“تساؤلات في المبنى العقيديّ والمنهج” عند الدكتور حسن حنفي
نحن أمام مشروع رؤيويّ، منهجيّ، ذي مادة غنيّة وغزيرة، يسعى لبناء نسق كلاميّ، عقائديّ، ثوريّ جديد، وذلك على أرض علم الكلام القديم؛ بغية جعل الإيمان فاعليّة عند “الجماهير”، لتكون العقيدة آنذاك ثورة وحركة وعملًا.
هي تجربة جديرة بالبحث والنظر لمفكّر كبير، وكأني بنصّه في كتابه “من العقيدة إلى الثورة” أنه أقرب للتأمّل الفلسفيّ في الكلام منه لصناعة الفلسفة وجدل الكلام، لذا كانت لغته تفكّرًا وتأمّلًا ينحو نحو الوجدان عند الجماهير.
والمسألة التي أتناولها في هذه المداخلة تدور حول “تساؤلات في المبنى [1] العقيديّ والمنهج عند الدكتور حسن حنفي”.
والذي يبدو للقارىء في نصوص الدكتور حنفي أنّ تلك النصوص والصيغ التي يصوغ فيها منظومته الفكرية أنّ تلك المنظومة تبتني في وجهها العقيديّ على مجموعة مبانٍ وأصول، يمكن اعتبارها أسسًا محورية تبتني عليها كثير من النظريات والأفكار في النسق العقائديّ والكلاميّ والفلسفيّ عند الدكتور حنفي.
وهذه المبادئ، يقترن بها مسألة كيفية إنتاج الأمور العقائدية؟ فيكون البحث عندها في منطقة “المنهج” التي أخذت حيّزًا، وحضورًا واسعًا في صياغة الرؤى عند الدكتور؛ إذًا، فالمداخلة تدور مسائلها في هذه ثلاثة أطراف وهي: المبنى – المنهج – فالرؤية، في السير من العقيدة إلى الثورة.
محوريّة الإنسان
لعلّه من السهل على الباحث في فكر د.حنفي أن يستنتج أنّ الإنسان أصيل في رؤيته؛ حيث دعا للسير من “علم الله” إلى علم الإنسان؛ فجعله محوريًّا في منظومته، ورأى أننا “… لا نعلم علمًا آخر سوى العلم الإنسانيّ”. (من العقيدة إلى الثورة، الجزء 1، الصفحة 234)، و (الصفحة 234)، وأن “تصور العلم الإنسانيّ محدودًا والعمل الإلهي غير محدود هو تصور يقوم على احتقار الذات وتملّق الغير…”، و “لن يزداد الله فرحًا بأن نجعل علمه لا محدودًا”. (الصفحة 234).
هذه النّصوص تؤكّد أنّ تأصيل المباني التي أسّست لتنظيره منطلقة من محورية الوجود الإنسانيّ، الذي يريد أن يغيّر العالم، وينتقل من العقيدة إلى الثورة؛ وأنّ الإنسان هو الذي يمنح الفعّالية للنصّ الدينيّ في تحريك الواقع؛ والنصّ الدينيّ يأتي كجواب لسؤال الواقع؛ من هنا فإنّ الدور الإنسانيّ هو التمهيد للجواب الإلهيّ من خلال صنع السؤال.
ويقول في نصّ آخر: “آليات التعامل مع القرآن الكريم تنحصر في كلمتين: المنهج والرؤية؛ فالمنهج القرآنيّ منهج مهمّ، وأنا أسمّي ذلك أولوية الواقع على الفكر …”. (المحجة، العدد4، الصفحة 179). ويرى أنّ “القرآن الكريم لا يتكلم، والله لا يتكلم إلا بناء على ما يرى في العالم …فكان القرآن يستجيب لسؤال الواقع”. واستدل على ذلك بالآيات التي تبدأ بـ”يسألونك” مثل: ﴿ويسألونك عن الأهلّة﴾، و﴿يسألونك عن المحيض﴾، و﴿يسألونك عن الخمر﴾. ثم يقول: “الأسئلة لم تكن نظرية بل كانت عملية ونستطيع أن نستنتج أن الواقع يسأل والوحي يجيب، فنحن نرى دائمًا أولوية الواقع على الوحي”. (المصدر السابق).
