by الدكتور إدريس هاني | أبريل 4, 2022 10:01 ص
الخلاصة
تقدم دولة المهدي الموعود من خلال ما توصلنا به من نبوءات ومظاهر دولته المنتظرة شريطًا يكاد يكون متكاملًا عن أحوال دولته وسياسته ومشاريعه، تزخر بدلالات التزامية كبرى، وتتمحور حول حقيقة طالما تشوق إليها البشر وشكّلت حلمهم الدفين، بل والمعلن أحيانًا. إنها دولة تلخص حلم البشر في القضاء على كل ألوان الظلم والجور، وتؤسس لدولة العدالة بمعناها الفريد. ذلك لأن مسيرة البشرية الممتدة عبر آلاف السنين أكدت بأن خياراتها السياسية العادلة لم تعد تقوى على مواجهة أشكال المقاومات السلبية التي تعيق سير البشرية لتحقيق العدالة. حتى أن الأمر أصبح يتجه اليوم إلى نوع من ارتضاء النماذج القاصرة التي لا تبلغ بالاجتماع إلى حاق العدالة، بقدر ما تسعى إلى الإقناع والاقتناع بأن ليس في الإمكان أبدع مما كان، وبأن العدالة الاجتماعية والإنسانية غاية لا تدرك.
وبأن المطلوب هو الرضى بالقدر المتيسر، والإغضاء عن كل الحلول الحالمة والمشاريع الطوباوية التي يتعذر تحقيقها في دنيا البشر. فالظلم والجور غدا معضلة بنيوية، ودورته باتت مأزقًا نسقيًّا. وإن أي حل لا يكون ثوريًّا سوف لن يحل معضلة الإنسان، وليس أي ثورة تقصد هاهنا في المقام؛ بل المقصود قيام ثورة كونية. بهذا المعنى تحديدًا نفهم لماذا عبر الخبير الأميركي ذات مرة عن الخيار الليبرالي بأنه نهاية التاريخ وعن الرجل الليبرالي بأنه خاتمة النوع. وبينما ساد الانطباع كذلك بأن دنيا البشر هي ساحة لتزاحم المصالح والصراع بحيث بتنا نسلم منذ ابن خلدون حتى اليوم بأن الأمر حتى تعلق بأرقى مستويات الديمقراطية لا يعدو مجرد نمط من التغلب السياسي أكثر نعومة من ذي قبل. وبأن العصبية والتغلب هما أساس التسلط في الدولة الحديثة أيضًا. إلا أن البعض لا يكاد يدرك من نموذج دولة الموعود سوى أنها ارتقاء بفكرة المستبد العادل إلى منتهاها.
وعليه، تعيّن وضع ما به امتياز دولة الموعود وتحريرها من سلطة الإسقاطات المنهجية والأيديولوجية التي تتيحها النماذج السياسية الراهنة والتاريخية، باعتبار أن دولة المهدي هي في نهاية الأمر ليست نموذجًا تاريخيًّا مستعادًا، بل هي نموذج مستقبلي لم يطبق ولم يكن في مكنة الشروط التاريخية ما يسند هذا الحلم الذي يعبّر عن رشد البشرية وقوة إمكاناتها. إنها بهذا المعنى تلخص كل آمال الأنبياء والرسل والمصلحين عبر التاريخ، إنها لحظة التطبيق الأولى لكبرى القيم الإلهية والإنسانية على الأرض، لذلك كانت وعدًا، ليس للمسلمين فقط، بل هي وعد للبشرية جمعاء منذ آدم حتى يومنا هذا.
ما سنبحثه في هذه الورقة يتعلق بما هو محل تميز دولة الموعود وخصائصها، لا سيما إزاء ذلك الشكل الذي توحي به عند النظرة الأولى، نعني المستبد العادل. وأيضًا إبراز ملامح الجدة والمستقبلية والتاريخانية في هذا النموذج الرسالي المشرق. وأيضًا توضيح جانب الخاتمية كأساس تغدو فيه دولة المهدي ضرورة أكثر من كونها ضرورة سياسية، بل ضرورة حضارية كونية، ضرورة يفرضها الاجتماع الإنساني. ليس من حيث إنها خاتمية الرسالة، بل من حيث هي تمامها الذي لا يتقوم إلا بوجود إمام مخلص يحقق ما لم ينجز بعد. لذا كانت تمام النعمة.
دولة المهدي باعتبارها نهاية التاريخ والمهدي باعتباره الرجل الأخير
ليس جزافًا أن سمّى فوكوياما محاولته الكلاسيكية: نهاية التاريخ والرجل الأخير. إنها صياغة تحمل شحنة تحيل على أكثر أشكال الإيمان رسوخًا في وجدان الإنسان الحديث. لقد قدمت الليبرالية نفسها تعبيرًا عن التجسيد المقدس عن حلم البشر بالعدالة والحرية. واستمرت كذلك مع نجيبتها النيوليبرالية بوصفها نهاية تجسد هذا الحلم. هكذا استندت الليبرالية على تقديم نموذجها باعتبارها وعد الله على الأرض، ومظاهر عدن متحققة بقوة العمران وجاذبية هذا النمط الأبيقوري الذي جعلها تستقوي بمظاهر الاستهلاك والرفاهية والعيش الكرنفالي، مما يحجب كل أشكال العذابات والتدمير الممنهج للاجتماع والبيئة وسلطة التهميش لأغلبية البشر من أن يكونوا شركاء في الحد الأدنى من الثروة والموارد والخيرات. وهي بالتأكيد ضريبة هذه الكرنفالية الدائمة لعدد محصور من النوع يبني رفاهيته فوق عذابات أغلبية المعمورة. العنوان الأخير هو نوع من الشماتة والسخرية المقنعة بهذه الملايين المعذبة والمهمشة في المراكز والأطراف، حيث راهنوا طيلة الحرب الباردة على نموذج أكثر عدالة لينقلهم إلى بعض من تلك الرفاهية التي يحتكرها الأقلون في عالم النيوليبرالية المشحون بكل قيم التغلب والسيطرة والقمع والتحرش بالسياسات الاجتماعية الضامنة لحرية وكرامة هذه الشريحة الأغلبية من المجتمعات. إن سقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار سور برلين كانا نقطة الانطلاقة لهذا النوع من الطروحات التي تسعى إلى انتزاع الاعتقاد من وجدان البشر بإمكان انبعاث دولة العدالة الاجتماعية من نموذج ما هو بالتأكيد خارج اليوم هو هاهنا، وبأن الغلبة للمعسكر الشرقي هي الحجة البالغة على انتصار الليبرالية. بل هي نفسها ذلك الحلم الذي تنتظرونه. لذا كانت برسم تاريخانيته المغالطة نهاية تاريخ النماذج وكان الرجل الليبرالي والأميركي هو الرجل الأخير.
