المناجاة الشعبانيّة دلال الحبّ مع الله
المناجاة – بعيدًا عن تفاسير أهل اللغة – هي حديث السرّ؛ السرُّ الذي لا يتقن حروفه سوى معشوقَين أرادا أن يختليا ببعضهما بعيدًا عن عيون الآخرين. وحديث العشق ذلك لا يحلو إلّا حين تنقطع أحاسيس العاشق عن غير معشوقه. لا يرى في الكون إلّاه، على الرغم من كلّ ضجيجٍ حوله، يتناغيان بكل لغات القلوب والعيون والحروف.
المعشوق هو الله، اللامتناهي المطلق الذي وسعت رحمته كل شيء، والعاشق هو أمير المؤمنين علي (ع) الذي حين يسجد ينقطع عن كلّ ما سوى الله. والعاشق والمعشوق يتبادلان رحلة العشق، فلا تدري من هو العاشق ومن هو المعشوق. ونصّ المناجاة الشعبانيّة يستحبّ أن يُقرأ في شهر شعبان، ثاني أشهر النور الذي تفيض فيه الرحمة على عباد الله من كل حدب وصوب.
فالمعشوق استثنائيّ، والعاشق كذلك، والزمن فريدٌ والحروف منسوجة من نور فيه علي (ع). وفي بعض هذه السطور، نحاول أن نستعرض بعض مضامين هذه المناجاة التي رواها ابن خالويه عن علي بن أبي طالب (ع).
يبدأ الإمام علي (ع) نصّه بالصلاة على محمّد وآل محمّد ويختم بها، وهي الصلاة التي لا يردّ ما بينها، لأنّها عزيزة على الله. ثمّ يكمل حديثه بالواو “واسمع دعائي”، والواو هنا ليس واو الاستفتاح على ما هو مشهور في تفسيرات أهل اللغة، بل هي واو العطف، لأنّ الحديث مع الله لم ينقطع يومًا. هو حديث متواصل بين الحبيب وحبيبه، حديث النجوى.
إلهي أنت تعرفُ ما سأقوله وما أتفوّه به وما أفكّر به حتّى، ولكنّي أَسعدُ حين أعيد ما في نفسي عليك، يؤنسني حديثك والمكوث بين يديك؛ “وتعلم ما في نفسي، وتخبر حاجتي، وتعرف ضميري، ولا يخفى عليك أمر منقلبي ومثواي”.
في المقطع الأوّل من الدعاء، يتودّد الداعي بالاستكانة والتضرّع والرجاء بأن لو رأيتَ مني يا إلهي ما يبعدني عنك فهي مقاديرك التي جرَت عليّ، وأنت “بيدك لا بيد غيرك زيادتي ونقصي ونفعي وضرّي ومسكنتي”، فلا تتركني واسمعني، والعبد يدرك تمامًا أنّ الله تعالى يسمع، ويرى مقالته، ولكن يكرّر لكي يشعر أنّه يقترب أكثر من مصدر نوره وعلّته، فيشعرَ بالأمان بين يديه.
ثمّ يردف الأمير (ع) حديثه مع الله بالشرط المحبّب، والذي يحمل في طيّاته أنواع الغنج والدلال مع الله، “إن حرمتني فمن ذا الذي يرزقني”؟. لا يوجد غيرك علّة لوجودي، وسببًا لما أنا عليه. يا رب لو خذلتني أنت فلا أحد يمكن أن ينصرني، فلا تتخلَّ عني. لا يمكن لروحي أن تبعد عنك، وحدك محبوبي ومعشوقي. ولمزيد من هذا الدلال، يستخدم الداعي أسلوب التودّد، فيقول: “إن كنتُ غير مستأهل لرحمتك فأنت أهلٌ أن تجود عليّ بفضل سعتك”. أعلم أنّ كلّ شيء بيدك، وأعرف أنّي مقصّر، وأنّي لا أستأهل أن أدخل ساحة لطفك، ولكنّ جودك هو الذي يدخلني إلى كهفك الآمن، فألوذَ به في كلّ حين.
