أزمــة نظريـــة المقاصــد: قـراءة معرفيــــة

by عبد العالي العبدوني | أبريل 8, 2022 11:15 ص

يكاد يكون هناك إجماع على أن الاهتمام بمقاصد الشريعة، والالتزام بها شكّل نقلة أصولية نوعية في هذا الباب. لما تحمله من تجديد رؤية لعلل الأحكام ومحاولة الوقوف على ملاكاتها.

والمنظور المقاصدي تم الإشارة إليه في مجموعة من الأعمال الفقهية لدى علماء المسلمين منذ قديم الزمن، إلى أن انتهى الأمر إلى العلّامة الشاطبي، الذي عمّق النظر في فكرة المقاصد، وحاول أن يقعدها بالشكل الأكمل، فصار اسمه لصيقًا بالمنظور المقاصدي.

فأول من استعمل لفظ المقاصد هو الحكيم الترمذي في كتابه “الصلاة ومقاصدها” وهو من أعلام القرن الثالث الهجري، ثم نجد العلّامة أبي منصور الماتريدي المتوفى سنة 333 للهجرة، وأبي بكر القفال الشاشي المتوفى سنة 365 للهجرة، وأبي بكر الأبهري المتوفى سنة 375 للهجرة، والباقلاني المتوفى سنة 403 للهجرة، والجويني المتوفى سنة 478 للهجرة، وأبي حامد الغزالي المتوفى سنة 505 للهجرة، وفخر الدين الرازي المتوفى سنة 606 للهجرة، وسيف الدين الآمدي المتوفى سنة 631 للهجرة، وابن الحاجب المتوفى سنة 646 للهجرة، والبيضاوي المتوفى سنة 685 للهجرة، والأسنوي المتوفى سنة 772، وابن السبكي المتوفى سنة 771 للهجرة، وعز الدين بن عبد السلام المتوفى سنة 660 للهجرة، وابن تيمية المتوفى سنة 728 للهجرة (1). فجميع هؤلاء العلماء تطرقوا لمقاصد الشرعية وإن بشكل جزئي غير كامل أو مقعد على العموم. إلى أن انتهى الأمر إلى العلّامة الشاطبي الذي طفق يؤصل لهذا الباب العلمي الهام جدًّا ويقعد له مما جعل الرئاسة كما سبق التنويه إلى ذلك تنتهي إليه.

وعليه يكون من الأسلم مناقشة منظور العلّامة الشاطبي بهذا الخصوص ما دام أضحى المرجع الأصيل لكل من يريد البحث ومعرفة المقاصد في الشريعة الإسلامية. آخذين به أنموذجًا في قراءتنا النقدية على المستوى الكلامي الجديد.

بقيت الإشارة إلى أننا آثرنا بسط النظر في جنبة مقاصدية واحدة بوصفها الأهم والأصل لغيرها من المقاصد، ذلك أن العلّامة قد خصص الجزء الثاني من كتابه الموافقات في أصول الشريعة لموضوع مقاصد الشريعة تفصيلًا وتفريعًا. مقسِّمًا المقاصد إلى قسمين:

“أحدهما يرجع إلى قصد الشارع، والآخر: يرجع إلى قصد المكلف.

فالأول يعتبر من جهة قصد الشارع في وضع الشريعة ابتداءً، ومن جهة قصده في وضعها للأفهام (الصحيح هو الإفهام كما هو ظاهر من متن الكتاب)، ومن جهة قصده في وضعها للتكليف بمقتضاها، ومن جهة قصده في دخول المكلف تحت حكمها” (2).

ونظرًا لسعة الموضوع فإنه قد وقع اختيارنا على جهة قصد الشارع في وضع الشريعة ابتداءً لأهميتها على ما عداها، باعتبارها الأصل وغيرها فرع، وهو نفس ما ألمح إليه الشيخ عبد الله دراز شرحًا على المفهوم من قصد الشارع في وضع الشريعة ابتداءً على أنه “أي القصد الذي يعتبر في المرتبة الأولى ويكون ما عداه كأنه تفصيل له” (3).

فاهتمامنا بأصل المقاصد الشرعية لا يشكل إخلالًا بمجمل النظرية، بقدر ما هو لملمة للموضوع.

مقاصد الشريعة الابتدائية عند الشاطبي

عرف الشيخ ابن عاشور المقاصد العامة للشريعة بقوله: “مقاصد التشريع العامة هي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها. بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة. فيدخل في هذا: أوصاف الشريعة، وغايتها العامة، والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها. ويدخل في هذا أيضًا معان من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام، ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها” (4). ونحن اعتمدنا هذا التعريف لشموليته وإحاطته بأصل الموضوع، وخصوصًا أن العلّامة الشاطبي استنكف عن تعريف المقاصد الشرعية بدعوى أن الكتاب موجه للعلماء لا الطلبة.

والآن وبعد أن بينّا تعريفًا موجزًا لأصل الموضوع، فإنه يكون لا بأس من البدء في الخوض في الموضوع.

