تعقلن الإيمان عند كل من الشيخ جرادي والأستاذ ملكيـــان

by عبد العالي العبدوني | فبراير 14, 2022 8:11 ص

شكّل البرهان العقلي هاجسًا معرفيًّا كبيرًا للمفكّرين الإسلاميين، من أجل تثبيت المعتقد والإيمان، معتبرين أنه الأساس الأهم في تشكيل المعرفة الدينية للمؤمنين.

لذلك طفقوا، وخلال سنوات طويلة، على الارتشاف من معين الفلسفة اليونانية وخصوصًا عطاءات أرسطوطاليس من أجل الذب عن الدين وعن مجمل المعتقدات التي كانوا يعتقدونها، إلا أنه وبعد الضربة الموجعة التي تلقاها اليقين الأرسطي اهتز عرش المعرفة الدينية إلى حد الزلزلة، لأن اليقينيات المؤسسة على المنظور الأرسطي ولعدة قرون سرعان ما أضحت موضوع أخذ ورد، بل وحتى تشكيك في بعض إن لم نقل في مجمل المعتقدات. وطبعًا ما كان للمتكلمين أن يقفوا أمام هذه الحملة بدون السعي إلى رد هذه الهجمات بكل ما يمتلكون من قوة ذهنية حادة حفاظًا على خط الإيمان، إلا أنهم وكما في الماضي حاولوا إعادة تأسيس المعتقد على أساس عقلاني صلب كما سبق وأن عملوا في الماضي.

فأضحى الصراع الكلامي الحديث يتجلى في مكنة الدفاع العقلاني عن الدين من عدمه، لينشطر الباحثون إلى فئتين فئة تريد تأسيس اليقين على أساس عقلي ولا ترى إمكانية ذلك بل ترى ضرورته أيضًا، وفئة تريد تأسيس اليقين على أساس الاطمئنان والقناعة الذاتية حتى لا تتعرض آليات الاعتقاد للهدم مرة أخرى، مما سيؤثر سلبًا على عقيدة المرء.

وطبعا هذا المنظور يأتي من جهة التشبع بالنظريات الفكرية التي تشكل الأساس الذهني والنظري وحتى الرؤية المكفولة للشأن الديني عند المتكلم والفيلسوف. والتي تختلف بالضرورة لاختلاف الانشغالات والهواجس التي تحرك كل واحد منهما، فالمتكلم ينظر من داخل الدين إلى الخارج بمعنى أنه يأخذ بعين الاعتبار التحديات الكبرى التي يعرفها الدين ويحاول جاهدًا أن يضمن له موطئ قدم داخل الشأنية العامة. بخلاف الفيلسوف الذي قد ينظر إلى الدين على أنه موجود فكري شبه خالي من عنصر العقل بخلاف الموجود الدنيوي، لذلك لا يطالبه بأكثر من الحد الأدنى من المكون العقلاني حتى يظل الموجود الدنيوي هو الحاكم، لأنه ينطلق من خارج الدين إلى داخله. لذلك لم يكن مستغربًا أن نقف على تعاريف تحقيرية للدين ووصفه بالأسطورية والخرافة. فالأزمة أزمة انطلاق ونهاية.

وتأتي مطارحة الشيخ شفيق جرادي في مقالته “الإيمان بين اليقين والشك”* ضمن هذا الهاجس الكلي، وإن كان يعدّ بامتياز من مفكّري الفئة الأولى. إذ أن القارئ الكريم وهو يطالع المقالة سوف يقف على دفق معرفي ديني من داخل الحوزة الدينية للجواب على أمّ الإشكالات الفلسفية الدينية.

البحث في موضوع الدفاع العقلاني عن الدين والمعتقد ومحاولة مقاربتهما عقلانيًّا ليس بالأمر الهين، وليس بالسفر المعرفي المريح، لأن هاته المقاربة تعاني من ثقل التخوم المعرفية والأساسيات والنهج الاستدلالي، فضلًا على أنه “يستدعي اليوم تركيب الأجزاء المبعثرة من الصور التي نحملها عنه، أي يجب تقديم الدين في صورة متكاملة” (1)، وهو ما سوف نقف عليه طوال قراءتنا لمنظور سماحة الشيخ جرادي الذي ارتضاه للرد على الأطروحات المعاصرة كما ظهرت في إيران، وعلى رأس هذه الأطروحات نجد مقاربات مصطفى ملكيان للمسألة الدينية والبعد العقلاني فيها (والذي يعتبر من فطاحلة الفئة الثانية)، وهو تقاطع بين منظورين معرفيين متشبعين بمناخات فكرية مختلفة متلونة بالشأن “الداخل ديني”، و”الخارج ديني”، مما دفعنا إلى المرور على منظور ملكيان، لأننا نعتقد بأن مقاربة الإشكالية من خلال هذين التصورين قد يؤدي بنا إلى الوقوف على الأرضية المعرفية الدينية الصلبة المبحوث عنها وإن بشكل مبدئي.

الإيمان بين اليقين والشك عند جرادي

في هذا البحث حاول الشيخ جرادي تأصيل مفهومي الاعتقاد والإيمان لغة واصطلاحًا، ليخلص إلى مجموعة خلاصات هي:

الخلاصة الأولى: ضرورة التمييز بين الاعتقاد والإيمان كحالة نفسية، وبين العقيدة ومتعلقات الإيمان اللتين هما واقع مستقل عن حالة النفس، وفيهما ما استقلاله حقيقي لأن مصدره غير النفس الإنسانية. وهي الأصول الاعتقادية الإلهية المصدر، وفيهما ما استقلاله بمعنى تميزه عن النزوع النفساني وإن كان وليد النفس. والفارق بين النحوين أن الأول لا تمتلك النفس الحق، ولا القدرة عن إجراء التحويل والتبديل فيه، لأن ملاك حصوله وتحققه خارج قدرتها وتولداتها بعكس النحو الثاني، الذي يخضع بالأصل والأساس إلى حركة النفس وتحولاتها المعرفية.

فهناك “عقائد، داخل – نفسي”، و”عقائد، خارج – نفسي”، ففيما يخص الصنف الثاني فهو ما يسميه (ضروريات الدين) والتي أقصى ما يمكن للإنسان أن يتدخل بشأنها هو محاولة فهمها، أما المستوى الأول “الداخـل – نفسي” فهي معتقدات واعتقادات إما منبعها الاحتياجات النفسية أو التفسيرات والتأويلات للضروريات الدينية، وهذا الصنف الثاني هو ما يصح القول فيه بوجوب تلازمه مع الشك، والتحسس الدائم من أجل التكامل مع الحقيقة التي تعبّر عنها ضروريات الدين، وعنوان هذا الشك وهدفه هو “النقد التكاملي للإيمان الديني”، والذي يتبلور بثلاثة مستويات:

المستـوى الأول: النقد المتعلق بالآليات ومرجعيات الفهم والتفسير.