والخلاصة، أن الأصول التي انبنت عليها رؤى الدكتور حنفي منبثقة من مركزيّة الإنسان في نظرته لله والكون، لا محوريّة الله في حياة الإنسان؛ وهذا يثير الأسئلة التالية: من هو الله في رؤية د.حنفي؟ ما هو الوحي الإلهيّ عنده؟ ثمّ من هو الإنسان؟ وما هي طبيعة العلاقة بين الله والإنسان؟
لا شك أنّ هذه المسائل تتطلّب بحثًا واسعًا لا تقوم هذه العجالة به، رغم التعرض لبعضها في مطاويها.
وبناء على هذه المحورية للإنسان كانت الأصول التي اعتمدها د. حنفي التالية:
- العقل.
- العمل.
- التغيير والتطوير.
- الاجتماع، مقابل الميتافيزيقا.
- المعاصرة.
وأعتقد أنّ محورية الإنسان بهذه الاستقلالية، والنظرة التي أشار إليها بأن “الله لن يزداد فرحًا” قد تشير إلى نمط من العلاقة الشكلية بين الخالق والإنسان. وكذلك تعبير “احتقار الذات” الصامتة التي لا حياة فيها.
في النّظرة إلى الله
نموذج لغة الصمت:
إذا استعرضنا نصوص الدكتور حنفي، نجد أنه جعل الله موضوعًا لكثير من المحمولات، وعدّد أوصافًا لله – بحسب المقدمات الإيمانية – بأنه “الوجود المطلق”؛ باعتباره “قدرة شاملة وإرادة مسيطرة، فهو الذي يبدىء ويعيد، وهو الذي يقرّر، وهو الذي يحيي ويميت”، ثم يعبّر عن العالم الأصولي القديم بأنه يظلّ “يتغزّل في هذه القوة المسيطرة لدرجة الفناء فيها، وكلما شعر بعجزه قوي مدحه…”. (المصدر السابق، الصفحة8).
تعبير “يتغزّل في هذه القوّة” لعلّه يشي ببعض التهكّم، ثمّ يقرّر قاعدة كلية تقول: كلما شعر بالعجز قوي المدح. لكن كيف نعبّر عن الله؟
يخلص إلى اعتبار أنّ لغة الصمت قد تكون “أقدر لغة على التعبير عن “ذات” لله هروبًا من قضيّة اللغة”، إذ إنّ “اللغة الإنسانية لا يمكن أن تعبّر إلا عن التصورات أو الإدراكات أو الموضوعات أو المعاني الإنسانية”. ثمّ يسأل: ” كيف يمكن التعبير عن المطلق بلغة نسبية؟”، ويضيف: “الحديث عن ذات الله خطأ في تصور وظيفة اللغة…”. (المصدر السابق، الصفحة81).
من الواضح أن الدكتور حنفي يواجه إشكالية في التعبير عن الله، فأيّ لغة نستخدم؟ هل اللغة الإنسانية أم الرمزية أم النسبية…؟
والسؤال هنا في سياق بناء أيديولوجية عصرية وثورية.. – كما يريدها الدكتور- لمَ لا تحضر “لغة الله” في التعبير عن الله؟ وهل يصحّ أن نقدم الله تعالى كما نرى نحن أو أن نقدّمه كما قدّم نفسه؟
نموذج في تفسير سبب الحمد
عودًا إلى القاعدة التي مرّت، يعتبر الدكتور حنفي أن “الحمد على ما هو موجود فيه رضا واستكانة، والثورة على المفقود فيه غضب مطالبة بحق”. (المصدر السابق، الصفحة 12).
ويذهب إلى أنّ “الاتجاه نحو الحاجة أقوى من نزوعنا نحو الحمد”، و”أنه لن يتغيّر الواقع عن طريق الدعاء”. (المصدر السابق، الصفحة 13).
