إشكالية الدين والدولة في أفق الحكمة العملية(1)

by معهد المعارف الحكميّة | فبراير 7, 2022 8:52 ص

“الدين والدولة” إشكالية مصيرية، أفتی الغرب فيها فتاواه، واتجهت حياته، بعد عصر الإصلاح، نحو تجاوز أزمة هذه الإشكالية، دون أن ينتهي الجدل في أطرافها، ودون أن تتخذ العلاقة بين الدين والدولة مسارًا واحدًا موحدًا في أرجاء عالم الغرب المتعدد الألوان. أما نحن أبناء هذا الشرق المسلم فما زالت حياتنا التي يكتنفها الإبهام لم ترسُ علی قاعدة لمعالجة هذه الإشكالية، لا علی المستوی النظري، ولا علی المستوی العملي التطبيقي. بل الاستقطاب هو السمة التي تحكم مقاربة هذه الإشكالية، ومن ثم تتجلی أزمة في آفاق نشاطنا النظري وخطر يداهم حياتنا العملية وعيشنا واستقرارنا الأهلي.

تنبهت في نص سابق إلی الأخطار العملية الداهمة، التي تلقي بظلالها علی مجمل بنی الاجتماع والإنسان، وخصصت الخطاب بأرض الوطن وأزمة الحكم في العراق. وهناك اقترحت توافقًا مصلحيًا، أي رعاية مصلحة بناء الأوطان، التي لا ترعی دون حفظ حرمة الأديان. وهذه نتيجة استخلصتها من تجربة موقف قوی التحديث من الدين، وأزمة التدافع بين الحداثة والتراث.

وإذا صح، وقد لا يصح أحيانًا، أن نتخذ المصلحة معيارًا في معالجة الأزمات فهي لا تصح عامة أن تكون الأساس في البحث النظري، بل حريّ بالبحث النظري أن يمضي حرًا طليقًا، يؤسس منطقه علی هدي قواعد أعلی من المصلحة، بل بفضل تلك القواعد نعرّف المصلحة، ونستكشف مصاديقها، ونحدّد ميدانها.

لكننا قبل أن نقترب من مهمة هذا المقال الرامية إلی إطلالة منهجية عامة، نقف قليلًا عند ظاهرة “الاستقطاب” النظري، لنری: هل تنتمي هذه الظاهرة إلی نظام البحث النظري، أو أنها في صميم لعبة المصالح وعالم الغرائز؟ نحن قد نقترح حلًّا لأزمة الحكم في أوطاننا باللجوء إلی الشعب (فيقبلها بعض الفرقاء مصلحيًا)، ونحكـّم بذلك جوهر “الديمقراطية” الذي يعني حرية الشعوب في اختيار نظامها السياسي، لكن المصالح ودوافع الغريزة هي التي تحول دون امتصاص الاستقطاب النظري، هذا الاستقطاب الذي يلعب دورًا رئيسيًّا أيضًا في إضاعة فرص احتواء الأزمات العملية، ورعاية مصالح العباد، باسم الديانة أحيانًا، وباسم التقدم والحداثة أحيانًا أخری.

أعني بالاستقطاب كل خلاف نظري يدعو إلی التدافع بين أطرافه المختلفة، ويهيئ الأرضية أمام الاصطفاف الأيديولوجي المقيت، ويتجلي عبر الأحكام القيمية الصارمة كالحكم بالتخلف والرجوعية والارتداد والتكفير فهدر الدماء، انطلاقًا من تحويل معرفة الحقيقة إلی حقوق وسرقفليات برسم التسابق علی حيازتها والتدافع علی ملكيتها.

الأطر النظرية بمضامينها المتنوعة ليست كتبًا مقدسة ومزامير أزلية، النظريات (أيًّا كانت) هي اجتهادات أبناء البشر في ضوء الدلالات التي يزخر بها الوجود، والتي تكتنفها النصوص. هذه الاجتهادات التي يبقی الباب أمامها عصيًّا علی الإغلاق ما دام الإنسان، وما دامت الحياة، حتی يحدث الله أمرًا كان مفعولًا. ومن ثم فهي ليست النصوص المعصومة المقدسة، وحتی حين يحسب منتجوها أنهم يقدمون إطارًا استنباطيًّا قائمًا علی أساس قانون استحالة اجتماع النقيضين تبقی نظرياتهم عرضة للنقد والتعديل، وآية ذلك أن نظرياتهم ليست نصوصًا مقدسة، بل اجتهادات بشرية.