المستوى الثاني: التفحص النقدي لجملة التفاسير.

المستوى الثالث: التفحص النقدي لما كنا نتبناه قبل الاستفهام، ومدى كونه لا يتعارض مع الأوليات العقلية.

الخلاصة الثانيـة: عند الحديث عن الإيمان الديني تترتب عندنا أجزاء مفهومية ثلاثة: نفس مدرِكة، وموضوع مدرَك، ونسبة التعلق بين النفس والموضوع. وأن الوجود المجرد للحقائق العقائدية الدينية يساعد على تكوين معرفة لها سمة من الثبات والتطابق الواحد. وهي تقوم على القضية الخبرية؛ والقضية الخبرية تعني معرفيًّا، إنها قضية تصديقية وليست تصورية لتوفر النسبة بين موضوعها ومحمولها. وما كان كذلك صح في حقه الحكم بالتطابق مع الواقع، أو عدم تطابقه، وصح أن نتحدث عن نسبة صدقه إن كانت وهمية أو ظنية أو يقينية. ولو مع اختلاف في مسلكيات البرهان والاستدلال.

الخلاصة الثالثـة: أنه وقع خلط بين النسبية والنزعة التشكيكية، والحال أن النسبية هي مقابل للإطلاق، لأن المتحصنين بمبدأ النسبية لتقويض اليقين، هم بالواقع يتحصنون بالنسبية بنزعتها التشكيكية، إذ اليقين ينقسم إلى ثلاثة أقسام ومعان هي:

1 – اليقين المنطقي والرياضي، الذي يتركب من مقدمتين: أولها العلم بقضية معينة، وثانيها العلم بأن من المستحيل أن لا تكون القضية بالشكل الذي علم.

2 – اليقين الذاتي: وهو جزم بشكل لا يوجد فيه أي شك دون أن يستبطن استحالة للوضع المعلوم.

3 – اليقين الموضوعي: وهو يعني وجود قضية وموضوع تعلق به التصديق، وإذا وصل هذا التصديق المتعلق بالموضوع إلى درجة الجزم سمي يقينًا. ولهذا، فاليقين الموضوعي تارة تنظر إليه من جهة التطابق مع الواقع أو عدم التطابق معه. وأخرى تنظر إليه من جهة درجة التصديق التي نمتلكها كحالة عند النفس.

وهذه المبررات الموضوعية إما أن تعتمد على مقدّمات متسالم عليها بشكل مسبق، أو أوليات مسلمة بشكل مباشر.

وهكذا، فإن اليقينية لا تتنافى مع النسبية، ولا النسبية تتنافى مع وجود واقع موضوعي ومتسالمات مسبقة.

الواقع أن هذا البحث الذي وضع بين أيدينا يجدد الطرح العلمي للبعد الإيماني وأساسه العقلاني من عدمه، كما يشكل ردًّا منطقيًّا على النزعة التشكيكية، وهو بطبعه يستثير العقل المسلم لإعادة تأسيس معتقداته على أساس علمي صارم يفض الإشكاليات المعرفية، كما أن لفت الانتباه لوجود عقائد داخل نفسية وعقائد خارج نفسية، جاعلًا من الأولى موضوع المطارحة العلمية والمساءلة لأنها في الأصل ثمرة تولدات نفسية. يشكل جهدًا علميًّا مشكورًا، وإشارة جد ذكية قد تخلص الأمة من العقلية التكفيرية الرازحة على المجتمع العربي.

لكنها وكأي طرح عقلاني متصف بالجدة والجدية، تجعل الكثير من الأسئلة تتناسل، وربما الجواب عنها سيجعلها أكثر متانة في المستقبل.

فالشيخ شفيق جرادي مشكورًا أوضح بأن ضروريات الدين هي عين العقائد الخارج نفسية، وأن العقل الإنساني ليس له القدرة على ردها أو تحويرها، بل أقصى ما يمكنه فعله هو محاولة فهمها.

إلا أن المعضلة تتجلّى في تحديد “ضروريات الدين” أولًا، وهل تحديدها يتم بإعمال عقلي أو نقلي؟ وإن كان نقليًّا، فكيف يتم استنطاق النصـوص الدينية؟ وهل الاستنطاق يظل ألسنيًّا بحتًا أم له مدخلية عقلية؟ طبعًا تكثر هكذا أسئلة يجر بالضرورة إلى تكثر الأجوبة بخصوص الموضوع، مما يجعل الإجماع بخصوص “ضروريات الدين” مسألة فيها نظر.

إذ أن النفس يظل لها، وعلى مستوى التصديق، تحديد ضروريات الدين مما يشكل نسفًا لمقدمة الشيخ.

وحتى نعضد وجهة نظرنا نود التركيز على موضوع الإمامة: فهي بإجماع المذهب الجعفري من ضروريات الدين إذ بدون الاعتقاد بها يتهاتر الإيمان مع بقاء الإسلام، بخلاف أتباع مدرسة الخلافة التي ينكرونها من الأصل على الأقل في جنبتها التكوينية. فهذا يخص نكران ضروري من الدين على الأقل عند شريحة إسلامية معينة.

فبالرجوع إلى مجموع الروايات في هذا الباب سوف نستطيع أن نجري قراءة مؤسسة لمنظور سماحة الشيخ ومواطن الضعف فيه. فعن الإمام الرضا عليه السلام: “إن الإمامة أس الإسلام النامي وفرعه السامي”، وفي رواية أخرى عن الباقر عليه السلام: “بني الإسلام على خمس: على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية، ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية” (1)، كما أنه في رواية أخرى عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام تؤكد هذه الحقيقة، فعن الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء قال: حدّثنا محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة قال: قال لي أبو جعفر (ع): إنما يعبد الله من يعرف الله، أما من لا يعرف الله فإنما يعبده هكذا ضلالًا، قلت: جعلت فداك فما معرفة الله؟ قال: تصديق الله عز وجـل، وتصديـق رسولـه (ص)، وموالاة علي (ع) والائتمام به وبأئمة الهدى (ع) والبراءة إلى الله عز وجل من عدوهم، هكذا يعرف الله عز وجل” (2). فالظاهر من هذه الروايات محورية الإمامة بوصفها من ضروريات الدين ولا يمكن أن يستساغ إنكارها، وإلا حدث تصدع في الكلية العقدية.

