by الشيخ علي كريّم | أبريل 26, 2022 6:41 ص
بطاقة الكتاب:
1-اسم الكتاب: العدل الإلهي.
2-اسم الكاتب: الشهيد الشيخ مرتضى المطّهري.
3-الترجمة: عرفان محمود.
4-الإعداد: مؤسّسة أمّ القرى للتحقيق والنشر.
5-الناشر: دار الهدى، مطبعة ظهور، الطبعة الرابعة 1386ه/2007 م.
6-عدد صفحات الكتاب: 494 صفحة من القطع المتوسِّط، ويقع في مقدِّمة وتسعة فصول.
مقدِّمة
بين يدي الشهيد مطهّري نقف، في حضرة عالمٍ عاملٍ توّج عمره المليء بالعطاء بشهادةٍ روّى بها وطنه بنجيع الدماء، وما بين الولادة والشهادة محاضرات وكتب من يقرأها لا بدّ أن يتعلّق قلبه بربّ الأرض والسماء، وأهمّ ما كتبه الشهيد مطهّري هو كتاب “العدل الإلهي”، الذي يُعدّ من أهمّ ما كُتِب في مجاله نظرًا لمجموعيّته وإثارته لأكثر الإشكالات التي تُشكَلُ على العدل الإلهي، بالإضافة إلى الأمثلة الكثيرة التي يوردها الشهيد في إيضاحه للمسائل المتعلّقة بالعدل الإلهي؛ بحيث يوضِّح الشهيد أعقد المسائل الفلسفيّة ببيان عذبٍ وسهلٍ، حتّى أضحى ذلك من العلامات الفارقة في منهج الشهيد ولغته.
يبدأ الشهيد مطهّري الكتاب بمقدّمةٍ يتحدّث فيها عن أمورٍ متعدّدة:
1- الدوافع التي دفعته إلى إلقاء هذه المحاضرات المتعلّقة بالعدل الإلهي، ومن ثمّ إعادة صياغتها في هذا الكتاب، إذ يعتبر أنّه لا يمكن الحكم على عصرنا الحاضر بأنّه عصر الانحراف، لمجرّد كثرة الشكوك والتساؤلات التي يطرحها جيل اليوم، لأنّ الشكّ إذا دفع صاحبه إلى البحث عن الأجوبة لشكوكه يكون مقدّمةً لليقين، ثمّ يحمَّل الكثير من الكتّاب الذي يدّعون الدفاع عن الدين مسؤوليّة تغلغل الثقافة الغربيّة في المجتمع نظرًا لعدم رعاية قاعدة الأهمّ فالأهمّ في الكتابة، بالإضافة إلى سيطرة النزعة الفرديّة على الكتابة وعدم التنسيق بين المؤلّفين.
2- المنهج المعتمد من الشهيد هو المنهج النقلي المعتمد على الأحاديث والروايات، والمنهج العقلي الذي يعتمد فيه الشهيد على المنهج الفلسفي الذي يعتبره متقنًا برهانيًّا، خلافًا للمنهج الكلامي الذي يعتبره الشهيد جدليًّا إفحاميًّا، إلّا أنّه مع ذلك يعترف بندرة البحوث الفلسفيّة بشأن العدل وكثرتها كلاميًّا نظرًا لعوامل خاصّة دينيّة وتأريخيّة.
3- يعتبر الشهيد أنّ مسألة الجبر والاختيار هي أولى المسائل الكلاميّة التي بُحِثت، وأنّ الذي دفع المسلمين للبحث فيها هو التدبّر في الآيات القرآنيّة الكثيرة التي تتحدّث عن هذا الموضوع، وقد أدّى هذا البحث إلى البحث في مسألة العدل لوجود ارتباطٍ مباشرٍ بين حريّة الاختيار والعدل من جهةٍ، وبين الجبر ونفي العدل من جهةٍ ثانيةٍ، فانقسم المتكلّمون المسلمون إلى فرقتين:
1- فرقة المعتزلة القائلون بالعدل الإلهي، حيث اعتبروا أنّ العدل بحد ّذاته حقيقةٌ مستقلّةٌ، والله بمقتضى حكمته يقوم بأفعاله وفق ما يقتضيه معيار العدل.