لعله من المفارقة أن تسعى الليبرالية عبر الخطاب الفوكويامى إلى فرض نموذجها الحالم بغلب الأيديولوجيا وتداعيات الهيمنة الآحادية عشية نهاية الحرب الباردة. وقد كان هذا منتهى الشطط في إرادة الهيمنة على الوجدان والعقول والضمائر، مع أن لحظة هذا الاستئثار الأيديولوجي كانت هي أسوأ لحظة وآلمها على المجتمع الدولي. هذا دون أن نتحدث عن تداعياتها المدمرة التي اتجهت بالعالم نحو مزيد من التفقير والتدمير حتى لتلك المكتسبات التي حققتها البشرية عبر نضالاتها الحقوقية والتحررية. لم يصاغ هذا النموذج الخلاصي الفوكويامي في وجدان البشرية، بل لقد أريد له أن يصاغ في دوائر الهيمنة الشطط في الاستكبار.
لم يعد اليوم وبعد مرور سنوات على إطلاق هذا الخطاب الحالم ما من شأنه أن يدعم كل المسوغات المحشدة التي ساقها فوكوياما للدفاع عن صواب أطروحته. فلقد لجأ ككل ناسج أيديولوجي على أفكار منتزعة من سياقاتها ومقاصدها لدعم خيار لا يزال وراء كل أشكال التفقير والتدمير الممنهج للاجتماع الإنساني. فحتى قبل بزوغ الرأسمالية، لم يكن الفقر يومًا عاملًا لتخريب الاجتماع الإنساني وقيمه. لقد جاء التخريب مع شكل مزيف من أيديولوجيا الوفرة. تلك التي تعني بالملموس تقسيم العالم إلى فسطاطين: أحدهما ينعم بأقصى فرص الوفرة، والآخر وهو القسم الأكبر يتأرجح بين الفقر وما تحت الفقر. لقد أظهرت الأحداث بؤس هذا الوعد الكاذب لأيديولوجيا بقدر ما تنحت أيقونتها الأيديولوجية بعناية، ترسم كاريكاتورًا لنهاية دراماتيكية لكل أشكال الأيديولوجيات. حقًا إنها أيديولوجيا محتالة: أيديولوجيا نهاية الأيديولوجيات!
لقد سعى هذا الأخير عبر صياغة تلفيقية من فلسفات تتناقض في مبدئها ومنتهاها مع هذه النهاية السيئة التي اكتمل نشيدها عشية انهيار المعسكر الشرقي، إلى أن يصور النيوليبرالية كحركة طبيعية قُدِّر لها أن تواجه كل هذه المضادات لتراتبية التطور التاريخي، ما جعلها انتصارًا لطبيعة الأشياء. ففي محاولة تحريفية قصوى استعار هذا الأخير المنظور الهيغلي ليغطي على أزمتين بنيويتين في المشروع النيوليبرالي:
الأزمة الأولى: تتعلق بفلسفة التاريخ الهيغلي التي ترى تاريخ البشر هو صيرورة غير منقطعة بحثًا عن الاعتبار والكرامة. وهذا المنظور حتمًا لم يعد مؤسسًا حقيقيًّا للنيوليبرالية بنكهتها الفيكتورية التي حولت مفهوم الاعتراف والكرامة لينحصر في أولئك السادة الذي امتلكوا على حين غفلة وبأي شكل اتفق قدرة التحكم بثروات الأمم، وأيضًا مكنهم ذلك من الاستغلال الأقصى لعموم الخلق. فالرأسمالية في أطوارها النيوليبرالية اليوم هي لحظة عارمة تقوم على مولنة الكرامة، واختزال الرقي في المراكمة التي عادة ما تقوم على المضاربات المالية الوهمية المدمّرة للسياسة الاجتماعية والاقتصادية.
الأزمة الثانية: حيث لم يصدقنا فوكوياما حينما جعل من الفلسفة الهيغلية رجز أيديولوجيته النيوليبرالية. إن غاية الإنسان ليست اقتصادية. وهنا تصلح الهيغلية مستندًا ضد النزعة الماركسية. فليس بالإمكان أن نبرر أهمية الديمقراطية لو سقطنا في هذه النزعة المادية لتاريخ التقدم البشرى.
صحيح قد تكون الهيغلية برسم المادية الماركسية جدلًا مقلوبًا يمشي على الرأس. لكن تاريخ النيوليبريالية مع كل هذا الادعاء لم يكن يومًا استجابة لهذه النزعة الهيغلية بقدر ما هو معانقة لهذه النزعة المادية. المادية التي جعلت من الديمقراطية اليوم وسيلة للإجهاز على آخر ما تبقى من آثار للقيم والكرامة. لم تكن النيوليبرالية هي حصيلة نضال طويل من أجل الكرامة، بل هي نفسها ذلك الخطر المهدد للكرامة، وبالتالي هو ما يجب الانتصار عليه. يقول فوكوياما مدافعًا عن فكرته ومنزّهًا إياها عن زيف الأيديولوجيا: وبالرجوع إلى سؤالكم وعن ما أشرتم إليه من أن نظرية نهاية التاريخ هي أيديولوجيا، فإني أقول: ليست أيديولوجيا بالمعنى الذي حملته تسمية أيديولوجيا منذ زمان، إن نهاية التاريخ هي أكثر من ذلك، إنها وصف وتحليل للأسلوب وللطريقة التي يتغير بها العالم ويطور بشكل أمبريقي نظامه السياسي في الزمان.
يحاول فوكوياما أن يقنعنا كما فعل في كتابه المذكور بأن ثمة رؤية إمبريقية للتاريخ يستند إليها هذا النوع من الوعد الكاذب بنهاية التاريخ عند أعتاب النيوليبرالية. والحق أن الأحداث التي رافقت هذا الإعلان لم تكن لتعزز من صدق هذه الأطروحة. إن حديثه الإنشائي عن النماذج الواعدة في آسيا هي دليل على انتصار الليبرالية. وقد سعى لتبرير عظمة النموذج الآسيوي الذي قادته ثورة النمور الآسيوية. حتى لو اقتضى الحال أن يجازف هذه المرة ويقلل من نزعته الهيغلية.