عمد العلّامة الشاطبي – على منوال غيره – إلى بسط القول في هذا القصد على مستوى ثلاثة عشر مسألة، أردنا عرضها على وجه الإيجاز حتى يتسنّى للقارئ الكريم معرفتها وإن إجمالًا.

المسألة الأولى

“تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق. وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: أحدها: أن تكون ضرورية، والثاني أن تكون حاجية، والثالث: أن تكون تحسينية.

 

فأما الضرورية: فمعناها أنها لا بدّ منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة. وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين.

والحفظ لها يكون بأمرين: أحدهما ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها. وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود. والثاني ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم.

وأن مجموع الضروريات خمسة، وهي: حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل. وقد قالوا إنها مراعاة في كل ملّة.

وأما الحاجيات، فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب.

وأما التحسينات: فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنّب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات”.

المسألة الثانية

” كل مرتبة من هذه المراتب ينضم إليها ما هو كالتتمة والتكملة، مما لو فرضنا فقده لم يخل بحكمتها الأصلية”.

المسألة الثالثة

” كل تكملة فلها – من حيث هي تكملة – شرط، وهو أن لا يعود اعتبارها على الأصل بالإبطال. وذلك أن كل تكملة يفضي اعتبارها إلى رفض أصلها، فلا يصح اشتراطها عند ذلك لوجهين:

الوجه الأول: أن في إبطال الأصل إبطال التكملة، لأن التكملة مع ما كملته كالصفة مع الموصوف.

الوجه الثاني: أنّا لو قدرنا تقديرًا أن المصلحة التكميلية تحصل مع فوات المصلحة الأصلية، لكان حصول الأصلية أولى لما بينهما من التفاوت.

المسألة الرابعة

“المقاصد الضرورية في الشريعة أصل للحاجية والتحسينية. فلو فرض اختلال الضروري بإطلاق، لاختل باختلاله بإطلاق، ولا يلزم من اختلالهما اختلال الضروري بإطلاق. نعم قد يلزم من اختلال التحسيني بإطلاق اختلال الحاجي بوجه ما، وقد يلزم من اختلال الحاجي بإطلاق اختلال الضروري بوجه ما. فلذلك إذا حوفظ على الضروري فينبغي المحافظة على الحاجي، وإذا حوفظ على الحاجي فينبغي أن يحافظ على التحسيني، إذا ثبت أن التحسيني يخدم الحاجي، وأن الحاجي يخدم الضروري، فإن الضروري هو المطلوب” .

في المسألة الخامسة

“المصالح المبثوثة في هذه الدار ينظر فيها من جهتين: من جهة مواقع الوجود، ومن جهة تعلق الخطاب الشرعي بها.

فأما النظر الأول: فإن المصالح الدنيوية – من حيث هي موجودة هنا – لا يتخلص كونها مصالح محضة. وأعني بالمصالح ما يرجع إلى قيام حياة الإنسان وتمام عيشه، ونيله ما تقتضيه أوصافه الشهوانية والعقلية على الإطلاق. حتى يكون منعمًا على الإطلاق. كما أن المفاسد الدنيوية ليست بمفاسد محضة من حيث مواقع الوجود”. لذلك فالمصالح والمفاسد “الراجعة إلى الدنيا إنما تفهم على مقتضى ما غلب: فإذا كان الغالب جهة المصلحة، فهي المصلحة المفهومة عرفًا. وإذا غلبت الجهة الأخرى في المفسدة المفهومة عرفًا”.

“وأما النظر الثاني فيها من حيث تعلق الخطاب بها شرعًا فالمصلحة إذا كانت هي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الاعتياد، فهي المقصودة شرعًا، ولتحصيلها وقع الطلب على العباد. ليجري قانونها على أقوم طريق وأهدى سبيل، وليكون حصولها أتم وأقرب وأولى بنيل المقصود، على مقتضى العادات الجارية في الدنيا، فإن تبعها مفسدة أو مشقة فليست بمقصودة في شرعية ذلك الفعل وطلبه.

وكذلك المفسدة إذا كانت هي الغالبة بالنظر إلى المصلحة في حكم الاعتياد، فرفعها هو المقصود شرعًا، ولأجله وقع النهي، ليكون رفعها على أتم وجوه الإمكان العادي في مثلها، حسبما يشهد له كل عقل سليم. فإن تبعتها مصلحة أو لذة فليست هي المقصودة بالنهي عن ذلك الفعل، المقصود ما غلب في المحل. وما سوى ذلك ملغى في مقتضى النهي، كما كانت جهة المفسدة ملغاة في جهة الأمر.

فالحاصل من ذلك أن المصالح المعتبرة شرعًا أو المفاسد المعتبرة شرعًا هي خالصة غير مشوبة بشيء من المفاسد، لا قليلًا ولا كثيرًا. وإن توهم أنها مشوبة، فليست في الحقيقة الشرعية كذلك، لأن المصلحة المغلوبة أو المفسدة المغلوبة إنما المراد بها ما يجري في الاعتياد الكسبي من غير خروج إلى زيادة تقتضي التفات الشارع إليها على الجملة. وهذا المقدار هو الذي قيل إنه غير مقصود للشارع في شرعية الأحكام.