2- فرقة الأشاعرة فاعتبروا أنّ ما يفعله الله هو عين العدل دون وجود قانون يحكمه وهو قانون العدل، كما اختلفت الفرقتان في أهم ّمبادئ العدل، حيث قالت المعتزلة بالحسن والقبح الذاتييين العقليين، وقالت الأشاعرة بالشرعيين، والمبدأ الثاني هو الغائيّة في أفعال الله، حيث قالت به المعتزلة ورفضته الأشاعرة، ليصل الشهيد إلى نقد كلا الفرقتين، وأنّ لكلٍّ منهما نقطة قوّة ونقطة ضعف، بحيث ضحّى الأشاعرة بمبدأ العدل حفاظًا على التوحيد الأفعالي حيث قالوا بالجبر، وضحّى المعتزلة بمبدأ التوحيد الأفعالي حفاظًا على العدل حيث قالوا بالتفويض.
أمّا المذهب العقلي الشيعي فقد حافظ على المبدأين، عبر نظريّة الأمر بين الأمرين، ونظريّة عينيّة الذات مع الصفات التي يعتبرها الشهيد من أعمق المعارف الإلهيّة، ويشير أيضًا إلى تميّز الحكماء الشيعة حيث اعتبروا أنّ الحسن والقبح من الأمور العمليّة الاعتباريّة، وليس من الأمور النظريّة، وأنّ مفهوم الحكمة في أفعال الله هو بمعنى اللطف وإيصال الأشياء إلى غاياتها.
4 – إنّ منبع الاهتمام الإسلامي بالعدل وعلّته الأساسيّة هو القرآن الكريم، وليس اختلاف المسلمين في فهم أصل العدل وتفرّقهم.
الفصل الأوّل
يتحدّث الشهيد في هذا الفصل عن أربعة معانٍ للعدل، وهي: أ- الاتّزان بمعنى وجود كلّ شيءٍ بالمقدار اللازم لاستمرار وتحقيق الهدف، ومقابل هذا المعنى هو فقدان التناسب وليس الظلم.
ب- المعنى الثاني هو المساواة ونفي كلّ أشكال التمييز وهو عين الظلم إذا كان المراد منه عدم مراعاة الأنواع المختلفة للاستحقاق.
ج- رعاية حقوق الأفراد وإعطاء كلّ ذي حقٍّ حقّه، يعتبر هذا المعنى خاصًّا بالإنسان ولا يمكن تعميمه على الله تعالى، لأنّه عبارة عن مجموعة من الأفكار الاعتباريّة التي تولّدها حاجة المجتمع الإنساني، من هنا لا يمكن تطبيق الحسن والقبح المرتبطين بهذا المعنى على أفعال الله تعالى، بل يترقّى الشهيد أكثر من ذلك ليقول بأنّه حتّى لو قلنا بجريان حاكميّة الحسن والقبح على أفعال الله تعالى فليس للظلم مصداق عمليٌ في حقّه تعالى لوجود مبدأ المالكيّة لله، إذ ليس لأحدٍ في مقابل الله أيّ مالكيّة ليتحقّق الظلم أصلًا.
د- رعاية الاستحقاق والأهليّة في إفاضة الوجود وهذا هو المعنى المتصوّر في حقّه تعالى.
2- يشير الشهيد أيضًا في هذا الفصل إلى الإشكالات التي قد تشكل على العدل الإلهي؛ وهي إشكاليّة وجود التمييز في الخلق، وإشكاليّة الشرور، وإشكاليّة الموت والفناء، ويعتِبر أنّ الفهم الخاطئ لهذه الأمور قد أدّى إلى ظهور الفلسفة الثنويّة الماديّة التي تقول بوجود مبدأين لهذا الكون، وهما مبدأ الخير ومبدأ الشرّ، ليتطرّق في هذا المجال إلى الرؤية الإسلاميّة لموضوع الشيطان وأنّها لا تشبه قول الثنويّة، إذ المسلمون لا يقولون بأنّ الشيطان قطبٌ مستقلٌ في مقابل الله تعالى،كما أنّ دوره منحصرٌ في عالم التشريع عبر التزيين الفكري دون المسّ بالبدن، ولا دخل له في عالم التكوين، كما أدّت هذه الإشكالات إلى ظهور الفلسفة التشاؤميّة التي ترى الخلقة والعالم فاقدةً للهدف والغاية، وأبرز هؤلاء الفيلسوفان نيتشه وشوبنهاور من الغرب، وأبو العلاء المعرّي والشاعر عمر الخيّام من الشرق.
