التبني الحضاري والتجديد الجذري نحو مشروع رؤية جديدة للفكر الإسلامي المعاصر (1)
ليس في وسع عاقل من هذه الأمة، أن ينكر وجود أزمة حقيقية يعاني منها الفكر الإسلامي اليوم. على أساس هذا الإحساس والشعور الواضح تنهض أكثر القناعات بضرورة تجديد هذا الفكر، حيث أمسى التجديد هو الخيار الوحيد الممكن للخروج من هذه الأزمة. على أن هناك من يعتقد أن الخروج من الأزمة لا يتم إلا بمزيد من الإصرار على الخطاب نفسه وكما هو. وقد أكد البعض بذلك على أن الإسلام اليوم يتحرك كـأفكار أو نشاطات أو مشاريع كما هو لا كما يعاد إنتاجه من قبل جهات ونخب وطبقات سياسية واجتماعية وثقافية. التجديد هو خيار النخب الأكثر إدراكًا لعمق الأزمة التي أصابت هذا الفكر. وحتى اللحظة، لن نتحدث عن طبيعة هذه المشكلة، إذا ما كانت هذه الأزمة هي سبب انحطاط المسلمين، كما حاول البعض تبسيط الإجابة على السؤال الأرسلاني الشهير، أو كان التخلف الفكري هو جزء من انحطاط أمة بكافة قطاعاتها. فإن مثل هذه الأسئلة هي مرتبة متأخرة عما ينبغي الانطلاق منه. نعم، هناك أزمة بهذا المعنى الذي يُفيده سؤال “ما” الشارحة كما يقول الحكماء، أي ما يتعلق بوجود الأزمة أو توصيفها، وليس السؤال الذي يتقصد المضي في باقي أشواط الاستشكال المركب حول طبيعة الأزمة وجوهرها؛ هل هي بسيطة تقتضي حلولًا بسيطة وتأملات خفيفة يسيرة ــ مثل من رأى من الممكن حل مشكلة الأمة بمجرد إحياء “الخلافة الإسلامية” ــ أم أنها مشكلة معقدة تستدعي حلولًا مركبة ومراجعات جذرية.
إن التسليم بوجود أزمة في الفكر الإسلامي كان قد استدعى على أكثر من قرن من الزمان، مشاريع فكر تصحيحي وتجديدي، إذا حصرنا نشأة هذه الخيارات من أولى التساؤلات التي أرهصت إليها المتون الأولى لمصلحي نهاية القرن التاسع عشر منذ رفاعة الطهطاوي في تخليص إبريزه، أو خير الدين التونسي في أقوم مسالكه، ومن تلاهما بعد ذلك، كي يصبح السؤال واضحًا جليًّا يلخص وعي مرحلة بكاملها، سبق وأن عبر عنها شكيب أرسلان في نهاية المطاف بكتابه الشهير الموسوم بـ: “لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟ “.
لقد استدعى التسليم بوجود الأزمة، محاولات كثيرة لتشخيص الداء، وتقديم وصفات ومشاريع حلول لمشكلات العالم الإسلامي، فتنوعت هذه التشخيصات وعبرت عن وجهات نظر مختلفة، بحسب المرجعيات التي انطلقت منها القصود التي تغيتها. كما اختلفت الحلول وتنافرت بحسب زوايا النظر وآفاق الرؤى ونفاذ الجهد والتحليل. إذا رجعنا قليلًا، وحاولنا التأريخ لهذا المنحى البياني التوتري لخطاب الإصلاح الإسلامي، سوف نجدنا أمام توترات ومنعطفات، ربما عبرت من ناحية، عن خطورة المخاض الذي تعيشه أمة لا زالت تبحث عن طريق العودة إلى وجودها الطبيعي كأمة متحضرة قوية، لكنها من ناحية أخرى عبرت عن تطوح كبير وعن هجاس تغالبي، هو نفسه التعبير الأوضح عن أن الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، لم يجد حتى الآن حامله الفاعل. لا أتحدث هنا عن الحامل الاجتماعي، بل عن الحامل الطليعي الذي يستطيع أن يسابق الوعي ويستشعره وينجز من الفكر ما هو خارج مؤثرات الأزمة ذاتها، بهذا المعنى، كان من المفترض أن يتحرر الفكر التجديدي الإسلامي قدر الوسع من آثار وإكراهات واقع الأزمة للتحرر من هذا الدور المنطقي، حتى لا يصبح الفكر التجديدي بمثابة وصفة مغشوشة لترسيخ جذور الانحطاط، أو إنعاشه وتزويده بعناصر القوة والمناعة. ولعل هذا تحديدًا ما حدث، حيث أصبح عنوان التجديد والمراجعة يواجهان لعبة التمييع الكبرى.
إن الأمر يتطلب ثورة في الفكر وفي المنظور. لقد شهد التاريخ المعاصر على أن خطاب الإصلاح والتجديد، عكس تناقضات الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي أكثر مما عكس تصورات وبدائل وخيارات، لأجل إنماء الوعي ومراكمة التشخيصات والحلول المناسبة. بعض المؤرخين، يتحدثون عن وجود نكسة طارئة في الوعي الإصلاحي ومساراته التي تبلورت مع رواد الإصلاح في عصر النهضة، لكنها بدأت تتدحرج في المراحل المتأخرة من عمر محمد رشيد رضا. فجأة وبهذه البساطة، حاول البعض تبرير هذه النكسة وتعليق أسباب الأزمة على مشاجب الأشخاص خارج أسيقة تركب الأزمات. وكان أن علق بعضهم المشكل بصورة عجولة ونهائية على الخطاب القطبي؛ لا بوصفه انعكاسًا لإخفاق تاريخ أو جيل بكامله أو صدى لتراجع وضع سياسي واجتماعي برمته، بل بوصفه فكرًا له رواده وكهنته، في محاولة تبسيطية لشخصنة الأزمة. ويبدو لي أن المرحلة القطبية والخطاب القطبي يتطلبان تأمّلًا إضافيًّا، ذلك لأن هذا الخطاب لم يكن هو المشكلة، بل هو جزء من مشكلة مركبة يتقاسمها فواعل الشأن الإصلاحي كافة. ومن هنا يتعين إعادة النظر في مناشئ الأزمة الجديدة، بلحاظ، إن توقفنا عند نصوص أو متون معينة وتوجيه النقد والسؤال إليهما لا يعني الشخص ذاته، بقدر ما يعبّر عن نصوص هي بالأحرى تؤرخ لأزمة جيل بكامله.
