شهر رمضان وموارد التقرب إلى الله
يستقبل المسلمون في كل عام شهر رمضان ضيفًا عزيزًا، فيكون هذا الشهر بمنزلة لقاء عبادي يجتمع فيه الناس في شتى بقاع الأرض على الابتهال إلى الله عز وجل والتوسل إليه، وبكل اللغات واللهجات، بالتالي يكون هذا الشهر الكريم فرصة لتصفية الذات وتزكية النفس من الشوائب والمعاصي؛ ليحط المسلم رحاله في آخر الشهر الكريم، فيقوم بجردة حساب بينه وبين نفسه عما اكتسبه من صيامه، وهل الصيام أثر فيه وفي طباعه وفي نفسيته وحسّن من أخلاقه؟ وهل جاهد نفسه؛ لتصبح في مصاف النفوس الوالهة لربها والعاشقة للقائه، أم كان صومه صومًا عن الطعام والشراب لا أكثر؟
ويتميز شهر رمضان المبارك عن غيره من الشهور بجملة من العادات والتقاليد يتبعها المسلمون في مختلف البلاد العربية والإسلامية، حيث يقوم الناس في استقبالهم لشهر رمضان بممارسة هذه العادات والتقاليد، بالتالي فهي تختلف من بلد إلى آخر، وهي ليست مورد كلامنا هنا. كما يغلب على هذا الشهر المبارك طابع الأنس والألفة والمودة والتعاون والفرح والراحة النفسية. مضافًا إلى العادات والتقاليد، هناك أيضًا العبادات التي يقوم بها غالبية المسلمين في العالم حيث تتشابه الأعمال وإن اختلفت مذاهبهم، لكن هدفهم واحد هو التقرب إلى الله، وأن لا ينقضي شهر رمضان، ويكون صيامهم وقيامهم سرابًا بقيعة يحسبه الظمآن ماء.
وللاستئناس في مقدمة ولوجونا إلى الشهر الفضيل، حاولنا أن نعرج على دعاء الإمام زين العابدين (ع) في استقبال شهر رمضان المبارك، لنأخذ منه العبر والمعاني والقيم والمفاهيم التي نحتاجها في حياتنا وعباداتنا، والتي قد تؤهلنا لنكون من الصائمين حقًّا.
أولًا: معرفة أهمية شهر رمضان
ينبغي على كل مسلم مؤمن أن يكون على معرفة تامّة بأهمية شهر رمضان المبارك، وأهمية الصوم، فعندما يبدأ الشهر الفضيل، ونبدأ الصوم يجب أن نكون على بيّنة من هذا الشهر، وعلى بيّنة لماذا نصوم؟ لذا، يبدأ الإمام (ع) تعريفنا بأهمية شهر رمضان، حيث فيه الهدى والفضائل الكبيرة، وفيه الكف عن الأذى، هو شهر نزول القرآن الكريم، هو شهر الطهارة من كل الذنوب، وشهر العبادة لله، ونهانا فيه عن الأكل والشرب في نهاره إكرامًا لنفوسنا. ولأهميته، جعله الله من الشهور المعظمة والعزيزة عليه سبحانه، ومن المواقيت المباركة عند الله، وقد خصّه أيضًا بليلة مباركة هي من أعظم الليالي والأيام، هي ليلة القدر، فيقول الإمام (ع) بهذا الصدد: هو “شَهْرَ الطَّهُورِ، وَشَهْرَ التَّمْحِيصِ، وَشَهْرَ الْقِيَامِ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، هُدًى لِلنَّاسِ، وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَأَبَانَ فَضِيلَتَهُ عَلَى سَائِرِ الشُّهُورِ بِمَا جَعَلَ لَهُ مِنَ الْحُرُمَاتِ الْمَوْفُورَةِ، وَالْفَضَائِلِ الْمَشْهُورَةِ، فَحَرَّمَ فِيهِ مَا أَحَلَّ فِي غَيْرِهِ إِعْظَاماً، وَحَجَرَ فِيهِ الْمَطَاعِمَ وَالْمَشَارِبَ إِكْرَاماً، وَجَعَلَ لَهُ وَقْتاً بَيِّناً لَا يُجِيزُ جَلَّ وَعَزَّ أَنْ يُقَدَّمَ قَبْلَهُ، وَلَا يَقْبَلُ أَنْ يُؤَخَّرَ عَنْهُ، ثُمَّ فَضَّلَ لَيْلَةً وَاحِدَةً مِنْ لَيَالِيهِ عَلَى لَيَالِي أَلْفِ شَهْرٍ، وَسَمَّاهَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ”.