 

والدليل على ذلك أمران: أحدهما أن الجهالة المعلومة لو كانت مقصودة للشارع – أعني معتبرة عند الشارع – لم يكن الفعل مأمورًا به بإطلاق، ولا منهيًّا عنه بإطلاق، بل كان يكون مأمورًا به من حيث المصلحة، ومنهيًّا عنه من حيث المفسدة، ومعلوم قطعًا أن الأمر ليس كذلك.

والثاني: أن ذلك لو كان مقصود الاعتبار شرعًا، لكان تكليف العبد كله تكليفًا بما لا يطاق، وهو باطل شرعًا”.

المسألة السادسة

اهتم بالمصالح والمفاسد الأخروية حيث صرّح بأنها على ضربين:

“أحدهما: أن تكون خالصة لا امتزاج لأحد القبيلين بالآخر، كنعيم أهل الجنان وعذاب أهل الخلود في النيران.

والثاني: أن تكون ممتزجة، وليس ذلك إلا بالنسبة إلى من يدخل النار من الموحدين، في حال كونه في النار خاصة، فإذا أدخل الجنة برحمة الله رجع إلى القسم الأول”.

في المسألة السابعة

خلص “إلى أنه ثبت أن الشارع قد قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية، وذلك على وجه لا يختل لها به نظام، لا بحسب الكل ولا بحسب الجزء، وسواء في ذلك ما كان من قبيل الضروريات أو الحاجيات أو التحسينات. فإنها لو كانت موضوعة بحيث يمكن أن يختل نظامها أو تخل أحكامها، لم يكن التشريع موضوعًا لها، إذ ليس كونها مصالح إذ ذاك بأولى من كونها مفاسد، لكن الشارع قاصد بها أن تكون مصالح على الإطلاق، فلا بدّ أن يكون وضعها على ذلك الوجه أبديًّا وكليًّا وعامًّا في جميع أنواع التكليف والمكلفين وجميع الأحوال”.

المسألة الثامنة

أوضح بأن “المصالح المجتلبة شرعًا والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية، أو درء مفاسدها العادية”.

مستدلًّا بعدة أمور:

 الأمر الأول: أن الشريعة جاءت لتخرج المكلفين عن دواعي أهوائهم.

الأمر الثاني: ما تقدم معناه من أن المنافع الحاصلة للمكلف مشوبة بالمضار عادة، كما أن المضار محفوفة ببعض المنافع.

الأمر الثالث: أن المنافع والمضار عامتها أن تكون إضافية لا حقيقية. ومعنى كونها إضافية أنها منافع أو مضار في حال دون حال، وبالنسبة إلى شخص دون شخص، أو وقت دون وقت.

والأمر الرابع: أن الأغراض في الأمر الواحد تختلف، بحيث إذا نفذ غرض بعض وهو منتفع به تضرر آخر لمخالفة غرضه، فحصول الاختلاف في الأكثر يمنع من أن يكون وضع الشريعة على وفق الأغراض، وإنما يستتب أمرها بوضعها على وفق المصالح مطلقًا، وافقت الأغراض أو خالفتها”.

المسألة التاسعة

كون الشارع قاصدًا للمحافظة على القواعد الثلاث: الضرورية والحاجية والتحسينية، لا بدّ عليه من دليل يستند إليه، والمستند إليه في ذلك إما أن يكون دليلًا ظنيًّا أو قطعيًّا. وكونه ظنيًّا باطل، مع أنه أصل من أصول الشريعة، بل هو أصل أصولها، وأصول الشريعة قطعية، حسبما تبين في موضعه، فأصول أصولها أولى أن تكون قطعية.

فإذا ثبت هذا فكون هذا الأصل مستندًا إلى دليل قطعي مما ينظر فيه، فلا يخلو أن يكون عقليًّا أو نقليًّا:

فالعقلي لا موقع له هنا، لأن ذلك راجع إلى تحكيم العقول في الأحكام الشرعية، وهو غير صحيح، فلا بد أن يكون نقليًّا.

والأدلة النقلية: إما أن تكون نصوصًا جاءت متواترة السند، لا يحتمل منها التأويل على حال، أو لا. فإن لم تكن نصوصًا، أو كانت ولم ينقلها أهل التواتر، فلا يصح استناد مثل هذا إليها، لأن ما هذه صفته لا يفيد القطع. وإفادة القطع هو المطلوب، وإن كانت نصوصًا لا تحتمل التأويل ومتواترة السند، فهذا مفيد للقطع، إلا أنه متنازع في وجوده بين العلماء.