الفكر الإسلامي المعاصر، ومأزق المثاقفة
من الصعوبة بمكان، إجراء الحديث عن أزمة الفكر الإسلامي المعاصر دون التوقف عند ذلك التراث الفكري والدعوي الذي تحدد به الوعي الإسلامي تجاه الآخر؛ الآخر بوصفه هنا نقيضًا أزليًّا، وعالمًا متجوهرًا على ذاته، تعينت المعاطاة معه على خلفية الرفض والممانعة في أعلى صورهما الممكنة. لا يهمنا هنا الإغراق في التبرير لهذا النمط الفكري والرفضوي، ما دمنا مضطرين إلى وضع اليد على هذا النزيف. فليست الغاية هي التبرير للأشخاص أو إظهار حسن النوايا. ذلك لأن النقد هنا لا يبتغي الإدانة، بقدر ما يهدف إلى تصحيح الفكر وتقويم النظر على أسس نقدية مسندة بآليات التحليل والمساءلة. وينتصب أمامنا نموذج لهذا الفكر النمطي، الذي كان له الدور الأبرز على صعيد جيل كامل من أبناء الحركات الإسلامية، متغلّبًا على أذهانهم، إلى حد أصبح فكرهم ووجدانهم وفعالياتهم تتحدد على أساس الرفض التام والتجهيل الكامل للآخر الذي يستفزنا بحداثته.
وحيث، بدل أن ننشغل بسؤال الحداثة وآليات تحصيلها، انشغلنا بسؤال كيف نبرهن على جاهليتنا جملة وتفصيلًا. أعني هنا تحديدًا، تلك الأفكار التي ضمنها محمد قطب كل أعماله، وعلى أساسها قامت جدلية الأنا والآخر، بوصفها جدلية متوترة. وهي أعمال نموذجية تلخص رؤية جيل كامل إلى العالم والأشياء.
لقد شكّلت كتابات محمد قطب إحدى أهم روافد الفكر الإسلامي المعاصر، وهي الكتابات التي لخصت المضمون الفكري والأيديولوجي للمرحوم أخيه الشهيد سيد قطب، وباقي الأعمال التي أنتجها الفكر الإسلامي الآسيوي، بمساهمات كبرى قدّمها كل من المودودي وأبو الحسن النووي ووحيد خان وأمثالهم. ولا نكاد ننفي وجود موجّه ذاتي أو موضوعي لهذا الاختيار. فالمجال الآسيوي نفسه كان قد أنتج أشكالًا أخرى من الوعي بالآخر، دون أن يكون محل احتفال من قبل هؤلاء؛ أعني بالتحديد؛ محمد إقبال اللاهوري. لم يكن لدى هؤلاء ـ فضلًا عن التحكم المعقد ليوميات الانفصال الباكستاني عن الهند وما تطلبه الأمر حينئذ من تصعيد هجاس التكفير والتجهيل بحثًا عن الهوية الجديدة للدولة الجديدة، ومن هنا فكرة الحاكمية عند المودودي التي ستنتقل بكل شروطها الزمكانية إلى الخطاب القطبي. اطلاع حقيقي بالفكر الحديث وتياراته ومدارسه وفنونه. وإذا استثنينا محمد إقبال، فإن أغلب المشتغلين على مسألة التجديد لم تكن لهم دراية بتاريخ الفكر الحديث. وقد اتضح بعدئذ أن هذا الرهط من الكتّاب تشكلت رؤيتهم النهائية عن الفكر الحديث والحضارة الغربية الحديثة من خلال كتابات هامشية أو دعائية أو احتجاجية، لا تسمح بتكوين صورة موضوعية جامعة ومانعة عن الغرب أو الفكر الحديث. وقد ركّز هؤلاء على بعض الكتابات التغريبية الراديكالية والصريحة في دعوتها للإلحاق، مثل كتابات سلامة موسى أو لطفي السيد، كي يصيغوا بذلك معادلة أيديولوجية صعبة، مفادها: أن التحديث هو تغريب. فيصبح الغرب والفكر الغربي مُدانًا بشكل جذري. ومن هنا وجدوا دعمًا في بعض الكتابات التي ترجمت بشكل انتقائي وتلقفوها، مثل كتاب “انحطاط الغرب” لشبنجلر، أو كتاب “شمس العرب تطلع على الغرب”، أو “الإنسان ذلك المجهول” لألكسيس كاريل…
بهذا الاختزال أصبحت المهمة تقتضي تعبئة وتجييشًا ضد الفكر الحديث بوصفه غربيًّا. وأصبح الموقف الجذري يتنامى بشكل متعاظم، إلى أن حدثت القطيعة التامة، وهنا تم التعبير عنها من خلال أشهر كتب محمد قطب: جاهلية القرن العشرين !
