هنري كوربان مؤلفاته وتأثيره

هنري كوربان مؤلفاته وتأثيره

تتناول مؤلفات هنري كوربان العديد من مجالات الفكر الإسلامي، وتتضمّن بعض المقالات المعرفية الهامة إضافة إلى بعض التفاسير العقائدية والتعليقات. وتتعدى أهمية مؤلفاته حدود ما هو معروف بـ “الاستشراق”، إذ لم يكن هنري كوربان يسعى لعرض التعاليم والأفكار الفلسفية للمؤلفين الذين درس عنهم في متحف الفلسفة القديمة، إنما كان هدفه أن يبيّن كيف استطاعت تلك الموضوعات والتعاليم أن تنير وتحفّز النشاط الفكري في كل الأوقات وخاصة في وقتنا الحاضر.

ولد هنري كوربان سنة 1903 وبدأ بدراسة مادة الفلسفة في جامعة السوربون سنة 1919. وقد تابع بالأخص حضور مقررات  Etienne Gilson، اتين جيلسون، التي تناولت مؤلفات ابن سينا المترجمة إلى اللاتينية مما جعله يدرك وفي مرحلة مبكرة أهمية علم الملكوت في الفكر الفلسفي لابن سينا، والذي دفعه إلى تعلم اللغة العربية سنة 1925. ومن خلال تردده إلى معهد اللغات الشرقية تعرّف إلى شخص Louis Massignon (لويس ماسينيون) أحد المستشرقين المحبين للإسلام الروحي، والذي أخبره عن كتاب “حكمة الإشراق” لشهاب الدين يحيى السهروردي، والذي كان له دورًا حاسمًا في تحديد مساره الفلسفي. والجدير بالذكر أن هنري كوربان قضى معظم أوقاته في الثلاثينات في ألمانيا، حيث تعرّف إلى شخصيات فلسفية بارزة ومن بينهم Rudolf Otto  (رودولف أوتو) وmartin Heidgger (مارتن هايدغر). وكان كوربان أول من أكّد على أهمية مؤلفات هايدغر، وأول من ترجم بعضها إلى الفرنسية. وقد تزامن اهتمام هنري كوربان بالفلسفة الألمانية أو بالنهج البروتستانتي الجديد للتأويل بـ Karl Barth (كارل بارت) مع أبحاثه الإسلامية، والتي دفعه إليها نفس مسائل البحث، تلك المتعلقة بتفسير النص المقدس حول الطبيعة والوجود. أثناء مهمة هنري كوربان التبشيرية في المعهد الفرنسي في إسطنبول عام 1940، اضطر كوربان ولأسباب سياسية وعسكرية إلى البقاء هناك حتى سنة 1945 حيث أنهى عمله على مؤلفات السهروردي. وكانت رحلة كوربان إلى إيران في أيلول سنة 1945 بمثابة الحدث الجذري في حياته، إذ دفعه الاستقبال الذي لقيه من قبل بعض المفكّرين والأكاديميين البارزين، إضافة إلى حبه للثقافة الفارسية إلى البقاء في طهران حيث أسس قسم العلوم الإيرانية التابع للمعهد الفرنسي هناك.

وفي سنة 1945 وبعد تعيين هنري كوربان في قسم العلوم الدينية في معهد الدراسات العليا التطبيقية كخليفة للويس ماسينيون، وزع كوربان نشاطه بالتساوي بين فرنسا وإيران، وقد تابع حضوره سنويًّا للحلقة الإيرانية في آسكونا Ascona منذ عام 1949 حيث التقى بعض أبرز المفكرين ومن بينهم C.G.Jung , M.Eliade , G.Scholem  وكان أن ألّف كوربان جزءًا هامًّا من كتاباته أثناء هذه اللقاءات وقام بمتابعتها دون تعب حتى آخر عمره. بعد تقاعده من جامعة السوربون أصبح كوربان عضوًا في الأكاديمية الإيرانية للفلسفة، والتي أسّسها   S.H.Nasr وقد درّس في تلك الأكاديمية حتى 1978 حيث توفي نتيجة مرض ألّم به.

إن مؤلفات كوربان غنية جدًّا ومتنوعة. كما أنها تعالج التراث الفلسفي والروحي في الإسلام بطرق ثلاث رئيسة.