المهدوية وحتمية الطريق الثالث
يوقفنا تاريخ الفكر السياسي على ضربين من المخارج الرئيسية للاستبداد ونظام السلطان العاري. ولم يشهد تاريخ الفكر السياسي من مخرج حقيقي سوى منظورين سرعان ما استتب الأمر لأحدهما بعد أن أصبح الأول هو نفسه موضوعًا للاستهجان والامتعاض. ونقصد بذلك مفهوم المستبد العادل ومفهوم الديمقراطية. وحتى وإن كانت معظم النظم السياسية المعاصرة لا زالت تدين لفكرة الاستبداد، فإن الديمقراطيات هي نفسها باتت تستنجد بسلطة المستبد حتى يرعاها، مما جعلها غاية في ذاتها وليست وسيلة لتحقيق العدل وتأمين الحقوق. إن فكرة المستبد العادل ما هي إلا مخرج من كل أشكال الطغيان العاري الذي عرفته البشرية ووسم تاريخها بالعنف والعبودية والانحطاط. ومشكلة المستبد العادل في حكومة الموعود لا موضوع لها، لأن حكومته جاءت لتتجاوز معضلة أقصى ما بلغته البشرية في نظمها السياسية، أعني الديمقراطيات. فهي متجاوزة لنموذج المستبد العادل برتبتين، ما دامت هي متجاوزة لما كان متجاوزًا لها، أي النظام الديمقراطي. ولعل الشبهة في المقام، أن حكومة الموعود يحكمها شخص واحد. وهذه الشبهة تخطئ مناط قيام النماذج والنظم السياسية وفلسفتها؛ لأن الديمقراطية نفسها لم تكن هدفًا في ذاتها إلا بالقدر الذي تمكننا من بلوغ أفضل اختيار حر للحاكم. ليست الديمقراطية في نهاية المطاف وبكل المخارج التي لحقتها من أجل التقليص من صلاحيات الحاكم الفرد، مثل الانتخاب الدوري والفصل بين السلطات، إلا بحثًا عن حكم العادل. وليس الانتخاب الحر نفسه هدفًا في ذاته، بل من حيث هو طريق لاختيار الأفضل. فإذا كان الطريق إلى معرفة الأفضل غير هذا النموذج، فإنه المطلوب، لأنه الغاية، بل اختيار الأعدل هو قيمة القيم. إن مفهوم العدالة يتناقض مع الاستبداد بمعناه السياسي.
فالعدالة في ظل هذا النموذج هي مصلحة المستبد بما هو أقوى وليست العدالة المطلقة التي تتحرك في الاجتماع السياسي الموعود على أساس العدالة والعلم والمهمة الرسالية، بل ليست أحكامها جزافية ولا أحكامًا مزاجية، بل هي تنفيذًا أمثل لقانون أمثل. وقد جاءت الديمقراطية لتعيد الاعتبار إلى حق الشعب في اختيار نموذجه وحكم نفسه بنفسه عبر آليات وهيئات تمثيلية تمارس الحكم والرقابة حتى تحاصر تشكل الاستبداد بالسلطة ولا حتى الاستبداد بسلطة من السلطة المفصول بينها. لكن الجدل الذي شهدته ولا تزال المجتمعات حول نواقص الديمقراطية وفشلها بالارتقاء بالإنسان وحماية قيمه، بل كونها أصبحت وسيلة لتدمير القيم الجماعية بفعل تغول سلة الفرد وفوضى الحريات وانهيار مفهوم الأسرة وما شابه، هو نفسه أصبح طريقًا لا يقل ضراوة عن سابقيه، طريقًا لأشكال جديدة من الطغيان والتدمير الممنهج لقيم الإنسان.
إن الديمقراطيات اليوم في البلدان المتقدمة لا تخلوا من هذا النوع من الاستبداد الناعم الذي يجعل السلطة لا تفلت من أيدي بارونات المال والمتنفذّين وأعوانهم. يلعب المال والمصالح الشخصية والفئوية دورًا حاسمًا في اللعبة الديمقراطية. فالأمر كما يبدو تحول من نظم تفرض نفسها بالباطل والاستبداد القائم على القوة، إلى نظم تسمح باللعبة السياسية، على شرط أن تكون لعبة بين أقوياء مسلحين بالمال والنفوذ، وبين أشخاص منزوعي السلاح والقوة. لعبة يدرك الجميع أن مالها الوحيد هو استبداد مقنّع بالسلطة. إن دولة الموعود لا هي استبداد شخصي لأن مفهوم التشخصن أبعد من أن يكون سمة للإنسان الكامل المنزّه عن الأنا. وكذلك هي أبعد من أن تجعل مصائر الخلق متوقفة على لعبة الديمقراطيات التي أوجدت أشكالًا أخرى من الجور البنيوي، لا طريق للخلاص منه إلا مع قيام دولة الموعود. إن هذه الأخيرة هي إعلان صريح عن نهاية عصر المستبد العادل وعصر الديمقراطية، لأن عنوانيهما سينتفيان لا محالة بعد تحقيق النموذج الأكبر، حكومة الإنسان الكامل. أعني حكومة تلتقي عندها مقاصد الخالق والمخلوق. يكون الاستبداد فيها ليس ذاتيًّا، بل موضوعيًّا كما هي جملة الحتميات الطبيعية الأخرى.
وإن الموعود سيحكم الناس في طريق العدل بقوة الحتميات الطبيعية. فإذا تحقق خروج الإنسان الكامل وظهر، انتفى موضوع المستبد العادل كما لم يعد للديمقراطية موضوعًا. فاختيار الأصلح مع وجود الإنسان الكامل، لن تكون حينئذ إلا وقاحة من الأشرار الذين سيكابرون رغم الصيحة – الإعلامية – التي ستجعل الموعود معروفًا لدى العالم، لا يجهل استحقاقه أحد. ولا شك أن الانتخاب الطبيعي في المقام هو العمدة التي ينتفي معها موضوع الاختيار الحر. ليست الديمقراطية هي النظام الأمثل والأخير، بل هي أفضل من سواها مما في يد البشر، لكنها كانت دائمًا تأكيدًا على تلك الحقيقة التي يتعين أن لا يمارس النسيان في حقها، هي كونها تقر بأن لا ضامن للعدالة في غياب نظام النبوة والإنسان الكامل، وبأن دولة الموعود هي وحدها النظام الذي يحمل خصائص دولة النبوة والإنسان الكامل المفقود.
