التبني الحضاري والتجديد الجذري نحو مشروع رؤية جديدة للفكر الإسلامي المعاصر (2)
ما البديل؟
إلى هنا نستطيع تبيان الأسباب التي تهجس باستمرار إلى ما نسميه بالتبني الحضاري والتجديد الجذري، البديل الوحيد عن أطروحة التجديد التوفيقي والتلفيقي التي سادت العقود الأخيرة ولا زالت هي السمة الرئيسة للنمط المعرفي السائد حتى اليوم. وسوف أعمل على إبراز أهم معالم هذه الأطروحة كي تكون هي المعيار الذي يسهل على القارئ فهم خلفيات وأبعاد كل المقاربات التي يضمها هذا الكتاب وكل أعمالنا التي ستليه.
أولًا، لنبدأ من السؤال أعلاه، فنقول: إلى متى سوف نظل متمسكين بصيغة هذا السؤال، دون أن ينطلق التجديد في صميم السؤال نفسه. إن أطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري، تسعى إلى إعادة النظر في أصل السؤال، وجعل التجديد يبدأ من السؤال وينتهي إلى مشاريع الحلول؛ ففي البدء كان السؤال؛ فهل أسئلتنا تظل خارجة موضوعيًّا عن ضرورات التجديد؟ إذا كان لا بدّ من إجراء تغييرات في مسارات النظر إلى مشكلاتنا، فإنه لا بدّ من تمثل القاعدة التالية: فلكي نستأنف النظر في حل مشكلاتنا، علينا بادئ ذي بدء، فتح النقاش الحر حولها. ولا شك أن ما يبدو الآن، هو حصيلة آراء محددة وتمثل الفكر الوحيد والنمط المعرفي الوحيد. وحتى الآن وبعد مرور عقود من الزمان، لا وجود البتة للنقاش الحر حول أهم مشكلات الفكر الإسلامي المعاصر. بل يمكننا الحديث هنا عن ضرب من التواهم ــ على وزن تفاعل، وهو أن نقبل أوهام بعضنا البعض: أي، أن تتسامح في قبول أوهامي لكي أتسامح في قبول أوهامك ــ إن القاعدة المذكورة تحيلنا على قاعدة أخرى، متفرعة عنها: فلكي نصل إلى مستوى النقاش الحر حول مشكلاتنا، علينا بادئ ذي بدء أن نكون في تمام الاستيعاب لحجم الأزمة. ولا غرو أن هناك غيابًا كارثيًّا لما يعكس درجة الاستيعاب الحقيقي لحجم الأزمة. وحال الأمة من السبات والاستسلام، وحال نخبها وطلائعها من انعدام الجدية والنزاهة، ما يجعلنا في الدرك الأسفل من وعينا بالأزمة، فما بالك باقتدارنا على اصطناع حلولها.
ولا يحتاج الناظر إلى كثير شواهد للوقوف على مفارقات مشهد أمة تطرب لأزماتها، وتحسن الفرجة فيما يجري في أطرافها وأعماقها. حيث إن أطروحة التبني الحضاري والتجديد تحمّل الأمة مسؤولية هذا السبات بالقدر ذاته الذي تحمله نخبها. فالنخب لا تفسد أمة مسلّحة باليقظة والفضيلة. والقابلية للانحطاط هي الطرف الآخر في جدلية التأخر الحضاري. ومن يطلع على وسائل الإعلام العربية يدرك إلى أي حد بتنا في درك الإحساس بحجم أزمتنا. حقًّا، إن العربي لهو ملك الطرب، حتى في أحلك الظروف. وهناك مثل إيراني صادق على حال العربي؛ حيث لو وجد عربيان فقط، فلا بد أن يطبل أحدهما ويرقص الثاني. هذا الإغراق في اللامعنى، وهذا السيل الجارف من التسويق الرديء لثقافتنا، وهذا التظهير المفارق لأحوالنا وآمالنا، لهو أبرز دليل على أن حال الأمة لا يزال دون الحد المطلوب للاستيعاب. أما النخب، فحدّث ولا حرج. فلقد بات طبيعيًّا أن تتحول قضايا الأمة وأقطارها إلى موضوع تجارة في مزاد علني وإلى بازار مشرع الأبواب. حتى أنك قد تجد الوصولية والازدواجية قد بلغت مبلغها، إلى حد القدرة الفائقة على إعلان الزواج الكنسي بين الأطروحة ونقيضها. ويا لهول الموقف يوم ترى نمو هذه الظاهرة في قلب مواجعنا، تساير هذا الموكب الجنائزي وتضحك على ذقون ضحايا هذه التراجيديا التي لم تستطع أن تحرك ضمير هذه النخب.
ولسائل أن يسأل ماذا نقصد بهذا الكلام؟
نعم، إن ما يبدو اليوم سبات الأمة وخيانة نخبها، لأمر يعيق تحقق القاعدة المذكورة، فكيف نكون في حجم المأساة، ونكبر بحجم المحنة؟
إن التراجيديا هي لحظة حاسمة في حياة الأمم. وحجم الضربات التي تقع عليها يوشك أن يوقظها. ولا شك أن ما يحصل اليوم، هو نوع من الضغط الذي يتعين على الأمة استغلاله لصالح مستقبلها. ففي ظل ما يجري اليوم، هناك أكثر من هامش للعمل. هناك فرصة للأمة لكي تعيد إصلاح نفسها ومراجعة أوضاعها. فلا يهم أن يكون الضغط الخارجي سلبيًّا أو إيجابيًّا، ما دام المطلوب هو أن تتحرك الأمة وتناور داخل هذا المناخ كي تمسك بخيوط الأزمة. إن الأمة استكانت لذلك المناخ السياسي القاتل الذي جعل كل شيء يتوقف برسم السياسات الأمنية. وقد أدرك الجميع، أن هذا الاختيار حتى وإن كان أحيانًا ينطلق من تشخيص مبني على حسن النوايا، إلا أنه بات يشكل تحدّيًا محدقًا بالعالم العربي. فبعض الدول لم تسقطها إسرائيل، بقدر ما أسقطتها فظاعات سياساتها الداخلية المتعسفة والتي تحولت إلى مسوغات للتدخل الخارجي. وكان مثل هذا يقتضي إحداث إصلاحات فورية لتقوية الجبهة الداخلية وإدارة الصراع بأسلوب آخر مختلف. إذا استوعبت الأمة حجم الأزمة، يمكنها إذ ذاك أن تكون في حجم مأساتها، وبالتالي أن تتحرك في مستوى فتح النقاش الحر حول قضاياها في جو من التعبير عن الاختلاف برباطة جأش وتسامح كبيرين. إذا أدركنا ذلك، عرفنا أن الحديث عن بدائل مستعجلة، هو جزء من مشكلات الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر. أي، ذلك النمط الفكري الذي لا يزال يعمل على استعجال تصيد الحلول تحت نوعين من الأسئلة، يختزلان أزمة انسداد وتوقف الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر. السؤال التقليدي الأول: “لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟”، والسؤال الثاني تبسيط ميكانيكي: “أين الخلل؟”. وحتمًا، ندرك أن كل الحلول التي قامت على أساس السؤالين المذكورين، لم تقدم حلولًا حقيقية حتى اليوم. في هذا الكتاب، لا نزعم أننا بصدد هذا البديل، بقدر ما نمهد لذلك بتفعيل الأسئلة الممكنة والأكثر جذرية للنمط المعرفي السائد. إننا لا زلنا في طور تجذير المساءلة وزحزحة كبرى البداهات المغشوشة والمتسلطة على الفكر الإسلامي المعاصر، من أجل فتح هذه البنية النائمة المتكلسة على فضاء الأسئلة الممكنة. ولهذا السبب تحديدًا، جاءت كل موضوعات هذا الكتاب في صورة أسئلة لا في صورة حلول.
إذا كان كل كاتب يتوقع قارئه، فنحن نتوقع قارئًا مختلفًا، يقرأ النصوص قراءة نقدية تثير لديه السؤال تلو السؤال. إنني أتوقع قارئًا يراكم السؤال، وينمو معه. قارئًا لا يقرأ هذه النصوص إلا كشكل من أشكال التجريب وبوصفها مغامرة، وتعبيرًا عن قلق معرفي مشروع وضروري لتقدم الفكر وديناميته. لأننا إذا لم نغير من النمط المعرفي الذي يجعل القارئ خارجًا عن مسؤولية المقروء، أو حينما نجعل من الكاتب منتجًا للحقيقة، فلن نفهم جوهر هذا الكتاب.
على هذا الأساس تنهض أطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري، فهي تسعى إلى تغيير صورة السؤال وكذا إحداث تعديل في نمطية التعاطي بين القارئ والمقروء.
