مصطفى النشار: العرب وفلسفة المستقبل
منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا كان الخطاب الإلهي إلى الإنسان: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[1]﴾، يدعوه إلى النظر والتخطيط للغد وللمستقبل، لبناء الحياة في الدنيا والآخرة، ورقيبًا ومحاسبًا لنفسه ولأعمالة وأفعاله، لأن الإنسان سيرى الأثر المترتب على أفعاله، فعمل اليوم يؤثر في نتيجة الغد على المستوى الدنيوي والآخروي، ولذا كان المستقبل مرتهنًا بالحاضر.
واليوم تعاني أغلب المجتمعات الإنسانية، من حالة الغموض وغياب الرؤى واليقين حول المستقبل، الأمر الذي استدعى الاهتمام بالدراسات المستقبلية، لمعرفة آفاق التطور المحتمل، والوقوف على ممكنات الحاضر وكشف صوره المستقبلية، ومن ثم تطرح بعض التساؤلات المرتبطة بفلسفة المستقبل مثل: ما هي فلسفة المستقبل؟ هل هي تخطيط للواقع؟ هل دور الفلسفة منوط بالتفسير أم بالتغيير؟ لماذا ينشغل العالم العربي بالماضي أكثر من المستقبل؟ ما المستقبل؟ وكيف تكون الرؤى المستقبلية؟ هل يمكن الحديث عن أورجانون عربي للمستقبل كأحد مرتكزات النهضة؟ ما هو أهم عناصره؟ ما هي معوقات النهضة؟ وكيف يمكن تجاوزها؟ هل هناك اختلافات بين الفلسفة كرؤية والدراسات العلمية في استشراف المستقبل؟ لذلك كان هذا المقال الذي يحيل لتصورات الدكتور مصطفى النشار، وإجابته على تلك التساؤلات، في حواره على قناة فرانس 24 (حوار الدكتور مصطفى النشار في برنامج محاور، تقديم: وسيم الأحمر، قناة فرانس24، يوم الاثنين9/5/2022).
ففي هذا الحوار، أكّد الدكتور مصطفى النشار على أن كل ما يطرحة الفلاسفة من رؤى حول نبؤاتهم للمستقبل على كافة أبنية المجتمع السياسية والاجتماعية والثقافية، والاقتصادية يدخل في إطار فلسفة المستقبل، والفلاسفة ليسوا معنيين للتخطيط للواقع المستقبلي، فهم معنيون فقط بطرح رؤى تنبؤية وليست تكهنية، فهناك فرق بين التكهن الذي يدخل في الغيبيات، وبين التنبؤ الذي يكون مبنيًّا على أسس عقلية وفلسفية لطرح الرؤى بخصوص المستقبل.
وحول دور الفلسفة في المجتمع يرى النشار أن دورها تغييري أكثر منه تفسيري فيما يتعلق بالمستقبل، لأن من وجهة نظره، للفلسفة وظائف ثلاث: التبرير والتفسير والتغيير، والفلسفة معنية بالوظيفة الثالثة، لأنها لا بدّ أن تنظر إلى المستقبل، وتطرح رؤى إلى تغيير الواقع الإنساني عمومًا نحو الأفضل في كافة المجالات، والتغيير برؤية النشار يعني ما ينبغي أن يكون عليه الحال في كل الأوضاع الإنسانية والعلمية، وهذا هو صميم التفلسف.
واعتبر النشار أن العالم العربي منشغل في الماضي أكثر من المستقبل، فعلى حدّ تعبيره نحن ماضويون، لأننا نتصور دائمًا أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، وأن الحاضر سيء، والمستقبل بيد الله، وبالتالي نستدعي الماضي باستمرار في تصرفاتنا، واعتبر مسألة الأصالة/ المعاصرة، من أوهام الفكر العربي المعاصر وثنائية زائفة، لأنه ينبغي النظر إلى الأمام باستمرار ولا نفقد ماضينا ولا حاضرنا ونحن ننظر إلى المستقبل، فالنظرة المستقبلية لا تعني انعدام استدعاء الماضي حينما نحتاجه، أو النظر في قضايا الحاضر، وهذا يعني عدم القطيعة مع الماضي والتراث، فالمقصود حل قضايا الحاضر أي نُحسن منه ولن نُحسن منه إلا إذا خططنا للمستقبل برؤى مستقبلية.