إذًا، هو شهر عظيم وكريم، وفيه من الفضائل التي لا تعد ولا تحصى، وإذا حصّلها الإنسان بجهاده وكفاحه ربح دنياه وآخرته.
ثانيًا: تهذيب النفس
وفي هذا الشهر الفضيل، دعوة من الباري تعالى إلى كل مسلم ومسلمة لكي يهذبوا أنفسهم، فعادة عندما توجه إلى الإنسان دعوة من شخص ما لحضور مناسبة معينة، فإنه يلبّيها وذلك احترامًا للداعي، فكيف بنا نحن العبيد قد أتتنا دعوة من خالقنا وبارئنا إلى أن نهذب نفوسنا في هذا الشهر الكريم، ولا نلبيها! فأي كريم هو الله، وأي رحيم هو الله بأن دعا عباده إلى مثل هذه الفرصة العظيمة، والتي على الجميع أن يتلقّاها، وأن لا يفوّتها؛ كي ينال رضاه سبحانه. والصوم ليس معناه ما يمكن أن يتعارف عليه البعض بأنه توقّف عن الطعام والشراب، وأن يمسك الإنسان طوال النهار عن ذلك، ويظن أنه يهذب نفسه بهذه الطريقة، لكن واقع الأمر مختلف كليًّا، فالإمام (ع) في دعائه يعرفنا على ذلك بأن تهذيب النفس في الصوم هو تأديب لهذه النفس الأمارة التي تحاول، وعلى مدار الساعة أن تثنينا عن التقرب وبشكل سليم من الله، لذا فمن مِنن الله علينا أن خصّنا بهذا الشهر وكرّمنا به ليكون فرصة لنا حتى نحارب الأهواء ونهذب النفس، ونسمو بها عن كل ما قد يدنسها، فهذه هدية من الله لنا في هذا الشهر لنكون من العباد اللائقين بعبادته سبحانه، ومن اللائقين بمنحنا لهذه الهدية الكريمة والجائزة القيّمة، فيقول الإمام السجاد (ع) بهذا الخصوص: “وَأَعِنَّا عَلَى صِيَامِهِ بِكَفِّ الْجَوَارِحِ عَنْ مَعَاصِيكَ، وَاسْتِعْمَالِهَا فِيهِ بِمَا يُرْضِيكَ حَتَّى لَا نُصْغِيَ بِأَسْمَاعِنَا إِلَى لَغْوٍ، وَلَا نُسْرِعَ بِأَبْصَارِنَا إِلَى لَهْوٍ”.
ثالثًا: صلة الرحم
من القيم الإيمانية والدينية، والتي يحثنا عليها الشرع الحنيف هي صلة الرحم، لما لهذا الموضوع من أهمية دينية كبيرة على المستويات كافة، فأنت عندما تصل أرحامك سواء في شهر رمضان أو غير شهر رمضان فهذا له أجر كبير عند الله عز وجل، لكن خصوصية صلة الرحم والتواصل مع أرحامك في شهر رمضان المبارك لها الثواب الأكبر والأجر العظيم، ولها منافع كبيرة على المستوى المعنوي والروحي للأفراد، لأننا في هذا الشهر العبادي نتقرب إلى الله بكل وسيلة، ونلج من كل باب قد يقربنا إليه تعالى. فصلة الرحم إذًا، من العبادات المهمة التي تساعدنا على التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، ويحثّ أئمتنا (عليهم السلام) على هذا الأمر، وفي ذلك يقول الإمام السجاد (ع) في دعائه: “وَوَفِّقْنَا فِيهِ لِأَنْ نَصِلَ أَرْحَامَنَا بِالْبِرِّ وَالصِّلَةِ”. لأن صلة الرحم هي توفيق إلهي، كما إن البر بهم والتواصل معهم هي من النعم الإلهية التي يمن بها الله على الإنسان المسلم.