ولا يقال إن الإجماع كاف، وهو دليل قطعي، لأنّا نقول: هذا أولًا مفتقر إلى نقل الإجماع على اعتبار تلك القواعد الثلاث شرعًا، نقلًا متواترًا عن جميع أهل الإجماع. وهوذا يعسر إثباته، ولعلك لا تجده. ثم نقول ثانيًا إن فرض وجوده فلا بدّ من دليل قطعي يكون مستندهم، ويجتمعون على أنه قطعي، فقد يجتمعون على دليل ظني، فتكون المسألة ظنية لا قطعية، فلا تفيد اليقين، لأن الإجماع إنما يكون قطعيًّا على فرض اجتماعهم على مسألة قطعية لها مستند قطعي. فإن اجتمعوا على مستند ظني فمن الناس من خالف في كون هذا الإجماع حجة.

 

فإثبات المسألة بالإجماع لا يتخلص، وعند ذلك يصعب الطريق إلى إثبات كون هذه القواعد معتبرة شرعًا بالدليل الشرعي القطعي.

وإنما الدليل على المسألة ثابت على وجه آخر هو روح المسألة؛ وذلك أن هذه القواعد الثلاث لا يرتاب في ثبوتها شرعًا أحد ممن ينتمي إلى الاجتهاد من أهل الشرع، وأن اعتبارها مقصود للشارع.

ودليل ذلك استقراء الشريعة، والنظر في أدلتها الكلية والجزئية، وما انطوت عليه من هذه الأمور العامة، على حد الاستقراء المعنوي الذي لا يثبت بدليل خاص، بل بأدلة منضاف بعضها إلى بعض. مختلفة الأغراض، بحيث ينتظم من مجموعها أمر واحد تجتمع إليه تلك الأدلة”.

المسألة العاشرة

هذه الكليات الثلاث قد شرعت للمصالح الخاصة بها فلا يرفعها تخلّف آحاد الجزئيات.

المسألة الحادية عشرة

مقاصد الشارع في بث المصالح في التشريع أن تكون مطلقة عامة.

المسألة الثانية عشرة

إن هذه الشريعة المباركة معصومة كما كان صاحبها معصوم وكما كانت أمته فيما اجتمعت عليه معصومة.

المسألة الثالثة عشرة

كما أنه إذا ثبت قاعدة كلية في الضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات فلا ترفعـهـا آحـاد الجزئـيــات(5).

فكما هو واضح من البسط أعلاه نجد أن العلّامة الشاطبي جعل مصداق تحديد المقاصد الشرعية بالرجوع إلى روح المسألة دونما ضرورة رجوع إلى العقل أو النقل أو الإجماع.

مقاربة نقدية

في الحقيقة ومحاولة منا لتشخيص الأزمات التي تمر بها نظرية المقاصد آثرنا التركيز على كبريات الإشكالية، والتي ارتأينا تحديدها في جنبتين، أحدهما تهم معضلة تشخيص المقاصد بغض النظر على ملاحظاتنا التي تهم التقسيم الثلاثي غير المعتبر. ثانيهما، تهم معضلة العقل في المنظور المقاصدي.

 

 

أولًا: أزمـة التشخيــص

الأصوليون والفقهاء لم يتفقوا إلى تاريخه حول تفصيلات الضروري والحاجي والتحسيني، بل يصل الحد إلى درجة جعل ما يعتقده البعض على أنه تحسيني ضمن الحاجي والعكس بالعكس، لاختلاف آليات النظر والمقدمات، فكل ينظر إلى المسألة من جهة النص التأسيسي الثاني وهل صحته معتبرة من عدمه. بغض النظر عن اختلاف الفهم وتوضيح وجه المصلحة.

كما أن العلّامة الجويني جعل الكثير من الأحكام الفقهية التعبدية غير خاضعة لأي تقسيم من التقسيمات الثلاث، لأنها مجهولة الغرض والمصلحة، بل حتى أنه لا يرى مصالح في بعض الأحكام الفقهية التعبدية، فهو قول بالعماء المقصدي من هذا الوجه، ذلك أنها “غير مفهومة لا يمكن وضعها ضمن أي من تلك المقاصد أو المراتب، لأن شرط معرفة المقصد إن لم يصرح به هو أن تعرف نوع المصلحة فيه” (6).

وطبعًا هذه الأزمة تجعل من المنظور المقاصدي منظورًا غير ذي بال، لأنه لا يستطيع أن يحدد المقاصد بشكل قطعي، وهو نقض جذري لأصل النظرية.

نفس الطرح نجده عند العلّامة الشاطبي نفسه يؤكد هذه الحقيقة وهي أن بعض الأحكام الشرعية مجهولة المصلحة، وبالتالي فهي مجهولة المقصد بالضرورة. وهذا عين الهدم لنظرية المقاصد الشرعية المتحدث عنها، والتي يحاولون التأسيس لها.

بالإضافة إلى أن لفظ الحفاظ الذي تم الإشارة إليه من قبل العلّامة، بل ومن قبل مجموع المقاصديين، يفيد أن الأمر تام في الإنسان محتاج إلى الاستمرارية والمداومة لذلك يجب الحفاظ عليه.