اجتهادات بشرية تختبر في ضوء الممارسة والتطبيق، وفي ضوء نمو المعرفة وعبور الامتحانات النقدية النظرية المنتجة في مديات تطور المعرفة الإنسانية. الممارسة والتطبيق محك نلجأ إليه في تقويم النظريات أجمع، حتی الميتافيزيقيا، فالنظريات الكونية في >الإلهيات< قد يمتنع اختبارها التجريبي، لكنها تخضع في ضوء الممارسة والتطبيق للتعديل وللتحوير، تبعًا لاستجابتها لحاجات الإنسان المعنوية وأشواقه الروحية، وتبعًا لقدراتها النظرية علی تشكيل رؤية وجودية لدی المتلقي.

وخلود رسالة الإسلام له سر، وسر هذا الخلود يكمن في: أن رؤية الإسلام الكونية – بل رؤاه عامة – لم تسق ضمن إطار نظري مغلق، بل هي فسيحة بفسحة الكون اللانهائية، تتعدد الدروب إلی “الله” بتعدد أنفاس العباد، ومن ثم يتعذر علی اجتهاد بشري بعينه أن يدّعي احتكار هذه الرؤية. فالإسلام بثوابته ومتغيراته لم يطرح في أطر نظرية، بل التنظير اجتهاد البشر، فالبشر هم الذين يقدمون لنا نظرية في الاقتصاد وتفسيرًا نظريًا للوجود ونظرية في السياسة…

هذه هي مصادرتنا التي نتمسك فيها بإصرار المؤمنين بالمعرفة، ونحسب أن الإصرار عليها إصرار علی الإيمان بالربوبية وحصر العصمة بعالم القدس وروحه، التي يمنحها للمخلصين من عباده، إذ إضفاء القداسة علی أي اجتهاد بشري يعادل تجاوز هذا الحصر. لكن جدوی هذه المصادرة يتوقف علی تطبيقها بالتساوي والقسط علی كل اجتهاد بشري.

إذن جدوی هذه المصادرة مشروط، وذلك لأن تطبيقها علی اجتهاد دون آخر، يعني الوقوع في التناقض، لأن الاجتهاد البشري ما دام اجتهادًا فيجب أن يخضع للنقد والتصويب، وإلا أضحی نصًّا مقدّسًا، وهذا خلف الفرض، ونقض لمبدأ الهوية، وخروج عن الأساس النظري لكل بحث إبستمولوجي رشيد.

إذا ساغ في ضوء مقاييس البحث المعرفي الرشيد أن نُخضع اتجاهات ما ينعت بـ “الإسلام السياسي” للنقد والمحاكمة النظرية المعرفية في ضوء الممارسة والتطبيق، وفي ضوء نمو المعرفة بوصفها منتجًا بشريًّا له تاريخه، وجب أن نقرأ نظرية “نهاية التاريخ”، و”العلمانية”، و”حكومة البروليتاريا” بوصفها نظريات واجتهادات بعيدة عن القداسة، وما هي إلّا منتج تاريخي يخضع للنقد وللتعديل في ضوء الممارسة والتطبيق، وفي ضوء معايير نمو المعرفة وتطور نظريات العلم والحكمة.

إذا كنا لا نتفق مع الطروحات الأيديولوجية المغلقة في عد نظريات الإسلام السياسي فرقانًا أبديًا بين الحق والباطل، حق علينا التعامل مع الليبرالية والعلمانية بوصفها منتجات بشرية يجب أن تقرأ في ضوء ممارسات النظم العلمانية والليبرالية علی طول تاريخ المعمورة، وفي طول نمو أدوات العلم وروحه المتواضعة الجسور.