والسؤال هنا: هل الشعور بالعجز هو الذي يولّد المدح للذات الإلهية فتكون الأوصاف الجمالية للذات هي مشاعر إنسانية بحيث تصبح بعدًا من الأبعاد الإنسانية؟ أم أن الصفات الإلهية حقيقة يكتشفها الإنسان بعقله، ويميل إليها بفطرته، ثمّ بعد ذلك يحمد الله لأن الله أهل للحمد (وجدتك أهلًا للعبادة)، وأنّ الإنسان يرتقي بالحمد، وليس الأمر نزوع عجز بنحو يجعل الإنسان خالقًا لأوصاف الله نتيجة ضعف؟ وفي النصوص القرآنية من قبيل: (الحمد لله الذي هدانا) وغيرها يثبت فعلًا لله تعالى.
ومن ناحية أخرى، فإنّ حصر الدكتور حنفي العلم بـ”العلم الإنسانيّ” – كما في النص الأول – تندرج في مركزة الإنسان؛ وهذه الأمور تؤشّر إلى أنّ الموضوع في جوهره هو نحو من أنحاء فكرة التفويض التي نادى بها الاعتزال الكلاميّ والدكتور حنفي من مجدّدي الكلام الاعتزاليّ.
نعم، الإنسان هو موضوع التكليف، والإنسان هو المخاطب والمعني بالعمل في الخطاب الإلهيّ. ولو تتبّعنا المباني الأساسية لفلسفة الثورة عند الدكتور لوجدنا أن الأصالة فيها للإنسان، وهذا يتناسب مع محوريته. وفي هذا السياق تأتي “أصالة العقل”، “وأصالة العمل”، وغيرها؛ وفقًا لنظرية “السير من علم الله إلى علم الإنسان“.. والسؤال: ما هو مقدار الحضور الإلهيّ في محركيّة الثورة في الوجدان الإنسانيّ عند د. حنفي؟
أصالة العقل
هذا الأصل يعدّ من الأصول الأساسية في منظومة الدكتور؛ إذ يرى أنه “… لا يؤخذ شيء على أنه حق إن لم يعرض على العقل والواقع…”. (المصدر السابق، الصفحة 11). وأنه “لا يوجد صمّام أمان إلّا في وعي الإنسان بذاته وليس في عقدة القبة السماوية”. (المصدر السابق، الصفحة 11). وأنّ “معرفة الحق والباطل، والصواب والخطأ، لا تأتي من علٍ، بل من تأمّل في المعطيات الفكرية والواقعية”. (المصدر السابق، الصفحة 10). وأن “العقل بإمكانه تنظير كل شيء، وإن شئنا تبرير كل شيء. هو آلة يمكن استخدامها في كل اتجاه، فيمكن إيجاد براهين على التوحيد كما يمكن إيجاد براهين أخرى على التثليث”.
لقد جعل الدكتور العقل ميزانًا ومعيارًا لقبول أي شيء، وذلك في مقابل القبة السماوية، وكذلك تبرير أيّ شيء، ورفض أيّ شيء، لكن ما المقصود بالعقل؟ هل هو بمعنى الغريزة كما يذهب إلى ذلك الحكماء، أو أنه قوة من قوى النفس كما عليه ابن سينا (شرح الإشارات، الجزء2، الصفحة 352-354)؛ أو أنه فعل، فيصبح عندها من مقولة الفعل لا من مقولة الجوهر كما يذهب إلى ذلك د. طه عبد الرحمن؟ هل هو جزء من النفس أم أنه منفصل عنها؟ هل المقصود بالعقل الأصيل عند د. حنفي العقل العمليّ أم العقل النظريّ؟ هل هما قوتان في النفس- كما يرى ابن سينا- أم أنهما قوة ذات جهتين- كما يذهب الحكيم السبزواريّ-؟ أم أنهما عقل واحد مختلفان بحسب المدركات – كما عليه المحقق الأصفهانيّ- فالتسمية عندها تتبع المدرَك؟
نعم عرّفه في بعض النصوص بقوله: فهو ذات عاقل قادر على التمييز بين الأشياء. لكن ما معنى ذات عاقل؟ وهل المعنى هو التمييز؟ ويظهر أن د. حنفي تحدث كثيرًا عن وظائف العقل وآثاره (الجزء3، الصفحة 398).