ثمّ يرى نفسه حقيقة، وقد دخل إلى الحرم الآمن “كأنّي بنفسي واقفة بين يديك وقد أظلّها حسن توكّلي عليك”. أنا الآن يا إلهي قد تجرّدت من كل شيء سواك، لم يبقَ سوى قلبي نابضًا بحبّك، تغمّدني بعفوك. وهنا، يبدأ بالاعترافات التي تزيل كلّ حجب النفس والهوى؛ “قد جرتُ على نفسي في النظر لها”، فيؤنّب هذه النفس الأمّارة بالسوء، والتي غفلت عن بارئها في لحظة ذنب، ويجعل الإقرار بالذنب وسيلة إلى التقرّب وطلب المغفرة.
إلهي إن كان بِرّك لم ينقطع عنّي على الرغم من إساءتي وذنبي في دنياي، فكيف ينقطع هذا الإحسان عنّي في مماتي. و”كيف آيس من حسن نظرك لي بعد مماتي وأنت لم تولّني إلّا الجميل في حياتي؟”، وهذا السؤال قمّة في أسلوب الغنج مع الله، فالسالك العاشق يعرف حقّ المعرفة أنّ المعشوق لديه كمٌّ هائلٌ من الحنان والرأفة التي لا يمكن معها أن يقسو على عبده وإن عصاه. فهو تعالى الذي ستر على عبده في الدنيا ولم يرد فضيحته، فكيف به في دار الآخرة، فإنّ الحاجة إلى الستر وعدم الفضيحة أولى. وأنا يا ربِّ أعتذر عمّا بدر مني، فليكن قبولك اعتذاري سببًا للعودة إليك عزيزًا.
“إلهي لو أردتَ هواني لم تهدني” لو لم تردني يا إلهي عند بابك لتركتني أعمى طريدًا أتقلّب بين ذنب وذنب، تبعدني أهوائي، لكنّك أحببتني ورددتني إلى ساحة رحمتك فهديت قلبي إلى حبّك وعملي إلى رضاك. ولستُ أعتقد أنّك يمكن أن ترفض لي طلبًا تعبتُ في طلبه منك، وأفنيتُ عمري في اللجاج فيه، وأنت الحنّان المنّان. فلك الحمد كما تحبّ وترضى.
وينتقل بعدها أمير المؤمنين (ع) إلى قمّة الدلال وإحساس القرب من الله، بأنّ أيّ شيء لا يمكن لي – أنا العاشق – أن يزيحني عن حبك “إن أخذتني بجرمي أخذتك بعفوك، وإن أخذتني بذنوبي أخذتك بمغفرتك”. ويتجلّى القرب والحبّ والدلال في “لو أدخلتني النار أعلمتُ أهلها أنّي أحبّك”. لأخبرنّ، يا إلهي، أهل النار عن حبّي وعشقي لك، لأسردنّ لهم ليالي السمر معك، لأحدّثنّهم عن جمالك ورونقك ولذّة قربك وعشقك، فافعل بي ما تشاء، لن أنقلب عن التودّد لك حتّى ترأف بحالي.
فـ”كيف أنقلب من عندك بالخيبة محرومًا”؛ حاشا أن تردّني عن بابك، وقد طرقتُ عليه بضعفي ورجوتُ قوّتك، وبفقري وقد رجوتُ غناك. إلهي أنا الغافل الذي أفنيتُ شبابي في سكرة التباعد منك. وها أنا أقف بين يديك، وقد سلّمتُك نفسي وحالي وروحي طوع أمرك. كلّ ما أنا فيه من فيض جودك وكرمك، حتّى المعصية التي ارتكبتُها اقترفتُها بما أعطيتني إيّاه من جوارحَ وجوانح. أكرمتني بها فاستعملتُها بالذنب، ومع كلّ ما أنا فيه أدخلتني في باب كرمك، وطهّرتَ قلبي، ورددتني إليك، وأيقظتني من الغفلة.