والتخطيط للمستقبل يكون من خلال النظر في الممكن، فعند التفكير مثلًا في حل مشكلات معينة، ينبغي التفكير في الممكنات التي أمتلكها على واقعي الخاص وليس على واقع الآخر، وما دُمت أعرف إمكانياتى جيدًا، أستطيع أن أخطط من خلالها جيدًا، وأستطيع أن أمارس حريتي بالنسبة للقضايا المستقبلية، وبالتالي يتحسن الحاضر تلقائيًّا، أما النظر إلى الحاضر ومشكلاتة من منظور الماضي، فالماضي ولى وانتهي، والحاضر سيء وسيظل. فالنظر برؤية مستقبلية متفاعلة ومعرفة ممكنات المتاح لنا في المستقبل، يمكن من خلاله أن نصمم رؤية لتغيير الحاضر من خلال هذه الرؤى المستقبلية.
وحول الأسئلة المتعلقة بالمستقبل الواجب طرحها في العالم العربي اليوم رأى مصطفى النشار، أن هناك تساؤل رئيسي يتمثل في: كيف نتحدى التخلف؟ وكيف نكون مشاركين في ركب الحضارة العالمية بعقلية منفتحة وبدون عقد؟ ويكون ذلك بمواجهة التحديات بعقلية منفتحة بالنظر إلى إمكانياتنا العديدة، والتي نستطيع أن نستغلها جيدًا ونبني عليها. وأشار إلى كتابه (الأورجانون العربي للمستقبل) موضحًا أن هناك ركائز خمس للنهوض العربي: بناء نظام تربوي وتعليمي من خلال استراتيجية عربية واضحة تستغل كل الممكنات العربية في النهوض بالتعليم، والنهوض بالبحث العلمي وإدراك أهميتة والإنفاق عليه بلا حدود، والتحول من خلال ذلك إلى مجتمع اقتصاد المعرفة، وأشار إلى ضرورة إصلاح الخطاب الديني لكي يكون خطابًا عقلانيًّا مواكبًا للعصر وليس خطابًا ماضويًّا، وكذلك تحقيق طفرة نهضوية وحدوية على النطاق السياسي والاقتصادي، موضحًا أهمية امتلاك رؤية سياسية مستقبلية، وقرار سياسي يوحد الإمكانات العربية على كافة الاتجاهات.
فالرؤية والقرار السياسي الموحد سينعكس وبلا شك على ركائز النهوض العربي السابق ذكرها، وسينقل العالم العربي من حالة التخلف والجمود إلى حالة التقدم والانفتاح، لأن العالم العربي يمتلك من الإمكانات الفكرية والعلمية والمادية الكثير، ولكن المشكلة تكمن في أننا لا نستغل هذه الإمكانات في تحقيق نهضة مستقلة، ولكننا نستغلها حسب الظروف وحسب الضغوطات الخارجية، ولو كنا نمتلك الاستقلال في القرار السياسي وتوجيه الإمكانات لتحققت النهضة، والسياسة هي التي تشكل العائق الأكبر في نهضة العالم العربي، لأن تشرذم العرب هو أداة الضعف الأولى والوحيدة، ولو امتلك الزعماء العرب الإرادة السياسية لتوحدوا ولتغلبوا على هذه القضايا، وهنا لا يهم صورة النظام السياسي، ولا أعني المنظور الغربي في التحول إلى ديمقراطيات، فكل حاكم عربي بما لديه من نظام سياسي يمكن أن يأخذ القرار بعمل نظام وحدوي عربي.
ولكن هناك أيضًا معوقات كثيرة تمنع العالم العربي من النهضة ومن هذه المعوقات:
أولًا: عدم وجود إرادة جماعية للنهوض.
ثانيًا: عدم وجود نظام تعليمى مبني على استراتيجية عربية واضحة للنهوض يحول دون غياب الثقافة العلمية، يمنع غلبة الأقوال على الأفعال، فإننا نتكلم كثيرًا ولا نفعل. يمنع أيضًا هدم طاقات الشباب وعرقلة حركة الأجيال في مجتمعاتنا العربية، ويمنع عدم الإحساس بالزمن، ويمنع إهمالنا للغة العربية وعدم جعلها لغة العلم، ويمنع تدني مكانة المفكرين والعلماء في العالم العربي.
