعرّف على ما أراده منّا الباري تعالى من: واجبات، ومحرّمات، ومستحبّات، ومكروهات، وغيرها. والطريقة هي السلوك الذي ينتهجه المرء للوصول إلى المقامات العالية حيث يرى ما وعده به ربّه حقًّا.
هذا من ناحية التعريفات، أمّا من ناحية التطبيق، فالعرفان الذي أراده الشيخ اليزدي هو عرفان عمليّ تطبيقي، لا عرفان نظريّ لا يعدو دائرة التنظير. وكسبيل إلى تبسيط هذا المدّعى، نلجأ إلى علم المنطق؛ لإيجاد الإجابة الشافية عمّا نبحث عنه في هذا المنهج.
في مقدّمة صغرى لهذه القضيّة، فإنّ الإنسان نحو من الوجود الإمكاني الذي لا يمكن أن ينوجد ما لم يكن له خالق حكيم قادر على إخراجه من حدّ العدميّة إلى حيّز الوجود. والوجود الإمكاني هو عين الفقر والحاجة إلى العلّة الموجدة، وهو – وإن وُجد – لا يمكن أيضًا أن يتغافل في استمراره عنها، لأنّها في اللحظة التي تشيح بفيضها عنه لا يبقى له أثرٌ. هذا الفقر الذي أقرّينا به هو الدافع الأساس للإنسان للتوجّه إلى مصدره وعلّته التامّة.
وفي المقدّمة الكبرى، نذكر أنّ الباري تعالى موجد كلّ شيء هو الغنيّ المطلق، واجب الوجود، مفيض الرحمة واللطف على كلّ ممكن وعاجز. وهو الذي لا يثنيه شيءٌ عن عباده ما إن توجّهوا إليه بصدق، ومعرفة، ورغبة.
وفي النتيجة، أنّ المحتاج لا بدّ أن يسير اتّجاه الغنيّ؛ ليحصل منه على الرضا، سيرٌ لسببين: فقر المحتاج الذاتي، وغنى المفيض الذاتي. وهذا السير يمكنه أن يؤسّس لرابطة بين العبد ومولاه؛ رابطة لا تقوم على المصلحة، بل هي رابطة حبّ، وتعلّق، وشكر من الفقير إلى الغني.
يظهر هذا الشكر بمصاديق متعدّدة، منها: الدعاء.
جوهر الدعاء وحقيقته
إنّ حقيقة الدعاء – في فكر العلّامة اليزدي – هي التوجّه إلى حضرة المعبود، وهي تُعدّ نوعًا من العروج الروحيّ والمعنويّ بالنسبة إلى المؤمنين. فليس الدعاء مجرّد تلفّظ بمجموعة من الكلمات مع مراعاة بعض الآداب، بل إنّ حقيقة الدعاء وروحه هو التوجّه القلبيّ إلى حقيقة العالم، وترتبط قوّة هذا التوجّه بمستوى معرفة الإنسان بالله ومحبّته له. من هنا، ينبغي التوجّه إلى صفات الله قبل الدعاء وأثنائه[1].
والدعاء ليس عبارة عن مجرّد قلقلة كلام، هو أعمّ من كونه لفظيًّا، هو ارتباط علّيّ واتحاد في الوجود بين الخالق والمخلوق.
وهو دليلٌ على الاعتقاد بمالكيّة الله، وربوبيّته، وعزّته، وقدرته من الناحية العمليّة. ذاك الذي يمدّ يديه بين يدي الله، ويطأطئ رأسه، ويميل برقبته، ويعفّر جبينه بالتراب، وتنهمر دموعه، وتجري على خدّيه، ويطلب حاجته من الله، فإنّه يكون بعمله وأدائه هذا يعبّر عن منتهى الانكسار والتذلّل أمام عظمة الله، وهو يرى نفسه فقيرًا وضعيفًا وذليلًا ومسكينًا، ويرى الله قويًّا وعزيزًا وقادرًا، ويعبّر عن هذه الحقيقة بلسان حاله. وإن كان الدعاء في ظاهره طلبٌ لرفع الحاجات المادّيّة والمعنويّة، لكنّه في الواقع اعتراف بالعبوديّة والفقر والعجز من جانب الإنسان[2].