صراحة لنا أن نجاري الباحث في أن ثمة أزمة فكرية جعلت الكثير من الواضحات تضحي من غوامض الأمور، لذلك يقع تساهل مع المنكرين للإمامة جهلًا لا جحودًا. لكن موطن الإشكال في هذا البحث ليس في أن الإمامة من ضروريات الدين أم لا. بل الإشكال يتجلى فقط في معرفة أثر النفس على مجمل المعتقدات.

فهل هذه الضرورة الدينية والتي لها وجود خارجي مجرد، مجمع عليها داخل ديانة واحدة؟ بالأحرى بين يدي مجموع الأديان السماوية؟ طبعًا الجواب لا، وهذا راجع للأساسيات الفكرية والعقدية المعتمدة، فالمقدمات العقدية الداخل نفسية هي التي تقرر إن خطأ أو صوابًا ضرورة من ضروريات الدين على أنها كذلك، وطبعًا نحن هنا لسنا بصدد تصويب سلامة المدخلية النفسية في الشأن الديني الضروري، لكننا نجري توصيفًا للحال الواقع وحسب.

نفس الملاحظة تنجر ليس فقط في أصل تحديد ضروريات الدين، بل أيضًا تفاصيله، وهي مسألة لها أهميتها القصوى، ولنأخذ مثلًا آخر يتعلق بالخالق جل وعلا، فالاعتقاد به من ضروريات الدين لكن هل الاعتقاد بصفاته وأفعاله يدخل في الضروريات أم لا؟ الأكيد أنه من ضروريات الدين وهذا ما لا خلاف عليه، إلا أن المشهود هو وقوع اختلافات جد خطيرة تصل حد النقيض بين المذاهب الإسلامية بالأحرى فيما يخص أتباع باقي الديانات.

صراحة الموضوع جد شائك، ليس فقط فيما يخص كيفية تحديد ضروريات الدين، بل أيضًا في تفاصيل هذه الضروريات.

فموضوع الاعتقاد موجود خارجي مستقل عن النفس البشرية، إلا أن عملية التعامل معه تؤدي بالضرورة إلى تكثر الرؤى، ليس من جهة فهمه كما ينوه إلى ذلك الشيخ جرادي لكن من جهة إنكاره وإثباته. وإلا ما انقلب التوحيد تثليثًا وكثرة عند الكثير من المذاهب الدينية.

وعليه، نعتقد بأن الإثنينية غير متحققة عقلًا، فمجمل العقائد داخل نفسية، تتصرف فيها بالشكل الذي تعتقده سليمًا، هذا دون أن ننكر بأن أصل المعتقد له وجود فطري مقذوف في قلب الإنسان، يظل كامنًا إن لم نحرّره من ثقل الرغبات والشهوات.

هذا من جهة تعذر القول بخلاصة الشيخ جرادي، أما من جهة ثانية فإن مجمل الطرح لا يدخل في إطار ما يصطلح عليه بفلسفة الدين، بل هو طرح كلامي متماسك يعتمد الجانب النقلي في الموضوع أساسًا ثم يطفق للتدليل عليه بالآلية العقلية تصديقًا له، وهو طرح يناقض أصل التفكير الفلسفي الديني. حيث القول الفصل للعقل. وربما هو من هذه الناحية لم يكن مصيبًا في رده على توجه الأستاذ مصطفى ملكيان الذي يصرح بأن “المعتقدات الدينية غير ممكنة الإثبات، وطبعًا لا يمكن إثبات نقيضها أيضًا، المعتقدات الدينية لا تقبل الإثبات العقلاني، ولا الدحض العقلاني”، لأن أساس المعتقد هو النص الديني المقدس والعقل لا يحاول إلا أن يكشف بعض الملاكات وتظل الكثيرة منها غائبة عنه، ولا أدل على ما طرحناه أن الكثير من المفكرين الإسلاميين اختاروا التذوق والكشف للوصول إلى اليقين الديني، وهو نفس ما أشار إليه سماحة الشيخ. فالعقل يلعب دور العاضد لاكتشاف البعد الوجودي للإنسان دون أن تكون له مدخلية في تأسيس العقيدة على مستوى برهاني قطعي. لأن العقل نفسه يتدثر بالطابع التعبدي أمام بعض الأحكام الشرعية.

فكلام الأستاذ ملكيان غلّب جنبة التطابق مع الواقع، لأنه سبق أن أوضح بهذا الخصوص على أنه إن كانت العقلانية النظرية بمعنى الحمل على الاتساق، فإن العقائد الدينية والتي تتمتع بالانسجام الداخلي تكون عقلانية بهذا اللحاظ، لكن الإشكال يتجلى في “إثبات تطابق تلك المنظومة مع الواقع إثباتًا عقليًّا”(3)، فالانسجام الداخلي شرط لازم للتطابق مع الواقع، لكنه ليس شرطًا كافيًا بحال من الأحوال.

وهنا رأس الإشكال الذي يثيره ويتمسك به الأستاذ ملكيان وهو أن النهج العقلي قد يؤدي إلى تحقيق اليقين الذاتي أو حتى اليقين الموضوعي الذي يهم درجة التصديق التي تتحقق في النفس، لكن الجانب التطابقي مع الواقع فهو مستحيل عنده.

وأن سماحة الشيخ جرادي لم يتفضل بدحض هذا القول أو إثبات تحقق اليقين الموضوعي بالمطابقة مع الواقع، بل بالعكس نجده ومباشرة بعد تعداد اليقينيات الثلاث ينتقل للإشارة إلى أعمال الشهيد السعيد محمد باقر الصدر ودورها في إنشاء طرقية جديدة لتكوين يقين المؤمن بعقائده. والحال أن منهج الشهيد السعيد يهم اليقين الذاتي واليقين الموضوعي المؤدي إلى التصديق المتحقق على مستوى النفس وليس اليقين الموضوعي بجنبته التطابقية مع الواقع في المسألة، ذلك أنه وبعد تفتت اليقين الأرسطي وفقده مصداقية لوجوده، طفق العلّامة الصدر على تأسيس منهجية جديدة تبنى على الاستقراء وتكوين القناعة الشبه الجزمية على الأقل على المستوى العقلي، ففي هذا الاتجاه يأتي مشروع الشهيد السعيد محمد باقر الصدر لكي يذب عن حريم الدين من خلال حساب الاحتمالات، مع خلوصه إلى استحالة تحقق اليقين المطلق، وهو نفس ما يدافع عنه سماحة الشيخ شفيق جرادي.