وبينما لا زال قسم من المحللين على تشبث بالسؤال الأرسلاني بوصفه سؤالًا يحيل على السؤال الآخر المتفرغ عنه: أين الخلل، ومن ثمة محاولة البحث في أسباب الانحطاط واحدة واحدة وفق منظور سببي ميكانيكي، فإن ما نسعى إليه في ضوء هذه الأطروحة، هو إعادة صياغة السؤال كالتالي: نحن اليوم مختلفون، فكيف إذن نتقدم؟
قد يبدو للبعض، أن لا جديد هنا على السؤال الأرسلاني، فما قيمة السؤال الأخير؟ غير أن أدنى تأمل يجعلنا ندرك بأن المسافة بين السؤالين هي ذاتها المسافة التي تفصل بين نموذجين معرفيين؛ النموذج المعرفي الميكانيكي، والنموذج المعرفي الجدلي والديناميكي. إن المشكلة التي يعاني منها العالم العربي والإسلامي، هي ككل المشكلات، ليست محصورة في الموقع الذي انطلق منه مسلسل الخلل. نعم، إن الخلل يتطرق إلى الجسد من إحدى مداخله. لكنه ما أن يدخل حتى يصبح مشكلة بنيوية مركبة. تبدأ المشكلة على وفق قانون علّي، لكنها تنتهي بمركب بنيوي. وحينئذ، يصبح عبثًا السؤال: أين الخلل أو ما هي أسباب الانحطاط. لأن حبل الرجوع إلى الأسباب انقطع، وأن المداخل والأسباب والعلل، ما هي إلا واجهات مرحلية ومنافذ نسقية لتسرب الخلل، بل إن المسألة هي أعقد من أن تكون عطبًا في ثغر تسلل منه الخلل. فالسؤال المطروح والمتفرع عن سؤالنا الأول: لماذا يكون المدخل الكذائي هو أضعف مداخل الخلل؟
تعتقد أطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري، أن البنية المأزومة تفرز بنفسها مداخل ومخارج الأزمة. إن مداخل الأزمة هي بالأحرى، مداخل مرشحة من قبل البنية كاملة وليست مداخل عفوية أو مستقلة عن البنية. فالأزمات بنيوية وحلولها لا بد أن تكون بنيوية. وعليه فالحلول المنشودة هي الأخرى ثمرة لدينامية البنية وإمكان من إمكاناتها. فلسنا نحن من يملك تحديد مخارج الأزمة طالما لم نملك قبل ذلك تحديد مداخل الأزمة. إن تفعيل السؤال والدفع بالبنية لاكتساب ديناميتها وفتحها على الممكن، هو من يحدد للبنية مخارج الأزمة؛ وهذا ما نسميه باللحظة التاريخية للفعل الديناميكي للبنى. فاشتغالنا بناء على الأطروحة المذكورة، لا ينحصر في البحث عن الحلول المعينة أو تصنيف المخارج المتخيلة والمصممة سلفًا؛ بل اشتغالنا على تفعيل الأسئلة والنقاش الحر وتهيئ البنية للانفتاح على فضاء الممكن، واكتساب البنية لديناميتها؛ إنها دعوة لتحريك البنية باتجاه لحظتها التاريخية. فالذين تساءلوا بعد أرسلان بعقود من الزمان: “أين الخلل؟”، كانوا ينطلقون من الرؤية الستاتيكية الميكانيكية نفسها؛ أي افتراض بقاء الخلل منحصرًا في مدخله، وبالعودة إلى هناك ومحاولة ترميمه يتوقف الخلل عن إصابة باقي الأجزاء. مثل هذه النظرة التسطيحية للأزمة وللظاهرة الاجتماعية ـ إذ الأزمة جدلية بنيوية لا تنحل إلا بحلول جدلية وبنيوية ـ التي تستبعد الطابع البنيوي والديناميكي لمشكلاتنا، ترى أن طرو الخلل من موقع ما من كياننا الحضاري، معناه، أن موقعًا ما يشكل ثغرًا فاسدًا ويحتاج إلى إصلاح. إن المشكلة الحضارية، وإن بدأت من موقع معين، فهي في الحقيقة تنطلق من المركز. وقد تصمد أطرافها التي تستجدي قواها من آثار الاستقواء القديم، لكن الخلل يتصيد المواقع الأنسب، حتى لا نقول الأضعف، كي يتسلل منها، ويجد البنية في لحظة انحطاطها التاريخي، مستعدة لفرز أو ترشيح الثغر الأنسب والعامل الأكثر لياقة على تسرب الخلل. ولا يمكننا القول، بأن مدخل الخلل هو دائمًا المدخل الفاسد أو الضعيف، بل قد يكون المدخل الأكثر انسجامًا مع مركز البنية. ما يجعله الجزء الأكثر دينامية في البنية. وكما أن للبنية لحظة انحطاط تاريخي تنفرز من خلاله مداخل الأزمة، فكذلك للبنية لحظة انطلاق تاريخي تنفرز من خلاله مخارج الأزمة. إن مشكلتنا بهذا المعنى؛ بنيوية بامتياز. ولا يمكن تصور أزمة إلا على هذا الأساس. وهنا تبدو المسافة بين السؤالين واضحة، إذ لم يعد من المفيد في شيء أن يتجه السؤال إلى أسباب تخلفنا أو أسباب تقدم الآخر، بما أننا حتى لو حاولنا تمثل طريقة الآخر في التقدم لما أفلحنا، إن استحضار أسباب تقدم الآخر بصورة ميكانيكية، تتطلب استحضار لحظة تاريخية بكل مقوماتها وعلائقها. والحال أن لكل عصر معطياته ومشاكله ودينامياته وحلوله الممكنة. ولعل إصرارنا على إعادة صياغة السؤال الأرسلاني، هو مدخل وعنوان للنمط المعرفي الذي نقيم عليه وعينا بالأشياء.
إذا كان المنظر الغربي نفسه بات عاجزًا عن الإمساك بزمام الأسباب التامة للنهضة، اللهم إلا نزوعًا أيديولوجيًّا، فكيف بنا نحن من يوجد على الهامش على طول الخط. إننا في ضوء أطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري نعتقد أن كل محاولة من هذا القبيل، لن تكون محرزة تمامًا، حتى وإن كان أصحابها من صلب تلك النهضة نفسها. بل إن الغرب لو أراد أن يقوم بالنهضة مرة أخرى على أساس هذا المنظور العلّي التبسيطي، لأخفق في ذلك لا محالة. فهذا ماكس فيبر وهو من أبرز المؤرخين للرأسمالية والأسباب الموضوعية لقيامها في المجال الغربي، لم يفعل أكثر من توصيف وضع على أساس من الغموض والإعجاز. فالمسألة إذن هي في غاية التبسيط؛ كن بروتستانتيا وستكون رأسماليًّا. على أساس هذا الربط المورفولوجي والإحصائي، يصبح الأمر غاية في التبسيط حتى وإن عجز عن شرح أسباب هذه العلاقة الوظيفية. ذلك لأنه أخطأ الفعل العميق والمعقد واللاوعي للبنى، بحثًا عن لحظات تخارجها التاريخي. ولذا، كان عبثًا أن يعزو ذلك إلى القيم التقشفية الكالفانية أو غيرها، حيث الفشل المنهجي في تبين الأسباب الدينامية جعله يرى في النتيجة مقدمة. ففي ضوء أطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري، ليست التحولات والإصلاحات الدينية التي شهدتها أوروبا في بداية النهضة، سوى تعبير عن إحدى مراحل التخارج التاريخي للبنية في عنفوان مخاضها. لأن السؤال المطروح هو، إن كانت الثقافات تتقاسم المبادئ نفسها، وإن كانت الكيانات الحضارية الأخرى شهدت أشكالًا من الأنماط الرأسمالوية Capitalistiques على حد تعبير رودانسون، فإن السؤال يظل مفتوحًا؛ لماذا القيم نفسها تصنع هنا المعجزات فيما تخفق هناك؟ تعين حينئذ أن يولى الاعتبار إلى علاقة القيمة بالنسق، فالنسق في لحظات تخارجه التاريخي، وفي أوج ديناميته البنيوية، يفسح المجال لفعل القيم، حيث تجد قليلًا من القيم ينتج الكثير من المردودية ويحقق الكثير من الإنجازات، والعكس صحيح أيضًا، حيث النسق في لحظات انزوائه وانكماشه التاريخيين، يعيق الفعل القيمي، حيث تجد كثيرًا من القيم في بنى متكلسة لا تنتج شيئًا. هنا تغدو القيمة في الفعل والعمل وتحصيل وسائل الدفع للبنية بغية تحقيق ديناميتها. إذن، عرفنا لماذا التمسك بوسائل وطرق انتهاض الأنساق والكيانات هنا أو هناك هو مغالطة كبرى؛ بل إنه محض مغامرة حمقاء؛ حيث ما يبدو دينامية من ديناميات النهوض في لحظة من اللحظات أو في مجال من المجالات، قد يتحول في لحظة تاريخية ما إلى دينامية تخليفية لا تجديدية. لأن الذي يحدد قيمة الدينامية، ليس هي من حيث هي، بل هي من حيث نجاعتها داخل النسق المخصوص. هكذا، فإن البحث في أسباب تقدم الآخر بتوصيف ما صار ظواهر اجتماعية في كيانه، كما فعل رفاعة الطهطاوي في “تخليص الإبريز في تلخيص باريس”، أو صار حديث الركبان حيثما تحققت المتعة البصرية بما يبهر النفوس ويبعث فيها الحسرة تلو الأخرى داخل هذا الفضاء الغربي الحديث المدهش بحقائقه وإنجازاته؛ أجل، فلا معنى لذلك، إن لم يتحول إلى أمارة محفزة للبحث عن شروط النهضة التاريخية ليست كمساطير في مدونات مودعة في خزائن الآخر، بل هي معطيات متجددة وقوانين صائرة وتعقيدات متكاثرة. فالنظر إلى النهضة كما لو كانت كياناتنا معزولة أو استثناءً من معادلة معقدة لنظام عالمي شديد التعقيد، هو ضرب من الأحلام اليقظوية، أو النزوعات اليوتوبيا، لمدائن لا زمان لها ولا مكان، وفراديس مخملية من هندسة الخيال.
والسؤال الأخير ها هنا: ما هي الأطر الكبرى والمعايير المحددة لأطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري، في ضوء النمط المعرفي البديل؟
إن أطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري، تقوم على مفهومين متكاملين: لكل مفهوم مفاد يتقوم به أو مقتضى ينهض عليه. فمقتضى التبني الحضاري، هو النظر إلى الإسلام كتعاليم. ومقتضى التجديد الجذري، الوسطية في النظر والعمل. على أن لكليهما معنى غير المعاني التلفيقية التي سادت في الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر. وهذا ما يحدد القيمة المضافة لهذه الأطروحة.