هل هي دولة أم قومة
يتطلب الأمر عودًا إلى المعجم السياسي للوقوف على مفهوم الدولة بمدلوله المعاصر. وحتمًا إننا ندرك أن الدولة لم تبرح حياة الاجتماع الإنساني منذ عرف الأشكال الأولى للتنظيم والإدارة العقلانية لجماعة بشرية ما، لكن هذا لا يمنع من القول: إن مفهوم الدولة الحديثة برسم التعريف الويبرى الشهير لا يغدو أن يكون إلا كما ذكرنا، التدبير العقلاني، حيث لا يسعنا تمييزه عن أي دولة في تاريخ النوع سوى بهذا الشمول والعمق والنضج العقلاني كما شهده تاريخنا الحديث. لذا كان الأمر سيكون صعبًا، لا بل متعذّرًا أن تقوم دولة الموعود في شروط تاريخية غير الشروط التي ينعم بها تاريخنا الحديث والمعاصر. إن الدولة بمعناها اللغوي تحيل أيضًا إلى الجولة، ودولة الموعود هي خاتمة الجولات، وبالتالي خاتمة الدول، وهي منتهى التدبير العقلاني الذي لا يدع مجالًا للاحتمالات الكبرى، لأن نضج البشرية بهذا النموذج سوف يتعدى كل أشكال النضج التي وسم بها تاريخنا الحديث منذ قررها كانط مجيبًا عن سؤال ما معنى التنوير؟
إننا ندرك أن معضلة الاجتماع السياسي والذي فجر إشكاليات الفكر السياسي والاقتصادي، هو الندرة. فلو أننا سلطنا الضوء على كبرى نظريات الاقتصاد السياسي والعلوم السياسية والفكر السياسي، سنقف على تلك الحقيقة التي لا زالت تؤرق العقول. لدينا دائمًا في أي اجتماع سياسي أو جغرافيا سياسية عددًا محدودًا من المناصب والموارد والامتيازات. وحيث أصبح من الصعوبة بمكان تأمين الحقوق برسم الرفاهية لكل الشعب، إلا على أساس التوزيع الظالم للثروة وبالتالي النفوذ، فإننا سنجدنا دائمًا أمام ذلك المبدأ الأساسي والطبيعي الذي توارى بمخاتلة وراء مفهوم العقد الاجتماعي والديمقراطية، أعني مبدأ القوة الذي هو العامل الوحيد الذي لا نزال نفسر به كل أشكال الاجتماع السياسي بما في ذلك الشكل الذي ينتمي إلى دولة الرفاهية. وجود القوة الفئوية ووجود الندرة عاملان أساسيان في هذا الانسداد السياسي الأعظم.
تزعم دولة الموعود بأنها ستنطلق من هذين العاملين في تحقيق نموذجها. إنها من جهة تتحدث عن القوة، ولكن وحيث يتعذر غياب القوة فإن دولة الموعود تتحدث عن تمركز عادل للقوة. إن قوة المهدي لا تستمد فقط من القدرة على التغلب بوسائط بالغة الإعجاز، بل هي ارتقاء في الأسباب والسنن. لعل أهم مصدر لقوة المهدي هي قناعة الشعوب بقيمة النموذج الأمثل الذي سيجعلهم بعد يأس جماعي مرير يقفون على معنى جيد ومطلق للعدالة الاجتماعية. إن الإلحاد لا يملك كل هذه الخاصية من اليقين والقوة حتى يصمد أمام الحجة الكبرى للموعود، أو يملك كل هذه الخاصية من اليقين والقوة حتى يصمد أمام الحجة الكبرى للموعود، أو يملك حتى من المصالح حينئذ ما يغري به دنيا البشر. فالمهدي سينمي دنيا البشر حتى يصل إلى كل ذي حق حقه، فلا مجال للابتزاز والمساومة باسم الدين، بل لا مجال أن يتعرى الإنسان من قيمه النبيلة ليكسب رهان المصلحة المشروعة. فدولة المهدي ستجعل المعاش متماهيًا مع القيم، بل ستجعل غذاء الإنسان قيمًا كبرى بعد أن يتشبع بحقوقه المادية، ويدرك أنها لا تفرض عليه كل هذا الحرص والخوف من فوات الفرص. إن واحدة من مصاديق القوة المهدوية، امتلاكه الحجة الكبرى، فلا يظل صاحب دين في غمرة الشبه، فالناس هم أنفسهم سيثورون في وجه من عارض المهدي.
فعن أمير المؤمنين: إذا بعث السفياني إلى المهدي جيشًا فخسف به بالبيداء، وبلغ ذلك أهل الشام قالوا لخليفتهم:
“قد خرج المهدي فبايعه وأدخل في طاعته وإلا قتلناك، فيرسل إليه بالبيعة. ويسير المهدي حتى ينزل بيت المقدس وتنقل إليه الخزائن وتدخل العرب والعجم وأهل الحرب والروم وغيرهم في طاعته من غير قتال حتى تبنى المساجد بالقسطنطينة وما دونها”[1][1].
ولا ندري كيف سيتخلف عن دولته اليهود والنصارى وقد استخرج التوراة والإنجيل وأوضح أنه موعود العالم جميعًا، بل كيف يظل الغرب المسيحي بعيدًا عن هذه الدولة وقد تزامن ذلك مع نزول المسيح (ع) حيث لنزوله مغزى عميق، فهو أكبر شاهد على شرعية الموعود، لما يصلي وراءه ويبايعه. عن عبد الله بن عباس، قال رسول الله (ص): “والذي بعثني بالحق بشيرًا لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه ولدي المهدي فينزل عيسى بن مريم فيصلي خلفه”[2][2].
كل الأحداث والوقائع التي ستجري تباعًا تزامنًا مع ظهور المهدي، تجعل قناعة الناس بدولته أكبر، وتفقد قوى الباطل شعبيتها المزيفة؛ لأن الناس ترفض بطبيعتها أهل الباطل، وهي لا تنقاد إليهم إلا إذا أجبروها على ذلك الشكل من الاستعباد بقوة البطش والابتزاز، فإذا تحولت سلطة السيف إلى المهدي ولم يعد في أيديهم ما يصلح للابتزاز، تحول الناس طوعًا إلى حكومة العادل وتركوا الباطل بلا رجعة.
فتكون الأغلبية خيّرة، لأن الأغلبية بإنسانيتها خيّرة، وكذلك الأغلبية برسم التهميش والفقر والاستضعاف ستدرك قيمة العدالة الموعودة، وتدرك أيضًا أن دولة المهدي سوف تحتكر العنف العالمي على أساس مشروع العدالة الإنسانية. هذا بالإضافة إلى عدالة الإمام التي تضمنها عصمته بوصفها أعلى مدارك العدالة، فلا عدالة فوق عدالة المعصوم، بل إن قومة المهدي لن تكون إلا بعد أن يصبح الناس مؤهلين لاستيعاب أزمتهم وانحطاطهم فتتجه أفئدتهم لنموذج آخر جديد وحاسم. وهذا يتحقق على خلفية تفاقم خيبات الأمل وانسدادات الفكر السياسي وبداية التطلع إلى طريق ثالث حتمي لكنه مستحيل في ما بين يد البشر من مقدمات مضادة. فحينما تملأ حكومة المهدي ثغرات النظم السياسية سيدرك العالم أنه الأعدل لا محالة، بل سيدركون متأسفين أنهم كانوا ظالمين لأنفسهم أو كانوا مخدوعين عبر تاريخ من الجهل والطغيان والانحطاط السياسي. إن حكومة المهدي قد تستوعب كل إيجابيات نموذج المستبد العادل وكل إيجابيات الديمقراطية، لكنها ستتجاوز كل ثغراتهما. ومن هنا كان لا بدّ للناس أن يجربوا إيجابيات المستبد العادل والديمقراطيات، وأيضًا يقفوا على ثغراتهما ليدركوا قيمة حكومة المهدي. فقوة دولة الموعود هي قوة نموذجه، ورعب المهدي هو ضد حراس ثغرات نموذج المستبد العادل وثغرات الديمقراطية التي هي سبب بؤس الإنسان وعامل تدمير للعدالة الإنسانية. ليس فقط أن دولة المهدي هي تجاوز للنظم السياسية الوضعية، بل هي تجاوز للتطبيقات الفاسدة للنظم الدينية وثورة على التحريفية، فهي نموذج مستقبلي وليست نموذجًا سلفويًّا.