الفصل الثاني
يتحدّث فيه الشهيد عن نقطتان:
1- الفلسفة الإسلاميّة معتبرًا لها كنزًا معرفيًّا قلَّ العارفون بها، وأنّها وخلافًا للفلسفة الغربيّة قد أوجدت الحلول لإشكاليّة الشرور.
2- عرض مسالك التعامل مع الإشكالات:
أ- الجواب الإجمالي عنها المألوف بين عوام المؤمنين المستند إلى حكمة الله وعلمه وقدرته، وأنّ من يتمتّع بهذه الصفات لا يُتصوَّر في حقّه الظلم والعدوان، فلا بدّ من تفسير الظواهر المتخيّل مخالفتها بأنّ لها لونًا من المصلحة المجهولة التي لا يفهمها الإنسان وهو نفسه مسلك أهل الحديث.
ب- متكلِّمو الأشاعرة اتّبعوا منهجًا لا يبقي مجالًا لإثارة هذه الإشكالات.
ج- الفرق الكلاميّة الأخرى وأتباع المنهج التجريبي بحثوا في أسرار الموجودات والمصالح المرادة من إيجادها لإيجاد الحلّ.
د- الحكماء بحثوا الموضوع انطلاقًا من طريقين، الأوّل عبر إثبات أنّ عالم الوجود هو ظلّ الله تعالى، وظلّ الجميل جميل، أمّا الثاني فعبرَ تحليل ماهيّة الشرور وضرورة وجودها.
الفصل الثالث
إنّ هذا الفصل مخصَّصٌ للإجابة عن إشكاليّة التمييز، فبعد أن يعرض الشهيد الجواب الإجمالي عليها، وهو المتقدّم في الفصل الثاني، ينقده باعتبار أنّ مفهومي الحكمة والمصلحة إنّما يصدقان على الموجود المخلوق ذي القدرة المحدودة، أمّا الله تعالى فهو قادرٌ على إيجاد المصالح الموجودة في الشرور من دون الحاجة إلى هذه الوسائل المؤذية.
1-جواب الشهيد: يبدأ جوابه باعتبار أنّ النظام الكونيّ ذاتيٌّ بمعنى أنّ تبعيّة كلّ معلولٍ لعلّته هي عين وجود المعلول، كما أنّ إرادة الله لإيجاد المعلول هي عينها إرادة الارتباط بعلّته، إلى أن ينتهي الربط إلى العلّة التي تكون إرادة إيجادها مساوقةً لإرادة إيجاد جميع الأشياء والروابط والنظم، وهذا ما يسمّيه الشهيد بالنظام الطولي لخلق الكائنات، وهو نظام العلّة والمعلول بحيث يكون ارتباط كلِّ معلولٍ بعلّته أمرٌ ذاتيٌّ ناشئٌ من ذاتيهما، إذ إنّ عالم الموجودات محكومٌ بعلاقات ذاتية وضروريّة ثابتة، والمراتب الوجوديّة للأشخاص هي أيضًا ذاتيّة لأنّ علوّ الذات الإلهيّة يقتضيان هذا الترتيب في انتساب الموجودات إليها، من هنا فالموجود بين الموجودات هو التمايز وليس التمييز، وهذا التمايز أمرٌ ذاتيٌّ فيها لأنّه أثرٌ ملازمٌ للعلّة والمعلول، فما يمكن أن يشكّل نقضًا للعدالة والحكمة هو التمييز وليس التمايز الذاتيّ.
ب- يعتبر الشهيد أيضًا أنّ القرآن قد أشار إلى قانون العلّة والمعلول الحاكم في النظام الكوني عبر الآيات التي تتحدّث عن السنن الإلهيّة التي لا تتبدّل، من هنا فلا يوجد استثناءٌ في القانون الإلهيّ، أمّا المعاجز مثلًا فهي ناتجة عن التغيّر في شروط جريان السنن، ليستفيد الشهيد بعد ذلك من موضوع السنن للإشارة إلى أنّ سنّة الله مع الإنسان هي أن يكون مريدًا ومختارًا، وليست بمعنى أنّه مجبرٌ بمقتضى عدم تبدّلها.