والحال أن الواقع خلاف ذلك فالأصل هو الاحتياج والنقص واللاكمال “ويشهد على ذلك أن الموضوعات في قضايا الضرورات ليست تامة الكمال على أرض الواقع حتى يراد الحفاظ عليها، بل هي في جميع الأحوال ينتابها النقص والاحتياج. الأمر الذي يبرر الهدف الذي أنزلت لأجله الشريعة، وهو السعي نحو تسديد الواقع وإكماله لا الحفاظ عليه، خاصة فيما يتعلق بالمصالح الحقوقية التي يترأسها مبدأ العدل. فهذا ما تشير إليه” (7)، فالأزمة التشخيصية المتحدث عنها في هذا المقام تتجلّى في عدم التحقق من ملاك الأحكام الشرعية ودورها في حياة البشر، بل حتى أنها لا تهتم بالجنبة الأخلاقية فيها.

 

 

ثانيًا: أزمة التأسيس

لو رجعنا إلى المسألة التاسعة سوف نجد العلّامة الشاطبي لا يؤسس نظريته على المبنى العقلي ولا حتى المبنى النقلي أو المبنى الاطمئناني، بل يجعل أصل النظرية قائمة على “استقراء الشريعة، والنظر في أدلتها الكلية والجزئية، وما انطوت عليه من هذه الأمور العامة، على حد الاستقراء المعنوي الذي لا يثبت بدليل خاص، بل بأدلة منضاف بعضها إلى بعض. مختلفة الأغراض، بحيث ينتظم من مجموعها أمر واحد تجتمع إليه تلك الأدلة” (8).

وهذا عين التخبط في التأسيس لأن النظر النظمي الذي يدعو إليه العلّامة الشاطبي يستلزم مبنًى عقلانيًّا، وإلا سقط، فعملية الاستقراء هي عملية ذهنية قائمة على الخلوص إلى نتيجة من خلال الجواب على مقدمتين. إلا أن الاستقراء الشاطبي مختلف تمامًا على النهج الاستقرائي المتقبل لأنه يراه معنويًّا منجبر بأدلة أخرى.

إلا أن التحدث عن الانجبار بالأدلة الجانبية قول فيه نظر، لأن الأدلة التي يبحث عنها لا تعدو أن تخرج عن الثلاثية الاستدلالية والتي سبق أن استبعدها العلّامة.

لكن وحتى ينتظم الموضوع في هذه الجنبة لا بأس من الانطلاق من الأزمة الأشعرية التي كان يعانيها العلّامة الشاطبي.

فهو عندما رد العقل جاعلًا من النقل هو الحاكم الأوحد كان هذا الرأي من جهة تأثره بآراء أبي الحسن الأشعري، وهو نفس ما انتبه إليه الأستاذ أحمد الريسوني ذلك أنه أشار بهذا الخصوص إلى أنه “يصرح بأن نظرته تنبني على ما تقرر في علم الكلام، وهو يعني دون شك – علم الكلام الأشعري. ففي المقدمة العاشرة يقرر – كما يقرر ذلك كل مسلم – أنه: “إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية، فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعًا، ويتأخر العقل فيكون تابعًا، فلا يسرح العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يسرحه النقل …”. ثم استدل على ذلك بأدلة منها: “وما تبين في علم الكلام والأصول، من أن العقل لا يحسن ولا يقبح”؛ بمعنى أنه لا يقدر – ولا يملك الحق – في أن يحكم على الأشياء والأفعال بأنها حسنة أو قبيحة، أي بأنـهـا مصلحـة أو مفسـدة” (9).

فهو لا يرى للعقل من دور إلا تبيين المصلحة من خلال النص، إلا أن هذا الدور سرعان ما يضمحل أمام بعض النصوص المجهولة المصلحة وغير المفهومة، بل وحتى غير المعقولة معنويًّا كما يشير هو نفسه في مقام البحث في المسألة الثامنة عشرة المعنونة بـ: الأصل في العبادات التعبد والتزام النص؛ ذلك أنه أوضح في مقام الحق الله المحض “الدليل على ذلك أن التعبد راجع إلى عدم معقولية المعنى، وبحيث لا يصح فيه إجراء القياس. وإذا لم يعقل معناه دل على أن قصد الشارع فيه الوقوف عندما حده لا يتعدى، فإذا وقع طابق قصد الشارع، أو لا، خالف” (10).