قد يری بعض الباحثين في التنظير الماركسي أو في نظريات الصحوة الإسلامية إعلاء للاجتهاد البشري إلی رتبة القداسة، لكنني أجد فرقًا بين التنظير الماركسي التقليدي، أو قل القراءة التقليدية للنظرية الماركسية، وبين نظريات الصحوة الإسلامية (في ضوء مدرسة الاجتهاد)، ذلك أن مرجعية الاجتهاد بوصفه الباب المشروع أمام البشر لإعادة القراءة تشكل ضمانًا لنا في الوقوع في وهم قداسة أي نظرية تطرح علی بساط البحث أو التطبيق.

أما القراءة التقليدية للماركسية فمرجعيتها تفسير “حافيّ” يبلغ بالحياة الإنسانية حافتها، ولا يدع أمام التجربة الإنسانية من مخرج عن حدوده النهائية بحلول النهاية السعيدة لكدح الإنسان المرير في مواجهة قسر الطبيعة وقسوة النظم التي تنتجها قوی الإنتاج، نهاية التاريخ التي تتوجها ديكتاتورية العمال. وليس خفيًا أن “التنظير الحافيّ” مروق علی مصادرتنا التي استهللنا بها مقالنا الراهن، لأنه يعادل القول بأن ما يصل إليه البشر في مرحلة من مراحل صيرورتهم التاريخية هو القدر المقدس الذي لا يخضع لتحوير أو تعديل.

ولا يساورني الشك في وقوع بعض كبار مفكري الصحوة الليبرالية المعاصرة في وهم “التنظير الحافيّ” قد تجد ذلك في بعض ما كتبه “راسل” وهو يقارب إشكاليات التربية والاجتماع، وفي بعض ما حرره “كارل بوبر” في نقده للمجتمع المغلق رغم نقده لبؤس النزعة التاريخية. والأمر واضح في صنيع “فوكوياما” في “نهاية التاريخ” حيث حافة ما يصل إليه الاجتهاد البشري من حلول لأزماته، ومن ثم فهي القدر النهائي التي تجلت في ليبرالية نظام الحكم والاقتصاد. ومن ثم فهي القدر النهائي لبني البشر ولنهايات إبداعهم وتدبيرهم لشؤون مدينتهم.

إن التنظير الحافي يتعارض مع مصادرة بحثنا، التي لا محيص منها في إدامة روح النقد وفتح باب الاجتهاد، سواء أأنتج هذا التنظير دكتاتورية الكادحين، أم حكومة الخلاص الإلهي، أم أنتج دولة الرفاه ومجتمع التسامح والانفتاح، إذ أن خيلاء الحافة ووهم النهايات يجرنا إلی هاوية الاستقطاب النظري، الذي يتنافی مع مشروعية الاجتهاد ونقدية المعرفة.

هوية البحث في إشكالية الدين والدولة

إلی أي حقل من حقول المعرفة ينتمي درس إشكالية العلاقة بين الدين والدولة؟

صنّف “المعلم الأول” البحث في السياسي وتدبير المدن علی علم التدبير “الحکمة العملية”، إذ يتناول هذا العلم تدبير السلوك الفردي وتدبير الأسرة وتدبير المدينة – وقد تأكد في ضوء تركة أرسطو أن المعلم الأول يخرج العلوم التدبيرية من دائرة “البرهان” الأداة الفريدة لكسب اليقين – بحسب وجهة نظر المدرسة الأرسطية – ومن ثم فالعلوم التدبيرية بأسرها ليست برهانية، أي أن أحكام التدبير لا تفيد اليقين، وليست كشوفًا للواقع، بقدر ما هي إجراءات تدخل في إطار المواضعة والاتفاق لتوجيه السلوك، وعلی هذا الأساس تدخل أحكامها منطقيًا في كتاب “الطوبقيا – الجدل”، حيث عالم الظنون (الترجيحات الاحتمالية). وهي في الحكمة عقل عملي تدبيري.