الفصل الرابع
في هذا الفصل يجيب الشهيد عن إشكاليّة الشرور، عبر تحليل ماهيّتها حيث يعتبر أنّ الشرور الموجودة ترجع إلى نوعين:
بالنسبة إلى النوع الأوّل فهو غالبًا ما يكون منشأً للنوع الثاني، من هنا فيمكن للإنسان التخلّص من النوعين عبر اكتشاف سبب تولُّد هذه الشرور، وإيجاد العلاج الملائم لها، فالجهل هو الذي يسبّب المرض مثلًا. أمّا بالنسبة للنوع الثاني فالشرور المسبّبة منها هي من الصفات النسبيّة الإضافيّة وليست من الصفات الحقيقيّة، والفرق بينهما أنّ الأولى لا بدّ لتصوّرها من تصوّر شيءٍ آخرٍ معها كالكبر والصغر، والثانية هي الصفات الثابتة للشيء بقطع النظر عن أيّ شيءٍ آخر كصفة الحياة، فسمّ الحيّة قد يكون شرًّا بالنسبة لنا، ولكنّه ليس شرًّا بالنسبة للحيّة نفسها، من هنا لا يصحّ لنا السؤال عن شريّة الحيّة بالنسبة للإنسان لأنّها لا تملك وجودًا حقيقيًّا، بل وجودها إضافيٌّ اعتباريٌّ، والأوّل هو الذي يتعلّق به الجعل والخلق والعليّة دون الثاني، نعم يصحّ السؤال عن خلق الحيّة نفسها، وهذا ما سيجيب عنه الشهيد في الفصل اللاحق.
الفصل الخامس
يبحث الشهيد في هذا البحث عن فوائد الشرور من زاويتين:
الزاوية الأولى: مكانة الشرور في نظام الوجود العامّ.
الزاوية الثانية: قيمة الشرور بلحاظ أصلِ وجودها.
يعالج الشهيد الزاوية الأولى من جهتين:
1-عدم إمكان الفصل بين الشرور والخيرات، فالكون كلٌّ واحدٌ يرفض التجزئة، فحذف المصائب من الكون مساوقٌ لعدم الكون نفسه.
2-النظر إلى الأشياء كجزءٍ من النظام الكلّي، فحينئذٍ سوف يتغيّر الحكم على الشرور عن النظر إليها بصورةٍ مستقلّةٍ، إذ وجود الشرور ضروريٌّ لتناسق النظام الكلّي وحفظ التوازن العامّ.
أمّا بالنسبة للزاوية الثانية، فيتحدّث الشهيد فيها عن أربعة نقاطٍ:
1- القبح يظهر الحسن، فلو تمتّع الناس جميعهم بالجمال لما كان أحدٌ منهم جميلًا، وكذلك لو كانوا جميعًا قبيحين، ثمّ يجيب عن إشكاليّة قد تطرأ نتيجةً لهذا الجواب، فلماذا كان الشخص الفلانيّ قبيحًا لإظهار جمال الآخر؟ لماذا لا يكون الأمر بالعكس؟ أنّ ما أعطاه الله لكلّ مخلوقٍ هو من قابليّاته الذاتيّة وخصوصيّاته، بحيث لم تُخلَق هذه الأشياء ثمّ أعطيَت الخصوصيّات لها، بل هي مرافقة لها منذ وجودها.
2- السعادة تكمن في المصائب، اليسر يترافق مع العسر ويعتصر منه ويكمن في أعماقه، ولا يأتي بعده كما هو مقتضى الروايات والآيات كالآية الكريمة ﴿إنّ مع العسر يسراً﴾[1][1] .
3- إنّ للبلاء آثار تربويّة مهمّة، فهو ينمّي النفس على الرضا بالقضاء، ويصقلها ويجعلها أكثر قوّةً وطاقّة وقابليّةً للتكامل.
4-البلاء والنعمة نسبيّان، فالشيء الواحد قد يعتبر بالنسبة إلى شخصٍ ما نعمة، ونفسه بالنسبة للآخر بلاءً ونقمة، كما أنّنا نستطيع أن نصل إلى البؤس عبر الغنى، وقد نصل إلى السعادة، وكذلك عبر الفقر.