أولًا: التبني الحضاري
لا نعني بالتبني الحضاري دعوة غامضة على غرار ما يحدث داخل بعض الاتجاهات الأنتربولوجية، التي تتحدث عن خليط وأمشاج التقاليد والعادات والأذواق في حضارة ما أو كيان ما. فمثل هذا المنظور هو منظور ثقافي وليس حضاريًّا ـ ومرة أخرى نرفض ذلك الخلط المتعسف بين الثقافة والحضارة ـ إنه مجرد مطلب كيان اجتماعي لا يحمل مشروعًا للتقدم ورسالة للنمو. إن التبني الحضاري ليس مسألة شعار أو عنوان غامض تتبناه حركة هنا، أو حزب هناك، أو عناوين لكتب وندوات ومؤتمرات تملأ الدنيا هذه الأيام عبثًا. إن التبني الحضاري كما نقدمه للقارئ الكريم، يفرض علينا مهمتين:
المهمة الأولى: تمييزًا دقيقًا وحاسمًا بين ما هو حضاري وما هو ثقافي.
المهمة الثانية: الانتقال من مستوى الخطاب الدعوي المرتكز على الخطاب الطبيعي ـ مع ضرورة استمراريته وتهذيبه واستدماجه ضمن النسق العام الخاضع لسياسة التبني الحضاري ـ إلى مستوى الخطاب الحضاري؛ الدعوة الشمولية.
فأما المهمة الأولى، فقد كنا فصلنا فيها القول في كتابينا “المفارقة والمعانقة”، و “حوار الحضارات”. وثمرة هذا الفصل المنهجي والمفهومي تتجلى في كون التبني الثقافي غايته إحراز الحق في الوجود. بينما التبني الحضاري غايته إحراز السبق في الوجود. ولا شك أن قيمة الإنسان وشرف إنسانيته يتقوم بالسبق في الوجود لا في محض الوجود.
وأما المهمة الثانية، فسيجد القارئ لها ضمن محتويات هذا الكتاب تقريبات شبه مفصلة، غاية القول فيها أن ما بين أيدي المسلمين اليوم من أفكار وتعاليم هو منجز من حيث كفايته لتحقيق المعذرية لدى المكلف الشرعي الشخصي، وليس المعذرية لدى المكلف الاجتماعي، المعني بإعداد القوة والتفوق وخلافة الأرض على أسس أقوم. إنه ما من شأنه أن يجعل المسلم مسلمًا بريء الذمة وكفى. لكن ما يجعل الجماعة المسلمة ناهضة متجددة متحضرة هذا شأن آخر، وهو موضوع أطروحتنا الرئيس.
إن دعوتنا إلى اختزال الإسلام في صورة تعاليم، معناه، أننا نستطيع في كل لحظة وفي كل جيل وفي كل اجتماع أن نؤسس علاقات جديدة مع هذه التعاليم في ضوء متطلبات ذلك الجيل أو ذلك الاجتماع. على أن المطلوب تحقيق تكييفات مختلفة لهذه التعاليم بعدد الأنفاس الجماعية. وهذه العملية الاختزالية هي خطوة منهجية لوضع التشخص التاريخي لهذه التعاليم بين أقواس، وصولًا إلى التعاليم الماهوية، أو لنقل التعاليم لا بشرط تلبسها بمركباتها التاريخية، الوسيلة الوحيدة للقبض على مناطاتها ومقاصده، قبل إعادة تركيبها بما يحقق تكييفانيتها الخلّاقة في حالة من الاستئناف المستدام. فالتعاليم هنا يعاد بناء الصلة بها خارج أسيقة الماضي؛ حتى وإن كانت تلك الأسيقة تصلح كأمارت لا قيمة لها إلا بما تساهم به في إقامة ضرب من التناظر الحيوي الفاعل وليس التناظر السطحي لصالح الجماعة المعاصرة. إن تمييزًا لما بين أيدينا من خطاب منتهاه تحقيق معذرية المكلف المسلم، وبين خطاب منتهاه بناء أمة حضارية، ليس دعوى لا جدوى منها. فمثل هذا الخلط أدى دائمًا إلى إضعاف الكيان المسلم وأدخله في دوامة من الصراع والتوتر والتناقض. لقد رأى المرحوم الشهيد سيد قطب، بأن لا جدوى من أن نضع ضميمة “المتحضر” في ذيل عنوان كتابه “نحو مجتمع إسلامي”. فإسلامي في نظره كافية ومتضمنة لمفهوم متحضر. إن صدق هذه الدعوى الشاعري، يصطدم بالحقائق التاريخية. وقد أظهر لنا “طالبان” ودولتها القائمة على فكرة الحاكمية الإسلامية في صيغتها القطبية إلى حد ما، كيف أنهم قدموا أسوأ نموذج لدولة الإسلام المعاصرة؛ ذلك لأنهم كانوا يتصرفون برسم الإسلام المبرئ للذمة الفردية فيما ينبغي التصرف فيه برسم الإسلام المبرئ للذمة الجماعية المتحضرة الحاملة لمشروع نهضوي. ولذا لزم التفريق بين المعنيين. إن الذي يضفي الصبغة الحضارية على التعاليم الإسلامية، هو كيفية تعاطي المتلقي معها. وإن الذي يساهم في استمرار نمط من أنماط التعاطي مع هذه التعاليم، هو المجتمع أو المتلقي؛ فلا بد إذن من استحضار مفهوم سوسيولوجيا التلقي فيما نحن بصدده.
ثانيًا: التجديد الجذري
لقد اعتاد المشتغلون على الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر الاستناد إلى نمط معرفي قوامه المنظور العلّي الميكانيكي كما ألمحنا آنفًا. وبما أن أطروحتنا في التبني الحضاري والتجديد الجذري تراهن على إنجاز قطيعة مع هذا النمط المعرفي الجامد، والمغالط والذي أثبت فشله في مقاربة الأزمة وتقديم الفكر الإسلامي بالصورة التي تمكنه من الاستجابة لتحديات العصر، فإنه يتعين ملامسة هذه القطعية في كل مفردة من مفردات هذه الأطروحة؛ بما في ذلك، العناوين والأطر الكبرى التي تبدو للوهلة الأولى أمرًا مشتركًا مع الخطاب الذي هو قيد النقد.
ولعل أهم مقوم لهذا النوع من التجديد المتوخى، هو الوسطية، من حيث هي مفهوم جدلي وديناميكي أكثر مما هو تموقع بين أقصيين. لقد توهم دعاة الوسطية، أن هذه الأخيرة هي بمثابة اختيار لمنزلة بين المنزلتين. مثل هذا التصور، هو بالنتيجة، اختيار يرى إلى القضايا كثنائيات متجاورة غير متداخلة، تلتقي عند تخوم محددة. ومن ثمة، يكون أفضل المواقع ما قارب التخوم. وهو أمر أقرب إلى التلفيق منه إلى الوسطية. لعل الناظر في هذه الدعوة، سيجدها قائمة على وهمين:
الوهم الأول: إخطاء الوسط الواقعي. فدعاة الوسطية يتوهمون بأن الوقوف عند التخوم هو عين الوسطية المذكورة؛ أي قليل من هذا وقليل من ذاك. بناءً على ما جاء في الأثر: أن خير الأمور أوسطها. لكن مثل هذا التبني السطحي لمفهوم الوسطية يتعارض مع نص الآية الكريمة: ﴿خذ الكتاب بقوة﴾. إن الإقامة في التخوم ليس توسطًا، بل هو تطرف بامتياز. فنهاية كل قسم، تلتقي عند هذه التخوم؛ بهذا المعنى تصبح الوسطية تطرفًا تفريطيًّا لا إفراطيًّا.
الوهم الثاني: إن العقل الميكانيكي يرى إلى الوسطية كتموقع بيني، وليس كتجادل بين طرفين. ولا شك في أن العقل الغالب على مجمل الفكر الإسلامي المعاصر، ميكانيكي لا جدلي. وهذه المعضلة تتجلى بشكل فظيع في تناول هذا الفكر لكل الثنائيات الإشكالية التي تعترضه؛ مثل الأنا والآخر.. التراث والحداثة.. الثابت والمتحول و…
إنه يتعاطى معها بوصفها ثنائيات يتجوهر كل طرف منها حول نفسه، وليس كجدليات متداخلة بقدر ما هي متخارجة. إن مفهوم الوسطية في ضوء أطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري هي حصيلة تجادل بين طرفي معادلة، ليست تموقعًا بينيًّا في التخوم الفاصلة بين طرفين.
وها هنا تتحدد أهم الأطر والمعايير المؤسسة لأطروحتنا في التبني الحضاري والتجديد الجذري، حيث سنستعرض بعضًا من صورها من خلال الثنائيات التالية:
هل أطروحتنا إصلاحية أم ثورية؟
قد يبدو للبعض أن الحديث عن التجديد الجذري يناقض مفهوم الوسطية، بما يوحي إليه العنوان المذكور، حيث سادت الملازمة بين ما هو جذري وما هو متطرف. والحال، أننا لا ننظر إلى مفهوم “الجذري” بهذا المنظور الذي يحتكم إلى النمط المعرفي الميكانيكي. إن “الجذرية” حالة قصوى في الفعل الإيجابي. وعليه، فلا نهضة إلا بتبني حضاري حقيقي، وتجديد جذري يستهدف الإطار المعرفي برمته، ويغير ويقلب زوايا النظر، ويعيد إنتاج علاقته مع المفاهيم والتعاليم والحقائق وفق ما يمليه النموذج المعرفي الأكثر قدرة على تفعيل الذات وتحقيق الدفعة الضرورية للنسق في سياق البحث عن لحظة تخارجه التاريخي. فأن تكون وسطيًّا، ليس معناه أن تمسك العصى من الوسط أو تأخذ باليسير من كل طرف، بل المطلوب الأخذ بالأكثر من كل طرف في إطار تجادل الطرفين. كأن تكون رؤوفًا إلى حد خفض جناح الذل من الرحمة في موارد الإحسان، وشديدًا إلى حد أن لا تأخذك في الله لومة لائم في موارد الانتصار للعدالة.