ففي غيبة النعمان ذكر رواية التيملى، قال: حدثني أخواي محمد وأحمد ابنا الحسن، عن أبيهما، عن ثعلبة بن ميمون، وعن جميع الكناسى جميعًا عن أبي بصير، عن كامل، عن أبي جعفر (ع) أنه قال: وإن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء[3][3]. وكذلك، أخبرنا عبد الواحد بن عبد الله بن يونس قال: حدثنا محمد بن جعفر القرشى، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، قال: حدثنا محمد بن سنان، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله أنه قال: الإسلام بدأ غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء، فقلت: اشرح لي هذا أصلحك الله، فقال: (مما) يستأنف الداعي منا دعاء جديدًا كما دعا رسول الله (ص)[4][4].
دولة العدالة ودولة الوفرة
ليست دولة الموعود هي فقط دولة العدالة التي بها تطمئن النفوس، وتندك الفوارق الباعثة على كل أشكال الصراع والاستغلال، بل هي أيضًا دولة الوفرة الحقيقية القائمة على أساس الوفرة بمدلولها الاستغراقي وليس الطبقي. لقد كانت دولة علي بن أبي طالب هي المجلي الحقيقي للأزمة التي ظهر أن ليس لها مخرج إلا في دولة الموعود، وذلك حينما قال في نهج البلاغة:
الله الله في الطبقات السفلى للناس.
أو لما قال أيضًا: ما رأيت من نعمة موفورة إلا وإلى جانبها حق مضيع.
أو لما قال: ما جاع فقير إلا بما متع به الغني.
وقوله: وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها، وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع.
إن دولة الموعود تؤكد على أن لحل مشكلة الفقر وإدخال البشرية في حالة من الاستقرار المادي والاستهلاك الجماهيري الحقيقي، يقتضي الأمر النهوض بجملة عوامل بدءًا بترشيد أمثل لنمط الإنتاج وعدالة قصوى في التوزيع وثروة هائلة تكفي حاجيات المستهلكين. فهي تناهض الظلم الاجتماعي في التوزيع والظلم القائم على نمط الإنتاج، وأيضًا تناهض اقتصاد الندرة وتعد بمستقبل الوفرة الاقتصادية للنوع. ولذا فإنها أكدت على وفرة الموارد وتغيير النموذج وتأمين النفوس وإعادة الاعتدال إلى النفوس، حيث إن من أسباب اهتزال العدل هو فقدان العدل في النفس وشيوع أنماط إنتاج فاسدة سرعان ما جعلت الاقتصاد ينمو بخلق حاجيات وهمية على حساب سلامة الاجتماع والبيئة، فيصبح الإنسان خادمًا للاقتصاد وليس العكس.
إن دولة الموعود تخطئ كل التوقعات التي تقررها الهيئات والخبراء في مجال الاقتصاد والبيئة. إن التوقعات تشير إلى تراجع في الموارد الطبيعية. إحدى أهم المؤشرات تؤكد على نضوب مهول في مصادر الطاقة، مضافًا إلى ارتفاع معدل التصحر، مضافًا إلى أزمة المياه وارتفاع الحرارة وتراجع المساحات الخضراء، وبالتالي تقلص مصدر الأكسجين، ويزداد الأمر سوءًا حين الحديث عن ثقب الأوزون والمشاكل التي يسببها التلوث المستدام والتخريب الممنهج للبيئة دون أن نتحدث عن مخاطر الإقدام على حرب نووية. إننا حسب هذه التوقعات أصبحنا أمام مستقبل كارثي للكوكب، فكيف تكون دولة الموعود لا تزال تعدنا ببيئة نظيفة وموارد هائلة كما لو كانت كل هذه التوقعات مجرد هواجس خرافية ليس لها رصيد من الحقيقة. والحق أن الإنسان ما يزال بصدد ترميم ما أمكنه من أزماته. حتى إنه ما أن يحل مشكلة حتى يغرق فيما هو أنكى وأمر. ففي الفكر السياسي ما زالت الديمقراطية التي باتت أمل المجتمعات الرازحة تحت نير النظم الفردية والطغيان السياسي، هي نفسها مصدر استغلال لا يزال يحول دون السعي إلى بدائل يفرضها الإحساس بعدم انسداد الآفاق أمام نظم أكثر ضمانًا للحرية والعدالة.
وكذلك ظلت البشرية في مستوى الاقتصاد السياسي رهينة تصورات خاطئة في تقدير الثروة، ورهينة انسدادات في تدبير الموارد البشرية. على الرغم من كل المعارضة التي أبداها نقاد الاقتصاد السياسي ضد النسق الرأسمالي اللاأخلاقي، استطاعت الرأسمالية أن تنتصر في نهاية المطاف، باعتبارها النظام الأكثر قدرة على الصمود حتى الآن رغم ما يحمله في طياته من أزمات بنيوية. لعل انتصار الرأسمالية على كل مناهضاتها بما في ذلك نقيضها الأشرس، المعسكر الاشتراكي، دليل على أننا وصلنا عصر الانسداد. إذا كان فوكوياما رأى في هذا الانتصار تكريسًا لليبرالية وتوابعها – في مقدمتها اقتصاد السوق – بعد أن غطى على كل أزماتها البنيوية، فهو لم يفعل أكثر من أن يقدم شهادة على هذا البؤس الذي يشكل ظاهرة عالم يعيش يومًا بعد يوم على إيقاع فريد من التفقير. يتساءل كبير الرأسماليين المضاربين جوج سوروس كيف أمكن هذا النظام الاستمرار حتى اليوم، فانهيار السوق العالمية سيكون حدثًا يسفر عن نتائج يتعذر تصورها، ومع ذلك أجد أن تصور هذا الانهيار أيسر من تصور استمرار النظام الراهن؟
لم يهزم النظام الرأسمالي المهيمن معارضيه، على فظاعة توحشه، لأنهم لا يحملون البديل القادر على الإحلال محله بجدارة، ولا لأنهم حاربوه بوسائل أقل نظافة منه، بل لعله حاربهم بأقذر ما لديه. من المؤكد أن الأزمات التي واجهت الرأسمالية كادت تعجل برحيلها لولا التدخل السافر للدولة في حمايتها وتمكينها. لم تكن الرأسمالية حقًا مساوقة للطبيعة إلا إذا اعتبرنا تشجيعها على الجشع وعبادة المال والنزعة الأنانية هي هذه الطبيعة الإنسانية التي تزعم الرأسمالية مسايرتها. وقد صدق جورج سوروس حينما عزى انتصار الغرب إلى أمل آخر غير رأسماليته. ففي رأيه أنه من المناسب أن نعزو انتصار الغرب إلى حقيقة أنه مجتمع منفتح أكثر من كونه مجتمعًا رأسماليًّا.