الفصل السادس
يصوّر الشهيد في هذا الفصل جذور الاعتراض على الموت ويعتبره ناشئًا من الجهل بحقيقة الإنسان وبحقيقة عالم الدنيا، فهؤلاء يعتبرون أنّ الموت معبرٌ إلى العدم، وهذا غير متناسبٌ مع النزعة الموجودة لدى الإنسان إلى الخلود، ومع الأدوات المتوفّرة لدى الإنسان التي تتناسب مع معه، ويتصوّرون أيضًا أنَّ حقيقة الإنسان وهويّته تتمثّل في هذا الجسم الماديّ فقط.
الإجابة التي يقدّمها الشهيد: بأنّ الموت لا يعني الفناء، بل هو تطوّرٌ وارتقاءٌ، وعدمٌ لنشأة وجوديّة ووجود لنشأةٍ وجوديّةٍ أخرى، كما أنّ الدنيا هي مدرسةٌ إعداديّةٌ للإنسان تكمّله وتؤهّله لحياةٍ أخرى وتنقل استعداداته من القوّة إلى الفعل، فحقيقة الإنسان هي في روحه المجرّدة التي وبمقتضى الحركة الجوهريّة تترك مادّة الكون وتواصل حياتها في مرتبةٍ حياتيّة ٍأعلى وأقوى، لتفسح المجال للمادّة لكي تُربَّي في أحضانها جوهرةً أخرى. انطلاقًا من هذه الرؤية الفلسفيّة يصل الشهيد إلى أنّ الموت توسعة للحياة، إذ أنّ ظاهرتي الموت والحياة توجدان في عالم الوجود نظام التعاقب، فموت كلّ جماعة يمهّد لحياة جماعةٍ أخرى.
الفصل السابع
يجيب فيه الشهيد عن الشبهات المتعلّقة بعدالة الجزاء الأخروي، وأنّ العقوبة الإلهيّة لا تتناسب مع حجم الجريمة بأنّه يوجد تمايزٌ بين عالمي الدنيا والآخرة، فالأوّل هو عالم التغيّر والحركة، أمّا الثاني فهو عالم الثبات والقرار، خلوص الحياة في الآخرة حيث هي موجودةٌ حتّى في الصخور والأشجار والنار، أمّا في الدنيا فهناك امتزاجٌ بين الموت والحياة، الدنيا موسم الزراعة والآخرة موسم الحصاد، في الدنيا هناك اشتراكٌ بين مصائر الناس بدرجةٍ معيّنة، أمّا في الآخرة فلكلٍّ مصيره الخاصّ، كما يوضّح الشهيد أنّ العقوبات على ثلاثة أنواعٍ:
أ- العقوبات القانونيّة التي تهدف إلى التأديب وردّ الاعتبار للمظلوم، بحيث تكون العلاقة بين العمل والجزاء عقديّة اعتباريّة.
ب- العقوبات التي تمثّل آثارًا طبيعيّة ًللذنوب، وترتبط بها ارتباط العلّة بالمعلول كالآثار الوضعيّة السيّئة والكبيرة الناتجة عن شرب الخمر.
ج- العقوبات الأخرويّة التي ترتبط ارتباطًا أوثق بالذنوب، بحيث تبرز علاقة العينيّة والاتّحاد بين العمل وجزائه، وهي عبارة عن تجسّم لنفس أعمال الإنسان في الدنيا، من هنا فإنّ إشكال التناسب وعدمه قد يُطرَح فيما يخصٌّ النوع الأوّل من العقوبات دون النوعين الثاني والثالث.
الفصل الثامن
يخصّص الشهيد هذا الفصل للإجابة عن سبع شبهات تتعلّق بتعارض الشفاعة مع العدل الإلهيّ:
1- الاعتقاد بالشفاعة ينافي التوحيد في العبادة.
2- المنافاة بين الشفاعة والتوحيد الذاتيّ أيضًا، لأنّها تستلزم اعتبار رحمة الشفيع أوسع من رحمة الله، حيث إنّ الله يعذّب العاصي إذا لم يستشفع إليه بالشفيع.
3- الاعتقاد بالشفاعة يجرّئ النفوس على ارتكاب المعاصي.
4- القرآن الكريم يصرّح برفض الشفاعة.