العلوم الخلقية لدی أرسطو من صنف ما اصطلح عليه المعاصرون “العلوم الإنسانية” التي لم يجرؤ إلا الواهمون علی عدها أو محاولة عدها في زمرة العلوم اليقينية. وإذا شئنا أن نميز بدقة في موضوع بحثنا (الفكر السياسي) بين حقليه الرئيسين، بين القيم السياسية ومذاهب الفكر السياسي، وبين تحليل الحياة السياسية واكتشاف قوانينها – إن وجدت – تبقی مذاهب الفكر السياسي، وهي تتحدث عما ينبغي فعله، اتجاهات قيمية، تعود أحكامها في الجوهر إلی نظام قيمي، تتواضع عليه الجماعات الإنسانية، ولا بد أن يختلف باختلاف سياقات هذه الجماعات، وترتهن حياته داخل الجماعة الواحدة بمرونته ومجافاته للإطلاقية، ومن ثم لا تأتي أحكامه يقينية، لا تقبل الاستثناء والتخصيص. علی غرار ما هو قائم في فقهنا الإسلامي، إذ هو اعتبارات تشريعية تقبل أحكامه التخصيص والتقييد، حتی ذاع علی ألسنة المحصلين >ما من عام إلا وقد خُصص<.

أما طرف الإشكالية الآخر أعني “الدين” فتعريفه العام ينقلنا إلی الأفق الأوسع لمعالجة إشكالية العلاقة بين الدين والدولة، إلی أفق الحكمة العملية، حيث تطرح الأسئلة الكبری:

هل المعرفة التي تعتمد الوحي مؤهلة لكي تحدد نظام الحقوق والواجبات في إطار بناء الدولة وتشييد دعائم الحياة السياسية والمدنية؟ هل هناك من مسوغات عقلية لمفهوم الدولة الدينية؟

سأقارب هذا الأفق في فقرة قادمة، دون أن أغفل الإشارة إلی التعريف الخاص للدين، وذلك حينما نعني بالدين “الإسلام الحنيف”، وسأقتصر في هذا المقام علی الإشارة إلی أن إشكالية العلاقة بين “الإسلام والدولة” هي جزء من إشكالية الحياة والمعرفة في عالمنا الإسلامي، إذ يغيب فيها الإنتاج الداخلي، ولا يمكن لأي نهضة أن تبدأ، دون عمليات الإصلاح المعرفي علی كل مستويات المعرفة، وأخص منها الأساسية. أما علی مستوی إشكاليتنا “الدين والدولة” فقد أدرك باحثون سبقونا عقم رحم الإنتاج علی هذا المستوی، وجدب ما حررته الأقلام في هذا الميدان.

آية ذلك أن درسنا للحكمة جافی الحكمة العملية، ولم يتم للعقل العملي أن يرشد وينمو في ديارنا، لأسباب تاريخية وآخر سياسية. ولعل النفط هو السبب المتأخر لإيغالنا في مجافاة الحكمة العملية. إن الأسئلة المحرجة التي تطرح في مواجهة الإسلام وفكره لا يمكن معالجتها في ضوء نصوص الخمسينات، بل تستدعي نقل الحوار إلی الأفق الأرحب، أفق الحكمة وعقلها العملي، حيث حياة الفكر الإسلامي، فالفكر الإسلامي ترتهن حياته بامتلاك أبنائه أفقًا رحيبًا، والقاعدة تقول: إن الأفكار حينما تضيق أنظارها وتضغط آفاقها فهي ماضية في طريق الاختناق والعزل وسيسهل تغييبها والقضاء عليها.

ثم إن نقل الجدل حول إشكالية “الإسلام والدولة” إلی آفاق الحكمة العملية سيعلمنا أن جدلية الإسلام والدولة تتطلب حوارًا ونقاشًا، ولا تستدعي بأي وجه من الوجوه تدافعًا واصطفافًا. الأفكار المتخالفة في أفق العقل العملي تتعايش بسلام آمن، لا يعرف عالم العقل تقاتلًا أو تدافعًا بين المعطيات، بل الاستقطاب شأن عالم المصالح والمنافع، هذا العالم الذي لا يستدعي بطبيعته أي ثبات، فالمصالح والمنافع حينما تقاس في ميزان العقل تجدها أقل شأنًا من أن يتدافع البشر عليها، بل لعل العقل في جل الحالات يجد المصلحة في التوافق علی المصالح، هذه القيم المتغيرة المتبدلة الزائلة.

Source URL: https://maarefhekmiya.org/14384/addinwadawla1/