تقبل أطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري بمقولة الإصلاح والثورة معًا، لا بوصفهما مفهومين متدابرين، بل بوصفهما وظيفتين متكاملتين. فلا إصلاح من دون ثورة، ولا ثورة من دون إصلاح. فمسلسل الإصلاح أيًّا كان مستوى عمقه، هو تأسيسات وتراكمات في اتجاه إحداث نقلات طفرية وجذرية. فالإصلاح يحتاج إلى ثورات في المفاهيم وفي المنظورات وفي الأطر المعرفية، كما أن الثورات تحتاج إلى مراكمات وأساسات إصلاحية. بهذا المعنى نستطيع القول، بأن الثورة ما هي إلا اللحظة القصوى في العملية الإصلاحية. فالمجتمعات تحتاج إلى إصلاحات وثورات مستدامة؛ كل ثورة هي بمثابة قطيعة تؤهل المجال وتروض المراحل لتحولات جديدة وأنماط حديثة من التقدم. فالإصلاحات التي لا تنتج ثورات اجتماعية وثقافية ومعرفية… لا قيمة لها البتة. كما أن الثورات التي لا تفتح المجال أمام إصلاحات حقيقية، تصبح وبالًا كبيرًا. وبهذا المعنى، حينما لا يصبح الإصلاح والثورة كلاهما جدلية الاجتماع المستدامة، فإن الإصلاح لن يكون حينئذ أكثر من مجرد “طحالب” خضراء كما يقال، كما لن تكون الثورة سوى مجرد “مفخرة للعبيد”. إن الحضارات تستمر فقط وفقط بديمومة إصلاحاتها وثوراتها العلمية والثقافية والاجتماعية.
الثابت والمتحول
تطرقنا إلى نشأة إشكالية “الثبات”. وقد اعتبر الخطاب الإسلامي الحديث، في صيغته القطبية، كل محاولات الفكر الغربي إنما هي ملحمة تآمرية لجرف فكرة الثبات. فهي تعتبر التحدي آت من ها هنا، من جرف فكرة الثبات وتعميم فكر المتحول. ولكن بعد فترة من الصراع رأينا أن بعضًا من منتجي الخطاب الإسلامي، لا يفتئون يذكرون بأن ثمة قسمين من الحقائق: الثابت والمتحول. وعلى الرغم من أن هذه المحاولة الالتفافية هي أيضًا مما قد أفاده هؤلاء من صلب النقاش الحاد، بعد أن حولوا العالم إلى ظواهر ثابتة لا حراك لها، فإنه لم تكن الغاية من الاعتراف بثنائية الثابت والمتحول، فتح المجال أمام المتحول ـ العرضي والمكروه والاستثنائي في بنية هذا الخطاب ــ بل كان الهدف من ذلك، التنفيس عن فكرة الثبات التي بات واضحًا أنها فكرة تنتمي إلى عالم ما قبل قانون القصور الذاتي؛ أي الميكانيكا النيوتونية، وما قبل الثورات العلمية التي جاءت مفعمة بالأفكار والمفاهيم الحركية النسبية. وهذا ما يدل عليه واقع الثنائية المذكورة حيث لم يتعاطوا معها تعاطيًا جدليًّا، بل اكتفوا بالتعاطي معها على أساس ثانوي. إنها حيلة للانفلات من آثار تضخم فكرة الثبات بفتح المجال قليلًا واستثناءً أمام بعض أشكال التحول العرضي. كل هذا جعل من الفكر الإسلامي المعاصر واحدًا من أكبر حرّاس “الثبات”، ما جعله يلحق بفكر آباء الكنيسة اليونان واللاتينيين من أوسع الأبواب، أولئك الذين قامت ضدهم ثورة التحرر والعلم والتقدم في الغرب. وقد كان من آثار الفكرة المذكورة، واستبدادها بالأذهان، أن أصبح قياس شرف الأشياء بمدى خضوعها للثبات. ولا ننسى أن آباء الكنيسة اللاتين والقسم الأعظم من الفلسفة الإسلامية الوسطية، كانت قد وقعت في هذا الاعتقاد العقيم. ولعل السبب في ذلك تمامًا، هو أنها مثلت حقبة التأثير ما بعد السقراطي في العالم الإسلامي الوسيطي وأوروبا في نهاية العصر الوسيط وبداية العصر الحديث. إن البحث في مفهوم الحركة كما اكتمل تعريفه مع أرسطو الذي أرخ أيضًا للتصور الحركي الـ “مقابل ـ سقراطي”، هو أنها خروج من القوة إلى الفعل. ما يعني الاتجاه نحو الكمال. فالمتحرك بهذا المعنى هو طالب كمال. وطالب الكمال يؤكد على نقص الوجود. فالثابت، الواصل، الكامل، هو أشرف، باعتباره مستغنٍ عن الكمال أي عن الحركة. لقد كانت النهضة الأوروبية هي المرحلة التي تم بها الانقلاب على هذا التصور الفلسفي الأرسطي، والذي كرسته الرشدية اللاتينية. لقد أعادت أوروبا الناهضة علاقتها بالفكر الإغريقي ما قبل السقراطي بسيئاته وحسناته. ولعل من حسناته القول بالحركة الشمولية. لقد اكتشفت أوروبا الناهضة فكرة الحركة الشاملة. ولم تكن المعركة يومها مجرد قصة قديمة بين الحداثة وفكرة الثبات، ما دام أن الحداثة نفسها لا تكاد تستقر إلا بافتراض منظومة من الثبات أيضًا. بل كانت اكتشافًا جديدًا وقف ضده دعاة الثبات المطلق، حيث تجلّت فظاعة ذلك في محاربة العلم وملاحقة العلماء، وكل ذلك باسم الثبات المطلق والمقدس. بعض المشتغلين على الفكر الإسلامي المعاصر، ظلوا محكومين بهذا التصور الأرسطي للحركة. وقد خدعوا لما اعتبروا شرف الجوهر آت من حيث هو ثابت. وأن خسة الأعراض قبال الجوهر آتية من حيث حركيتها. والحق، أننا لسنا بصدد تعلم هذه النقلة إلى ما قبل الفلسفة السقراطية في الفكر العربي والإسلامي من الحداثة الغربية نفسها. فقد شهد العالم الإسلامي نفسه محاولات ومشاريع لإعادة النظر في بعض المقولات الكوسمولوجية التي شهدتها هذه المرحلة. لكنها ظلّت محاولات فردية جدًّا، لم توجد في مرحلتها المناسبة. من هنا، نؤكد على أن قيمة الثورات المعرفية التي تحققت مع بعض الأعلام في النهضة الأوروبية ليس في أنها أفكار أدت إلى إحداث التغيير، بل إن قيمتها، أنها وجدت في مجال يعيش مخاض النهضة. إنها أفكار كبرى لأنها عبرت عن كيان ناهض، وليس لأنها أفكار مجردة في كيان غير ناهض رأسًا. إننا نتحدث عن نقلة أوروبية غير مسبوقة إلى أحضان الفلسفة الـ “ما قبل ـ سقراطية” فقط، لما نقف على أكذوبة، أن الفلسفة العربية والإسلامية انتهت مع ابن رشد؛ الفكرة المغالطة الرينانية التي تلقفها بعض الباحثين العرب؛ دون أن يعوا خطورتها أو أبعادها التهكمية ضد العقل العربي والإسلامي بوصفه لم يملك أن يحقق في الفلسفة ما يفوق استيعابه لأرسطو، حيث ها هنا؛ توقف حمار الشيخ في العقبة. ليعود الأمر إلى ما كان عليه؛ بضاعتنا ردت إلينا، ولتصبح قيمة الرشدية بوصفها شروحًا على المتن الأرسطي، وفية لهذا العقل الذي لا يسمح بالتجاوز إلى غيره؛ فالفلسفة نبتت في الغرب وينبغي أن تنتهي إليه. لقد عبرنا عن إصرارنا على أننا مدينون إلى ذلك الحكيم الذي مر كطيف باهت في تاريخ الفلسفة العربية والإسلامية، إلى حد قل ما ذكر اسمه، وهو من غار بالقول الفلسفي “ما بعد ــ الرشدي” غورًا لم نجد له نظيرًا في الأول والآن، أعني ملا صدرا الشيرازي مبدع الحركة الجوهرية، لما كان هذا الأخير سابقًا لزمانه، بعد أن حقّق سبقًا في كثير من الأمور قبل قيام النهضة الأوروبية وما بعدها قليلًا وربما لا زال قسم من أفكاره اليوم يغري بمزيد من التأمل. لقد حقق ملا صدرا هذه العودة إلى ما قبل سقراط، ليعود ويتقدم بهذا المنظور الفلسفي الكوسمولوجي إلى آفاق واسعة من النظر، في محاولة غير مسبوقة، ليس في الجمع بين البحث المشائي والإشراق الأفلاطوني فحسب، بل ما لم يلتفت له قراء ملا صدرا الشيرازي، هو أن هذا الفيلسوف الكبير استطاع أن يحقق مصالحة مدهشة بين الفلسفة ما قبل السقراطية وما بعدها، بين مادية الأولى وإشراقية الثانية. لقد حاول ملا صدرا، تعميم فكرة الحركة ففي البدء جعل الحركة تعم جميع الأعراض التسعة. ولم يكن ذلك عبثًا أو أمرًا لا جدوى منه. بل لقد قصد ملا صدرا بذكاء