ولم تكن جائحة كورونا بمعزلٍ عن الحوار حول المستقبل، حيث رأى النشار، أن هناك تغيير أحدثته جائحة كورونا على صعيد التفكير في المستقبل، وأهم هذا التغيير هو الاعتماد على الذات، فقد كشفت عن أهمية الاعتماد على الذات في كل شيء، لأنه في اللحظة المناسبة سوف يمنع عنك كل شيء، فقد انكفأت كل دولة على ذاتها لتحقق اكتفائها الذاتي من السلع والغذاء والدواء، ومن ثم يمكن بناء الدولة المستقلة القادرة على تلبية احتياجات مواطنيها بصرف النظر عن الاعتماد على الغير في كل الاتجاهات، وهو الحال التي اكتشفتة دول أوروبا منذ بداية الأزمة الأوكرانية –الروسية، فكل دولة اكتشفت اعتمادها على الآخر بصورة مبالغ فيها، والعالم العربي يعيش هذا الأمر منذ بداية نهضته الحديثة، فهو مربوط بسلسلة الآخر ويحول ذلك دون أن ينهض ذاتيًّا، ودون أن يستكشف إمكاناته الذاتية والاعتماد عليها بالاستقلال عن الآخر، مستحضرًا في ذلك مقولة الرئيس الصينى دينج شياو بينج ولاءاته الثلاث: لا تقلدوا الغرب… لا تقلدوا الدول الاشتراكية… لا تتخلوا عن خصوصيتكم، ليحيل إلى أهمية الاستقلال الفكري والاعتماد على الجهود الذاتية، وموصيًا باستنهاض البحث العلمي العربي من خلال استدعاء العلماء العرب من كل أنحاء العالم للمشاركة في النهضة العربية، وتوفير الإمكانات المادية للعلماء العرب والباحثين، وعدم اعتبار البحث العلمي والعلم من الهوامش، وعدم استسهال استيراد التكنولوجيا، لأنه في الوقت المناسب تمنع عنك، ويمنع عنك كل شيء، فلا بديل إذن عن الاستقلال الذاتي.
وأخيرًا، أكّد النشار على علاقة الترابط بين رؤية الفلسفة للمستقبل، وبين الدراسات العلمية المتعلقة باستشراف المستقبل، فكلاهما لا ينفصلان، فعلى حد قوله: نحن دائمًا لا نعرف اين نتجه، لا نعرف العلاقة بين الأنا والآخر، لا نعرف صورة التقدم التي ينبغي لنا أن نتجه إليها، وهذه ميزة الفلسفة، ليحيل لمقولة الفيلسوف لوكيوس سينيكا (لا توجد رياح مواتية لمن لا يعرف أين يتجه). ففقدان البوصلة وغياب الرؤية الفلسفية جعل الرؤية التخطيطية على كافة المستويات غائبة أيضًا، لذلك من المهم الاستفادة من الرؤى الفلسفية في المخططات الاقتصادية والعملية، وينبغي أن يكون هناك مستشار فلسفي في كل وزارة من وزارات أي دوله عربية، لكي ينظر بنظرة أشمل من نظرة المخططين في تخصصاتهم المختلفة، وهذا جزء من مراكز الدراسات الاستراتيجية على المستوى العالمي، فكما هناك علماء هناك فلاسفة أيضًا، وأوصى النشار بضرورة الاستفادة من الرؤى الفلسفية للتخطيط للمستقبل بشكل علمي، لأن المخطط العلمي يستغل الإمكانات المتاحة، وقد لا يعرف الفيلسوف هذه الإمكانات، ولكن يملك الرؤية لما سيتجه إليه العالم والحضارة في المستقبل، لذا يجب أن نستفيد من هذه الرؤى العامة في التخطيط الجزئي في العلوم وفي القضايا المختلفة.
هكذا كان حديث الدكتور مصطفي النشار حول العرب وفلسفة المستقبل، عن الاتفاق والاختلاف حول هذه الأفكار، فقد يكون الاتفاق حول المبادىء العامة لفلسفة المستقبل، والاختلاف في التفاصيل.
[1] سورة الحشر، الآية 18.
المقالات المرتبطة
ضدّ الفتنة الطائفيّة
تعيش المنطقة العربيّة والإسلاميّة توترًا طائفيًاّ ومذهبيًّا، لم تشهده من قبل. ويبدو أنّ الصمت إزاء هذا التوتر ومتوالياته المختلفة، سيفضي إلى المزيد من المآزق الداخليّة
إشكالية الدين والدولة في أفق الحكمة العملية(1)
“الدين والدولة” إشكالية مصيرية، أفتی الغرب فيها فتاواه، واتجهت حياته، بعد عصر الإصلاح، نحو تجاوز أزمة هذه الإشكالية، دون أن
عقلنة الدين وديننة العقل نحو دفاع عقلانيّ عن الدين
تواجه حركة الفكر الإسلاميّ المعاصر إشكاليّات عميقة تتّصل بعقلانيّة الدين، وتمسّ، على السواء، المنهج والخطاب والآليّات والممارسة. وليس الجدل، في شأن الخطاب العقلانيّ الدينيّ، جديدًا، وإن كان بعض الباحثين يرى أنّ موضوعة العقلانيّة موضوعة غربيّة محض.