رابعًا: التكافل الاجتماعي
أيضًا، يبرز في شهر رمضان المبارك وبشكل كبير مفهوم التكافل الاجتماعي، وهذا الموضوع له أجر كبير سواء في شهر رمضان وغيره من الشهور، لكن في شهر رمضان يكون بارزًا أكثر، وله طابع مختلف من حيث المعنوية والإنسانية التي يشعر بها المسلم. كما يحثنا الإسلام على حسن الجوار، والمعاملة والأخلاق الحسنة مع الجيران، فمعظم الناس في هذا الشهر تتعاطف مع جيرانها وأقاربها وأرحامها، حيث يسارعون إلى فعل الخير، بل ويتسابقون في ذلك، وقد أنشئت لهذه الغاية جمعيات خيرية كثيرة تُعنى بذوي الحاجة والفاقة، على مدار العام، لكن في شهر رمضان تسعى هذه الجمعيات أقله في تأمين وجبة إفطار لهذه العوائل، وقد تكون المساهمة مادية أحيانًا. فالتكافل الاجتماعي في شهر رمضان المبارك له أهمية كبيرة، ويعني الكثير من الناس الذين يعرفون معنى أن يكونوا متعاونين مع غيرهم من ذوي الحاجة، ويعرفون أنّ لهم أجرًا كبيرًا عند الله إذا تعاونوا، وقدموا المساعدات. من هنا، يقول الإمام السجاد (ع) في دعائه: “وَأَنْ نَتَعَاهَدَ جِيرَانَنَا بِالْإِفْضَالِ وَالْعَطِيَّةِ، وَأَنْ نُخَلِّصَ أَمْوَالَنَا مِنَ التَّبِعَاتِ، وَأَنْ نُطَهِّرَهَا بِإِخْرَاجِ الزَّكَوَاتِ”.
خامسًا: قيمة التسامح
كم هو جميل أن نخلّص نفوسنا من الشوائب والأحقاد، وأن ندخل على شهر الله بنفوس طاهرة وأرواح نقية وضمير مرتاح. فقيمة التسامح ليست فقط حصرًا بشهر رمضان، بل كذلك يجب أن ترافقنا في كل أيامنا وحياتنا وتعاملاتنا. فالله سبحانه وتعالى ينظر إلى قلوبنا، ويعاينها فعندما يجد فيها الحقد الدفين، أو أننا ظلمنا أحد، أو أسأنا لأحد، أو عادينا أحد، فإنه قطعًا لن يقربنا إليه، لكن إذا صفّينا هذه النفوس، وتسامحنا من بعضنا، وسامحنا من أساء إلينا من دون أي حقد أو ضغينة، وعندما نمتلك ملكة التسامح، فإن الله سبحانه سيجذبنا إليه بلطفه وعنايته، ويجعل قلوبنا عرشًا لحبه والوصال معه سبحانه. ولقيمة التسامح عند الإمام السجاد (ع) أهمية كبرى فيقول (ع): “وَأَنْ نُرَاجِعَ مَنْ هَاجَرَنَا، وَأَنْ نُنْصِفَ مَنْ ظَلَمَنَا، وَأَنْ نُسَالِمَ مَنْ عَادَانَا حَاشَى مَنْ عُودِيَ فِيكَ وَلَكَ، فَإِنَّهُ الْعَدُوُّ الَّذِي لَا نُوَالِيهِ، وَالْحِزْبُ الَّذِي لَا نُصَافِيهِ، وَأَنْ نَتَقَرَّبَ إِلَيْكَ فِيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الزَّاكِيَةِ بِمَا تُطَهِّرُنَا بِهِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَ تَعْصِمُنَا فِيهِ مِمَّا نَسْتَأْنِفُ مِنَ الْعُيُوبِ…”.