 

الواضح أن العلّامة الشاطبي يضعنا أمام معضلة وهي كيف تسنّى له الحكم بأن قصد الشارع هو التعبد دون الإحاطة بمعناه، صحيح أنه سوف يجيبنا بأن هذا الأمر تحقق له بالاستقراء وهو البحث في الجزئيات وفق الكليات الثلاث وهي الضروريات والحاجيات والتحسينيات، ذهابًا وإيابًا بينهما، وإذا سألناه من قال لك بحجية الاستقراء الذي أقمته أجابك السيرة العقلائية حققت له هذا المدرك “الاستقراء دل جريانها على مقتضى العقول، بحيث تصدق العقول الراجحة وتنقاد لها طائعة أو كارهة ولا كلام في عناد معاند ولا في تجاهل متعام”(11). وهذا عين الخلط ووقوع في الدور لأن الجعل من السيرة العقلائية (وهي أدنى درجة من العقلانية) حاكمة على صحة الاستقراء الذي يقول لنا بأن بعض الأحكام التعبدية لا معقولة المعنى ويجب أخذها على هذا الأساس حتى يتحقق فينا مقصد الشارع. قول غير عقلائي بالمرة لأن من قامت حجيته في البداية استمرت إلى نهاية الاستدلال، وهذا مقتضى عقلاني غير متيسر الرد. بالإضافة إلى أن القول بتحقق مقصدية الشارع بهكذا تعبّد أي مع الجهالة المعنوية ضرورة منقوض من أساسه، لأن لا النقل ولا العقل قالا بذلك مما يجعل من الطريق الذي أدى إلى هذه الخلاصة طريقًا مجهولًا، بل هو انتزاعي بدون مقدمات متصلة، وسوف نعمل على بسط الأدلة النقلية قبل العقلية في محورية العقل في استنباط الأحكام الشرعية في مقام الدفاع على هذه الآلية المعرفية الكبيرة، عند تبيان المباني.

ونفس النقض المنوه إليه أعلاه يتضح بشكل أجلى في قول العلّامة بأنه “إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية، فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعًا، ويتأخر العقل فيكون تابعًا، فلا يسرح العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يسرحه النقل”. قول واضح التهاتر لأن هذا الكلام يجرنا إلى “مشكلة تحديد من هو المرشد الأولي هل النص هو الذي يرشد إلى الاعتماد على العقل أم العقل هو الذي يرشد إلى الاعتماد على النص. وبناءّ على مذكرنا لا مجال لإعطاء النص الموقعية الأولى بدليل أن النص يتوقف الأخذ به على الإقرار بكونه سبيل للمعرفة، وهو يتوقف على الإقرار بموقع صاحب النص لأن قيمة النص تأتي من قيمة قائله لأننا لا نعني بالنص هناك كل كلام مكتوب أو مقروء، بل نعني به خصوص النص القرآني أو النص الصادر عن الرسول عليه الصلاة وعلى آله … والإقرار بموقعية صاحب النص يتوقف على الإقرار بمبدئي النبوة والإمامة المتوقفين على مبدأ التوحيد، وكون المعرفة التي يبلغها الله تعالى لعباده هي المعرفة الأتم التي لا نقص فيها ولا بطلان، وهذه كلها تأسيسات عقائدية يتولاها العقل لا غير سواء حين إثبات المبدأين أم حين تشخيص من هو النبي أو الإمام، ولذا كانت المعجزة سبيلًا يستدل بها العقل على كون صاحبها مرسلًا من عند الله تعالى، وبالتالي يملك الحقيقة الكاملة والمعرفة التامة. ومما يؤكّد دور العقل في مجال العقيدة أن لا يمكن الدخول في الإسلام، دخولًا واقعيًّا، إلا من باب العقل” (12)، وهذا عين ما أسميناه باستمرارية الحجية إلى الآخر لأن ما قام كدليل ابتداءً يظل كذلك انتهاءً.

هذا فيما يخص تهميش دور العقل بدون مبرر، أما فيما يخص أصل الأزمة فهي التي تنجر إلى الاستقراء، ذلك أننا نجده يؤسس لنظرية المقاصد بـ “استقراء الشريعة، والنظر في أدلتها الكلية والجزئية، وما انطوت عليه من هذه الأمور العامة، على حد الاستقراء المعنوي الذي لا يثبت بدليل خاص، بل بأدلة منضاف بعضها إلى بعض. مختلفة الأغراض، بحيث ينتظم من مجموعها أمر واحد تجتمع إليه تلك الأدلة”، والحال أن ما أشار إليه لا يمكن توصيفه بأنه استقراء.

فالاستقراء هو دراسة الجزئيات لإثبات الحكم الكلي، وليس دوران الاتجاه كما ينوه إلى ذلك العلّامة الشاطبي؛ لأن الانطلاق من الكلي إلى الجزئي يسمى برهانًا وليس استقراءً.

وكما هو معلوم أن الاستقراء ينقسم إلى شطرين استقراء تام واستقراء ناقص، والاستقراء التام هو بحث جميع الجزئيات بأسرها وصبها في قالب واحد، وهو ليس من أوجه الاستدلال والاستنباط، واستقراء ناقص وهو يعد من أقسام الاستدلال إلا أنه لا يدرس جميع الجزئيات، مما يجعلنا ننبئ بأن العلّامة إنما قصد الاستقراء الناقص ما دام هو يبحث في الاستدلالات على نظريته.

صحيح أن الاستقراء الناقص لا يفيد العلم بالمعنى الجزمي، إلا أنه يظل مفيدًا للعلم جالب للاطمئنان مع تحقق وجود احتمال خطأ النظرية، لكن هذا الاحتمال لا ينتبه إليه.