شروط استجابة الدعاء، وهل يمكن أن يخذل الله عبده؟
تأسيسًا على ما سبق من أنّ الدعاء رابطة بين العلّة والمعلول، وهو أمرٌ مطلوب لذاته، لتحقيق هذه الرابطة وتعزيزها. والله تعالى هو الذي أمر عباده بسؤاله عن كلّ ما يرغبون به في الدنيا والآخرة، فعن رسول الله (ص): “سلوا الله عزّ وجلّ ما بدا لكم من حوائجكم، حتّى شسع النعل فإنّه إن لم ييسره لم يتيسر”[3]. وهذا إن دلّ على شيء، فهو يعبّر عن أنّ العلاقة بين العبد وربّه تتعدّى كلّ الأمور التي يمكن أن تخطر على بال أحد، فالله تعالى يريد من عبده أن يكون قريبًا منه، لا على سبيل الخوف، إنّما على سبيل القرب والحبّ العميق.
ولكن يبرز السؤال الذي يحيّر كثيرين، هل يمكن لله تعالى العطوف الرحيم أن يخذل عبده بعد أن دعاه؟
لقد أمرنا الله بصريح الآية القرآنية ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾[4]، بمعنى أن أصل التوجّه والدعاء كفيل باستجابته. ويشير الشيخ اليزدي إلى مجموعة من الشروط التي على السالك أن يحقّقها حتّى يضمن الإجابة، وهي[5]:
النقطة الأولى، إنّ الدعاء أمرٌ قلبيّ، أمّا اللسان فيحكي فقط عمّا يضمره القلب. لهذا، ينبغي للدعاء أن يكون صادرًا من روح الإنسان وقلبه، وأن يكون الإنسان طالبًا مريدًا للشيء في الواقع، فلو نطق بمجموعة من الألفاظ فحسب من دون أن يتوجّه إليها بقلبه، فإنّه لا يكون طالبًا جدّيًّا، وفي الحقيقة لا يكون قد دعا. فيجب أن يتلازم الدعاء دومًا مع الطلب الجدّيّ القلبيّ. وينبغي أن يكون الإنسان متوجّهًا إلى ما يريده أثناء الدعاء. فالطلب ينبغي أن يكون من الله فقط، فإذا راعى الإنسان هذه الشروط المذكورة، لكنّ قلبه لم يكن متوجّهًا إلى الله، فإنّه لا يكون داعيًا على سبيل الحقيقة. فالنقطة الأولى، إذًا، هي التوجّه إلى حضرة الباري تعالى حقيقةً لا لقلقة لسان.
النقطة الثانية التي يمكن ذكرها هنا، ترتبط بمستلزمات الدعاء؛ فمن الممكن أن نكون طالبين لشيءٍ من الله، ونحن نتصوّر أنّ مصلحتنا هي في استجابة هذا الدعاء، وأنّ ذلك ممّا يوجب كمالنا، لكنّنا في الواقع نكون مخطئين في تشخيص المصداق. فنحن لا ندري أيّ لوزام ستستتبع تحقّق ما نريد، فهل إنّ لوازمه ستكون مفيدةً لوضعنا أم لا؟ فلربما لو اطّلعنا على هذه اللوازم لكنّا دعينا بصورةٍ أخرى. فيكون بذلك عدم استجابة الدعاء الفلاني هو عين استجابة الدعاء لمصلحة العبد.
والنقطة الثالثة التي تُذكر في هذا المجال هي أداء التكاليف؛ فالذي يدعو دون أن يؤدّي ما عليه من تكاليف، فإنّه على الرغم من التفاته إلى أهميّة الدعاء، وصدقه فيه، وفي مسألته من الله، ربّما لن يستجاب له، لأنّه قد ترك الوظائف الأخرى، ولم يجعل العبوديّة تسري في سلوكه أو تظهر في أعضائه وقواه. فهذه عبوديّة للنفس وللشيطان[6].
وهذا يعني أنّ الله سبحانه لا يخلف وعده لعبيده، بل إنّ العباد أنفسهم يخلفون فيستوجب بذلك عدم الاستجابة، وإن كانت عدم الاستجابة هي شكل ظاهريّ، في حين أنّها عين استجابة الدعاء، إمّا لكي يلتفت المرء إلى بعده عن مصدره فيعود ويحقّق شروط ذلك القرب، أو أنّ لطف الله ورحمته منعت عنه ما لو تحقّق لم يكن له فيه الخير.