لقد بدا لهؤلاء الكتّاب، أن لا جدوى من التعرف على الفكر الحديث، لأنه غربي. ولأن الاستيعاب هو في حد ذاته مقدّمة للتغريب، بل إنهم تعاطوا مع هذا الفكر بذهنية باترياركية، حيث يسمح فقط للعالم المحصن ـ ليس فكريًّا واستيعابيًّا، بل محصّنًا بقدر هائل من الممانعة النفسية والديماغوجية ــ أن يدرس هذا الفكر، ثم يكتشف شبهاته، ويقدمها للقارئ مردودًا عليها. وحتى في هذا الإطار الضيق، هناك من اعتبر تتبع الشبهات مرفوضًا، لأن من شأنه أن يفتن المتلقي، ويشغله بأسئلة تقع في دائرة الممنوع التفكير فيه أو ما من شأنه ذلك. وهكذا طغى الاختزال، وعمَّ سخف القول وبؤس النظر. ولك أن تتأمل، أي صورة سيكون عليها الوعي بالآخر وبتاريخ الفكر الحديث، إذا ما أصبح مجرد الاطلاع عليه، مسألة واقعة في دائرة الحرج؟ لا بل، وفي أكثر الحالات تسامحًا، هو مجال للتنقيب عن الشبهات وإبراز المقايسات؟ بتعبير آخر، هو مجال لإبراز المحلل والمحرم من هذا الفكر. إن الجهل بالفكر الحديث ظل أمرًا مستحسنًا لا يشكل نقيصة لطالب الفكر الإسلامي؛ بل لا نبالغ إذا ما قلنا بأن الفكر الإسلامي الحديث قام على أساس الحؤول دون الاطلاع المباشر على الفكر الحديث وهو في بدايته كان أشبه بمشروع لرد الشبهات التي يثيرها الفكر الغربي الحديث، بما يشبه علم الكلام في ثوبه القديم وبآلياته وتصوراته ومبانيه. إن الجهل بالفكر الحديث والتجهيل به والحكم عليه بالجاهلية، كان إحدى مقاصد الفكر الإسلامي في أطواره الأولى، إذ أوجد حصانة خاطئة، جعلت فعل الاستيعاب بالأزمة وبالعلاقة مع الآخر المتقدم مدنيًّا يتأخر بعقود من الزمان وإلى أكثر من قرن. وهكذا، إذا كان شكيب أرسلان قد لخّص فكر النهضة اتجاه الآخر في السؤال: “لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟”، فإن محمد قطب كان قد لخّص الفكر السلفي اتجاه الآخر في عنوان: “جاهلية القرن العشرين”.
ولك بعدها أن تدرك المسافة الفاصلة بين فكر النهضة العربية والإسلامية خلال القرن التاسع عشر، وبين الفكر السلفي الرفضوي خلال المنتصف الأخير من القرن العشرين.
لقد حكم على الفكر الحديث، بوصفه فكرًا نمى وتطور غربيًّا، بالنهاية. فهو إذن فكر آيل إلى الزوال والانحطاط، وهذا ما دلّ عليه “انحطاط الغرب”. لكن لم يكن أحدهم في تمام الوعي بتلك المفارقة التي تجلّت في اهتمامهم الكبير بكتاب “شمس العرب تطلع على الغرب”. لم يكن الوعي حاضرًا لاستيعاب حرج ما تمثله هذه المفارقة، عن غرب أنذر شبنغلر بانحطاطه، ولكنهم في الآن ذاته يفتخرون بأنهم ـ بدليل شمس العرب تطلع على الغرب ـ هم من أرهص لهذا التقدم، وأن الحضارة المعاصرة هي حضارة مغشوشة ومنقولة عن العرب والمسلمين؛ أي الحضارة نفسها التي وصفها محمد قطب بجاهلية القرن العشرين.
جاهلية القرن العشرين
إذا عدنا إلى محمد قطب في “جاهلية القرن العشرين” وما سبقها أو رافقها من أعمال تدور مدار هذه الحقيقة التي شكلت مناط الخطاب القطبي ومنتهى ما بلغه عقل تمامي، متيم بالأحكام المعيارية والمولع بالنتائج، سوف نجد أن خدعة المتن القطبي ـ نسبة إلى محمد قطب ـ تبدأ، من أنه ينهض على قراءة تبدو مبنية في ظاهرها على المعالجة التحليلية المقارنة. فهي توحي لقارئها بحسن الإطلاع وموضوعية النقد. على أن قراءها هم في العموم شباب تنعدم فيهم الخبرة أو وعاظ لم يخبروا الفكر الحديث، ويهمهم أن يقال: إنه كله ينتمي إلى جاهلية القرن العشرين، ليريحوا عقولهم الكسولة وجهلهم المركب بمعرفته، من باب: “من جهل شيئًا عاداه”. ويا ما قد غدا هذا الفكر القطبي في نسخته الأخرى التي طور صيغتها الأيديولوجية، شقيق سيد قطب، من تلك النزعات والقناعات التي تقنع بالأحكام النهائية، لا يهمها أن تعرف ما مدى قيمة وأهمية ما هي بصدد دراسته أو الحكم عليه.
