نشأة الباطنية وأثرها في الأديان (2)
أسرار الهند
وأما بلاد الهند فهي مجمع الأسرار، وموطن الأساطير، تمتاز بتعدد الأصول العرقية وتنوع الديانات، وكثرة اللغات التي زادت عن مائتي لغة، أما الشعب الهندي، فيميل الكثير من الباحثين إلى أنهم من أصول هندو-أوروبية غزت تلك البلاد الواسعة، التي تقارب مساحتها مليوني ميل مربع، وآخرون من التورانيين الذين جاؤوا إليها من الشرق، واختلطوا بقبائلها الأصليين الذين يرجعون في جذورهم إلى العنصر السامي، وكانت لهم مدنيتهم وديانتهم وتفكيرهم[1].
إنه لأمر طبيعي أن تتشكّل ثقافة، أو ثقافات جديدة، إذا اجتمعت مجموعات متباينة، ذات أعراق مختلفة ونظم اجتماعية متفاوتة، وعادات وتقاليد وديانات متعددة، وشكلت نسيجًا اجتماعيًّا مشتركًا في ما بينها، فيأخذ الكل من الكل، ويتأثر بعضهم ببعضهم الآخر.
وهذا ما حصل للهند التي جمعت منذ 2500 قبل الميلاد كل هذه الأعراق والعادات والأديان من سامية وآرية وتورانية وغيرها، فأنتجت حضارة مليئة بالأسرار والأساطير، واختلط فيها الأصيل بالدخيل، فتباينت فيها الاتجاهات الفكرية والدينية، كما لم تشهده أية منطقة أخرى من العالم القديم، وساعد على ذلك اتساع مساحتها الهائلة، وتباعد السكان بعضهم عن بعض، فشكلت كل جماعة مجتمعها وعاداتها الخاصة بها.
إلا أن هذه الجماعات لم تبق منعزلة بشكل مطلق، فقد دلت المكتشفات الأثرية في الهند، على وجود علاقات تجارية واقتصادية متينة بين الهند والسومريين والبابليين، دامت حتى القرن الثالث قبل الميلاد[2].
إن هذه العلاقات الوطيدة مع السومريين والبابليين، بالإضافة إلى الأصول العرقية السامية للسكان الأصليين، تشكل العنصر الأساسي في ميل بعض الديانات الهندية كالبوذية إلى التوحيد، في ما يبدو، كما أنه يمكن إرجاع عناصر الأسرار والعقائد الخفية إلى الأصول الآرية، التي شكلت جزءًا من النسيج الاجتماعي في الهند.
ومما يؤيد هذا الاحتمال ما ذهب إليه فريق من الباحثين من أن السكان الأصليين كانوا أرقى عقلية وأعظم مدنية من الفاتحين أي الآريين، وإن قرر بعض آخر عكس ذلك حيث ذهبوا إلى أنهم كانوا قبائل متفرقة، لا تجمعهم وحدة سياسية، ولا يربطها كيان اجتماعي واحد[3].
إن الاتجاهات الفكرية الكبرى في الهند، لم تقتصر على البعد النظري للتفكير والمعرفة، وإنما كانت تؤكّد في جانب مهم منها على الممارسة العملية والسلوك الإنساني المتطابق مع النظر العقلي، والمفعل له اجتماعيًّا[4]، وهذا ما أدخل الحكمة الهندية بمذاهبها الكبرى في منظومة الأديان عند كثير من الباحثين، دون أن تتجرد بالكلية من البعد الفلسفي، بل أن من الباحثين المسلمين من يرى أن بوذا كان نبيًّا من الأنبياء، رغم أنه لم يرد له أي ذكر في القرآن الكريم أو في السنة النبوية المطهرة، ذلك أن القرآن الكريم لم يتعرض لذكر جميع الأنبياء والمرسلين[5].
وقد تجلّى البعد العملي في الفلسفة الهندية عند بوذا بالحقائق الأربعة المتعلقة بالإنسان، والتي تمكّنه من الخلاص والوصول إلى المعرفة الكلية، وهذه الحقائق عبارة عن تجارب ذاتية، يعيشها الإنسان في مسيرة حياته، فيحصل على الخلاص بطيها وإدراكها.
وهذه الحقائق الأربعة هي:
1- الحقيقة الأولى: أن هذه الحياة ألم من حين الولادة، إلى آخر الحياة.
2-الحقيقة الثانية: أن الجهل هو سبب الألم، ذلك أن الجهل يولّد الرغبة، والرغبة تولّد الألم.
3-الحقيقة الثالثة: أن التغلب على الجهل تغلب على الرغبة، وبالتالي فهو تغلب على الألم.
4-الحقيقة الرابعة: أن الطريق إلى إزالة الألم متوقف على صحة الفهم، والهدف السليم، والكلام في الحق، والسلوك المسالم، ونحو ذلك.
وبهذا نرى أن البوذية تبتعد عن الباطنية، بما فيها من سلوك اجتماعي ومعرفي لدى أتباعها، إلا أنها لم تسلم من هذه الظاهرة بالمرة، ويبدو أن شأنها في ذلك شأن سائر الأديان، ذات البعد التوحيدي، حيث أدخل أتباعها فيها ما ليس منها، كما تقدمت الإشارة إليه.