فمنهج الدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات يمكن تلخيصه في الخطوات الخمس التالية:

أولًا: نواجه في مجال الحس والتجربة ظواهر عديدة.

ثانيًا: ننتقل بعد ملاحظتها وتجميعها إلى مرحلة تفسيرها، بإيجاد فرضية صالحة لتفسير هذه الظواهر وتبريرها جميعًا.

ثالثًا: نلاحظ أن هذه الفرضية إذا لم تكن صحيحة وثابتة في الواقع ففرصة وجود تلك الظواهر كلها مجتمعة ضئيلة جدًّا. بمعنى أنه على افتراض عدم صحة الفرضية تكون نسبة احتمال وجودها جميعًا إلى احتمال عدمها أو عدم واحد منها على الأقل ضئيلة جدًّا.

رابعًا: نستخلص من ذلك أن الفرضية صادقة ويكون دليلنا على صدقها وجود تلك الظواهر التي أحسسنا بوجودها في الخطوة الأولى.

خامسًا: إن درجة إثبات تلك الظواهر للفرضية المطروحة في الخطوة الثانية تتناسب عكسيًّا مع نسبة احتمال وجود تلك الظواهر جميعًا إلى احتمال عدمها أو عدم واحد منها على الأقل على افتراض كذب الفرضية. فكلما كانت هذه النسبة أقل كانت درجة الإثبات أكبر حتى تبلغ في حالات اعتيادية كثيرة درجة اليقين الكامل بصحة الفرضية وفقًا للمرحلة الثانية من الدليل الاستقرائي”(4).

فأساس اليقين المعتبر وفق هذه النظرية ذاتي صرف انبناءً على مذهب ارتضى له العلّامة الصدر اسم ( المذهب الذاتي) فـ “في رأي المذهب الذاتي معارف أولية تشكل الجزء العقلي القبلي من المعرفة، وهو الأساس للمعرفة البشرية على العموم.

وهناك معارف ثانوية مستنتجة من معارفنا السابقة بطريقة التوالد الموضوعي.

وهناك معارف ثانوية مستنتجة من معارفنا السابقة بطريقة التوالد الذاتي”(5). والتوالد الموضوعي المتحدث عنه يعني أنه متى ما وجد تلازم بين قضية أو مجموعة من القضايا وقضية أخرى، فبالإمكان أن تنشأ معرفتنا بتلك القضية من معرفتنا بالقضايا التي تستلزمها، أما التوالد الذاتي فيعني أنه بالإمكان أن تنشأ معرفة ويولد علم على أساس معرفة أخرى، دون أي تلازم بين موضوعي المعرفتين، وإنما يقوم التوالد على أساس التلازم بين نفس المعرفتين.

صحيح أن النظرية تتقوم على أساس دراسة الظواهر والخلوص إلى نتيجة فرضية تثبت صحتها، لكنها في العام لا تكون مطابقة للواقع بقدر ما هي استقراء له بشكل انتزاعي. وهذا المنظور يتجه في نفس الوجهة التي يتبناها ملكيان كما سبق وأن ألمحنا إليه.

زبدة القول، على الأقل على هذا المستوى، إن الاشتغال على جانب الدفاع العقلاني عن الدين هاجس كلامي صرف لا يدخل ضمن برنامج فلسفة الدين، لأن هذه الأخيرة تعد منحى من مناحي دراسة الدين؛ أي أن الملاك الدفاعي يظل مغيّبًا عندها، فالمفروض في فلسفة الدين أن تدرس الدين من الخارج، وبالتالي لا يتسنى لها إعطاء وجهة نظر حول حقّانية وصدقية شأن ديني خاص (6)، ولهذا وفقط لهذا يكون طرح ملكيان صحيحًا لأن مقتضى المساءلة العقلانية تستوجب اعتماد مقدمات نظرية خارج النص الديني، ولا تعير كبير اهتمام إلى صدقية النص من عدمه أو على الأقل هي هكذا تحب الظهور، فالنص الديني لا يلعب إلا دور الاستشهاد في مقام البيان وليس الاستدلال”. من هذا التمهيد ننطلق إلى تمهيد ثالث فحواه أن دراستنا هذه دراسة خارجية تنظر للدين من خارجـه (خارج دينية) وليس من داخله (داخل دينية)، لذلك فإن الإشارات التي ستلاحظونها للآيات والروايات هي مجرد استشهـاد لا يـراد بـه أي استـدلال” (7).

لكن السؤال الذي نود طرحه في هذا المقام هو أليس من الكافي تأسيس المعتقد على أساس يقين ذاتي أو يقين موضوعي مع تحقق التصديق على مستوى النفس، ما دام هذا اليقين جاء ثمرة صنعة عقلية؟ هل نحن في حاجة إلى مطابقة مع الواقع للقول باليقين؟ ما دامت الأفكار المبحوث عنها والمعتقدات المرمي تبنيها غيبية فإن القول بضرورة مطابقتها مع الواقع هو تعجيز للعقل المؤمن، إذ يكفي أن تكون المعارف الدينية متفقة أساسًا مع القضايا الأولية العقلية ومع المعارف الثانوية المتوالدة عنها. فهذا هو الظن اليقيني المتحدث عنه في كثير من الروايات والآيات القرآنية الكريمة على سبيل المثال لا الحصر ﴿ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ (سورة الأنبياء الآية 87).

بقيت الإشارة إلى تحقق اليقين أو الظن فيما يخص الإيمان بضروريات الدين، ليس هو الاحتمال الوحيد، بل قد يتحقق اليقين على مستوى الكفر أيضًا؛ إذ أن الباري جل وعلا يقول في محكم كتابه العزيز  ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ﴾(سورة النمل، الآية 14)، فالله أثبت التصديق القلبي للكفر والجحود وهو طرح يهدم جزئيًّا تصور سماحة الشيخ جرادي ويعطي دفعة إضافية لما أوضحناه، من أن الوجود الخارجي للمعتقد قد يتعرض إلى الإغماط وإن بشكل كلي إلى حد تحقق التصديق القلبي وهو عين ما نسميه اليقين الذاتي.

بعد أن أوضحنا موطن المؤاخذات على منظور الشيخ شفيق جرادي، يطيب لنا أن نعكف على مقاربة المسألة عند مصطفى ملكيان، قبل أن ننتقل إلى بسط أوجه المفارقة والمعانقة بين المفكرين، وإن كان النقد التوصيفي المسلوك يغدو معرّفًا للخلاصة.