لم يقدّم الكاتب المذكور، الفكر الحديث إلى قرائه الذين كان يتوقعهم من ذاك القبيل، تقديمًا علميًّا، أو فكرًا معالجًا بأدوات التحليل النقدي المتعارف عليها في فنون النقد الحديث، بقدر ما كان يقدم خطابًا أيديولوجيًّا منهكًا بالنتائج والأحكام المعيارية والاختزالية التي جعلته يختصر المسافات بصورة تعسفية، حيث قرأ الفكر الحديث وتاريخه على خلفية المؤامرة وبروتوكولات حكماء صهيون. وقد يفهم القارئ من خلال هذا الهجاس الرفضوي شديد الانفعال للفكر الحديث، أن محمد قطب لم يكن فقط يبني فكره على نظرية المؤامرة من خلال معطيات قابلة على الأقل للتوثيق، بل ثمة نزوع أشبه ما يكون بالخرافي، جعل صانع الممانعة المغشوشة يقرأ الفكر الحديث والنهضة وفق المنظور المؤامراتي نفسه بأثر رجعي؛ أعني قبل أن يعثر البوليس القيصري على تلك الوثائق الصهيونية التي ستذاع بعد ذلك تحت عنوان: بروتوكولات حكماء صهيون. لقد أراد محمد قطب أن يقول: بأن تاريخًا من التطور الفكري والمعرفي في الغرب، هو سلسلة من المؤامرات. والحجة ها هنا، بروتوكولات حكماء صهيون. أي أنها مؤامرة صهيونية محض. إنه بذلك لا تأخذه لومة لائم في شطب قرون من تاريخ المعرفة المكلّل بكل أشكال القلق المعرفي. مثل هذا الاختزال والمقاربة المؤامراتية يبدأ من فكرة اليهود الثلاثة ـ كما سمّاهم محمد قطب، ويعني بهم ماركس وفرويد ودوركهايم ـ وانتهاءً بكتاب “الحق العربي في الاختلاف الفلسفي” للدكتور طه عبد الرحمن؛ الذي بدا وكأنه بصدد إعادة إنتاج الأحكام المعيارية لهذا التيار، القائم على المقاربة المؤامراتية. لقد قدّم محمد قطب الفكر الفرويدي تقديمًا سيئًا، لا بل تبسيطيًّا واختزاليًّا إلى درجة تؤكد على أن الكاتب الإسلامي لم يكن يهمه أن يدقق في ما يقوله أو يخبر به عن الغرب، فالغرب، هذا الجاهلي، مستباح. ولا جدوى من التقيد بشروط الموضوعية في فهمه واستيعابه. لتنقلب المقاربة المؤامراتية رأسًا على عقب، وتجعل القارئ الإسلامي في وضع تنطبق عليه ذهنية بروتوكولات حكماء صهيون؛ بمعنى: “ليس علينا في الأميين سبيل” !لقد قدّم محمد قطب، فرويد كفيلسوف وكاهن للخطاب الجنسي. وقد قدّمه من ناحية أخرى بوصفه الخطاب الذي يلخص الفكر الغربي والحداثة برمتها. علمًا بأن فرويد هو بشكل من الأشكال يمثل لحظة فارة في تاريخ الفكر الحديث؛ أي أن تقنياته المعرفية هي بالأحرى ما بعد حداثية بامتياز. لم يكن محمد قطب مدركًا بأن كبرى النقود على النظرية الفرويدية ـ انطلقت من داخل المجال الغربي. بهذا المعنى، فإن الغرب ليس فرويديًّا كله، إلا بالقدر الذي يوجد فيه فرويديون ويونغيون وأدلريون… لم ينجح محمد قطب ـ وربما لم يكن في نيته أن يحاول ـ في القبض على حقيقة غرب متنوع بثقافته ومدارسه وتياراته ومليء بالمشاريع الممكنة. لقد خلص محمد قطب بناءً على قراءة مختزلة ومستعجلة وقدحية للنظرية الفرويدية إلى إعلان: أن الغرب جنس فقط !؟ ولعله من المفارقة، أن تكون مناظرة السيد جمال الدين الأفغاني بشأن النظرية الداروينية ــ التي تبناها رهط من مفكري النهضة العربية، أمثال شبلي شميل وفرح أنطون وبعد ذلك سلامة موسى ــ في المستوى الذي جعل مناظريه أمثال رينان، يشهدون له بعمق النظر إلى حد وصفه بفيلسوف الشرق الكبير. غير أن القراءة القطبية الاختزالية المؤامراتية، كانت قد جعلت من نظرية التطور الداروينية، مؤامرة أيديولوجية على فكرة “الثبات” الإكليروسية التي مثلها آباء الكنيسة. وقد حاول محمد قطب، أن يجعل الداروينية هي النهاية المحتومة لعالم الثبات. ومع نهاية مفهوم الثبات، سوف تتزحزح كبرى العناصر التي يقوم عليها الاعتقاد، وفي مقدمتها فكرة “الله”. بهذا المعنى، جاءت الداروينية الطبيعية قبل الداروينية الاجتماعية مع “نيتشه” للإعلان عن موت الإله. بهذا الاختزال كانت القراءة القطبية قد زيفت المشكل المعرفي وأخرجته من دائرة النقد المعرفي إلى أعلى مستويات الديماغوجية، وأسوأ أشكال الأيديولوجيا.