لكن وظيفة العقل لا تعني حقيقته، وهذا يتطلب عرضًا مفصلًا لا مجال لذكره هنا.
صناعة المصطلح
إنّ مشكلة عدم التأصيل للمصطلح – أعتقد – أنه يفتح الباب واسعًا للأسئلة والإشكالات، لا سيما وأننا في مقام تثبيت القضية، فكيف نؤصّل القضية، ونجعلها محورًا قبل أن نؤصّل موضوعها ومحمولها؟
وهذه المشكلة ترد بقوة عندما يكون الباحث في مقام تأسيس نظرية؛ والدكتور في مقام العمل من أجل تطوير الاتجاه الاعتزاليّ خطوة نحو عقل الثورة، من أجل إقامة لاهوت شامل للثورة.
ومن باب المثال: يستخدم الدكتور حنفي مصطلح “اللاهوت” فجاءت تعبيراته من قبيل: “لاهوت سلبيّ”، “لاهوت إيجابيّ”، “لاهوت الأرض”، “لاهوت الثورة”، “لاهوت التنمية”، “لاهوت التقدّم”… (من العقيدة إلى الثورة، الجزء1، الصفحة 125).
وهذا الأمر يطرح السؤال التالي: لنقل إنّ المنهج التوفيقيّ الذي يتبنّاه الدكتور حنفي يبحث عن مركب توفيقيّ بين الحضارات والثقافات من حيث الأفكار والمعاني والنظريات، ولكن هل يستدعي ذلك استعارة المصطلحات أو عدم العمل على تأصيلها؟ إذ يظهر أنّ المعيار في اختيار المصطلح غير مستقر في منظومة الكلام الجديد عند الدكتور حنفي؛ وإن كان قد قال بأنه يستخدم المصطلح من الوافد، لكن هذا لا يلغي الإشكال، بل يطرحه بقوة؛ فهل الميزان في اصطلاح المصطلح هو إسلاميّته أوتطابقيّته مع مصطلحات مستعارة، أم الحفر اللغويّ والصرفيّ…؟
أصالة العمل
يرى الدكتور أنّ “صحة أي نظرية مرهونة بفائدتها العملية”؛ ولذا ذهب إلى أنّ “قيمة الأفكار هو آثارها في السلوك”؛ وعلى ذلك فـ “لا توجد هناك حلول صائبة وأخرى خاطئة، بل توجد حلول فعّالة ومؤثرة…”. (الجزء1، الصفحة 200). ووفقًا لهذا قال: “الدليل الوحيد على الله عمليّ لا نظريّ”. من هنا عمل الدكتور على إعادة طرح أيديولوجيا كلامية جديدة، واشترط فيها أن تكون عملية ومعاصرة.