لم تستطع الماركسية على الرغم من أنها قدمت تحليلًا نقديًّا للنظام الرأسمالي لعله الأهم من كل النقود، لأنها لم تستطع أن تضع اليد على المشكل الحقيقي، وهو أن النسق الرأسمالي بما أنه نسق متكامل يستطيع أن يحتوي أزماته بما في ذلك الأزمات التي تصورتها الماركسية عللًا تامّة برسم نظرية الأزمات. هكذا استطاع هذا النظام تحييد أو تعطيل النشاط البروليتاري وصرفه عن فكرة التموقف التاريخي الجذري من النظام الرأسمالي. كما طورت الرأسمالية الكثير من أساليبها، ما أبطل مفهوم الثورة الشيوعية التي لم يعد لها أي معنى لا سيما بعد انهيار معسكر كامل قام على أساسها. حاولت الماركسية أن تجد الحل في التطور الطبيعي للرأسمالية الذي ينتهي بها إلى حتمية الانفجار، لكن الرأسمالية عرجت على مسارات أخرى جنبتها كل المخاطر التي تكهنت بها الماركسية. الأمر يتعلق بالأثر الأوديبي بالمعنى الذي ذهب إليه بوبر في إبطال النبوءة.
إن القيم الأخلاقية الماركسية التي استقوت بها الحركة الماركسية في نضالها ضد النظام الرأسمالي لا يمكن أن يدان بها هذا النظام، بأنه لم يستدعيها منذ النشأة الأولى ولا يمكن محاكمته بشيء لا يعنيه في صميم النسق. كان لا بدّ على الماركسية أن تبحث خارج هذه المنظومة عن سند تستقوي به في إعلان ثورتها. لقد استندت على الضمير الداخلي للرأسمالية فيما هي نسق نصب نفسه خارج مفهوم الضمير الداخلي للرأسمالية فيما هي نسق نصب نفسه خارج مفهوم الضمير الأخلاقي في الاقتصاد. ولأن الماركسية نفسها راهنت على الرأسمالية في استدماج كل الأنماط الأخرى ما قبل الرأسمالية انتظارًا لانسدادها الحتمي. مع ذلك كان للإجهاز على الحقيقة الدينية الدور الأكبر من جعل الماركسية عاجزة عن إيجاد ضامن أخلاقي. يتساءل أندره كونت سبونفيل إن كانت الرأسمالية أخلاقية. سيضطر هذا الأخير رغم إلحاده غير المبرر أن يسلك طريقًا كانطيًّا لإحلال الأخلاق المجردة أو القانون الأخلاقي محل الدين كضامن من خارج النسق لنوع من الأخلاقية – ethique – بدل الأخلاق – moral – بين الأخلاق كفعل للواجب وبين الأخلاقية كفعل باعثه الحب. هذه عودة مبطنة للقيم الدينية نفسها مع تمثل حالة من خفة اليد؛ أي خلع كل صفات وقيم الدين على هذا الشكل المثالي من الأخلاق. يعيدنا ذلك إلى النكتة نفسها التي واجه بها شوبنهاور القانون الأخلاقي الكانطى. أخلاق بلا ضمانات، لكن كان رأي هذا الأخير صائبًا في فضح انسداد النظام الرأسمالي الذي جعل إنماء الثروة ليس فرصة للفقراء المحتاجين، بل هي فرصة سانحة فقط للأثرياء. أليس هذا هو مبدأ بيروث: المال يولد المال؟ نعم، وإذن صح قول الباحث:
أفضل وسيلة لكي تصبح ثريًّا في بلد رأسمالي هو أن تكون ثريًّا.
نحن أمام تحصيل حاصل. إنماء وحشي للثروة قد يتيح منافذًا وفرصًا على المستوى الفردي تستطيع أن تتباهى بها الرأسمالية المخاتلة لإغراء الغالبية العظمى التي رسم لها سقفًا من الأحلام لن تخرج منه أبدًا. لكنها الكارثية على المستوى الجماعي. يجب على الأغلبية الساحقة في هذه السوق الداروينية التي تبتلع الصغار والمتوسطين باستمرار أن تتطلع لتعمل أكثر، ولكن في الوقت نفسه عليها أن لا تصل إلى مبتغاها حتى لا تتحسن أحوالها لتبرح نطاق الشغيلة.
غياب العدالة، وسورة الأزمات البنيوية للاقتصاد الرأسمالي، وتكاثر السكان، وتراجع الموارد، وتلوث البيئة، وانفجار وضعية الشركات العابرة للحدود في ظل عولمة جارفة لكل أشكال القوانين التي تحمي نظم التكلفة السياسية والاجتماعية والبيئية، كل هذا يعني أن الفقر هو صناعة رأسمالية بامتياز. إن الانسداد الأعظم في الاقتصاد السياسي، على الرغم من أن تساوي البشر في معدل الاستهلاك الجنوني وتحول الأمم جميعًا إلى مصاف الأمم المصنعة الكبرى يظل حلمًا ساذجًا في ظل الشروط المجحفة التي يفرضها النظام الرأسمالي على الدول الفقيرة أو تلك السائرة في طريق النمو – ذلك لأن الأمر لا يتطلب كثير تأمل – فالفقر والتخلف هو الذي يؤمن الهامش الأمثل للمركز. إننا جميعًا جزء ضروري ووظيفي للرأسمالية، فهي لا تقوم بالمركز فقط، بل تكتمل بوجود هامش مهدور المصير.