التدين العقلاني عند ملكيان

إن المفكر الإسلامي الإيراني مصطفى ملكيان يحمل مشروعًا فكريًّا دينيًّا كبيرًا يشتغل عليه منذ ست سنوات خلت، يتجلى في تحقيق التقاطع الإيجابي بين العقلانية والمعنوية(8).

خلاصة نظريته أن المسلم امرئ عائش لعصره مسكون بالحداثة شاء أم أبى، وهو بطبعه حامل لدين يراه مهيمنًا على حياته في أدق تفاصيلها، وهو ما أسماه بـ “الدين العقلاني”، وعلى هذا الأساس فهو يتصف بإثنتي عشر سمة يعددها على المنوال الآتي:

1 – فلسفة الحياة: المتدين العقلاني بطبعه يطالب الدين بـ “فلسفة حياة” شاملة لكل جوانب حياته ومستوعبة لكافة ثناياها. لأنه يحرص على أن تكون حياته غير مطابقة لحياة غير المتدين ولو على طاولة الطعام.

2 – طلب الحقيقة دون ادعاء احتكارها: المتدينون ديانة عقلانية لا يعتبرون أنفسهم “أصحاب الحقيقة”، وإنما يفهمون تدينهم بمعنى أنهم “طلاب الحقيقة”.

3 – الممارسة النقدية: حيث إن المتدين العقلاني يمارس دائمًا النقد بفهم عميق لهذه الممارسة، دون أن يتصيد العثرات، وإنما يعمد إلى التدبر والنظر في مجموع القضايا والتعاليم التي تمنح له باعتبارها دينًا. وهذه العملية لا تتم إلا بإزالة التعارضات الظاهرية والملاءمة بين النصوص الدينية والمعطيات البشرية، وتناسق النصوص الدينية مع تطورية المعارف البشرية.

4 – أخلاقية الكون: المتدين العقلاني هو الذي يرى الكون محكومًا بنظم أخلاقية في منتهى الدقة، بمعنى اعتقاده بأن أي ذرة خير أو شر يستحيل أن تضيع سدى في هذا الوجود.

5 – ضبط النفس: لأن ضبط النفس يبرعم في الإنسان المتديـن حالتـي “الخلوص”، و “الرياضة” مما يؤدي به إلى التسامي عن النزوات الفوتية المؤقتة ضارة كانت أو نافعة.

وينتج عن هذه الرياضة مع الخالصية ثلاثة ثمار: الصلابة العاطفية في الحياة – والتفرد أو انتفاء المرجعية للآخرين – والعمق في النظر والاعتبار.

6 – سيادة الذات: وهي مرحلة علوية يطمح لها المتدين العقلاني حيث يغدو إيمانه منطلقًا من ذاته بدون مرجعية خارجية لأنه خلص إلى مصداق التدين حتى ولو لم يكن مشفوعًا بأمر إلهي.

7 – الطمأنينة بلا اطمئنان: المتدين العقلاني يعيش لونًا من “اللايقين”؛ بمعنى أنه لا يجد برهانًا عقليًّا واحدًا  للدفاع عن التعاليم والقضايا الدينية أو المذهبية، على أساس أن القضايا الدينية وإن لم تكن معارضة للعقل إلا أنها تظل فرارة منه. وتأسيسًا على ذلك “لا بد أن يعيش المتدين العقلاني ظروف عدم الاطمئنان، بيد أن المهم والظريف في آن واحد هو كون المتدين بالرغم من عدم اطمئنانه يشعر بطمأنينة حالمة في أعماق روحه” (9).

8 – النزعة الإنسانية: التدين العقلاني يحتم على صاحبه خدمة أبناء جلدته لمحض اعتبارات إنسانية، والتي لا تتحقق إلا بثلاثة مسائل: أولها التخلص من الماضي بثقله، وتجاوز المظاهر الفردية حتى لا تكون أحكام المتدين متسرعة، ثم التخلص من المعتقدات والمتبنيات لأنها قد تشكل عائقًا أمام التعامل مع الغير.

 

9 – مصارحة الذات: بمعنى أن يكون المتدين متحصلًا على رؤية واقعية لذاته، ينظر إليها نظرة في الحاضر متقبلًا إياها كما هي عليه مع إيمانه باستحالة التحرر من الماضي مع استصغار حسناته ومناقبه.

10 – استيعاب هفوات الآخرين: المتدين العقلاني يحاول أن يفهم نقاط ضعف كل البشر، ولا ينظر إلى هفواتهم إلا بوصفها صيرورة وليست صفة ذاتية.

11 – الثقة بالنفس: لا يتراجع المتدين المتعقل عن متبنياته ومبادئه حتى لو خالفه كل المجتمع.

12 – تحاشي الوثنية: أن المتدين العقلاني يتجنب كل مظاهر الوثنية، بحيث لا ينساق إلى إطـلاق الأمـور النسبـيـة(10).

في الواقع،  إن السمات الإثنى عشر التي ركز عليها المفكر مصطفى ملكيان تحمل في طيّاتها تناقضات كثيرة بالإضافة إلى أزمات تخص عدم وجود ثمة اعتبار عقلائي لها بله الاعتبار العقلاني، مما يجعلها غير متقبلة وهو ما سوف يأتي بيانه حالًا.

ذلك أن المفكر ملكيان أشار في السمة الثالثة إلى ضرورة ممارسة النقد بشكل مستمر على محور واحد هو سلامة القضايا الدينية، وطبعًا هذا النقد لا يكون إلا عقلانيًّا لأن حاكمية الذات على الفكر لا تتحصحص إلا بقانون عقلي ما والحال أنه يسقط هكذا برهان للمعايرة والمقايسة، وبالتالي الدفاع عن الدين والقضايا الدينية المتقبلة من الذات الباحثة عن الحقيقة، علاوة على أن هذه السمة تتناقض مع سمة سيادة الذات والتي تسقط جميع المرجعيات الخارجية والتي قد تمس مرجعية الألوهية، لأن الحاكمية الذاتية المتخلصة من المرجعيات الخارجية حفر في الماء، وعملية لا طائل تحتها لأن المقايسة ستكون ساقطة في انعدام مرجعيات خارجية.

ذلك أنه بالفعل إذا ما جعلنا العقل حاكمًا نقديًّا للقضايا الدينية فإنه يكون بالضرورة كاشفًا لصدقيتها من عدمه، لكن حيث إن البرهان العقلي ساقط عند مفكّرنا (راجع سمة الطمأنينة بلا اطمئنان)، فإنه يكون معه القول بسيادة الذات سقوط معرفي خطير، ينذر بالشطح بعيدًا.