فحينما يعجز هذا الفكر التنميطي في إيجاد تفسير ما لعجز أو فشل ما، فإنه يلجأ إلى التبرير على أساس نظرية المؤامرة، حيث قدمت “بروتوكولات حكماء صهيون” أكبر خدمة لعقل كسول كثير الأعذار، لا يزال أسير الاعتقاد بأن ما ألم به من مشكلات وهزائم ومظاهر التخلف، ما هو إلا نتاج مؤامرة أزلية تحاك ضد المسلمين. في هذا الإطار يتعين فهم ذلك العنوان الملفت للنظر، والذي تردد في كتابات محمد قطب؛ اليهود الثلاثة: ولا أدري كيف اختزل محمد قطب كل مؤامرات الفكر الغربي في هذا الثلاثي، وقد ضيق بذلك على غرب متنوع، لا يمكن بأي حال دمجه واختزاله في هذا الثلاثي. ولكن يبدو أن محمد قطب هدف إلى تحديد المؤسسين الأوائل، ليوحي بأن أصل العلم، هو مؤامرة. فهو لا يقدم هؤلاء الثلاثة بوصفهم أشخاصًا أو علماء أو مفكرين، بل إنه يقدمهم بما يوهم القارئ لهذا المتن القطبي شديد الإيحاء والذي بلغ حد الهوس بنظرية المؤامرة، بأنه أمام ثلاثة أعضاء في محفل ماسوني. لم يقدم محمد قطب، الأشخاص الثلاثة أهل اختصاص، ولم يتوقف الأمر حتى عند هذا المستوى من الاتهام الشخصي الافتراضي، بل تحول معهم التحليل النفسي الفرويدي والاقتصادي السياسي الماركسي وعلم الاجتماع الدوركهايمي إلى علوم يهودية ماسونية تآمرية. فطالب علم الاجتماع عليه أنه يحذر أنه أمام واحد من أقطاب التآمر الماسوني ـ دوركهايم ـ وعليه، أن يقرأه بقليل من الاهتمام. وإذا اقتضى الأمر علينا أن نجهل ونتجاهل كل شيء يقوله هذا الأخير. ولنقرأ علم الاجتماع الدوركهايمي ليس كاتجاه أو مدرسة أو مرحلة في تاريخ علم الاجتماع، بل علينا أن ندرسه كعلم مؤامرة. بل إذا اقتضى الحال، وإذا كان ولا بد من التعرف على هذه العلوم، فلا بدّ أن ينبري من دائرة الفقه أو علم الحديث أو من الآداب أو الهندسة أو الطب، من يكشف عن الشبهات الثانوية في علم الاجتماع، ويقدمها لأهل التخصص من الإسلاميين المبتدئين أو ضعيفي الممانعة. ولا أدري كيف فات كاتبنا أن يدرك بأن هناك من الفلاسفة الجرمان، من فاق هؤلاء اليهود الثلاثة فيما رأى محمد قطب أنه فكر جارف للثبات؛ أين إذن، كانط وهيغل ونيتشه وفيخته وبرتراند راسل وسارتر…؟
يتعدى الموقف علم الاجتماع الدوركهايمي والتحليل النفسي الفرويدي والاقتصاد السياسي الماركسي، لتصبح كل العلوم الإنسانية مدانة. لا بل أحيانًا تتحول العلوم البحتة إلى مؤامرة. فالعلم الغربي هو في نهاية المطاف علم مؤامرة.
لم يشر محمد قطب وأمثاله إلى أن الغرب تقدم وتطور بفضل هذه العلوم، وبأن نظرية المؤامرة أو بروتوكولات حكماء صهيون، ثبت لها أصل أو لم يثبت، ومهما بدت شديدة الغرابة فلها نهاية ولها حدود، وإلا تحولت إلى فكرة خرافية وإلى هجاس يعطل إرادة الوعي وأي بادرة للفهم والاستيعاب، تلك الإرادة التي تقوم أساسًا على حس الفضول والاقتحام والشجاعة والمغامرة. ومع ذلك تبقى أقوى أشكال النقد الموجهة ضد الغرب، هي نفسها التي تنطلق من المجال الغربي نفسه. حيث الغرب ينتج الأطروحة ونقيضها.
نشأ جيل كامل من الشباب المسلم على هذه “العقيدة” الجديدة القاضية بنبذ العلوم الإنسانية ورفضها، وفي أفضل الأحوال احتقارها. ولعل هذا ما يفسر العدد الهائل من الإسلاميين المتخرجين من كليات العلوم البحتة، كالطب والهندسة و… وليس ذلك احتفاءً بالعلوم البحتة، بل هروبًا من العلوم الإنسانية بوصفها علومًا كافرة أو مليئة بالشبهات، أو فقط للاستقواء بها واختزالها في ملحمة الاستدلال على وجود الله، حيث سادت يومها الترجمة العربية لذلك الكتاب الجماعي الموسوم بـ: الله يتجلى في عصر العلم. وقد فاتهم أن إشكالية الدليل على وجود الله، هي إلى الميتافيزيقا أنسب، وحيث إن الدليل العلمي البحت لا قيمة له إلا بأن ينحل بالنتيجة إلى دليل كوسمولوجي فلسفي. إن مشروعهم هو إثبات وجود الله عبر الإعجاز العلمي انطلاقًا من الحنين إلى الطب ما قبل العلوم التجريبية ومن التمسك الخرافي بذلك الحطام المشكل من أنواع الأعشاب، حيث تتبوأ الحبة السوداء مكانًا أشبه بخيمياء الصحة، وليس الاهتمام بالعلم الضروري لنهضة الأمة أو العلوم الإنسانية وبعث الوعي وإذكاء العقول. وقد أدرك هذا الجيل، كم خسر بفعل عدم اهتمامه بالعلوم الإنسانية، أو حتى بالعلوم البحتة، لما كان الدافع إلى التخصص فيها لا ينهض على وعي واستيعاب حقيقين بالمشكل الحضاري للأمة.