الكتابة التأويلية والمقدّسة

تناول هنري كوربان وبعمق ما أسماه بـ “الفلسفة النبوية”، والتي تكتسب من خلال الموالاة أو التقيد بالكتاب المنزل. إن أهل الإيمان – سواء من المسلمين أو المسيحيين أو اليهود – يجدون أنفسهم وبالضرورة في موضع التأويل. فهم يبحثون في الكتاب المقدّس عن معان وتفاسير قد يكتشفوها ويختبروا مطابقتها مع معارفهم وتجاربهم في الحياة على أن يبقى الكتاب محافظًا على روح النصوص الأساسية دون تغيير أو تحريف. من هنا، فإن حقائق وجود الفرد تتعيّن بفعل تأويل الفرد نفسه، ومن خلال هذا التأويل حاول هنري كوربان فهم روح الفكرة الأساسية عند بعض علماء اللاهوت المسيحيين (Luther  و Hamann) لكنه وبالتحديد روح الفلسفة الإسلامية. وهذا ما يلحظ بالخصوص في الفكر الذي يطرحه المذهب الشيعي. فبعد تنزيل القرآن الكريم على الرسول (ص) ظهرت الحاجة الجديدة إلى اكتشاف عمق الرسالة المقدّمة دون تغيير ظاهرها الخارجي. فبالنسبة لأهل الإيمان الذين لا يستطيعون التقيد بحرفية تطبيق القانون أو بتعطيله كان لا بدّ من اكتشاف ما هو خفي أو باطني أي الوجه الداخلي للمعنى الظاهري. فهكذا كانت وظيفة “الولي” – أي الإمام في المذهب الشيعي – هي تلبية لهذه الحاجة. فهو أي الولي لا يعيش بين جماعة المؤمنين فقط من أجل هدايتهم في تفسير الأمور الدينية، أو من أجل كفالة الرسالة المقدسة. إنما هو كالإناء الذي يتلقّى النور الإلهي حيث يصح هو نفسه هدف التفسير. وإذا كان الإمام هو الإنسان الكامل – أي النموذج الأول للخلق – فهذا يعني أن القرآن الذي هو فيض الكلمة الأولى، إضافة إلى النموذج الإلهي، كلاهما يشيران ويتممان شخص الإمام.

هناك وجهة نظر في العرفان الصوفي شبيهة بمفهوم الإمامية عند الشيعة، إلا أن مفهوم الولاية منفصل تمامًا عن شخصيات الأئمة التاريخية، والتي كان أولها الإمام علي (ع)، ليطبق على سلسلة القديسين أو هيئة الكهنوت غير المنظورة. إن مؤلفات حيدر آملي بالخصوص تؤكد على الشبه الكبير بين الأفكار الأساسية للمعرفة الروحية عند الشيعة، وبين عقيدة أشهر المتألّهين الصوفيين كابن عربي (كوربان 1977).

إن طريقة التأويل المتناولة في هذا البحث ليست مقتصرة على مجرد فهم النص القرآني؛ فالتفاسير المتعددة واكتشاف المعنى الباطني قد يطبق على أي عمل معرفي، حيث إن العالمين الكيميائيين جابر بن حيان وجلدقي ( Jabir ibn hayan and Jaldaki ) توصلا إلى اكتشاف مفهوم مقدّس أثناء عملهم المخبري، كما أن المتصوف الكبير روزبهان باقلي (Rubihan Bagli  ) رأى في حب الجمال الأنثوي الجمال المطلق الأسمى (كوربان 1991-3). لكن هذا الإدراك نفسه يستلزم مكانًا وهيئة للشيء المدرك تمامًا كما يفترض بالمسؤول أن يمتلك أداة الإدراك الغيبي. من هنا كانت الحاجة لمفهوم “عالم المثال” والذي تناوله كوربان في كتاباته بشكل واسع.

عالم المثال وعالم الملائكة أو الملكوت

إن تحقيق تطور في فهم الإله بواسطة تفسير القرآن والعالم من خلال التأويل يقتضي بعض المراتب الوجودية الوسيطة (وسائط) بين الله تعالى والإنسان. فالله تعالى نفسه لا يُعرف ولا يوصف ولا يدرك وهذا يؤدي إلى المقام الخطر والذي يصفه كوربان بـ”تناقض التوحيد” ” Paradox of monotheism ” حيث يحاول أهل الإيمان أن يصفوا الله تعالى باستخدامهم مفاهيمهم العادية وصورهم الذهنية فيجعلونه جلّ وعلا كواحد منهم. فهم بذلك يعوا في الوثنية اللاإرادية في عبادتهم لله تعالى. لكي نتجنب الوقوع في هذا المنزلق باستطاعتنا رفض كل تفكير لاهوتي أو فلسفي (كالحنبلية والأشعرية) يؤدي إلى مذهب اللاأدرية والذي يقر تشريعيًّا بأن الله تعالى لا يُعرف إنما يعبد.

شعر العارفون المسلمون في وقتنا الحاضر أن للكون أو الوجود مراتب بين عالمنا الناسوتي الأرضي والعالم المطلق. فهناك عوالم جلية متماثلة ومترابطة مع بعضها البعض. فعالم الملائكة هو الذي يلي مباشرة عالم الناسوت الأرضي. فهو أرقى من عالم الناسوت، وهو عبارة عن عالم الأجسام اللطيفة وهو عالم برزخي، حيث تشكّل الأرواح قبل أن تنحدر وتصبح حدثًا معينًا في عالم الناسوت وهو الجنة الأولى التي ترتفع إليها النفوس بعد مفارقتها للأجسام. إن لكل شخص في عالمنا هذا القدرة على رؤية هذه الصور المثالية (ابن عربي) أثناء النوم أو في اليقظة من خلال معارفه الحدسية التي هي دلالة على السير الباطني “Internal journey”. ومن أجل التمييز بين المفهوم المثال وبين ما هو معروف لغويًّا “بالوهم أو الخيال”، استعان هنري كوربان بالعبارة اللاتينية Imaginal world أي العالم المثالي – مؤكدًا بذلك على الثبات الوجودي لهذه المثل وعلى أثرها التحولي، وعلى تغيّر أو تحول النفس الإنسانية.