آثار الدعاء
إذا كان الدعاء هو عنوان القرب من الله والتوجّه إليه، فعندئذٍ تُقاس هذه آثاره بما حقّقته من الهدف الأساس، وهو اعتراف الإنسان بفقره الذاتي في مقابل الغنى المطلق لرب العالمين، وأنّ العبد من دون اتحاده مع مصدر علّته عدمٌ لا وجود له ولا بقاء.
فكمال الإنسان – في نظر الشيخ اليزدي – هو أن يتوجّه إلى الله لرفع احتياجاته سواءٌ أكانت ماديّة أم معنويّة، ولا يتوجّه إلى ما سواه، ولا يرى غيره مستقلًّا في التأثير[7].
والدعاء – كما ذكرنا – هو نوع من الشكر اللامتناهي لله، ومضافًا إلى الشكر اللساني قبال النعم الإلهيّة، يوجب الأدب الشرعي وأدب العبوديّة على الإنسان حين يتذكّر نعمةً إلهيّة أن يقع على التراب، ويضع خدّه شكرًا له تعالى. وهناك نوع آخر من الشكر أسمى وأرفع ممّا تقدّم، وهو من المظاهر البارزة لشكر الله، وهو أن يستفيد الإنسان من النعم الإلهيّة الاستفادة اللائقة والمناسبة، ويستثمر تلك النعم في المسير المطلوب، وفيها يرضي الله[8]، وهو ما يعنيه الشيخ اليزدي من المنهج العرفاني الذي هو نهج سلوكي بين الإنسان وربّه من جهة، وبين الإنسان ونفسه، وبين الإنسان ومجتمعه من جهة أخرى.
فالمنهج العرفاني، عند اليزدي، هو منهج متكامل يحيط بكلّ شيء، يستخدم فيه الإنسان كلّ طاقاته وقدراته التي منّ بها الله عليه، ليعرفه تعالى، ويسلك بهذه المعرفة طريقًا مستقيمًا يوصله إلى رضا الباري سبحانه. وعماد هذا المنهج ومحوره هو الدعاء الذي هو أمر مطلوب لذاته، بغضّ النظر عن احتياجات السالك، وهو نوع من المناجاة بين العبد القريب من الله الأقرب إليه.
[1] الشيخ المصباح، على أعتاب الحبيب، ترجمة السيد عباس نور الدين (بيروت: دار المعارف الحكميّة، 2018)، الصفحة 14.
[2] على أعتاب الحبيب، مصدر سابق، الصفحتان 15 و16.
[3] محمّد الريشهري، ميزان الحكمة (دار الحديث، الطبعة1، 1416ه)، الجزء 2، الصفحة 872.
[4] سورة غافر، الآية 60.
[5] على أعتاب الحبيب، مصدر سابق، الصفحتان 32 و33.
[6] الشيخ اليزدي، زاد المسير، ترجمة السيد عباس نور الدين (بيروت: دار المعارف الحكميّة، 2018)، الصفحة 349.
[7] الشيخ اليزدي، زاد المسير (بيروت: دار المعارف الحكميّة، 2018)، الصفحة 345.
[8] الشيخ اليزدي، شرح المناجيات الخمس عشرة، ترجمة السيد كريم سبحاني (بيروت: دار المعارف الحكميّة، 2019)، الجزء 2، الصفحة 45.
المقالات المرتبطة
عبر المعنى إلى المعنيّ
علم التفسير ـ أو الهرمنوطيقا ـ ميدان قديم الاستعمال، حديث التوثيق، ممتدّ المنظور، ومتشعّب المضامير. راج التأليف فيه، والبحث عن
تلخيص كتاب أصلح الناس وأفسدهم في نهج البلاغة
هذا الكتاب هو عبارة عن واحد وعشرين محاضرة لسماحة الشيخ محمّد تقي مصباح اليزدي في شرح مقتطفات من خطب أمير
“الدين في التصوّرات الإسلاميّة والمسيحيّة”
يعتبر البحث في موضوع الدين وعلاقته بالحياة، بالفرد وبالمجتمع، مـن أهم الموضوعات وأكثرها دقـة وحساسية، وجمالًا، سيمـا إذا كان الباحث