“يا قريبًا لا يبعد عن المغترّ به، ويا جوادًا لا يبخل عمّن رجا ثوابه”، لقد بات النداء مباشرًا، تبعدني المسافة التي تنبغي بين المطلق والمحدود، بين العلّة والمعلول، بين المفيض والمتلقّي، إلّا أنّي منك وجودي، والرابطة التي تربطني بك لا يمكن لها الانفكاك، لأنّ بُعدَها يعني عدمها، وعدم التفاتها إلى مصدرها يعني أنّها فقدت أصل نورها ومصدره، فباتت باهتة لا لون لها إلّا أن تعود إليك.
“إلهي هب لي قلبًا يدنيه منك شوقه، ولسانًا يُرفع إليك صدقه، ونظرًا يقرّبه منك حقّه”. إلهي اجعل الدافع للقائك هو شوقي إليك لا رغبة في شيء زائل. اجعلني أذوب بك حبًّا فلا يكن في قلبي إلّاك، فأنا من دونك لا شيء يذكر، بك يحيا قلبي وتزهر روحي. وإنّ من كان معك لم يكن مخفيًا، ومن تعرّف بك لم يكن مجهولًا، ومن لاذ بك لم يكن ضعيفًا.
“إلهي أنا عبدك الضعيف المذنب ومملوكك المنيب” أنا الخائف من دونك، والضعيف من دون نصرتك، لا تصرف عني وجهك أرجوك، ولا تجعل شيئًا يحجبني عن عفوك، فكلّ ما أنا فيه من فيضك وعطائك، فلا تجعلني ممّن يستعمل عطاءك بغضبك.
إلهي سأعود إليك وكلّني ثقة بذلك، لن آيس من حسن نظرك لي، ولن ينقطع رجائي منك حتّى وإن لفّتني آثامي وسوّد لي الشيطان طريق خلاصي، سيكون حبّك هو النور الذي ينير لي دربي، فأعودَ إليك “إلهي فلك أسأل وإليك أبتهل وأرغب”، فاجعلني “ممّن يديم ذكرك ولا يغفل عن شكرك ولا يستخفّ بأمرك”.
إلهي أنا الذي أشعر بالخوف حين أبتعدُ عنك، وأشعر بالوحشة حين أغفلُ عن ذكرك. أنا العاصي الذي أرتمي بين أحضانك أرجو عفوك، وأعلمُ أنّ كهف أمانك لم يغلق الباب في وجهي يومًا، ولكنّ التقصير يبدر منّي حين لا أطرق على بابك بالطلب.
ما أجمل الدلال حين يكون من الله ومعه! وما أعظم المعشوق حين يكونُ علّةَ وجودك وسبب إخراجك من العدم، ثمّ يكون لطفه هو الذي ينجيك من عقابه، وفيضه هو الذي يرفعك بحبّه حين تعييك المذاهب! “إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرقَ أبصار القلوب حجب النور فتصلَ إلى معدن العظمة، وتصيرَ أرواحنا معلّقة بعزّ قدسك”.
المقالات المرتبطة
لعنة الجعرافيا
تدور رحى الصراعات حول قطب الجغرافيا، وما لها من أبعاد هامة خاصة اقتصادية في توجيه السياسات وتصنيف المحاور والتوجهات السياسية
السيدة الزهراء الشّاهدة والشّهيدة
الزهراء (ع) هي الشاهدة، لذلك نلجأ إليها كشفيعة، تأخذنا من أزماتنا، من دركِنا، ومن مستوانا المنحدر لترفعنا إلى حيث هي ترضى به عنا.
نحو تفسير علمي للنص الأدبي
خلال المناخ العلموي الذي ساد الثقافة الأوربية في القرن التاسع عشر أصبح التفكير في الظواهر الإنسانية محكومًا بمنطق منهجي