سادسًا: العبادة الخالصة لله
ولكون شهر رمضان شهر العبادة والغفران والرحمة، ففيه حثٌّ كبير على أن نتوجّه بكل جوارحنا وبقلوب واجلة، لتكون العبادة خالصة لله وحده، وأن لا نسهو عن أي أمر عبادي نقوم به، أو نتقرب إلى لله من خلاله. قد نقوم بعباداتنا، لكن تشغلنا عن العبادة أحيانًا أمور كثيرة، ونلتهي عنها بأعمالنا ومشاكل حياتنا اليومية، فعندما نأتي لنصلي مثلًا، فالأفكار والواساوس تأخذنا يمينًا وشمالًا، فنسهو ولا نعود ندري بأي ركعة قد أصبحنا. أيضًا عند قراءة الأدعية، تكون ألسنتنا تلهج بالدعاء، لكن قلوبنا وأرواحنا في أماكن أخرى. قد نحصّل الخشوع في بعض أوقات الدعاء لكن لوقت قصير، ثم لا نلبث بأن نعاود رحلة التشتت عما نتلفظ به من دعاء. لذا، فليكن شهر رمضان فرصة لنا لنعبد الله حق عبادته، وليس معنى ذلك أن لا تكون العبادة بغير شهر رمضان فيها خشوع، لكن فلنعتبر شهر رمضان ولادة جديدة لأمورنا العبادية، ولادة جديدة لحياة عبادية فيها الخلوص الكامل لله، وفيها النية الصافية التي لا تشوبها الشوائب، ولا يوجد فيها سهو أو نسيان أو تشتت ذهن في العبادة التي نقوم بها. فلنحاول – إذًا – قدر الإمكان أن تخشع قلوبنا وجوارحنا عندما نتعبد لله تعالى، سواء في الصلاة أو في الصوم، وحتى في مختلف أنواع العبادات. من هنا يذكر الإمام السجاد (ع) في دعائه: “اللَّهُمَّ اشْحَنْهُ بِعِبَادَتِنَا إِيَّاكَ، وَزَيِّنْ أَوْقَاتَهُ بِطَاعَتِنَا لَكَ، وَأَعِنَّا فِي نَهَارِهِ عَلَى صِيَامِهِ، وَفِي لَيْلِهِ عَلَى الصَّلَاةِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْكَ، وَالْخُشُوعِ لَكَ، وَالذِّلَّةِ بَيْنَ يَدَيْكَ حَتَّى لَا يَشْهَدَ نَهَارُهُ عَلَيْنَا بِغَفْلَةٍ، وَلَا لَيْلُهُ بِتَفْرِيطٍ. اللَّهُمَّ وَاجْعَلْنَا فِي سَائِرِ الشُّهُورِ وَالْأَيَّامِ كَذَلِكَ مَا عَمَّرْتَنَا، وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ، أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ…”.
نختم، لنقول: علينا أن ننتهز فرصة حلول شهر رمضان المبارك بكل ما أوتينا من قوة وعزيمة، وجهاد كبير لنفوسنا، وأن نساهم في إعلاء أنفسنا وإنقاذها من الغرق أكثر فأكثر في بحر هذه الدنيا، وإيصالها إلى بر أمان الوصول إلى ساحة قدس الرحمن، والعيش في رغد ودلال حب الله لنا، فالعبد المؤمن ليس له وسيلة إلى الله إلا عمله المخلص وعبادته الحقة، فهو بذلك ينجو من عذاب الآخرة، ويلتذّ بنعيم الباري الذي لا ينضب.
المقالات المرتبطة
النقد: بنيته ومرتكزاته وإشكالياته
مضى العاشر من محرم، ومضت معه كل المشاحنات التي واكبته حول موضوع الشعائر. لكن لم تمض الآثار النفسية التي ترتبت على تلك المشاحنات، حيث زادت الهوة بين كثير من الأطراف
تحولات مبنائيّة في الفلسفة وعلم الكلام
تميزت مدرسة الحكمة المتعالية، بجامعيتها وشموليتها، وهذا ما استند عليه أتباع هذه المدرسة لسحب مبدائها ورؤيتها على كل فروع العلم،
مشاريع فكرية 7 | الشيخ صادق آملي لاريجاني
المواليد: 1959م في محافظة النجف العراقية، من أصول إيرانية (والده الميرزا هاشم آملي، وكان من كبار المراجع في إيران). الدراسة