5- الشفاعة تتعارض مع مبدأٍ أسّسه القرآن الكريم يعتبر أنّ سعادة كلّ إنسان مرهونةٌ بعمله.
6- الاعتقاد بالشفاعة يستلزم الاعتقاد بانفعال الله تعالى، عبر تأثّره بالشفيع وتحوّل غضبه إلى الرحمة.
7- الشفاعة تمثّل نوعًا من التمييز غير المسوّغ والظلم.
أجوبة الشهيد عن الشبهات
1- الجواب عن الشبهتين الأولى والثانية: لا يوجد منافاة مع التوحيدين، لأنّ رحمة شفاعة الشفيع ليست سوى شعاعًا لرحمة الله، والله هو الذي أقرّ مبدأ تحقّق الشفاعة ونزول الرحمة.
2-الجواب عن الشبهة الثالثة: إنّ الاعتقاد بالشفاعة هو كالاعتقاد بالمغفرة لا يشجّع على ارتكاب المعاصي، بل هدف الشفاعة الحقّة هو إنقاذ القلوب من اليأس والقنوط وإبقائها في حالةٍ من الخوف والرجاء.
3-الجواب عن الشبهة الرابعة: كما توجد آيات تنفي الشفاعة كذلك هناك آياتٌ تثبِت هذه الشفاعة، فهدف القرآن الكريم تطهير الأذهان من الاعتقاد بالشفاعة الباطلة التي يسعى المذنب إلى التوسّل بواسطةٍ ما لأجل منع تطبيق الحكم الإلهيّ، أمّا الشفاعة الصحيحة فتنقسم إلى قسمين: وهما شفاعة العمل التي تؤدّي إلى النجاة من العذاب والفوز بالحسنات، بالإضافة إلى ارتفاع الدرجات، أماّ النوع الثاني ويسمّيه الشهيد بشفاعة المغفرة أو المنّ والفضل ففرقه عن الأوّل أنّه لا يشمَلُ رفع الدرجات، بل فقط يؤدّي إلى مغفرة الذنوب.
4- الجواب عن الشبهة الخامسة: الشفاعة لا تنافي مبدأ لزوم العمل، لأنّ العمل هو بمثابة علّة التأهّل لتقبّل الرحمة، والرحمة الإلهيّة بمنزلة العلّة الفاعليّة لتحقّق الشفاعة.
5- الجواب عن الشبهة السادسة: الشفاعة الصحيحة هي التي يكون مبدأ الحركة لتحقّقها من الأعلى إلى الأسفل؛ أيّ من الله تعالى باتّجاه المستشفع، فلا محلّ لإشكال انفعال الذات الإلهيّة.
6-الجواب عن الشبهة السابعة: لا محلّ للاستثناء والتمييز في الشفاعة، إذ لا توجد حدودٌ لرحمة الله، فهي الرحمةُ الواسِعة، والمحروم منها هو الذي يفقد بالكامل قابليّة التلقّي لها، فالإشكال في القابل وليس في الفاعل.
الفصل التاسع
إنّ البحثَ في هذا الفصل مختصٌّ بمسألة عمل الخير من غير المسلم وكيف تتلاءم عدم مقبوليّته مع العدل الإلهيّ، وقد أثار الفلاسفة الإلهيّون هذا البحث ضمن أبحاثهم، من جهة أنّ من المسلَّم به لديهم أنّ الأصالة والغلبة في الدنيا هي للخير والسعادة، ولو كان كلُّ خارجٍ عن دين الحقّ من أهل جهنّم فهذا يعني غلبة الشرّ والشقاء في نظام الوجود، وقبل الإجابة عن هذه الإشكاليّة يسوق الشهيد مقدّمةً لإيضاح أمرين:
1- ليس الهدف من هذا البحث معرفة المصير الأخروي لأشخاصٍ معيّنين، فهذا يُعَدُّ من الجزم على الله.
2- البحث لا ينصبُّ حول أنّ الدين الحقّ هل هو واحِدٌ أم متعدّد، فالدين الحقّ واحدٌ وهو الإسلام، خلافًا لمن يعتقد بأنّه يكفي للإنسان أن يعتقد بأحد الأديان السماويّة، ويذكر الشهيد مطهري جورج جرداق وجبران خليل جبران مثلًا لأولئك. فالمقصود بعمل الخير هو العمل الذي يفعله غير المسلم ويكون ممّا يدعو إليه الدين الحقّ، كالإحسان إلى الناس مثلًا.