وحدة الدين الإلهي
إن ما لا شك فيه أن الدين الإلهي قد جاء لأجل تنظيم حياة الإنسان، وتحقيق سعادته في دار الدنيا والآخرة على السواء، وقد ورد الكثير من الآيات القرآنية الشريفة، التي بينت هذه الحقيقة، قال تعالى: ﴿ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ…﴾[6].
وقال تعالى على لسان نوح (ع): ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً *يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً﴾[7].
وقال تعالى عن أهل الكتاب: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلاَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنجيل وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لاَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ…﴾[8].
وقد ظهرت هذه الحقيقة نفسها في كل من الإنجيل والتوراة، ففي الإنجيل تجد أن السيد المسيح (ع) قد لعن تينة ذات مرة فيبست في الحال، فتعجب التلاميذ وسألوه عن سر ذلك، فقال لهم: “الحق أقول لكم لو كنتم تؤمنون ولا تشكون لفعلتم بهذه التينة مثل ما فعلت لا بل كنتم إذا قلتم لهذا الجبل قم وانطرح في البحر يكون لكم ذلك، فكل ما تطلبونه وأنتم تصلون بإيمان تنالونه”[9].
وقال لهم مرة أخرى: “الحق أقول لكم لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل لقلتم لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هناك فينتقل ولما عجزتم عن شيء”[10].
وكذلك الأمر بالنسبة إلى التوراة، فقد أظهرت في كثير من المواطن أن تقوى الله والعمل بطاعته يؤدي إلى الاستقرار بالأرض والإحساس بالأمن والطمأنينة وأن عاقبة معاصيه، والتمرد على أوامره ونواهيه، تؤدي إلى الإبادة والطرد، وقد عالجنا هذه المسألة في كتاب “وعد التوراة لمن ـ قراءة مختلفة في التوراة”.
إن من الظاهر أن الدين الذي يأتي لصالح سائر الناس لا يمكن أن يتسم بالغموض والسرية، لأن المفروض أنه يمس حياتهم جميعًا، ويتصل بسلوكهم العملي بشكل مباشر، والإنسان بطبعه مفطور على الهروب من المجهول، والتعلق بما يؤدي به إلى تحقيق السعادة المنشودة، ولا بدّ أن يكون واضحًا لديه، إذ لا تنتظم حياته من خلال الأسرار والرموز، فضلًا عن اعتقاده بالآخرة، وقد أوضح القرآن الكريم هذه الحقيقة بشكل واضح، حيث يقول تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾[11].
وفي مقام بيان وحدة الدين الإلهي، وأنه لا خلاف فيه من حيث المبدأ بين سائر الأمم، والفرق إنما يكون في التفاصيل التي يمكن أن تتغير، تبعًا لتغيّر الظروف المحيطة بكل مجتمع، والبيئة التي نشأت فيها دعوة كل نبي، فتأتي دعوته مناسبة للمجتمع الذي وجهت إليه، قال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾[12].
[1] لاحظ: د. أحمد شلبي، مقارنة الأديان، الجزء4، الصفحة 21، ود. محمد غلاب، الفلسفة الشرقية، الصفحة 88، وقصة الحضارة، مصدر سابق، الجزء3، الصفحات 15-19.
[2] محمد حسن، تيارات الفلسفة الشرقية، الصفحة 135.
[3] المصدر نفسه، الصفحة 91.
[4] تيارات الفلسفة الشرقية، مصدر سابق، الصفحة 137.
[5] د. علي زيعور، الفلسفة في الهند، الصفحة 192.
[6] سورة هود، الآية 3.
[7] سورة نوح، الآيات 10-12.
[8] سورة المائدة، الآيتان 65-66.
[9] إنجيل متى: 21/18-22
[10] إنجيل متى: 17/17-20
[11] سورة الروم، الآية 30.
[12] سورة الشورى، الآية 13.
المقالات المرتبطة
الإمام موسى الصدر والمجتمع المقاوم
يشكِّل المجتمع المقاوم المجال الحيويّ لفعاليّة كلّ حركة تحرير وطنيّ تتوسّل المقاومة المسلّحة في مواجهة مختلف أشكال السيطرة والاحتلال المباشر. ولا يمكن فهم قدرة هذه المقاومة، في مراحل تأسيسها وتواصلها وصولًا إلى انتصارها،
إدارة العقل
هناك علم إدارة المشاريع، والوقت والمنزل والمدرسة وخلافه، لكن واقعنا يحكي عن حاجتنا لإدارة من نوع مختلف، ليست خارجة عما سبق ذكره، لكنها الأصل وقطب الرحى؛ هي “إدارة العقل”، وإدارته لا تتم إلا من خلال ضبط موارد تغذيته بالأفكار، وخاصة ضبط جودتها وفعاليتها ومدى صدقيتها ومحاكاتها للواقع.
العصيان المعرفيّ والتفكير المستقلّ والحرية الديـ-كولونيالية
يُحكى أنّه كان في سالف الزمان، باحثون يفترضون أنّ الذات العارفة، في مختلف الاختصاصات، شفّافة منفصلة تمامًا عن الشيء المعروف، وتوجد بمنأى عن التشكيل الجغرافي