لقد كان لهذا النمط من التفكير، أثر على الفكر الإسلامي المعاصر. وسوف يستمر الأمر إلى الحدود التي كان من المتوقع أن تحدث قطيعة مع هذا التفكير النمطي الذي لا يقدم ما يكفي من التحليل العلمي للفكر الحديث. وهي اللحظة التي مثلها أحسن تمثيل الشهيد السيد محمد باقر الصدر. لقد مثل شكلًا من أشكال القطيعة ـ وإن لم تنجز بعد ـ على الأقل من الناحية المنهجية مع هذا الفكر النمطي. جاءت محاولات الشهيد الصدر مفعمة بهذا الإحساس الذي لم يكن قد تمرس عليه منتجو الخطاب الإسلامي؛ أعني التقيد قدر الوسع بالشرط الموضوعي في النظر والتحليل. الموضوعية هنا واجب ومطالب ضروري في البحث العلمي. نعم، لقد جاءت أعمال الشهيد بنبرة عالية وإحساس كبير بتفوق خيار الفكر الإسلامي، كما دلت عليه عناوين أعماله، نظير فلسفتنا، واقتصادنا ــ وأعتقد لو قدر له أن يفي بوعده بكتابة “مجتمعنا” لكان سيقلب الطاولة على ذلك الفكر النمطي الذي اختزل النفسانيات الفرويدية، واجتماعيات دوركهايم واقتصاديات ماركس في كونها مؤامرة صهيونية. لقد ناقش السيد الصدر الاقتصاد السياسي من مرحلة الكلاسيك حتى ماركس. وقد خط بذلك نهجًا للموضوعية، حيث عالج المتون وقارع الفكر بالفكر، وتوقف عند النصوص الأصلية لمؤلفيها وبذل جهده لاستيفاء المتاح له من مظانها، قابلًا برأي هنا ورافضًا ناقدًا لرأي هناك. لم تحضر نظرية المؤامرة في التحليل الصدري البتة. ولم يعد الغرب في أعماله يجسد نموذجًا لجاهلية القرن العشرين؛ بل فضّل الدخول في مطارحات واسعة، مقدّمًا الفكر الإسلامي بوصفه إمكانية من شأنها المساهمة في حل مشكلة الاجتماع والفكر الإنسانيين. لم يعد الآخر؛ أي الغرب رائدًا لجاهلية القرن العشرين، بل هو آخر يمكن الدخول معه في مسلسل من النقاش طلبًا للإسهام بالفكر الإسلامي في حركة الوعي الحديث للأمة. وقد بدت المفارقة كبيرة هاهنا، حيث المتصدي للشأن الإصلاحي والتجديد من دائرة الاختصاص الفقهي والعلمي هو أكثر مرونة وانفتاحًا من أولئك الذين تصدوا للتنظير الفكري الإسلامي من مواقع مختلفة،كالطب والهندسة والمحاماة… حيث جاءت مساهماتهم موسومة بالوعي الشقي والخشونة والانسداد. هذا مع أن الأمر لا يزال يغلب عليه النمط المعرفي ذاته، فثمة من يدعو إلى تكريس اجتهادات الشهيد السيد الصدر كما لو أنها نهاية المطاف في المعرفة. وبدل أن ينطلقوا منها إلى مزيد من التفكير والنظر، ويستلهموا نهجه في الموضوعية والاجتهاد، تراهم يستكفون بما قدمه هذا الأخير، وتلك آفة أخرى من آفات الفكر الإسلامي المعاصر.
أجل، لا أحاول هنا التأريخ للفكر الإسلامي المعاصر، وإن كان هذا التأريخ لم يكتب بعد، بل أريد أن أتوقف عند أهم تلك الأفكار التي أنتجها عصر التنميط والتجهيل الذي تم باسم تأصيل الفكر الإسلامي، كي يصنع جيلًا من رواد الأحكام المعيارية وصناع الأوهام، ما أفقد الفكر الإسلامي المعاصر مصداقيته، وربما بات يتهدد قيمته وجدواه. إن المحاولات التي جاءت بعد ذلك تترى، لم تكن هي الأخرى سوى تنويعًا جديدًا يحمل آثار الأزمة. وقد باتت أهم المفاهيم التلفيقية التي روج لها عدد هائل من هؤلاء التجديديين مجرد محاولة للالتفاف على الأسئلة الكبرى، ومظهر من مظاهر عجز الفكر الإسلامي المعاصر عن الدخول في دورة الاستشكال. إن الدعوة إلى إحياء مشاريع أفكار ليست بعيدة عنا، ولا تحمل من أهمية سوى أنها تفاعلت مع راهنها بإيجابية لافتة، ظلت واحدة من الدعوات الخطيرة التي تلتف على سؤال التقدم. ليس مثالنا فقط على ذلك هو الدعوة إلى إحياء مشروع الشهيد السيد الصدر التي وجد فيها الكثيرون نهاية عصر التفكير، بل سأضرب مثالًا عن ذلك من تلك الدعوات التي تسعى لإعادة إحياء فكر مالك بن نبي، بوصفه قدّم كل الحلول للأمة وليس أنه قدم تفكيرًا مميزًا في راهنه. فتصبح دعوة الإحياء من هذا القبيل، دعوة غير بريئة يختفي وراءها دعاة تجميد الفكر وشخصنته. وقد وجد بعض من دعاة التجديد الذين أساءوا لهذا المطلب التاريخي وبالغوا في تمييعه، حيث مقاصدهم ليست تجديدية إلا بالقدر الذي سعوا من خلاله إلى ترميم تلك المواقف الخاطئة، أجل، لقد وجد بعضهم في نصوص بعض المفكرين أمثال مالك بن نبي نهاية ما يتطلبه راهن الأمة. وقد أكد هذا النوع من الخطاب الاسترجاعي، على مدى اهتمامه بالتراكم المطلوب وما يقتضيه فعل التجديد من تنوع في الطرحات وتقدم في مستوى الاستشكال.