الاتّجاهات الموجودة في الجواب
1- اتّجاه يتبنّاه المفكّرون المستنيرون، الذين يعتبرون عمل الخير مقبولًا ولو من غير المسلم، ويستحقّ عامله الثواب، مستدلّين على ذلك بدليلٍ عقليٍّ مفاده أنّ علاقة الله بمخلوقاته على حدٍّ سواء،كما أنّ حسن الأفعال ذاتيٌّ وواقعيّ، وبآياتٍ قرآنيّةٍ متعدّدة هي: {البقرة، 80}- {آل عمران، 25}- {البقرة، 111}-{النساء، 123}-{الزلزلة، 8} –{ الكهف، 30}-{البقرة، 62}.
2- اتّجاه المتشدّدين: يرفضون قبول العمل من غير المسلم، بل بعضهم يرفض قبول العمل من غير الشيعيّ، ويستدلّون بدليلٍ عقليٍ مفاده أنّه لو كانت مقبولةً فما الفرق بين المسلم وغيره حينئذٍ، بالإضافة إلى أدلّة نقليّة هي آياتٌ ورواياتٌ،{إبراهيم، 18}-{ النور، 39}، أمّا الروايات فمفادها أنّ الاعتقاد بإمامة أهل البيت (ع) أساسٌ لقبول الأعمال، وبدونها لا مقبوليّة[2][2].
3- الاتّجاه الصحيح: بعتبر الشهيد أنّ الكفر نوعان فتارةً يكون كفرًا جحوديًّا، وأخرى عن جهالةٍ، والذي يستحقّ العقاب هو الأوّل، أمّا الثاني فإذا كان عن قصورٍ وليس تقصير فهو محلّ الرحمة والعفو الإلهيّين، لأنّ هؤلاء يتمتّعون بالتسليم القلبي المطلوب وإن لم يهتدوا إلى الإسلام لسببٍ أو لآخر، كما يعتبر الشهيد أنّ للإيمان بالله واليوم الآخر دورٌ في قبول الأعمال لأنّهما يحقّقان الحسن الفاعليّ للعمل بالإضافة إلى الحسن الفعليّ، والثاني لوحده غير كافٍ، نعم بعض الناس لا يؤمنون بهما، ولكن لا تكون نيّتهما أنانيّة، كمن يقوم بعملٍ ما بسبب الرحمة المستولية على قلبه، فهؤلا إمّا لا يعذَّبون، أو أنّهم يٌخفَّف عنهم العذاب، كما دلّت عليه الروايات[3][3]، أمّا بالنسبة للذين يؤمنون بالله وتوحيده وباليوم الآخر، ولكنّها لا تؤمن بالنبي(ص)، ولا بالأئمّة (ع)، كالمسيحيين، أو يؤمنون بالنبيّ(ص)، دون الأئمّة (ع)، كالسنّة فيعتبر الشهيد أنّ معرفة الله الكاملة تتوقّف على معرفة الأئمّة (ع)، والنبي(ص)، من هنا فالمؤمن بهما يحصّل الثواب الأرقى والأفضل، إلّا أنّ المذكورين تُقبَل أعمالهم ويستحقّون الثواب عليها، أمّا الآيات والروايات الواردة في عدم مقبوليّة أعمال منكري النبوّة والإمامة فيمكن حملها على مصاديق الإنكار الناتجة عن العناد والتعصّب والتقصير.
تقويم الكتاب: الإيجابيّات
1-الجامعيّة والشموليّة
يُعتبر كتاب العدل الإلهي للشهيد مطهّري من أجمع الكتب في موضوعه، بحيث يتطرَّق إلى أغلب المباحث المتعلّقة ببهذا الموضوع العقدي الشائك والجدلي، وخاصّةً لجهة الإشكالات والشبهات التي قد تُطرح على أصل العدل الإلهي أو على شموليّته، فهو يبحث مسألة التمييز في الخلق ومسألة الشرور، ومسألة الموت والجزاء الأخروي والشفاعة وصولًا إلى المبحث الأخير وهو “عمل الخير من غير المسلم” الذي يُعَدّ من أشمل المباحث في الكتاب – يقع في110 صفحات تقريبًا، ويمكن أن يشكِّل لوحده كتابًا مستقِلًّا-، بالإضافة إلى حسن المعالجة والتبويب وذكر آراء التيّارات المختلفة وصولًا إلى ما يتبنّاه الشهيد في المقام.