حاد، أن يجعل الفلسفة الإسلامية تسلم بوقوع الحركة في كافة المقولات التسع، وما زال هذا الأخير يقيم البراهين على وقوعها ها هنا، حتى مضى إلى الشوط الأخير، ليجعل من حركة الأعراض أخصر مسالك الدليل على وقوعها في الجوهر. إن القول بالحركة الجوهرية التي انفرد بها ملا صدرا، لا يشكل فقط حدثًا تاريخيًّا على المستوى الفلسفي، بل إنه ثورة في النمط المعرفي، ظل شاهدًا على أن انقلابًا ضخمًا كهذا، مر صامتًا كموكب جنائزي سري، شكل أبرز دليل على أن الانحطاط يتآكل عقل أمة لم تعد قادرة حتى على الإحساس بما يمكن أن يترتب على انقلاب كهذا شبيه بالانقلاب الكوبيرنيكي. على أنه انقلاب أعمق وأشمل، لأنه انقلاب يمس فكرة الوجود برمته. في حين، أن الانقلاب الكوبيرنيكي يتعلق بانقلاب في المنظومة الشمسية وإن كان له تأثير غير مباشر على موقعية الإنسان نفسه في الكون. إن منتهى الانقلاب الصدرائي الذي لم يستوعب في جيله ولا حتى فيمن جاؤوا بعده، يكمن في كونه بهذا القول، كان قد نسف أشرفية الثابت وخسة المتحرك. إن الأعراض إذ تتحرك، تتحرك بالجوهر. فالحركة العرضية هي من جنس مقولاتها؛ أي أنها حركة عرضية. لكنها في الجوهر، هي حركة جوهرية. وما وقوعها في الأعراض إلا تجلي للحركة الجوهرية. وهكذا بما أن مصدر الحركة في الأعراض هو الجوهر نفسه، فإذن، الأشرفية ها هنا هي أشرفية من جميع الجهات. بهذا المعنى يصبح الثبات شأنًا للأعراض لا للجوهر. ألم يكن فكر كهذا فيما لو نشأ في ظل سلطة آباء الكنيسة، لكان مصير صاحبه، مصير كوبيرنيك وغاليلي ذاته؟ بل، ألم يكن فكر كهذا لو نشأ في ظل الشروط التي حكمت انطلاق النهضة، أن يكون منطلقًا يختصر بأوروبا نفسها مسيرة قرون من الحراك البطيء قبل أن تتخلص من الأرسطية والرشدية؟
ونحن في سياق أطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري، نراهن على هذا المفهوم في حل مثنوية الثابت والمتحول، بتغيير النمط المعرفي كله، لصالح الحركة الجوهرية، التي بقدر ما تثبت الجوهر تثبت حركته. وبهذا فقط نستطيع القول؛ إن أطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري لا تؤمن بالثبات المطلق والشامل، ولا بثنائية الثابت والمتحول، بل إنها تؤمن بفكرة “الثابت المتحول”.
هل أطروحتنا تتنكر للمشاريع الفكرية الموجودة
تعتبر أطروحة التبني الحضاري، والتجديد الجذري كل هذا المعروض الأيديولوجي والتنظير في الفكر العربي والإسلامي المعاصر، مراكمة ضرورية في اتجاه بلورة الخيارات الأكثر حيوية للدفع بالنسق إلى مستوى الفعالية والدينامية المطلوبة لفرض المخاض على البنية ودفعها باتجاه تخارجها التاريخي. إن أطروحتنا ليس فقط أنها لا تدعي صياغة الحل، بل إنها تعتبر وظيفتها إغناء النقاش الحر، وحده الكفيل بإنماء الخيارات، وبالتالي تحريك البنية الجامدة. بل إنها لا ترى أن الحلول من شأن دعوة أو خطاب ما، بل هي في حقيقتها حصيلة نضج البنى. إن الحلول تأتي بغتة وبشكل غير متوقع في الزمان وفي الشكل والمحتوى؛ لأنها حصيلة ما ينتجه الانتظام الماكر للبنى وفعلها اللاوعي الذي يحدد ميعاد وشكل التخارج التاريخي لها.
فالمطلوب منا اليوم، العمل ومراكمة الفعل. أي أن وعينا يتحدد ها هنا، في الفعل التراكمي لا في تحديد لحظة التخارج التاريخي أو تعيين مداخل الحلول ومخارج الأزمة. إن سوء تدبير العلاقة بين الوعي واللاوعي، وانتهاك الأدوار والوظائف التجادلية بينهما من شأنه أن يجعل من العقل العربي والإسلامي في أرقى لحظات تفاعله، لا يتعدى خيبات الأمل التاريخية للوعي الشقي. ومن هذا المنطلق، فإن اتفاق واختلاف أطروحتنا مع هذا الحطام المعروض تكمن أهميته في إصرارنا على استمرارية الحياة الفكرية وحماية مسارات التراكم الطبيعي للفكر والنظر وللاختيارات المعرفية. ومع ذلك، تحتفظ أطروحتنا بوجهات نظر ومسافة نقدية من أهم الأطاريح التي أنتجها الفكر العربي المعاصر، حيث يمكننا إجمالها باختصار شديد في الآتي:
1 ـ تتفق أطروحتنا مع الكثير من الأفكار والتحليلات التي تضمنها المشروع النقدي لعبد الله العروي. فهو في نظرنا واحد من أبرز دعاة النقد الأيديولوجي وأحد المستوعبين الأذكياء لليبرالية الغربية كما هي من دون شروط تذكر، وأحد المطلعين على خفايا التاريخ الثقافي والاجتماعي العربي والإسلامي. لكننا نختلف معه في رؤيته المثالية التبسيطية، ولنقل الاختزالية التي تخلع على المنظور التاريخاني “قوامًا أنطولوجيًّا” وسحريًّا، حيث تستبعد فكرة الخصوصية بشكل جذري قد يجد حتى أولئك الليبراليون الأصليون صعوبة في تبنيه بهذه النزعة التوتاليتارية. إنه يستبعد كل العوامل الأخرى، بما فيها الفعل التاريخي اللاوعي. فحركة التاريخ هي حركة وعي خالص. ومثل هذا المذهب التاريخاني الغالي، أيا كانت مسوغاته النظرية التجريدية، يظل الخيار الذي يعمق آفة النزوع المثالي في الفكر العربي والإسلامي المعاصر. فللتاريخ نحو تجادل مع البنى، بل إنه في المحصلة هو فعل البنى لا فعل الوعي المباشر، أو لنقل إنه مجرد تعبير عن تخارج البنى نفسها. وهذا ما سنقف عليه تباعًا في النقاشات التي سوف نجريها مع هذه الأطاريح.
إن كثيرًا من الأسئلة الحرجة التي يطرحها هذا الشكل من التمذهب التاريخي المجمود على أوهامه التوتالتارية، قد أجاب عنها بشكل ما، مشروع نقد العقل العربي ومشروع الإسلاميات التطبيقية وأطروحة النقد المزدوج.. فإن كان لنا معها وقفة، فهي وقفة أخرى، ليس هذا موردها.
2 ـ في السياق نفسه، تتفق أطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري مع فكرة الكتلة التاريخية التي طرحها غرامشي، واليوم تشكل عنوان الأطروحة السياسية للدكتور محمد عابد الجابري. هذا مع أننا نعتقد أن الكتلة التاريخية تحتاج إلى حد أدنى من التوافق ليس في مداه السياسي الصرف، بل في مدياته الأخلاقية والفكرية والنظرية. إن الكتلة التاريخية هي ثمرة لمراكمات في النظر والعمل، وليس في العمل فحسب. فالجابري في مشروعه الموسوم بنقد العقل العربي، يجعل الموقف النهضوي والعقلاني محصورًا ومخصّصًا في بنية عقل من هذه العقول المؤسسة لجماع العقل العربي بحيث لا مجال لتحقيق الكتلة التاريخية في النظر بناءً على قواعد التشطير والتجزيء والتغليب. هذا الفصل التعسفي بين النظر والعمل يجعل أطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري تميز بين مستويين من النقد الجابري؛ الأول يتعلق بمشروع نقد العقل العربي، والثاني يتعلق بمساهماته المطروحة خارج مشروع نقد العقل العربي، المحكوم بنموذج أيديولوجي مشحون بالتوتر والنزعة التجزيئية والاستئصالية. إن النهضة في نظرنا هي موقف ويقظة داخل البنى كافة، وبالتالي فهي ثمرة لقيام أمة ما بكل فواعلها ومكوناتها؛ فهي نهضة يساهم فيها البرهانيون والبيانيون والعرفانيون. كما أننا لا نوافقه رؤيته الكلاسيكية للعقل، حتى وإن أدى عدم تقيده المنهجي إلى تبني فكرة “أولمو” عن العقل كفعل، إلا أنه أقام كل مشروعه على المنظور المتجوهر والساكن للعقل، وهو موقف يكفينا أن شهد نقدًا جذريًّا ولا يزال في المجال الغربي قبل العربي والإسلامي.