الدعوة المغشوشة إلى إحياء فكر مالك بن نبي
ليس ما ألفه مالك بن نبي هو ما يمثل دعوة مغشوشة. فلقد كانت واحدة من ألمع الأطاريح وأكثرها عمقًا في زمانها. إنما المقصود من المغشوشية هنا ذلك الطرح الخادع أحيانًا في تظهير حماسات من هذا القبيل، تخفي أزمة عقل إسلامي وانسدادات فكر لم يتخذ قراره بعد بإعلان القطيعة مع فكر المعايرة والمفاضلة على أسس تناظرية بسيطة، وخالية من البعد النقدي والتحليلي في إيقاعه العلمي العميق. لا شك في أن مالك بن نبي يظل أحد أبرز الكتاب الذين أفرزتهم مرحلة الاستعمار الجزائري، واضطرابات مرحلة التحرر الوطني العربية والإسلامية. وقد كان مالك بن نبي منطقيًّا مع نفسه، أكثر من أولئك الذين حاولوا إعادة إنتاجه بصورة أكثر تمامية وأكثر تبسيطًا، كي يجعلوا منه صاحب مشروع فكري يضاهي غيره من المشاريع التي طرحت بعد ذلك. بل ثمة اليوم من لا يزال يدور في الدائرة المفرغة نفسها معبرًا عن هذا الوفاء المغشوش الذي بات أقرب إلى الخرافي، لفكر مالك بن نبي، ليؤكد بذلك، على أن أمة لا زالت تدعو إلى العودة إلى فكر مالك بن نبي، تشهد على انسداد آفاق البحث والنظر في الإمكان، وأيضًا تعبر عن أنها ما زالت عاجزة عن استعياب فلسفة النقلة والقطيعة المعرفية. وهو على كل حال، إساءة للمرحوم مالك بن نبي، حيث لم يكن هو نفسه أكثر تقديسًا لأفكاره من دعاة إعادة وإحياء تراثه وفكره اليوم، وذلك لسبب بسيط، كونه يعبر عن ثقافة عصره وعن مستوى الخطاب الحداثي الذي عاصره. وتبدو المفارقة مرة أخرى، هي سيدة الموقف، حيث الذين انخرطوا في اتهام الغرب وعززوا فكرة جاهليته، تراهم أكثر احتفالًا بفكر مالك بن نبي، علمًا أنهم بذلك يؤكدون على أنهم يحتفلون بأكثر أفكاره حيوية وعلمية، حيث هي في نهاية المطاف خلاصة ما ترجمه مالك بن نبي عن الفكر الحديث الذي كان يتعاطى معه بشكل أكثر تجردًا من نظرائه. وتظل تأملاته في المسألة الثقافية ومفهوم التشييء وما إليها من أفكار، هي تمثل وتفاعل مع ما كان مطروحًا يومها في المجال الذي كان يحتك به ويؤلف أعماله بلغته؛ أي المجال الغربي. قد رأى بعضهم أن لا مبرر لذلك الجيل من النقاد أمثال العروي أو أركون أو الجابري وغيرهم، بأن لا يحيلوا على مالك بن نبي ولا يهتموا بأفكاره، ماداموا ـ في نظر المدعي ـ لم يأتوا بما يتجاوزها. ويبدو أن مثل هذا الادعاء، غارق هو الآخر في التبسيط، بما أن هؤلاء النفر من النقاد الجدد، يمثلون مرحلة متقدمة في النقد وإحاطة أشمل لمدارسه. فما لم يفقهه ممثلو هذا الهجاس الحاكي عن عجز في استيعاب تاريخ الفكر الحديث، هو أن هؤلاء النقاد الجدد مهما كان الاختلاف مع مشاريعهم الأيديولوجية هم أكثر استيعابًا واطلاعًا على الفكر الغربي ومناهجه من مالك بن نبي ومن عاصره. وبذلك هم يدركون أن ما يعتبره مقلدو مالك بن نبي دعوة مشروعة، هي بالأحرى دعوة غير جادة وغير مجدية، لأن مالك بن نبي لم يأت بجديد بقدر ما كان متصلًا بالتيار الثقافي لعصره أكثر ممن جاء بعده وتأثر بخيار الرفض والتجهيل المطلق للفكر الحديث وإنجازاته. ومن هنا، نفهم أن الغلو في هذا الاحتفال المغشوش وهذه الثرثرة والضجيج باسم مالك بن نبي أو غيره، ومحاولة إيقاف زمان التفكير عند هذا الفكر أو ذاك، لا يصدر إلا عن فئة من الدعاة الجاهلين بالفكر الحديث ومدارسه، لا بل والجاهلين حتى بذلك الخيط الرفيع الذي يربط بين فكر مالك بن نبي وبين المفاهيم الرائجة في عصره. فحق أن نقول: إن الدعوة الحقيقية ــ غير المغشوشة ــ إلى فكر مالك بن نبي، هي أن تتصالح مع عصرك، مثلما فعل المرحوم مالك بن نبي، وذلك هو أكبر درس يجب الإنصات له. فلعل هذه الدعوة ونظريتها، هي شاهد حي على استمرارية أزمة الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، حيث بات صنعة سهلة ومستباحة، طالما هي لا تتطلب سوى قدرًا من التكرار والإنشاء والترديد والتقليد في غياب الرقيب العلمي لتقييم ما هو حجم القيمة المضافة إلى ما كان قد أنتجه إصلاحيو المنتصف الأول للقرن العشرين، الموسوم بعصر النهضة العربية.