تبرز أمامنا من جديد إشكالية التأصيل الاصطلاحيّ، فماذا يقصد الدكتور من أصالة العمل؟ هل يمكن أن يصدر عمل قبل النظر؟
ثم إنّ قضية: صحة أيّ نظرية مرهونة بفائدتها العملية “هي بحد ذاتها قضية نظرية وليست عملية”. وأعتقد أنّ السؤال هنا معرفيّ أبستيميّ بالدرجة الأولى؛ فما هو الميزان في صدق القضية، هل هو فائدتها العملية؟ أم مطابقتها للواقع؟ أم التساوق بين موضوعها ومحمولها؟ أم الاعتقاد بمضمونها؟…
ولو أطللنا على المقولات الدينية القرآنية من قبيل: المستضعفون سيرثون الأرض، إن زلزلة الساعة شيء عظيم، الصدق حسن وواجب، الجنة لمن أطاع الله، النار لمن أصر على المعصية…أو مقولات من مثل: النقيضان لا يجتمعان، العدل والظلم متنافران، إذا تحقق الحق بطل الباطل…فهل صدق هذه القضايا مرهون بفائدتها العملية؟ أو أنّ صدقها ذاتي غير متوقف على عملانيتها؟ ولنفترض أن الناس أعرضت عن العمل بالقضايا القيمية كالتي مرت وغيرها؛ فهل الإعراض هذا يبطل قيمة القيمة؟ وهل مرور الأزمان وعدم العمل بالعدل والحقّ يبطل عدالة العدل وحقانية الحقّ؟
أضف إلى ذلك، إذا كانت قيمة الفكرة أثرها على السلوك ألا يمكن أن تتحقق فكرة مقدّسة ثم لا يعمل بها حاملها اتباعًا للهوى وإن كان يعلم بحقانيتها، فهنا السلوك لم يتأثر بالفكر، فهل يقال عندها: إن هذا الفكر لا قيمة له؟
التطوير والتغيير
فإن القراءة الكلامية للدكتور بلحاظ حركة التاريخ التطورية للعلم نفسه وفرقه؛ فاعتبر أن هناك ظهورًا للموضوعات من خلال الفرق، وظهورًا للفرق من خلال الموضوعات، وأن هناك تحولًا من مسائل العلم إلى موضوعاته، ومن موضوعاته إلى أصوله، ثم من الأصول إلى البناء، ومنه إلى عقائد الإيمان.
- منهج فهم النص
أصالة المفسر لا المؤلف
السؤال المطروح في هذه النقطة قبل النقاش في فهم النص؛ ما هو تعريف الوحي عند الدكتور حنفي؟ ثم هل يعطي الوحي علمًا ألوهيًّا؟ خصوصًا وأن كلمة (ألوهي) عندما يذكرها الدكتور يضعها بين هلالين. وهل يمكن فهم الوحي كما أراده الموحي؟ وما هي آلية ذلك؟
منشأ هذه الأسئلة وغيرها هو أنه يذهب إلى اعتبار أنّ الوحي بعد نزوله صار علمًا إنسانيًّا (من العقيدة إلى)؛ إذ يقول: “إنّ الوحي ذاته بعد نزوله وفهمه يصبح علمًا إنسانيًّا…”. (الجزء1، الصفحة 234).
هنا يطرح السؤال: هل يرى الدكتور أن القرآن الكريم هو علم إنسانيّ؟
ومن ناحية أخرى يعتقد الدكتور حنفي في دراسة منهج فهم النص بأصالة المفسّر والظروف، لا النص؛ فيقول: “النصوص مجرّد قوالب يمكن ملؤها حسب مقتضيات كل موقف، فالموقف هو الأصل المحدّد لا النص…”. (الجزء1، الصفحة 202). وأنه “لا يوجد نص لا يمكن تأويله”. (المصدر نفسه، الصفحة 202).
وفقًا لهذا، فإن الدكتور يصنع المعاني من الجمع بين الظروف والمواقف وأفق المعنى لديه كمفسّر، فتصبح ذهنية المفسّر شرطًا وجوديًّا لحصول الفهم. وفي هذا المنهج لا تكون الغاية من تفسير النص القبض على مراد المؤلف، فالمفسّر لا يعبأ بالمقاصد والغايات المرادة من النص.
ومن جهة أخرى، فإنّ عملية فهم النص لن تتناهى وستتعدّد بتعدّد الأفهام عند عدم الضابط؛ إذ إن القراءات المختلفة للنص لا تعرف حدودًا.
أضف إلى ذلك عدم وجود فهم ثابت، ونهائيّ للنص؛ عندها لن يفهم أحد أحدًا؛ فيمكن لكلًّ أن يفهم ما يريده هو.