ويبين هنري كوربان الدور الهام الذي لعبه عالم الوجودات الملائكية البرزخية في تطور العلم الإلهي في العصر الوسيط للإسلام. فعلم الكون وفكر ابن سينا يعبّر عنهما بالتسلسل حيث يرمز كل “ملك مقدس” إلى أحد العقول العشرة الصادرة من الواجب (كوربان 1979). ومن هنا وكما أكّد هنري كوربان أن إنكار ابن رشد لهذا المركب الملائكي أحدث فجوة أساسية في تاريخ الفلسفة وبالأخص في تأثير هذه الفلسفة الرشدية على أوروبا اللاتينية، حيث عطّل الفكر الفلسفي واللاهوتي وساطة عالم الملائكة واتجه إيمان أهل الاعتقاد في الغرب إلى معبود غير متكافىء. فعالم النبي وعالم الفيلسوف قد ينفصلا ليصبح كل منهما مستقلًا عن الآخر في المستقبل.

فالسهروردي (كوربان 1991 –3) هو أول من وصف بإتقان المرتبة الوجودية لعالم المثال والمتمثّلة في هيئة العلم الملكوتي المعقّد، والذي يلعب دورًا في فكر العارف وتجربته الداخلية أو الباطنية. فعالم المثال يسمح لنفوس الأفراد أن تلتقي مع القوى الملائكية كما يتيح لكل من الفيلسوف والمفسّر فرصة الالتقاء في تجربة روحية مشتركة. لكن الملا صدرا أحد القرّاء الشغوفين والمعلقين على مؤلفات ابن سينا كالسهروردي وابن عربي، هو الذي أنجز التركيب الأكثر إحكامًا “للفلسفة النبوية” في الإسلام حيث تبنّى وجهة نظر ابن سينا في أصالة الوجود على الماهية أو الذات، إذ إن ماهية الفرد هي الوجود عينه ولهذا الوجود حالات مختلفة من الشدة (الحركة الجوهرية الداخلية)، والتي تمر بين مراتب الوجود التصاعدية والتنازلية حيث يتواجد عالم المثال بشكل طبيعي.

الاتحاد والحلول عند الصوفية

إن جميع مؤلفات الفلاسفة من ابن سينا والسهروردي والملا صدرا وغيرهم من الفلاسفة وعلماء الحكمة الإلهية والتي اطلع هنري كوربان عليها لها نهاية واحدة الاسم وهي توضيح السبيل أو الطريق لفهم المطلق تمهيدًا لتجربة الاتحاد مع الواحد والتي هي الغاية القصوى لكل من الفيلسوف والعارف في العصر الوسيط. وربما نجد أن مؤلفات “ابن عربي” هي الأكثر تفصيلًا في توصيف معرفة الإله حيث لجأ معظم المفكّرين الروحيين المسلمين في القرون المتعاقبة إلى تلك المؤلفات لفهم حياتهم وتجربتهم الروحية. إذ إن ابن عربي قد أمعن النظر في طبيعة نشأة المحدث.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
هنري كوربانالصوفيّة

المقالات المرتبطة

أيُّ “إسلامٍ”؟ استكشافُ المعاني الكثيرة للكلمة

عندما نبدأُ بمفهومِ الإسلامِ على أنَّه المصدرُ لكلِ الحقائقِ الأخرى يسهلُ علينا فهمُ سبب استخدام القرآنِ في بعضِ الأحيانِ كلمةَ “إسلام” لتعيينِ التسليمِ الجبريِّ الشامل لكلِّ شيءٍ في الكونِ

قراءة في كتاب موحى الناجي، الإسلاموية: نظام شمولي جديد

يركّز هذا الكتاب بقلم مهدي مظفري، على العلاقة بين الإسلام ومشروع الإسلاموية السياسي. ويناقش فيه تعدد طوائف الإسلام ومدارسه وأنه لا إجماع على إسلامٍ “صحيح”،

“صدور الكثرة عن الواحد” بين الحكمة المتعالية والمدرسة الإشراقيّة

أثبت الفلاسفة المسلمون عددًا كبيرًا من القواعد والمبادئ المتّصلة بالمناقشات الكوزمولوجيّة التي حاولوا من خلالها توضيح وتفسير حوادث العالم، والعلاقات بين الموجودات، وتحليل الروابط بين عوالم الوجود المختلفة

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<