الفكر الإسلامي المعاصر وسؤال الحداثة
إزاء سؤال الحداثة لم يبدل المشتغلون على الفكر الإسلامي المعاصر الذي شكل على مدار العقود الأخيرة من القرن المنصرم، أيديولوجيا الحركة الإسلامية؛ الجهد الحقيقي الذي كان متعينًا بدله كي لا تصبح الدعوة إلى “الإسلام هو البديل الحضاري” مجرد شعار. وقد انخرط هؤلاء في النقد الحداثي دون أن يدركوا متى ينبغي القيام بذلك ومتى لا يجوز ذلك. فالموقف التمامي المستشري من إنجازات الإنسان الحديث، أفقد هذا الفكر الوقوف عند الإنجازات الكبرى التي أنجزت عبر مسيرة من تقدم الإنسان الحديث، لا أقول على المستوى التقني فقط، بل الأهم من ذلك أيضًا، الجانب المتصل بالعلوم الإنسانية.
إن الحداثة هي اللحظة الحاسمة في الانقلاب على فكر العصور الوسطى. وحينما نقول ذلك، وجب تحديد جغرافيا هذا الانقلاب. فأوروبا القرون الوسطى لم تكن تشارك عموم العالم من حولها، لا سيما العوالم المتحضرة، النظرة المتاحة يومها. لكنها لم تكن أيضًا كما صورتها الكتابات التنميطية والاختزالية التوريطية كما لو أنها عوالم متوحشة. لقد استبعدت الكثير من المحطات في التجربة الأوروبية التي كان من المفترض أن نتأملها بصورة أعمق ونستوعبها علميًّا لا أن نتعاطى قراءتها عاطفيًّا وانفعاليًّا. وكاد البعض أن يصور أوروبا قبل النهضة كمجال لآكلي لحوم البشر. نعم، لقد كانت أوروبا غير متجانسة. إلا أن بعض المواقع منها شهدت مدنيات راقية بمقاييس زمانها. لا، بل إن بعضًا من مدنيتها كان يفوق مدنيات عوالم الجنوب. ومثل هذا الكلام ليس مصدره مؤرخون غربيون، بل كلام مؤرخ عربي ومسلم كبير، مثل ابن خلدون الذي تحدث عن هذه الأقاليم الشمالية مثل جزيرة أنجلترا، قبل بزوغ فجر النهضة الأوروبية.
لقد بدا موقف بعض المشتغلين على قضايا الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، مترددًا إزاء الحداثة؛ هل يقبلونها بوصفها ثورة على الإكليروس وبوصفها امتدادًا لآثار الرشدية اللاتينية، أم يرفضونها لأنها باختصار شديد، “جاهلية القرن العشرين”؟
إن مشكلة أصحاب الفكر الإسلامي المعاصر، كونهم تبنّوا جميع ذرائع الكنيسة، حتى صارت وجهة نظرهم من الحداثة وثوراتها أكثر قربًا من نظرة الكنيسة نفسها. إن محاولة قلب الطاولة على هذا النمط من التفكير، لا يعني أن لا وجود “للمؤامرة” أو لا جدوى من نقد الحداثة؛ فلو كان هذا هو نهاية المعنى، فهو يعني أننا لم نخرج بعد من هذا النمط الفكري، وبأن المسألة ما هي في نهاية المطاف سوى انتقال من أسود إلى أبيض. والحال، أن للمؤامرة هامشًا في الاعتبار كما للنقد الحداثي أيضًا. أجل، لا أحد يقول بأن الحداثة ملائكية أو أنها جنة عدن. بل إن الفكر الإسلامي نفسه يؤكد على أن الدنيا لا يمكنها إلا أن تكون دار بلاء. ومهما تحقق فوقها من مظاهر الوفرة والخيرات، تظل هناك مشكلات وأزمات وأضرار محايثة، إنها وبتعبير ماكس فيبر، نزع الابتهاج من العالم. قضية الحداثة اليوم ليست قضية متاحة للاختيار، إن شئت أخذت بها وإن شئت تركتها. بل هي مسألة أن تكون أو لا تكون. بمعنى آخر، هي مفتاح دخولنا الكون الحديث والنجاة من الانقراض أو العزلة التوحش. إن الحداثة دائمًا كانت كذلك، فاوستية تناقضية، لكنها أيضًا قوة للاجتماع. وقد أتاحت الحداثة من إمكانيات الاجتماع المدعومة من الثورات الاجتماعية ما أرسى أفضل المساطر والمعايير لاحترام حقوق الإنسان وتحقيق دولة القانون والحريات والحد الأدنى من الاستقرار السياسي. إن التبني الإسلامي للحداثة في إطار مفهوم التكييفانية الخلاقة من شأنه إضفاء طابع مختلف عن الحداثة؛ حداثة متحررة قدر الوسع من تناقضاتها وانتهاكاتها الجانبية. حداثة تمثّل التجسيد الأمثل لمطالب الإسلام نفسه في العدالة الاجتماعية والحرية والكرامة والتنظيم الاجتماعي و…
المقالات المرتبطة
مباني فهم النص عند الشهيد الصدر: الحلقة 8
تعرّض الشيخ حسنين الجمّال في هذه المقالة القصيرة لبيان قبليتين مضرتين في عملية فهم النص، وهما: اتخاذ موقف مسبَق من النص، والأنس بمطلب علمي.
الحسين كتاب الله التكوينيّ
جرَت عادة الصحف منذ سنوات أن تفرد عددًا خاصًّا في الحسين سلام الله عليه، عند رأس السنة، مستهلّ محرّم من كلّ عام. فيستنهضون أقلام الكتّاب
الأسباط أنبياء … وليسوا أبناء يعقوب ولا إخوة يوسف
قديمًا عندما قرأنا حديثًا للنبي محمد (ص)، نراه صحيحًا لأنه متواتر، ولا يخالف النصوص القرآنية