ومرة أخرى، نجد في هذا التشطير لمكونات البنية، وفي ذلك البحث المضني عن البنية الخالصة، نزعة طوباوية، مهما تذرعت بواقعيتها، حيث لا وجود لبنية خالصة إلا في الأذهان ولا سبيل إلى بلوغها إلا عبر فعل التجريد المحض. ليس فقط من العسير أن نظفر ببنى خالصة في التراث فحسب، بل إن بنية البرهان التي تسم التراث اليوناني وبالتالي عصر النهضة الغربية هي مغالطة تاريخية وفلسفية، حيث لا في الأول ولا في الثانية، تحققت هذه البنية الخالصة. وإذن، مرة أخرى نجدنا أمام حالة من المثل المجردة، وهي آفة من آفات الفكر العربي المعاصر، مضاف إليها هذه المرة آفة التغليب والتقطيع والاستئصال النظري، وهو أشد أشكال التقطيع والتجزيء، لأن النظر حاكم على الفعل؛ ومن هنا، حتى تقوم الكتلة التاريخية، يتعين على الشخصية الوطنية أو العربية أو الإسلامية، أن تتمتع بقدر من شكيزوفيرنيا، والفصام النكد بين النظر والعمل.
3 تتفق أطروحة التبني الحضاري والتجديد الذري مع الإسلاميات التطبيقية الأركونية من حيث الأفق الذي ينتهي إلى مستوى ردم الهوة بين الفكر الإسلامي والعلوم الإنسانية. كما تتفق مع استراتيجية إعادة النظر في النزعة الأورثوذكسية في التراث الإسلامي، والسير بالبحث إلى هامش اللامفكر فيه. لكننا في الوقت نفسه، نراها محاولة لا تقيم وزنًا للآثار والإشكاليات الإبستمولوجية الناجمة عن هذا الاستدماج اللامشروط واللامحدود للمناهج، وهذا الخليط المفاهيمي القائم على تمثلات وتناظرات مورفولوجية، تجعل التراث ساحة للانتهاك أكثر مما تستطيع هذه المناهج انتهاكه في الحداثة نفسها. بمعنى آخر، كيف أمكن للإسلاميات التطبيقية إعلان هذا الزواج المتعدد للمناهج في حقل التراث، بينما هذا الزواج لم يحدث ولم يحصل في الحداثة. أمام هذا الحشو المنهاجي الذي يجعل الموضوع رهينة لكل المناهج ولكل المفاهيم، يناقض في نظرنا واحدة من أبرز الفذلكات التي قام عليها الفكر الحديث، ألا وهو مفهوم “الاقتصاد” في المعرفة؛ الاقتصاد المنطقي مع ديكارت، والاقتصاد في العلم لدى أرنست ماخ، والاقتصاد الاختزالي مع هوسرل وغيرهم. إن الحشو المنهاجي وآثاره الإبستمولوجية السيئة هو بخلاف الاقتصاد المنهاجي، فلا يمكن إلا أن ينتج الفوضى، ويجعل الموضوع يضيع في مسارب من التعالي الكانطي وافتقاد الحد الأدنى من الشيء في ذاته أمام قبضة الوعي المشترك. إنه مزيد من النزوع الطوباوي المتنكر بأيديولوجيته وتحيّزاته القبلية، وادعاء الموضوعية الأسطورية بتعبير بورديو، والاختباء وراء تطبيقية “روجيه باستيد” النزاعة إلى تقويض مفهوم السيطرة كغاية للمعرف، فيما هي الإسلاميات التطبيقية كلها محاولة للسيطرة على التراث بامتياز، إن التنكر للأيديولوجيا وادعاء التجرد الإبستيمولوجي ونزع مذهب السيطرة عن المعرفة، في مجال موسوم بتكاثر المناهج والأفكار المتقارعة والمتنافرة حتى اليوم، يعد نزوعًا طوباويًّا، وتلك كما قلنا آفة من آفات الفكر العربي المعاصر.
4 ـ مثل هذا كله مما قد أجاب عن بعض من مآزقه مشروع التقريب التداولي عند د.طه عبد الرحمن، لا سيما ما يتصل بنقد العقل العربي تحديدًا. ومن هنا تتفق أطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري بقدر ما تختلف مع فكرة المجال التداولي وقواعد التقريب التداولي. إن قدرًا من خصوصية المجال أمر واقع محدوس. ولا مجال لتفصيل القول فيما تم حدسه. إننا نتفق على أن الإبداع ونبذ التقليد هي واحدة من آمال طلائع التجديد لا محالة، غير أننا نرى فيها محاولة لتعميق الأزمة بدل زحزحتها. فهي تستبعد الفعل التاريخي بوصفه فعل البنى نفسها في مجراها التداولي، وليس مجالها التداولي المغلق والمحروس بقواعد التقريب التداولي. وأيضًا في جعلها المشكلة مجرد خطاطة فكرية تجريدية تستقوي بالتجريد المنطقي أو التفريع المنطقي الوصفي. ومرة أخرى نجدنا أمام نزوع طوباوي، يرى الأشياء بعين مفارقة، ويختزل أزمة الأمة في رياضة منطقية تخدع المتلقي بصلابة مما نعتها وحنكتها في مظاهر تمنطقها النزاع إلى معصوميته، فيما هي تحتوي على مضمون تبسيطي للأزمة، إلى حد يجعلها عاجزة عن مقاربة المشكلة في بعدها الاجتماعي والنفسي والاقتصادي والعلمي وما شابه. كما أنها تفترض التراث والمجال التداولي من العصمة والكمال، ما يجعله متسلطًا على الحداثة. هذا، إضافة إلى ما تقدمه من مشاريع أفكار، تروم بها استئصال ما هو دونها، بغية الاستئثار، وكأن فعل النهضة لا يقوم إلا بهذا الاستبداد النظري؛ أي الفرد صانع معجزات الأمم. وهذا ما يضيف إلى آفة النزوع المثالي العربي، آفة أخرى، وهي آفة التشخصن واختزال النهضة في مشروع آحادي؛ كما لو أن النهضة تقوم على الجهد النظري المعجز للفرد، لا مخاض أمة بكاملها.
وعليه، ترى أطروحة التبني الحضاري الجذري، أن الخلاف المنهجي أو النظري مع تلكم الأطاريح لا يعني استئصالها وإخراجها من المجال، وتغليب مشروع ما دونها؛ بل إننا نراها معروضًا ضروريًّا لاستكمال النقاش الحر وإطلاق حياة الفكر تمهيدًا وتنضيجًا للنسق كله في انتظار المخاض. وعليه، ليس ثمة أمر مرفوض وداعي للاستئصال غير النزوع الاستئصالي نفسه. أو ذاك الشعور الخادع والمرضي الذي قد يستولي على هذا المثقف أو ذاك، باعتبار أطروحته ناسخة لما قبلها، خالدة مخلدة خاتمة غير قابلة للنسخ في المدى القريب أو المنظور. وذلك هو أصدق تعبير عن أزمة الفكر العربي الإسلامي المعاصر. إن الأطاريح الموجودة لم تستطع أن تدرك حدودها ودورها التاريخي بوصفها أطاريح لإغناء النقاش الحر الذي وحده من شأنه وخز النسق المتكلس وإعادة الدينامية لبنيته العامة، من أجل استئناف التراكم الضروري الكفيل بفتح مخارج الأزمة ومداخل الحل، التي هي مرحلة تعبر عن لحظة التخارج التاريخي الأقصى للفعل اللاوعي للبنى؛ أي ذلك الفعل اللاوعي في حركيته والانتظام الماكر لعناصره داخل النسق. فالوعي هو ناظر في الأطر الكبرى وفي الفعل والعمل الآني والوعي بمراحل التطور والنهوض، وليس في تصنيف ماهيات المخارج والمداخل، حيث النهضة لا تتوقع في الزمان ولا في المكان ولا في شكلها النهائي. إذا أدرك أصحاب المشاريع الأيديولوجية ذلك، فسوف يقدرون حينئذ على الالتئام في مشروع كتلة تاريخية على أساس الوعي بإمكاناتهم وحدودهم، وبأن الخلاف سوف يتراءى ــ إذا لم يكن اختلاف استئصال بيني ــ اختلافًا ضروريًّا وتكامليًّا. إن الفعل الواعي للإرادات يتحدد ها هنا؛ أي في الفعل وإدراك إمكانيات الانخراط في تفعيل البني ووخزها وتحصيل ديناميتها، مع وجود اليقظة الكافية لالتقاط الإشارة وتبين مخارج الأزمة ومداخل الحل عندما يتهيأ المناخ للتولد البنيوي أو التخارج التاريخي الأقصى للنسق. يقظة يستطيع بواسطتها الفعل الواعي للإرادة، التماهي مع اللحظة بنوع من المهارة في التقاط الإشارة وتحديد رد الفعل الدقيق بحسابات اللحظة التخارجية للبنية، وأيضًا مقدار من الفضيلة ضروري في اقتسام الأدوار، بحيث يصبح التعايش داخل التعدد في ضوء التبني الحضاري الواعي والتجديد الجذري، أمرًا مطلوبًا كشرط في صيرورة استملاك البنية لديناميتها المفقودة. ومن ثم الدفع بها إلى حيث يجب على الوعي أن يتصالح مع اللاوعي، ومكر البشر مع مكر التاريخ، بوصف اللاوعي هنا هو ذلك الانتظام المتشعب والمتفاعل والمتفرع عن فعل البنى العميق، لا يجاريه الوعي في الاستيعاب. بل وأنّى له أن يفعل ذلك، هو المسكون بالغفلة والمجمود على الاختزال. فقد يحصل ذلك الوعي في مرحلة لاحقة. إن الوعي المتأخر بآثار اللاوعي، هو أقرب إلى حال “بومة” هيغل في حال قراءتها للمشهد بعد استكماله؛ ما يعني أنها غير قادرة على التنبؤ بمعطياته. لكننا هنا نتحدث عن تفاصيل ومفردات فعل البنى الماكر؛ نعتقد أن ذلك أمر متروك “للحدس”. فالوعي بفعل اللاوعي هو فعل لاوعي أيضًا. بهذا المعنى أيضًا تتحدد رؤيتنا لجدلية الإرادة والضرورة.. أو الحرية والحتمية.. أو الاختيار والجبر.. وذلك بربطنا لأصل الموضوع برسم علم الكلام القديم بمفهوم البداء نفسه. إن المسألة في تصورنا لها علاقة بالعلم وإشكالية استكمال العلم، حيث لا يتحقق كاملًا، بل هو دائمًا في حالة استئناف مسارات كمالاته. فما نجهله أو ما لا يبدو لنا، يتحكم بنا وبوعينا بحيث تخطئه إرادتنا ويتفلت من قبضة اختياراتنا. فالعلم يتكامل، وتتكامل معه سلطته وتظهر آثارها على العالم. إن قصة الجبر والاختيار.. الفعل الواعي والفعل اللاواعي.. هي قصة العلم ذاته. وبهذا تتقلص دائرة الضرورة بنمو العلم والمعرفة. فلا شك أن الفعل السريع والمعقد والمتشعب لعناصر البنى، هو مما يخفى ومما يستحيل استيعابه ووعيه إلا حدسًا؛ فهذا هو معنى الفعل اللاواعي للبنى. ولهذا السبب تختلف صورة الحتمية والضرورة من شخص لآخر، ومن كيان لآخر ومن مرحلة لأخرى. وذلك بمقدار اختلاف هؤلاء الأشخاص أو تلك الكيانات في مستوى المعرفة والإدراك.