بل أن حتى استقلال الذات عن المرجعية الدينية والتي قد تصل مقام الإله، غير معتبرة بالمرة لسبب بسيط أن الطمأنينة المبحوث عنها – في غياب حاكم عقلي – لا يمكن أن تتم إلا في خضم الظهور الأولي للنصوص الدينية، وعليه فإنها عين القبوع في المرجعية الدينية مما يجعل الاستقلال شيئًا مستحيلًا.

 

حيث إن التناقض لا يتجلى على هذا المستوى وحسب، بل يذهب بعيدًا إلى درجة الجمع بين النقيضين، والحال أن من القضايا القبلية العقلية هو استحالة الجمع بين النقيضين. فعن أي طمأنينة نتحدث عنها ونحن نقر بغيابها. حتى لعبة الحضور والغياب قد حرمنا منها الأستاذ ملكيان.

طبعًا هذا إذا ما تجاوزنا المعضلة المعرفية التي يضعنا فيها المفكر ملكيان عندما يتحدث عن هدم الوثنية، وهو القائل بسيادة الذات وتبرؤها من مجموع المرجعيات الخارجية، أفليس  هذا عين توثن الذات؟ ثم ما هي الضمانات التي يضعها المفكر بين يدي المتدين العقلاني وهو لا زال في مرحلة الرياضة الروحية، إذا ما جعل من ذاته مصدر المرجعية؟ الواضح أن الدور متحقق في هذه الحالة وهو الحاكمية على المعارف الدينية لتقويم الذات بتوسط الذات. وهي لعمرنا مسألة غير مؤسسة عقلًا وبلا مصداق عقلائي حتى.

طبعًا مجمل هذه السمات لم تكن إلا ثمرة تصور متكامل ارتضاه المفكر لمناقشة إثنينية الدين والعقل، والتي جعلها تحت مسمى “المعنوية”، أو “الدين العقلاني”، حيث يتم التوافق مع العقلانية والانسجام معها، على عدة مستويات هي على المنوال الآتي:

– إلغاء عنصر التعبد من الدين قدر الإمكان.

– عدم الوثوق بالتاريخ وقلة الاعتماد عليه.

– النزعة التجريبية في الدين، بلحاظ الوقوف على المصداق والثمرة.

– انهيار وتزلزل الأحكام الميتافيزيقية والقوانين الشمولية القديمة.

– سلب القدسية من الأشخاص.

– تجريد الأديان من كل المتعلقات المرتبطة بخصوصية كونها محلية.

والغريب هو أن ما أراده المفكر ملكيان من العقلانية هو حاكميتها على المنهج الكلي، لتفتيت الدين من نواته الصلبة المتركزة في تقديس المبعوث رحمة للعالمين وبحث صدقية المدعى الديني. دون أن يجعلها آلية لمقاربة الحشوة الدينية إن صح التعبير.

بأسلوب آخر، أن العقلانية تم ركوبها لتقليم مراكز قوى الدين وحسب، لكن سرعان ما يتم التخلص منها في موطن الحكم على المنظور الديني. كما أنه يريد من المؤمن أن يغض الطرف عن البعد السيري للمعصوم بوصفه تأريخ، وهو تناقض إضافي ينجر لسلسلة التناقضات، ذلك أن البحث عن فلسفة للحياة ما هو معاينة لتشخص ديني ما والسير على منهاجه. فالباري جل وعلا جعل لنا الرسول عليه الصلاة وعلى آله “أسوة حسنة” مما يجعل معاينة سيرته أمرًا واجبًا على كل مؤمن، حتى تتحقق صورة المؤمن في حياته الخاصة. أما إزاحة البعد التعبدي في الدين فهو دحض لقدسية النص، لأن المؤمن كثيرًا ما يقف على مجموعة من الروايات الفقهية والتي يجهل ملاكها، لكن الجنبة التعبدية تجعل من تفعيل هذه الروايات ممكنة. وطبعًا المسوغ الكلامي – الفلسفي يسمح لنا بتعقب بعض الملاكات التي تظل كافية إلى حين، بتبني النصوص التشريعية ولو بدون إحاطة كاملة بهدفها. لأن الجهل الجزئي بملاك النص لا يمكن أن يؤدي إلى رده بالجملة فما لا يدرك كله لا يترك كله.

حيث إن المفكر الإسلامي مصطفى ملكيان يطالبنا بإزاحة العنصر التعبدي من الدين، فإنه بهذا الكلام يهدد استمرار فاعلية مجموعة من النصوص الدينية داخل النسق الديني العام.

هذا ناهيك على أن الأستاذ ملكيان لم يفهمنا مبرّر ضرورة إزاحة العنصر التعبدي من الدين قدر الإمكان، فليس لهذا التصريح مقدمات سابقة على الأقل في البحث الذي نحن بصدد بحثه، هذا من جهة أولى، أما من جهة ثانية كيف يتسنّى تحقيق الطمأنينة بدون اطمئنان مع إزاحة العنصر التعبدي.

بالجملة ما يحاوله المفكر هو تحقيق إجراء حمائي مركب، على المستوى الأول يحمي حامل التصور وهو الأستاذ ملكيان، حتى لا تتم مساءلة أفكاره ما دام مصداق صحتها هو تحقق الاطمئنان لها، وبالطبع هذه شأنية نفسية داخلية لا قدرة للغير على دحضها. وعلى المستوى الثاني ينزع اليقينية على جميع التصورات الدينية مما يؤدي إلى تبني التعددية الدينية، وبالفعل هذا ما أراده الباحث عندما أشار إلى أنه “حينما نعتقد بأن جميع الناس المتواجدين في أمكنة وأزمنة مختلفة، من الممكن أن يكونوا من أهل السعادة بالرغم من اختـلاف عقائـدهـم” (11).

فإزاحة المقاربة النقدية العقلية للتصورات الدينية وإخضاعها للبرهان العقلي يضمن تكثر الأديان السليمة والصحيحة والمؤدية إلى السعادة، وهذا عين ما يدافع عنه التعدديون، حيث استبدلوا صدقية التصورات الدينية العامة والخاصة بالتجربة الدينية والتجوهر في الدين.

الحقيقة تقال: إن منظور مصطفى ملكيان لا زال غامضًا، فبعد أن يضمن العقلانية للمنظومة العقدية ومقرًّا بها، يعود فينقلب عليها جاعلًا من اللايقين هو اللحمة الداخلية للعقيدة.