موطن الخلل عند العلّامة هو بحثه عن الجزمية بآليات معرفية لا تدلل على ذلك، بل أن أزمته لا تقف عند هذا الحد، بل تنجر إلى مقام آخر وهو أن الاستقراء الناقص بما هو استدلال بالخاص على العام، يرتكز على الحس والعقل معًا في ذلك، لأن الحس يهم الجزئيات القليلة التي تم دراستها، أما العقل فيهم جنبة إصدار الحكم الكلي بشكل انتزاعي، والحال أنه لا يرى للعقل من مقام إثباتي.

هذه كانت مجموعة ملاحظات كلية على نظرية مقاصد الشريعة كما بلورها العلّامة الشاطبي، وطبعًا ملاحظتنا لا تريد إزاحة النظرية بالجملة، بل فقط تصويب المسار وفقًا لما نعتقد سلامته.

والآن، وبعد أن أوضحنا مواطن الخلل في النظرية المقاصدية على الأقل في المستوى الكبروي، فإنه لا بأس من ختم المقال بدراسة الدلالة العقلية وفقًا للمنظور الذي نتبناه.

في البداية لا بدّ من التنويه إلى أن مقصدية الحكم تتحقق على مستوى النص عندما يكون المدلول قطعيًّا (وهو نادر)، ومرة تتحقق على مستوى الاستنتاج وفقًا للدلالتين العقلية والواقعية، وما دمنا بصدد بحث دور العقل في المعرفة الدينية فيكون حريًّا بنا لفت الانتباه إلى الدلالة العقلية في هذا الباب.

 

يصرح الأستاذ يحيى محمد “بأن الإدراك العقلي له منظاران، أحدهما قبلي، أي بغض النظر عما عليه الموضوع الخارجي سواء كان نصًّا أو واقعًا، والآخر بعدي يتأسس بما يتزود به من مادة الموضوع المدرك، الأمر الذي تتداخل فيه الدلالتان العقلية والموضوعية، فيصبح بذلك مستنتجًا ومضيفًا. ففي العملية الاستنتاجية يقوم باستنساخ مفردات الموضوع ليؤلف منها ما يتسق والصورة المنطقية حسب مبادئ قبلية يرتكز عليها من غير أن يبدي إضافة إخبارية قبلية كاشفة عن الموضوع الخارجي، إلا على نحو الإضافة الحسابية التي تؤكدها الدراسات المنطقية، وذلك بتحويل درجة الاحتمال المتناهية القوة إلى اليقين طبقًا للعملية الاستقرائية، حيث يتم فيها تصفية الحسابات الخاصة للقضية المدركة ضمن ضوابط منطقية، مثل إدراكاتنا التصديقية للقضايا الحسية وما يترتب عليها من نتائج خاصة، وكذا إدراكنا للنصوص الواضحة الصريحة التي لا تحتاج إلى تأمل وحمولة عقلية، ولو على نحو الإجمال. فليس للحساب الاحتمالي أن يصل بذاته إلى اليقين ما لم يتم ذلك بحسب الإضافة العقلية الخاصة. لكن تظل هذه الإضافة التصديقية غاية في الضآلة قياسًا مع ما يقابلها من قوة احتمالية، لهذا فهي غير محسوبة ومحسوسة إلا عند النظر المنطقي” (13). أوردنا النص على طوله لأنه يشرح بشكل جلي دور المدرك العقلي في التعامل مع الموضوع الخارجي، ويعمل على إيضاح ذلك الميكانيزم الداخلي الدقيق الذي يقوم به العقل بوصفه الدليل الكبروي، إذ أن “المعطى الموضوعي صغرويًّا في الدليل لا يستغني عن تحكم مبادئ عقلية شاملة وثابتة هي التي تهيمن على عملية الاستدلال والإنتاج المعرفي” (14).

فالعقل بما هو موجود متكامل يعرف استقلالية إن مطلقة وإن مقيدة بالموضوع الخارجي، وطبعًا هذا التقيد هو موطن تكامله لأنه يتشخص مع المواضيع الخارجية يستنطقها وبحساب الاحتمالات يوقنها. وهنا موطن الخلاف مع المنظور الشاطبي لأن هذا المنظور ينظر إلى العقل كموجود منحرف يقومه النص، متناسيًا على أن القول بحجية النص نفسه مقتضى عقلي. فتصور العلّامة الشاطبي يجرنا إلى معضلة فلسفية قديمة تسمى بـ ” كذاب كريت”؛ مؤداها أن كريتي صرح بأن جميع الكريتيين كاذبين. فلو صدقنا الكريتي في قوله نكون قد نسفنا مضمن حديثه، ولو كذبناه نكون قد صدقنا بمضمن حديثه. المحصلة أنه لو جعلنا العقل غير مستقل بالأحكام، فإنه يستحيل علينا القول بصحة النقل لأن هكذا حكم متحقق بالمباني العقلية وحدها، ولو قلنا بفساد العقل استقلالًا نكون قائلين بفساد الحكم بصحة الأخذ بالنقل وهو هدم نيروني بامتياز.