الموقف من الفكر الإسلامي المعاصر
وإن كنا قد حددنا الإطار العام لمشكلات الفكر الإسلامي المعاصر فيما سبق ذكره، فإننا نخصه هنا بمزيد من النقد. إذ لا بد من القول بأن تخصيص الفكر الإسلامي المعاصر هنا، لا يعني أن ما اشتغل عليه بعض الباحثين في دائرة الفكر العربي المعاصر هو خارج هذا الاختصاص. وذلك إيمانًا منا بأن الانتماء إلى الفكر الإسلامي، ليس بالضرورة أن يكون بالالتزام، بل من الممكن أن يكون بالاشتغال. وما لمسناه من الأطاريح الأيديولوجية العربية هو من ذلك القبيل. ولذا تعين أخذه بعين الاعتبار، من حيث هو شكل من أشكال المساهمة في الفكر الإسلامي. إننا نعني بذلك التخصيص، مجمل ما يشكل الخطاب الإسلامي المعاصر.
يتحدد موقف أطروحة التبني الحضاري والتغيير الجذري من عموم الفكر الإسلامي المعاصر في رفض حالة الجمود والدوران في حلقة مفرغة في مقاربات هذا الأخير للمشكل العربي والإسلامي. إنه لا زال غارقًا في سبات النمط المعرفي الذي تعرضنا له سابقًا، وإن ما يبدو تجديدًا في هذا المجال، لم يبلغ بعد مستوى النقاش الحر الضروري والسابق لعملية البحث عن الحلول. إنه فكر قد أبرز مهارة منقطعة النظير في رفض ما أسماه بالحلول المستوردة. غير أنه لا يزال مصرًّا على إنتاج حلول مستنفذة. ويبدو أنه عاجز حتى الآن عن تحقيق ثورته الحقيقية على مستوى النمط المعرفي. ولذلك لن يفيده كثرة التمسك بشعارات التبني الحضاري السطحي غير المستند إلى استراتيجيات التغيير الجذري. وبما أن التجديد لم يصل إلى كيفية التعاطي مع الأزمة وإلى آليات التحليل وطبيعة المفاهيم وسياسة العلاقة المعقدة بين الفعل الواعي للإرادة، والفعل اللاواعي للنسق، فإن كل هذه المراكمة ستكون عبارة عن أصفار على الشمال من شأنها أن تغذي هذا السبات الذي يهرب العقول بعيدًا عن التفاعل الإيجابي مع متغيرات العصر والصيرورة الطبيعية للسؤال الكيفي. علمًا أن التراكم سيكون مقدمة ضرورية في صيرورة استملاك دينامية البنى، فقط حينما يكون تراكمًا كميًّا مشفوعًا بـ “الكيف”. وهذا ما نسميه بحكومة الكيف على الكم في صيرورة الفعل النهضوي. هذا السبات على النمط المعرفي المستنفذ، فضلًا عن كونه موقفًا غير تاريخي، هو ظاهر في انسداداته كما تعكسها ثقافة الشروح والحواشي المتكاثرة أو ملهيات إعادة إنتاج المفارقات والتكرار الإنشائي، وملء الفراغ بفضلات التفكير السطحي. إلا أن هذا لا يعني البتة، أن لا وجود داخل هذا التراكم الإنشائي، لعينات من المقاربات والأفكار التي تحاول تعميق السؤال، ويزعجها هذا التكلس الخطير لهذا الفكر. وهذه العينات النادرة ندرة الكبريت الأحمر وسط هذا الركام الإنشائي المهول، هي المعول عليها في فعل المراكمة النوعية التي تجعل الكيف حاكمًا على الكم؛ التراكم الضروري والموضوعي لتفعيل النسق. إننا في أطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري، نعتقد أن الفكر الإسلامي المعاصر، متأخر عن عمق الأسئلة المطروحة على صعيد الفكر العربي المعاصر الذي يشارك فيه مثقفون من مشارب عديدة، وأن الفكر الإسلامي المعاصر، إنما يستقوي على هذا الفكر ليس بعمق أسئلة ولا بمغامراته في الاستشكال، بقدر ما يستقوي عليه بعمقه الاجتماعي وقدرته على رفع إيقاع الممانعة والتعبئة. ولكننا نضيف أيضًا، إلى أن هذا الفكر في نهاية المطاف، هو المعول عليه في إحداث التغيير. وبأن أي فكر يتحرك خارج هذا التموج الاجتماعي ولا يتحرك في دائرة الفكر الإسلامي، سيكون مجرد فكر، مهما بلغت رياضته النظرية معزولًا بشكل طبيعي، لأن أسئلته مغشوشة وغير نهضوية بقدر ما هي عمائية أو لا تتحرك في إطار مشروع، سيكون فكرًا خارج دائرة التبني الحضاري المطلوب والتغيير الجذري الممكن. فمهما بدا لنا من أزمات في هذا الفكر، إلا أنه الفكر الذي لا يمكن تجاوزه أو نشدان التغيير والإصلاح خارجه، لأنه يستمد مصداقية وجوده من عمق تراثه الرمزي. على أن هذا التراث الرمزي ـ أو على حد تعبير بورديو: الرأسمال الرمزي ـ ليس بديلًا عن الرأسمال المادي، متى ما افتقدت الشعوب لهذا الرأسمال أو عجزت عن تحقيقه. بل إننا نعتقد في هذه الأطروحة، أن الرأسمال الرمزي لا قيمة له إطلاقًا إذا لم يستملك ديناميته ويتحرك في طول مسارات البحث عن لحظة تخارجه التاريخي. أي إنه لا قيمة للرأسمال الرمزي إذا لم يحقق الرأسمال المادي بوصفه قوة ممانعته وعنصر استمراريته. من هنا، فأطروحة التبني الحضاري والتغيير الجذري تنظر إلى الرأسماليين، بمنظار جدلي متكامل، حيث الرأسمال الرمزي يحرز الرأسمال المادي، وبأن الرأسمال المادي من شأنه أن يعيد إنتاج الرأسمال الرمزي على أشكال متطورة من صور التكييفانية الخلّاقة للرأسمال الرمزي؛ وهو شرط حيويته وتطوره.
تقف أطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري موقفًا سلبيًّا من تلك الأطاريح الإسلامية التي تلتف حول الأزمة بتصعيد هجاس الممانعة الهوجاء أو الاستخدام السطحي لمفهومات التبني الحضاري إلى حد الانزلاق في سراديب اللامعنى، على خلفية التبني المغشوش السياسوي. فأما الأولى، فقد بدا عوارها يوم أدركنا أن تصعيد هجاس الرفض غير المستند إلى مشروع رؤية حضارية أو فكر خلّاق، هو مجرد تعميق للأزمة. أما الموقف المغشوش الذي يرى إلى خياراته بوصفها مواجهة حضارية أو بديل حضاري، دون أن يكون قد استنفذ النظر في عمق السؤال الحضاري، أو فتح ورشًا للنقاش الحر حول تفاصيله ومضامينه، إنما فضلًا عن كونه يجرف الوعي الإسلامي إلى أسئلة مغشوشة ويساهم في تمييع عناوين الفعل النهضوي، فهو يزيد في إقامة الأسس المغشوشة والهشة لقيام مشاريع عاجزة ومغالطة، تنصب فخاخًا للفكر الإسلامي وتقوم بحجب نقاط الاستفهام الحقيقية، تحت طائلة التصعيد التعبوي برسم الممانعة الهوجاء.