2 – التنوّع المنهجي
يستخدم الشهيد في هذا الكتاب مناهج مختلفة سواء في إثبات أصل المسائل وموضوعاتها أو محمولاتها وصفاتها وأحوالها، كأدلّة مستقِلّة أو كمؤيِّدات للأدلّة، فنراه يستخدم المنهج النقلي بكلا قسميه الاستدلالي القرآني، والاستدلالي الروائي، والمنهج العقلي الفلسفي البرهاني المعتمد على البديهيّات الأوليّة واليقينيّات.
3- التنوّع الثقافي والمعرفي.
إنّ من يقرأ الكتاب لا بُدَّ أن يستنتِج التنوّع الكبير في مصادر ومنابع ثقافة الشهيد ومصادر تكوينها. فهو على معرفةٍ عميقةٍ بالأدبِ الفارسِيّ، وخاصّةً العرفانيّ منه، وهذا يظهر من خلال استشهاده بأشعار العرفاء في مواضع كثيرةٍ ومناسبةٍ سياقًا ومضمونًا.كما أنّه على معرفةٍ واسعةٍ بالأدب العربيّ وبعلوم اللغة، ويظهر ذلك في عمقِ فهمه لنصوصها وحسن استثماره وتجييره لما تنطوي عليه أصولها الكبرى ومنابعها، وخاصّةً القرآن ونهج البلاغة، بالإضافة إلى المعرفة الموسوعيّة بالعلوم الشرعيّة وبالفلسفة الإسلاميّة وعلم الكلام الإسلاميّ والعرفان والأخلاق، بالإضافة إلى المعرفة الواسعة بتاريخ كلِّ علمٍ من العلوم، فضلًا عن اطِّلاعه على نتائج العلم الحديث، بحيث يورد بعض نتائجه، ويعتبرها مساهِمةً في البرهنة على المسائل العقائديّة.
الملاحظات
1- يظهر الشهيد في كتابه متبنيًّا بشكلٍ واضح للمنهج الفلسفي في البحث العقائدي، وخصوصًا لمعطيات المدرسة الصدرائيّة، وهذا أمرٌ طبيعيّ بلحاظ طبيعة تكوينه المعرفي وتأثّره بأستاذه الطباطبائي، إلّا أنّه يشنّ هجومًا عنيفًا، وقد يكون ظالمًا على المنهج الكلامي بحيث يعتبره غير صالحٍ بالمرّة للاستدلال ولا يشكّل أيّ ركيزة معرفيّة للاستدلال العقائدي؛ فبالرغم من حقّانيّة بعض الإشكالات على المنهج الكلامي لجهة اعتماده على المشهورات والمسلّمات، أو كون غايته التبكيت والإفحام، إلّا أنّه لا يمكن إلغاء دوره التاريخي في تطوير المعرفة العقائديّة، كما أنّه قد يكون هناك ظروف تاريخيّة وسياسيّة فرضت عليه هذه الوظيفة الدفاعيّة.
2- كان من الممكن للشهيد أن يستخدم أكثر المنهج الاستدلالي الروائي باعتبار وجود روايات كثيرة عن النبي (ص) وأهل بيته (ع) في قضايا العدل وتساؤلاته، فنراه أيضًا في المنهج النقلي يعتمد على القرآن أكثر بكثير من اعتماده على الروايات.
[1][4] – سورة الشرح، الآية6 .
[2][5] – الكليني،محمد بن يعقوب،الكافي،تصحيح وتعليق:علي أكبر الغفاري،دار الكتب الإسلاميّة،طهران،ط5 ،ج1 ،ص183 ،باب معرفة الامام والرد عليه، حديث 8 .
[3][6] – المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوارالجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، تحقيق:يحيى العابدي الزنجاني، ط2 مصحّحة ،مؤسسة الوفاء، بيروت ،لبنان، ط1983 م،ج8،ص297 ، حديث 48 . ورواية ثانية في نفس المصدر، ج8 ،ص314 ، ح92 .
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/14776/aladelalilahireview/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.