وهذا الأخير ليس مسألة جزافية، بل هو صنيعة النسق الرأسمالي الذي بقدر ما يتيح للمركز نموًّا مضطردًا فأيضًا يعمل على تأميل تفقير مضطرد للهامش. لكن دعنا نحلم قليلًا مع هذا النظام ونسايره في أحلامه تلك. فحتى لو أصبحنا جميعًا في هذا العالم مصنعين في مستوى الدول العظمى، فإن ذلك سيكون كارثة على البيئة لا تتحملها البتة. إن نمط الإنتاج ونوع الطاقة المستهلكة اليوم في هذه الصناعات تنذرنا بمستقبل كارثي. لا يوجد من يخطئ هذه الحقيقة حتى من أولئك الذين يتحايلون للامتناع عن دفع التكلفة البيئية. إن الطبيعة كما يقولون متسامحة تتحمل كل الاختلال البيئي الناتج عن التدخّل الخاطئ للإنسان وسوء تدبير الموارد الطبيعية. يقولون أيضًا: إن الطبيعة ستعود لتوازنها متى كف هذا الأخير عن التدخل. نقول هذا مؤكد ما لم يستمر الاستنزاف. ولا ندري هل حقًا نحن أمام ذلك المصير أو المستقبل المشترك الذي بشرت به التنمية المستديمة، وهل في سياق هذا التدبير الخاطئ والجنوني للبيئة ستسمح للأجيال القادمة ببعض من هذا الامتياز. هذا حقًا لا يهمنا الآن بقدر ما يهمنا الوقوف عند فكرة التسامح البيئي وعلاقة ذلك بالجواب عن وضعية دولة الموعود. لا نريد أن نضع أرقامًا لتوصيف الحالة المزرية للطبيعة اليوم ولا ما هو متوقع غدًا، لكن السؤال الذي يظل مطروحًا: هل دولة الموعود تستطيع أن تفي بكل وعودها في مستقبل ينذر بالمأساة البيئية؟ قد يكون لفكرة التسامح البيئي قدرة على تفسير ذلك، لكن ماذا لو لم يعد في مكنة الطبيعة أن تغفره للإنسان بعد أن تنفذ مواردها أو يفسد مناخها بصورة لا تطاق. هذا إنما يفيدنا، بأن دولة الموعود مع العالم قبل استفحال الوضع البيئي بصورة لا رجعة فيها ولا تسامح. إن الطاقة اليوم تعد بنضوب، وحسنًا أن يكون ذلك سببًا في انطلاقة جديدة للبحث عن طاقة بديلة ونظيفة. إن مظاهر دولة الموعود تؤكد على أنها دولة تنعم بآخر مستويات التقنية النظيفة، بل إن كل ما تعد به يؤكد على أنها دولة تخضع لنمط اقتصادي مختلف جذريًّا، بحيث لا مكان لنظرية التفقير والأزمات وما شابه ذلك. وبالتأكيد لا مجال لأي شكل من أشكال الملتوسية هنا، ما دامت الموارد ستتضاعف في نموها أكثر من الحجم السكاني. إن دولة الموعود تؤكد على أن الموارد ستظهر بشكل لم يسبق له مثيل، فالمستقبل واعد بالرفاه. لذا علينا أن نتأمل بعضًا من تلك الروايات التي تقول مثلًا:
مثل هذه الروايات ونظائرها فاضت بها المتون الإسلامية، يجب استيعابه خارج اللغة والنمط الحضاري الذي ذكرت فيه مثل هذه النبوءات. فأفضل وسيلة لمزيد من الاستيعاب هو إعادة تأمل مضامينها في ضوء النموذج الحضاراتي المعاصر. إنها قضايا موجهة لنا أكثر مما هي موجهة للأسلاف. ومن هنا فمثل هذه المظاهر تؤكد على أن دولة الموعود غير معنية بالتكهنات آنفة الذكر، تلك التي تنذر بعودة الندرة والتلوث والفقر والمجاعة والمستقبل الكارثي للإنسان. إنها تؤكد بذلك على أنها باراديغم مختلف تنتهي معه رحلة الاجتماع السياسي وتقف عنده أيضًا محاولات الاقتصاد السياسي. إن المستقبل البشري والاجتماع السياسي الإنساني لا يمكن أن يقرأ بصورة إيجابية فيما تؤكده تقارير تنتمي إلى العقل السياسي الاقتصادي الذي بات واضحًا أنه لا يملك ما يقوله عن المستقبل سوى ذلك الشكل من التحذير والترهيب. لكن يظل دائمًا السؤال الذي يطرح وطرحه مشروع، حول إمكانية إعادة تطهير الاجتماع الإنساني والبيئة من الفساد في دولة الموعود؟
ندرك أن العملية لا تقتصر على أحياز ضيقة ولا حتى على حيز المؤمنين. الأمر يطال الكوكب برمته ومن عليه. لا ننسى أن دولة الموعود هي كونية، وعملية كهذه ليست محصورة ويسيرة، بل هي انقلاب حضاري وبيئي سيجعل العالم أمام نمط مختلف عن كل ما سبقه. إنها ثورة الإنسانية المنتظرة بقيادة الموعود. قراءة الأخبار في شموليتها تؤكد على أن ارتفاع معدل الأمن إلى أقصاه، وغياب الندرة، ونهاية سلك الأزمات البنيوية في الاقتصاد، وشعار دعه يعمل دعه يمر الذي لن يظل كما في النظام الرأسمالي شعارًا لطبقة من المتنفذين، وأيضًا ليس شعارًا يتحلّل به المستثمر من كل التزاماته الاجتماعية والأخلاقية.. كما يؤكد على ارتفاع في مستوى التحسن البيئي ونظافة وسائل الإنتاج وتغيير نمط الاستهلاك، وكل هذا مع وجود عدل كافي لتوزيع الثروة بالقسط، جدير بخلق مناخ صحي لانطلاق اقتصاد كبير وتحقق قدر هائل من الوفرة للنوع.
ثمة كما أكدنا تحولات جذرية ستطال الثقافة والأنماط. وهي كما يظهر من الأخبار تتحدد في:
يتقوم النمط الراهن في شكل ضار من الاستغلال للبيئة بلغ ذروة الشطط. والمسألة البيئية اليوم والتقارير التي تطلع علينا ليل نهار دليل كافي على أن الأمر لم يعد يتحمل مزيدًا من الاستهتار، لا سيما وأن معدل أوكسيد الكاربون يتزايد بصورة جنونية محددًا البيئة، وهو مسؤول عن درجة ارتفاع حرارة الأرض والتأثير السلبي على طبقة الأوزون وما ينتج عن ذلك من فياضانات وحرائق للغابات والتصحر … في مقابل ذلك تنهض دولة الموعود على سياسة مختلفة وجادة في هذا المجال، قوامها: الاستغلال الأمثل للطبيعة، والاستغلال الأنظف للطاقة.
إن استغلالنا للطبيعة لا زال ضعيفًا للغاية بحيث لا يغطي الطلب، ومثل هذا لا يشكل أزمة حقيقية في نمط الإنتاج المعاصر طالما أن معضلة المجاعة لا تصيب إلا الطبقات السفلى من المجتمع أو المجتمعات الفقيرة في العالم. فأنماط الإنتاج الراهنة ليس فقط أنها تواجه مشكلة تقنية في تأمين الطلب الحقيقي للنوع، بل إن السياسات الإنتاجية تفرض عبر سلطة الاحتكار أن لا يتم البحث عن بدائل لا في التكنولوجيا ولا في أنماط الإنتاج، من شأنها أن تهدد بنية الأرباح والامتيازات التي تحرسها سياسة الاحتكارات الكبرى.