المقاربة النقدية/قراءة في العمق

مجمل الإشكالية التي نجدها عند الباحثين تتجلّى في محورية العقل في مقاربة التصور الديني بقضاياه المحورية، فالأول يراها ممكنة بل وضرورية حتى، والثاني يرى استحالتها مطلقًا على مستوى مطابقتها مع الواقع، وطبعًا هذا السعي له مبرر غائي مختلف عند كل منهما. إذ أن عملية الذهاب والإياب بين عقيدتي الانحصارية الدينية وتعدديتها تؤثر بالضرورة على تصور كل من الشيخ والفيلسوف فيما يخص مجمل المنظور الشمولي للدين. وهذا الذهاب والإياب سيظل قائمًا ما دام هناك استقلال بين علم الكلام وفلسفة الدين.

ذلك أن الآليات المفهومية والمقدمات المنهجية لمقاربة الظاهرة الدينية بين المعارف من الدرجة الأولى، وبين المعارف من الدرجة الثانية مختلفة تمامًا. إذ يتسنى للأولى وحدها القول بصحة معتقد ما والذي يوجب بالضرورة كذب المعتقد المخالف وإن نسبيًّا، وهذا ما يخشاه التعدديون لذلك هم يعتمدون فلسفة الدين للخلوص إلى النتائج التي يرتضونها. ولأنها بطبعها تعفيهم من جنبة البعد الدفاعي في علم الكلام، لكنهم سرعان ما يجابهون بنظرية المعرفة والمنطق لدحض منظوراتهم، وهو ما حاول سماحة الشيخ جرادي فعله في المقالة موضوع البحث.

كما أن اختلاف الشأنية والهدف في كل من علم الكلام وفلسفة الدين، يجعلنا نسجل أن سماحة الشيخ شفيق جرادي لا يكف عن السعي لإيجاد مستند عقلاني للذب عن حريم القضايا الدينية، لأن تموضعه كمتكلم يفرض عليه شغل دور المدافع. بخلاف المفكر ملكيان الذي يعفي نفسه من هكذا عناء، بل حتى أنه يرمي بآرائه دونما سعي لإيجاد دليل عقلي واحد عليها – دائمًا نتحدث عن مستوى القضايا الدينية – من جهة استحالة هكذا براهين، بل يطالبنا بالطمأنينة حيث ليست هناك طمأنينة.

بالإضافة إلى تمدد الاختلاف إلى تشخيص معنى العقل والتعقل والعقلانية، ذلك أن الشيخ شفيق جرادي يراها مكوّنًا فطريًّا يتكامل مع النص الديني، وعليه فإن التعاقلية عمل تعبدي صرف مكفول للمؤمنين، بخلاف المنظور الملكياني الذي ينظر إلى العقل كموجود مركزي مفارق للنص الديني، مما يجعل منهما مركزيان إلا أن إمكانية الجمع بينهما يظل أمرًا مستحيلًا على الأقل على مستوى المطابقة للواقع، وطبعًا اختلاف التصور للعقلانية يؤدي بالضرورة إلى اختلاف النظر إلى الوجود العقلي للإيمان.

بقيت الإشارة إلى أن الأستاذ ملكيان يتصف بالانتقائية في مقام الحجاج حيث نجده يعتمد بعض الآيات الكريمة والتي قد لا يستوعبها بالشكل السليم، ليجعلها مصداقًا على آرائه طبعًا من باب “الاستشهــاد”، لا “الاستدلال”. ففي مقام الاستشهاد على سمة الطمأنينة بلا اطمئنان نجده أتى بالآيـة الكريـمــة ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو رَبِّهِمْ﴾، (سورة البقرة، الآية 46). لتأكيد انعدام اليقين الكلي في اللقاء الرباني، لكنه نسي مسألة جد هامة وهي أن الآية الكريمة جاءت خاصة ببني إسرائيل هذا من جهة، أما من جهة ثانية فإن هناك آيات كثيرة تؤكد على اليقين كما في قوله تعالى: ﴿وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾، (سورة البقرة، الآية 4)، بالإضافة إلى أن الظن المتحدث عنه في الآية الكريمة هو يدخل في باب اليقين الموضوعي كما فصله الشيخ جرادي، وطبعًا الظن القوي يكون دائمًا قائم على درجة معينة من اليقين إلا أنه لم يصل بعد حد الجزم وهذا ما يحاول المذهب الذاتي التدليل عليه معرفيًّا، كما أنه في رواية معتبرة عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام بخصوص شبهة مثارة من قبل علي بن محمد بن الجهم تخص عصمة الأنبياء وبمناسبة شرح للآية الكريمة ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾، صرح بما يلي: (إنما ظن بمعنى استيقن، أن الله لن يضيق عليه رزقه) (12)، ولا بأس أن نجري مجرى الأستاذ مصطفى ملكيان جاعلين من هذه الرواية محل للاستشهاد لا للاستدلال.

وعليه، فإن اليقين مطلوب ليس فقط على مستوى مداخل الشأن الديني، بل أيضًا على مستوى القضايا الدينية، حتى يتيسر تشخيص الصراط المستقيم والذي جاء بصيغة الفرد لا الجمع من أجل سلوكه، طبعًا الانحصارية الدينية والتي نؤمن بها ليست عدوانًا على باقي الأديان، أو حملة تطهيرية تصفوية للمخالفين كما قد تتجلى في تخوفات الكثير من المفكرين ذوي النوايا الحسنة.

فليس من الضروري أن نكون تعدديين حتى نعرف التسامح داخل الدين، فالإسلام هو تسامح بما هو إسلام، صحيح أن هناك سقطات خطيرة قد حدثت لكن ذلك لا يمكن أن يشكل مبررًا لهدم الصدقية عن الدين، لأن انعدام التسامح كان له سبب خارج النص الديني، متعلق بأخلاقيات بعض البشر وتعطشهم للدماء، والذين يحاولون جاهدين إلباسها لبوسًا دينيًّا.