هكذا تقف أطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري موقفًا سلبيًّا من الأطاريح التي ترتكز على فكرة المؤامرة بلا شرط أو قيد أو تلك التي تتوسل بآليات التلفيق ورد الشبهات وقمع السؤال واختزال الأزمة في عناوين مغشوشة، أو استعجال الحلول أو إطلاق العنان للاستعمال الأهوج للمفاهيم أو التقمصات والإسقاطات التي تجعل أصحاب هذا الخطاب يقعون في ازدواجية الخطاب، أو أن يتبنوا كل آراء مشاريع خصومهم الأيديولوجيين أو السياسيين والهروب إلى الأمام، كما لو أنهم لا خلاف لديهم حول القضايا الكبرى التي تطرحها الحداثة، أو تهريب أسئلة “المراجعة” الجذرية في آفاقها المعرفية إلى فضاءات تمسرحها السياسوي، أو تعطيل فاعلية العقل باستفحال آفة المجمودية على فكر المؤامرة. نعم، إن مقتضى الوسطية، أن تقارب الأشياء في سياق تجادل الداخل والخارج. فأطروحتنا ترى إلى المشكل العربي والإسلامي بهذا المنظور الذي يأخذ بعين الاعتبار، أننا أصبحنا نعيش ضمن نسق علائقي دولي؛ قسم منه بارز وقسم آخر منه، وهو الأكبر، خفي. واليوم، نحن نعيش لحظة حاسمة على صعيد الانتقال إلى عصر الثورة المعرفية والعولمة ومزيد من تداخل وتقاطع المصالح. إن مشكلتنا لم تعد ذاتية داخلية، بل هي اليوم مركب من عوامل ذاتية وأخرى موضوعية. وأطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري، ترى إلى هذه المشكلة على أساس أنها ثمرة لتربص البرانية واستفحال الجوانية. فالمؤامرة حق، لكن علينا أن نفهم المؤامرة في سياق تفاعل الإرادات وضمن أواليات اشتغال العلاقات الدولية. ولذا، إذا استوعبنا أن المؤامرة هي نفسها تتسرب عبر مسام جسد منهار لا يتمتع بما يكفي من الحصانة، فما علينا إلا أن ندرك بأن المؤامرة هي مظهر من مظاهر اللعبة في عالم تتصيد فيه الأقطاب الكبرى الحد الأقصى من المصالح الممكنة. فالمطلوب منا، استيعاب أننا نوجد على أرضية واسعة من لعبة الأمم. وبأن الاستسلام لما تسميه بالمؤامرة غير مبرر، وبأن الحديث عن المؤامرة بلغة أخلاقوية مجردة لن يجدي نفعًا. فالمطلوب، المناورة في قلب هذه المؤامرة، ليس بوصفها ملحمة ماسونية محض، بل بوصفها محصلة تزاحم المصالح والأطماع، قد تستغل فيه كل أشكال الأيديولوجيات والأديان والثقافات، فالكيانات الاجتماعية لا تعبّر عن مصالحها بلغة الأرقام الجامدة المجردة، بل إنها تعبر عنها بطيف هائل من الرموز الثقافية. فبما أننا لا نملك زمام نمونا ولا نتحكم في قوانينه في زحمة تناقض المصالح الكبرى، فليس أمامنا إلا أن نصعد خيار المناورة إلى أقصاه، داخليًّا وخارجيًّا، لتمكين أنفسنا من إمكانات التقدم والنمو والنهضة. فهذه لم تعد حقوقًا تؤخذ بالمجان، ولا حتى تنتزع بالقوة، بل هي حقوق تنتزع بالمرونة والمناورة والمغامرة. إن النهضة والتنمية اليوم هي رهان الشعوب والأمم الأكثر قدرة على المناورة ( التنمية = مناورة).
هذه بعض ملامح الإطار المعرفي الذي تتحرك في ضوئه جل المقاربات التي يتضمنها هذا الكتاب، إنه عبارة عن أسئلة متعددة هي اليوم محل بلوى الفكر الإسلامي المعاصر. نحاول من خلال ذلك المساهمة في رفع إيقاع الفكر الإسلامي المعاصر لاكتساب شجاعة أكبر في نقد الذات ومراجعتها. كتبت قبل أكثر من عقد من الزمان، عن أن الفكر الإسلامي يجب أن يتحلى بالشجاعة في نقد الذات ونقد الآخر. ولا زلت أرى أن أغلب الأطاريح الإسلامية تسعى إلى تجنب السؤال، وتفجر عنترياتها في كل شيء إلا في نقدها الذاتي أو مراجعاتها. على أن جل المراجعات وما يبدو نقدًا ذاتيًّا حتى الآن، ما هو إلا إعادة انتشار لجوهر الأزمة، طالما أن التجديد لم يكن جذريًّا بالقدر الذي يتجه بالسؤال إلى صلب الإطار المعرفي للمفاهيم. وهكذا نظفر بحالة من الكر والفر، التي تستند إلى ذات الأطر والمعايير وهو ما يعني أن التجديد في هذه الحالة ليس سوى خدعة ومخاتلة يمارسها الفكر الفلاني لحماية نفسه، درءًا للانقراض وطلبًا للاستمرارية والبقاء.
فالتجديد الجذري ينهض على أرضية نقدية صلبة، تستهدف النمط المعرفي والبداهات المغشوشة الطارئة على الفكر طروًا خادعًا. إن أطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري تؤمن بالاستيعاب والتجاوز. غير أن لا تجاوز من دون نقد،كما لا نقد بدون علم. ومقتضى هذا المعيار، أن الدعوة إلى التجاوز يتعين أن تسبقها دعوة إلى الاستيعاب. فما لم يستوعب الفكر الإسلامي بشتى مراحل عطائه وفنونه وعلومه وصناعاته، وما لم نستوعب الفكر الحديث الذي نحن جزء منه شئنا أم أبينا، فلن يكون ثمة أي جدوى للحديث عن التجاوز.
إن الوتيرة النقدية المطلوبة، تتحدد بالظروف التي تحكم حركة الفكر، وبالشروط الموضوعية التي ينطلق منها الفكر. ومقتضى هذا المعيار، أن على وتيرة النقد، أن تكون من النفاذ والعمق والدينامية، ما يفوق الوضع المعاش. وهذا ما يعني أن مقتضى ما تتطلبه الوتيرة النقدية، هو التحرك في اتجاه إحداث ثورة نقدية. ولا يخفى ذلك الشرط الرئيس في العمل النقدي؛ أي تحرر الذات الناقدة قدر الوسع، حيث لا نقد من دون تحرر من الوصاية. القدر الكافي من التحرر لرؤية الأشياء كما هي، وبالتالي الشجاعة للتعبير عنها كما هي. ولا يخفى أن شرف العلم هو بموضوعه أو أدلته المعتمدة أو مقاصده. والنقد يتجه إلى هذا الثالوث الإبستمولوجي؛ أي مرجعية الفكر وأدواته ومقاصده. وتقوم العملية النقدية المسندة لأطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري على توسيع اشتغال قاعدة تحرير محل النزاع، فلا وجود لمفهوم غدا من بديهيات الفكر الإسلامي المعاصر حتى نخضعه للبحث والنظر والتحليل، فلا وجود لمفهوم أو فكرة خارج سلطة تحرير محل النزاع. فالمفاهيم مكتسبة غير معطاة. وهي بالتالي متطورة غير ثابتة. وعليها أن تسند وتستند إلى التطور والتجدد. ولا قيمة للمفهوم إذا لم يكن منتجًا. فأطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري، تؤمن باقتصاد العلم وباقتصاد المفهوم وباقتصاد القيمة. فالمفهوم يتغير ويتطور بإعادة إنتاجه وفق شروط ومعايير جديدة. بمعنى آخر، إن المفاهيم لا تموت، بل تنشأ وتتطور، إنها على غرار قاعدة “لافوازية” الفيزيائية: لا شيء يضيع ولا شيء يربح، بل الكل يتحول. وهذا ما يجعلنا نقف على ذاكرة المفهوم في أقدر الآراء والنظريات.
بعد ذلك ندرك أننا استطعنا تحقيق القطيعة النظرية مع النمط المعرفي الذي جعل بعض الأعمال في الفكر الإسلامي المعاصر تتحول إلى “روائع” لا تكاد تفارق هذا الخطاب، وفي طليعتها “الفكر الإسلامي وصلته بالاستعمار” للبهي، أو “جاهلية القرن العشرين” لمحمد قطب.. كما قطعنا نظريًّا مع صيغة السؤال الأرسلاني: “لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم”، والذي ارتد إلى مشروع سؤال في كتاب للشيخ القرضاوي، تحت عنوان: “أين الخلل”. إننا ندرك أن سبب هذا الانسداد هو عدم الالتفات إلى شقاوة النمط المعرفي الذي خيم على الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر؛ ونحن من خلال أطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري ننشد التحول بهذا الفكر إلى فضاء آخر، ومعانقة نمط معرفي جديد، وحده مفتاح الخروج من هذا
المقالات المرتبطة
افقأوا عين الفتنة
تحتدم الخلافات اليوم بين الجماعات الدينيّة والسياسيّة في المنطقة العربيّة والإسلاميّة على مصالح تمسّ هويّة هذه الجماعات ودورها السياسيّ والأيديولوجيّ.
وفي غمرة الصراع العنيف على التفاصيل، كثيرة هي المبادئ والقيم التي ضاعت أو تكاد أن تضيع.
التأويليّة الإسلاميّة وسؤال المعنى
يتمّ تناول النصّ من خلال ما يثيره من معانٍ تنسبق منه إلى ذهن القارئ، ويتجلّى المعنى وفق مستوياتٍ متفاوتةٍ تساهم فيها المفردة اللغويّة إلى جانب تركيب الجملة والسياق الكلّي
في تحولات العولمة
ثمّة آفاق وتحدّيات عديدة تطلقها وتفرضها مسيرة التحولات والتطورات التي تجري في العالم اليوم وعلى مختلف المستويات. ولا يمكننا كمجتمعات