كان نمط الاستهلاك اليوم هو تعبير عن منتهى غياب ليس الأخلاقية فقط عن الاقتصاد، بل العقلانية التي طالما بشرت بها السوسولوجيا الحديثة. لقد تجاوز نمط الاستهلاك المعاصر كل الحاجيات الحقيقية للإنسان، بل كدنا نرى انقلابًا في سلم المقاصد العقلائية للنوع، منذ أصبح الإنسان برسم الاستهلاك الجنوني اليوم يستهلك من السموم والأزبال ما يعرض الصحة العالمية لوضعية حرجة. لم يعد في معايير المستهلك أن ثمة ضروريات يجب أن تفوز بالمقام الأول في الاعتبار. فالتحسينيات استوعبت باقي القيم، لا بل إننا أصبحنا أمام شكل هجين من الضروريات، ضروريات وهمية تنتج باستمرار، تؤمن صيرورة الاستيلاب الأمثل للإنسان، تجعله كائنًا عاجزًا عن وجود ذاته واستقلاله ومعناه خارج هذه الدورة العدمية للاستهلاك اليومي. يحدثنا طولًا جون بودريار عن هذه الحقيقة بصورة أكثر كاريكاتورية، حينما يحاول أن ينجز تشريحًا لما يسمى homo oeconomicus. الحكاية مصاغة كالتالي:
كان في وقت ما إنسان يعيش على سبيل الندرة، ومن خلال العديد من المغامرات والأسفار عبر العلوم الاقتصادية التقى مجتمع الوفرة، فتزوجا وأصبح لهما الكثير من الحاجيات.
هذه الجمالية نفسها التي كان يتمتع بها الأمو – إيكونوميكوس، كما تغنت بها الحكايات الكلاسيكية لم تعد موجودة في هذا المناخ الجنوني الذي تحول فيه الاستهلاك من أمر نحدده ونبحث عنه إلى أمر مفروض في الصيرورة المحتومة لهذا النمط الاستهلاكي الذي منح قوام الكوجيتو الجديد: أنا أستهلك إذًا أنا موجود. بل أصبح الأمر غاية في التفاهة: أرني قمامتك أقول لك من تكون. الاستهلاك للاستهلاك. تلك هي عقيدة شخص آخر يبشر به هذا النمط الخطير من الاستهلاك، أعني ما أسميه بالكائن الأونطو – ميتري. كناية عن كائن تتحدد أنماطه ومصائره بحسابات الإنتاج والربح والخسارة والعرض والطلب. كائن تحدد ماهيته قبل وجوده، بل يبرر وجوده باكتمال ماهيته وقابليته للاندماج في دورة اقتصادية لا وجود لبداياتها ولا لنهاياتها. إنها دورة لا تقبل إلا بالمسوخ.
إن دولة الموعود بما أنها تلخص آمال البشر ومتطلبات الرشد البشري، كفيلة بإحداث هذا الانقلاب الأعظم في نمطية الاستهلاك. هذا أمر ممكن جدًّا ما دام أن هذا النمط من الاستهلاك هو الابن البار لنمط الإنتاج والنسق الرأسمالي المتوحش نفسه، وهذا سيعد بعودة العقلانية في الاستهلاك يتحرر بموجبها الإنسان من سطوة التشيء والاستيلاب، حيث يصبح الاستهلاك تعبيرًا عن حاجيات حقيقية وعقلانية لا مجرد انخراط في دوامة غير معقولة من الاستهلاك للاستهلاك. ويتقوم ذلك أيضًا بتخليق الاستهلاك، وهو ما يجعل الاستهلاك أيضًا في خدمة الإنسان ويعزز ماهيته ككائن خلق للتسامي العقلي والروحي، وليس كائنًا يبحث عن منتهى متعته في متاهة الاستهلاك والتشييء والاستيلاب كما تتحدث اليوم فلسفات الإنسان، ولعل القواعد المنظمة لهذا النمط التخليقي من الاستهلاك هي:
هذا القدر من المحددات لا يتحقق إلا في ظل دولة الموعود لاكتمال أخلاقها ونمو مداركها العقلية والروحية. إن ما تكشف عنه هذه الدولة من خيرات لا يعني أن الاستهلاك أضحى أكثر جنونية، بل إن الإنسانية يومها مشغول فيما هو أعظم من ذلك؛ أعني ذلك المعنى الإنساني السامي الذي يجعل الناس تكتفي بحياة التقشف رغم الوفرة، لأن ما سيأتي به الموعود ليس مجرد كنوز لن يجد لها طالبًا من فرط فائض الإنتاج، بل قيمة ما سيأتي به أنه سيحرر الإنسان من مقولة أنطوان مونتكرتيان: إنما الإنسان بوصفه خلق لعبودية الخالق لا لعبودية القطاع والعمل في ظروف مزرية، كما خلق لتعمير الأرض لا للاحتلالات الجائرة التي تستعبد في طريقها الأمم وتخضع لقوانين التخليف والتفقير. أجل إن زمان الموعود زمان مختلف، وذلك لأن أنماط السلطة ستشهد تحولًا جذريًّا. لا عجب في ذلك إذا تأملنا قولة لجده علي بن أبي طالب في النهج: إذا تغيّر السلطان تغير الزمان.
وعليه ستكون دولة الموعود خاتمة المطاف في تاريخ النوع وليس بعدها من نموذج جدير بالانتظار. إنها نهاية تاريخ الاجتماع السياسي والنموذج المأمول، ذلك هو الحد المعروف من مستقبلنا المشترك.
ختامًا
لدي شيء أقوله في نهاية هذه الورقة: إن البحث عن حلول لإنسانيتنا من داخل صيرورة الهدر التي يفرضها النسق المتغلب في حياتنا هو أمر مشروع ومطلوب لإيجاد ما هو أمثل دائمًا من داخل النسق، لكن هذا لن يحل مشكلة البشرية المتأرجحة في أزمات بنيوية. قد يتراءى للبعض أننا نحلم، لكن حلمنا هو واقع مؤجل يملك من المسوغات والضمانات أكثر من أي خيار آخر. إن ما بين أيدي الناس اليوم سياسات واقتصادات لا تملك إلا أن تصنع الجور والفقر، ولا تملك إلا أن تنذر بمستقبل مظلم وكارثي ملؤه الرعب واليأس، وأمام هذا القدر المحتوم لأنظمة سياسية واقتصادية، ليس أمام البشرية المعذبة إلا أن تحسن الإطراق والسمع لذلك النداء الذي لا يحمل سوى بشرى جميلة للاجتماع الإنساني. وإن دولة الموعود حتمًا لن تحرر المظلومين من شخوص ظالمين فحسب، بل ستحررهم من نموذج ظل في الظالم والمظلوم كلاهما ضحية نموذج فاسد، جعلهما حقًّا في حاجة ماسة إلى ذاك المخلص.
[1][5] السيد ابن طاووس، الملاحم والفتن، الجزء 1، الصفحة 136.
[2][6] ابن أبي الفتح الإربلي، كشف الغمة، الجزء 3، الصفحة 312.
[3][7] محمد بن إبراهيم النعماني، كتاب الغيبة، الجزء 1، الصفحة 334.
[4][8] محمد بن إبراهيم النعماني، كتاب الغيبة، مصدر سابق، الجزء 1، الصفحتان 334و 335.
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/14590/mahdawi/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.