كما أن التقوقع داخل فلسفة الدين لا يشكل حلًّا خلاصيًّا بقدر ما هو شحنة سلبية قد تنضاف إلى مجموع المشاكل التي يعانيها العقل المسلم، لأن الإصلاح الديني لا بدّ أن يتم من الداخل وواقفًا على صحة أو خطأ المنظور، وهكذا أحكام هي غير متيسرة بأدوات فلسفية، مما يجعل من الأبحاث الفلسفية الدينية في أغلبها دورانًا لا نهائيًّا. فلعبة العقل المجرد لا تنتهي أبدًا وتوالد الأفكار يظل متسلسلًا إلى ما لا نهاية، مما يجعل الاحتكام إلى النص الديني على وجه الاستدلال مسألة محورية وهامة جدًّا لحبس نزيف التفكير العمائي. نفس المؤاخذة تنجر إلى الكلاميات المدرسية التي لا يمكنها أن تجيب على الكثير من الإشكالات الدينية المثارة حاليًّا، فشبهة ابن كمونة قد أكل عليها الدهر وشرب، وحل محلها شبهات كثيرة متعلقة بالمتعلقات العبادية والإيمانية في هذا الـمـوج المتلاطـم “بيـم مـوج” (13)، مما يجعل تسلحها بالعطاءات العقلية الحديثة مسألة محورية وهامّة جدًّا، لذلك نعتقد بأن تجديد النظر في مسائل علم الكلام الجديد ومنهجياته ولغته وعكوف الجميع على تمتين أطروحاته، قد يساعد المسلم على تجاوز الكثير من المشاكل الدينية العملية التي تعيق طريقه نحو الارتياض الرباني، وطبعًا هكذا تصويب وتنقيح لا يمكن أن يتأتى إلا بأخذ منهج التبني الحضاري بعين الاعتبار لأن الأزمة أممية وليست فردية، فنقل التكليف من الذات المفكرة طبيعة إلى الذات المفكرة اعتبارًا أي العقل الجماعي في التعاطي مع المشاكل المعرفية الدينية، دونما نسيان ضرورة التجديد الجذري لبعض المفاهيم التي أضحت معيقة لسريان العقل الإسلامي أكثر من مساعد، وذلك بتخليصها من الارتكاسات التاريخية والحمولات السياسية التي اعترتها على مدار التاريخ (14)، قد يخرجنا من الأزمة الرازحة على عقلنا الموبوء بالصراعات الداخلية، ويجيب على السؤال الوجودي: لماذا لم نتقدم؟ فهي عملية حفر ديني ذاتي تسمح بتجاوز المعوقات دون جلد للذات مثل ما نجده عند بعض المفكرين.

طبعًا هكذا إحاطة بالوضع الإسلامي الحالي لا يمكن أن تكون إلا خطوة بنّاءة لإجراء التغيير المنتظر، والسعي الحثيث لديننة العقل وعقلنة الدين الإسلامي، لأن اثنينية الدين والعقل لا بد أن يلتقيان في مقام ما، صحيح أن المشروع كبير إلا أنه مهم بأهمية الوجود البشري.

 

الهوامش:

* شفيق جرادي، الإيمان بين الشك واليقين مقالة منشورة في مجلة المحجة، تصدر عن معهد المعارف الحكمية، العدد الخامس، سنة 2002، كما أنه تم إعادة نشرها ضمن كتابه: مقاربات منهجية في فلسفة الدين منشورة عن معهد المعارف الحكمية للدارسات الدينية والفلسفية، الطبعة الأولى سنة 2004.

1 – حيدر حب الله، عقلنة الدين وديننة العقل – نحو دفاع عقلاني عن الدين، مجلة المنهاج، العدد 27، خريف 2002، الصفحة 8.

1 – أخذًا عن مقالة الأستاذ محمد حسن قدردان قراملكي، علم الكلام والتعددية المذهبية – هل نظرية الإمامة من أصول الدين أم أصول المذهب الشيعي؟ ترجمة: أحمد فاضل السعدي، منشور بمجلة نصوص معاصرة، العدد الرابع، السنة الأولى، خريف 2005، الصفحة 91، ويرجى الرجوع إلى هذه المقالة لأهميتها، كما مجموع ما تنشره مجلة نصوص معاصرة.

2 – محمد بن يعقوب الكليني، أصول الكافي، ضبط محمد جعفر شمس الدين، منشور عن دار التعارف للمطبوعات، سنة 1998، الصفحة 235 ضمن باب معرفة الإمام والرد عليه.

3 – مصطفى ملكيان، العقلانية والمعنوية – مقاربات في فلسفة الدين، ترجمة: عبد الجبار الرفاعي وحيدر نجف. منشورات دار الهادي عن سلسلة فلسفة الدين والكلام الجديد، الطبعة الأولى، الصفحة 316.

4 – السيد كمال الحيدري، المذهب الذاتي في نظرية المعرفة، منشورات دار الهادي، الطبعة الأولى، 2004 الصفحتان 381 و 382. ويمكن مراجعة كتاب العلّامة محمد باقر الصدر، الأسس المنطقية للاستقراء، مؤسسة دار الكتاب الإسلامي عن المجمع العلمي للشهيد الصدر سنة 1410 هجري من الصفحة 403 إلى 413.

5 – الشهيد محمد باقر الصدر، المصدر نفسه، الصفحة  126.

6 – أحد قراملكي، الكلام الجديد وفلسفة الدين – رؤية في السمات المائزة، تعريب: حيدر نجف، مجلة “المحجة”، العدد الثامن، الصفحتان 98 و 100.

7 – مصطفى ملكيان، العقلانية والمعنوية – مقاربات في فلسفة الدين، مصدر سابق، الصفحة 93.

8 – مصطفى ملكيان، العقلانية والمعنوية – مقاربات في فلسفة الدين، مصدر سابق، الصفحة 111.

9 – مصطفى ملكيان، العقلانية والمعنوية – مقاربات في فلسفة الدين، مصدر سابق، الصفحة 102.

10 – يرجى الرجوع إلى الفصل الخامس، المعنون بالتدين العقلاني – مقاربات في السمات الإنسانية والمعنوية للتدين من الصفحات من 93 إلى 108.

11 – مصطفى ملكيان، العقلانية والمعنوية – مقاربات في فلسفة الدين، مصدر سابق، الصفحة 126.

12 – العلّامة المحدث الصدوق، عيون أخبار الرضا، صححه وقدم له وعلق عليه: العلّامة الشيخ حسين الأعلمي، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، الطبعة الثانية سنة 2005، الجزء الأول، الصفحة 171.

13 – هذا الاسم هو اسم كتاب للمفكر والفيلسوف محمد خاتمي منشور عن الدار الجديد، متعلق بقراءة بعض المنظورات الفكرية الإسلامية.

14 – لمزيد توسع بخصوص هذه المنهجية لا بد من الرجوع إلى كتاب المفكر الإسلامي إدريس هاني، الإسلام والحداثة – إحراجات العصر وضرورات تجديد الخطاب، منشورات دار الهادي ضمن سلسلة فلسفة الدين والكلام الجديد، الطبعة الأولى سنة 2005، لما يحمله الكتاب من رؤية تأسيسية لهذا المنهج مع تطبيقات له.

 

 

 

 

 

 

 

 

Source URL: https://maarefhekmiya.org/14429/philosophycomparison/