هذا فضلًا على أن هناك الكثير من الروايات والنصوص المعتبرة تؤكد على دور العقل وأهميته نورد بعضها:

ففي كتاب الله سبحانه وتعالى، نجد حث شديد على العقل واستعماله، بل جعله المنقذ من التهلكة ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾، (سورة الحج، الآية 46). ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾، (سورة البقر، الآية 130). ﴿وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَ الْعَالِمُونَ﴾، (سورة العنكبوت، الآية 43). وغيرها كثير تشير إلى أهمية العقل بوصفه موجود مستقل كفيل بإنقاذ الإنسان لو غلبه على شهوته، وعلى أساسه يتم إثبات صحة التوحيد والنبوة والمعاد وغيرها من أصول الدين.

وفي الروايات المعتبرة تصريح بمكانة العقل عند الباري جل وعلا:

“لما خلق الله العقل استنطقه ثم قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر. ثم قال: وعزتي وجلالي، ما خلقت خلقًا هو أحب إلي منك، ولا أكملتك إلا فيمن أحب، أما إني إياك آمر، وإياك أنهى وإياك أعاقب، وإياك أثيب”.

وفي رواية أخرى “صديق كل امرئ عقله، وعدوه جهله”، و “من كان عاقلًا كان له دين، ومن كان له دين دخل الجنة”؛ وهنا ربط واضح بين طهارة العقل ومؤدى ورود الجنة به.

ونكتفي بهذه الروايات المعتبرة أما غيرها فكثير، ونظن بأن فيها الكفاية في هذا المقام.

بقيت الإشارة إلى أنه لا يستقيم القول بالاستقلال العقلي دائمًا، وإلا فقد النص حجيته في مقام الإثبات، لذا يكون من الأسلم التحدث عن تكامليته من جهة أنه الضمانة الوحيدة لتحقيق اليقين في مجموع المواضيع الخارجية. وهنا بالضبط موطن الاختلاف مع العلّامة الشاطبي. فـ “ما يعنينا في الدلالة العقلية هو الكشف عن أهميتها في فهم النص وتحديد الأحكام بما يتفق والمقاصد” (15). في حين ينظر إليها العلّامة كموجود غير مستقل عن النص يفهم ظهوره الأول بالمقتضى العرفي العقلائي، ومن خلال تجميع ما فهم يتم الخلوص إلى المقصد الشرعي، والحال أن الفهم الأولي وفقًا لمجريات السيرة العقلائية لا يحمل اليقين، صحيح أنه قد يورث الاطمئنان إلا أنه لا يتسامى كآلية لتوريث اليقين مما يجعل منه مسلكًا غير تام.

 

الهوامش:

1 – أحمد الريسوني، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي منشورة عن دار الأمان ضمن سلسلة الرسائل الجامعية عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الثانية 2003. لمزيد من التوسع الرجوع إلى الباب الأول المعنون بالمقاصد قبل الشاطبي من الصفحة 23 إلى غاية الصفحة 55.

2 – أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، شرحه وخرج أحاديثه فضيلة الشيخ عبد الله دراز، وضع تراجمه الأستاذ محمد عبد الله دراز، خرج آياته وفهرس موضوعاته عبد السلام عبد الشافي محمد. صادر عن دار الكتب العالمية، بيروت في مجلدين يحتوي كل واحد منهما جزءين وبدون تاريخ، نشر الجزء الثاني، الصفحة 3.

3 – أبو اسحاق الشاطبي، المصدر نفسه، هامش الصفحة 3.

4 – أحمد الريسوني، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، مصدر سابق، الصفحة 6.

5 – أبو إسحاق الشاطبي: يرجى الرجوع إلى الجزء الثاني لمطالعة المسائل الثلاثة عشر بتفصيل أكبر من الصفحة 3 إلى غاية هذا إلى من أراد التوسع.

6 – يحيى محمد، فهم الدين والواقع، منشورات دار الهادي سنة 2005، الصفحة 125.

7 – يحيى محمد، المصدر نفسه، الصفحة 131.

8 – الشاطبي، المصدر نفسه، الصفحتين 38 و 39 من الجزء الثاني.

9 – أحمد الريسوني، المصدر نفسه، الصفحة 242.

10 – الشاطبي، المصدر نفسه، الصفحة 242 الجزء الثاني.

11 – الشاطبي، المصدر نفسه، الصفحة 20 الجزء الثالث.

12 – حسن المكي العاملي، دور العقل في المعرفة الدينية، منشورات دار الهادي سنة 2005، الصفحتين 131 و 132.

13 – يحيى محمد، المصدر نفسه، الصفحتان 158 و 159.

14 – يحيى محمد، المصدر نفسه، الصفحة 159.

15 – يحيى محمد، المصدر نفسه، الصفحة 160.

 


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Source URL: https://maarefhekmiya.org/14636/makasedshariaa/