إذا كان كل نص يمكن تأويله بنظر الدكتور حنفي، فهل هذا يعني انتفاء المحكم في اللغة وأصول الفقه؟ ثم أين تصبح قيمة الظواهر والظهورات العرفية التي بني على ضوئها مبادئ الإفهام والتفهيم الاجتماعيين؟ ألا يلزم من تأويل كل نص التفلّت من كل فهم؟
المنهج التوفيقيّ
وهو المنهج الذي تبنّاه الدكتور حنفي لإنتاج عقيدة توافقية، مستشهدًا بالغزالي الذي استطاع إعادة عرض المنطق اليوناني في الميزان والمعيار، والدكتور يبحث عن مناطق التقارب حتى في الاجتماع؛ فهو يجمع بين الدولة الوطنية وحركات الأسرة، وكذلك بين القديم والجديد، إذ يقول: “أنا أخذت علم الكلام القديم وأعيد قراءته من منظور التخلف والتحرر والاستعمار والوحدة والهوية…”. (المحجة، العدد4، الصفحة175). ويبحث عند استعراضه المذاهب الغربية عن التقارب معهم. ويرى أنه عند نقطة الصراع بين الكلام والوافد يظهر دور الفيلسوف الذي ينشق من الكلام ويحاول الحرص على وحدة ثقافة الأمّة؛ فيعمل على الجمع بين الفلسفة والكلام “. (المحجة، الصفحة169). ويرى أنّ “مسؤولية الفيلسوف هي أن ينظر إلى محتوى كلتا الثقافتين، ويسأل نفسه بعض الأسئلة: هل إن الثقافتين متوافقتان أو مختلفتان ومتعارضتان؟…فالفلاسفة إذًا نتيجة نظرتهم التوحيدية أخذوا بهذه التجربة اليونانية على أساس أنّ اليونان تأخذ بالعقل، والعقل أساس النقل في الإسلام، فالشريعة الإسلامية هي شريعة عقلية…”.
ويرى أنّ “مهمتنا الآن أن نستمر في إنشاء فلسفة التعامل مع الغرب ؛ فمثلًا: يجب أن نستعمل ألفاظ الغرب في منظومتنا الفكرية، وأنا أستخدم مثلًا كثيرًا هذه الألفاظ، فأقول: اللامتناهي واللامحدود، الحركة، الزمان، وأضعها لتعريف بعض مفاهيم الإسلام…”. (المحجة، العدد 4، الصفحة 174).
وقد ظهرت مظاهر هذا المنهج في الكثير من الكتابات فيما يتعلق بالمذاهب الإسلامية أو الغربية.
وهنا سؤال: هل المنهج التوفيقيّ “داخل ديني”، أم أنه “خارج ديني”؟ ألا يمكن اعتبار أنه نوع من الديالكتيك الإسلاميّ؟ ثم هل يمكن التوفيق في الأصول والمبادئ؟ ماذا لو أدّى المنهج التوفيقيّ إلى التناقض في النتائج بسبب التغاير في الموضوعات والمقدمات؟
هذا المنهج جدير بالبحث والنظر ولا يتّسع المقام في هذه المداخلة الصغيرة والتي تعبر عن فهم محدود، ربما شبهاته أكثر من واضحاته؛ لذلك نأمل أن يوفّق الباحثون وأهل النظر لتجلية هذا البحث.
المقالات المرتبطة
مصطلحات عرفانية | الجزء الرابع
* اسم – الاسم هو الذات المتجلي بصفة من الصفات وتعين من التعينات. (عين اليقين، الفيض، 1: 386). – الذات
الدين والعلمنة (في نظام المعرفة والقيم)
لماذا البحث حول الدين والعلمنة؟ وهل هذا إقرارٌ بواقعية الثنائيات الصلبة في المعالجة البحثية لموضوعات إنسانية ومعرفية وسياسية؟ أم أنه
جدلية الداخل والخارج
ينفرد لبنان بموقع جيوسياسي يجعله في قلب كل نزاع أو تصادم دولي- إقليمي، ويحول دون عزله عن محيطه بصراعاته المتجاذبة، فضلًا عن التهديدات الأمنية والعسكرية العدوانية الإسرائلية والإرهابية، إلى جانب خصوصية نظامه السياسي