تقرير الجلسة الثانية من أعمال المؤتمر الخامس للتجديد والاجتهاد الفكري
الجلسة الصباحية الثانية فحملت عنوان: نطاق أطروحة الثورة وتجلياتها، ترأستها الإعلامية بثينة عليق.
وعن “العلاقة بين أطروحة الثورية وقيام محور المقاومة” تحدث الشيخ الدكتور صادق نابلسي فقال: إن مفهوم الثورة يرتكز على نقاط أساسية منها:
النظم، وهو أعم من النظام لأنّه يشتمل على القانون والإعداد والتناسق والانسجام والتخطيط والتحشيد والبناء والإبداع والمعرفة الوافية والمتجددة والتقوى والاستقامة في الحركة وتنويع الوسائل والخيارات الموصلة إلى الأهداف والغايات الشريفة.
ولا يمكن للنظم أن تستقيم أركانه من دون اعتقاد وإيمان وعمل ولذلك يعتبر الخامنئي أنّ “أكبر درس علمنا إيّاه الإمام العظيم هو درس الروح والفكر والعمل الثوري”. ولذلك هو يشدد على أنّ الأعمال المتقنة والإنجازات الكبيرة في الميادين الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية وغيرها هي تلك الأعمال الخالصة المجردة من الأنانيات والشخصانيات.
المرونة، فلا تجمد الثورية أمام الوقائع والأحداث والنصوص. هي دائمًا في حالة تجدد واكتشاف وتطلع نحو الأفضل.
وكذلك في الانضباط، بالمعنى الذي يخالف اللامبالاة واللامسؤولية واللاعقلانية والارتجالية والسفه والطيش والتيه والفوضى في ممارسة الأعمال.
وأيضًا في التفكير العقلاني والنباهة والبصيرة، إذ من المسائل التي يجب أن تراعى في العمل الثوري هي مسألة التفكّر والتأمل في كل حركة يقوم بها الثوري إزاء العدو. لا يجب الانخداع بإعلام العدو وسياساته، بل يجب على العدو أن يفهم أن الثوري هو مصدر الحكمة والمعرفة والذكاء.
وأيضًا في الأمل وعدم اليأس، وفي عدم الخضوع للقوى المستكبرة والاستفادة من القوى الشعبية، وفي الجدية والمبادرة والابتعاد عن الشكليات وعدم الانزواء وعدم التوقف.
ورأى أنه لا يمكن فهم الكثير عن دور إيران من دون فهم ماذا تعني الثورية أيديولوجيًّا في تشكيل وإعادة تشكيل العلاقات الداخلية والخارجية.
فقال: إن أي تقدم في أي مجال من المجالات يستند بالضرورة على استراتيجية ثورية، والثورية تستكشف موقفًا مركزيًّا لمفهوم التقدم، وتقف عند مشكلاته العلمية والعملانية، وتضع البنية التخطيطية العالية التنظيم باستخدام تقنيات أكثر حداثة وقيم أكثر أصالة ومواقف أكثر صلابة للوصول إلى مستقبل أكثر اكتمالًا ونماءً وازدهارًا.
وكذلك في الإدارة الثورية، التي تعني إدارة كفوءة وذكية ومتبصرة، سريعة الإيقاع، قادرة على تحديد الأولويات وابتكار مسالك تمنحها خيارات عديدة جميعها قابلة للتنفيذ والنجاح. إدارة تتجنب الوقوع في الأفخاخ والنزاعات التي لا طائل منها وتبحث دائمًا عن المخارج والحلول الواقعية والخلّاقة.
وأيضًا في لازمان ولا حدود للثورية، ويقول الخامنئي: “لا يمكن استيعاب قدرة إيران على الصمود في وجه حرب عسكرية دامت ثمانية أعوام وحصار مستمر حتى اليوم ثم التوجه إلى مرحلة البناء والإعمار إلا من خلال الحماسة الثورية المتقدة في نفوس الثوريين الإيرانيين التي لم ترتبط بزمن معين ومرحلة معينة وإنما هي أشبه بروح متجددة متواصلة تبدع وتعمل بكد ليلًا نهارًا”[1].
وأيضًا في المتانة الداخلية، إذ لا نقاش في أهمية الوحدة الداخلية في تعزيز مكانة إيران ودورها في المنطقة والعالم وإلا انعكست العلاقات السلبية لتجعل هذا البلد رقعة أساسية لصراع دولي بين لاعبين متعددين.
وعن الثورية ومحور المقاومة، قال النابلسي: إنه مع الوقت، ارتبط مفهوم المقاومة اللبنانية والفلسطينية أكثر بالأهداف القصوى لموقف الإمام الخميني الراحل حول إزالة إسرائيل من الوجود بما تمثله من غدة سرطانية وشر مطلق. خصوصًا أنّ المقاومة في كل من لبنان وفلسطين يظل هدفها المباشر هو إزالة الاحتلال، وإلا فإن الشعبين اللبناني والفلسطيني سيضطر للعيش تحت نير الاحتلال. فالحالة الطبيعية هي حالة الصراع والحرب.
وأكد أن “الثورية” باعتبارها أيضًا “قوة ذكية” بدأت تعكس تطورات جديدة في فهم مسألة بناء محور يواجه قوى الهيمنة في المنطقة وعلى رأسها أمريكا وإسرائيل.
إذًا الثورية هي نسق من العمليات التفكيرية والميدانية لا يتوقف عند ظرف زماني أو مكاني، والثورية تعني فيما تعنيه القدرة على تفسير الديناميات الجديدة في مجال السياسة الدولية والإقليمية واستيعاب التعقيدات التي ترافقها. واستخدام تقنيات جديدة بغرض التأثير على العدو من جهة القوة الصلبة بما هي إرغام على تغيير سلوكه باستخدام القوة العسكرية، وكذلك من جهة القوة الناعمة بما تعنيه من كي لوعيه.
وسأل كيف يكون محور المقاومة ثوريًّا؟ فقال: لا شك أنّ تأسيس محور المقاومة أحدث موجة جديدة في المنطقة والعالم، أدّت إلى عرقلة مشاريع الهيمنة الغربية وأفضت إلى التفكير الجدي بخيار عالمي جديد على مستوى العلاقات الدولية والقانون الدولي أكثر عدلًا وانفتاحًا وتوازنًا وتعاونًا.
وشرح لعناوين في حالة المقاومة السلبية وأبرزها:
- تعطيل حيل العدو بوجود انقسامات خطيرة بين أعضاء المحور.
- خطر انفصال الأجيال عن الأفكار الثورية.
- خطر التخلي عن القيم التعبوية.
- خطر ميل القيادة إلى حياة الدعة.
- الحذر من اليأس والتشاؤم.
- وعدم الوقوع في فخ صداقة العدو.
أما في المقاومة الإيجابية فأبرزها:
- خلود وأصالة الأفكار الثورية.
- ضرورة الاستمرار في بناء التشكيلات التعبوية.
- والتحلي بالبصيرة، والعلم، والنضال الثوري في سبيل الله، وقوة الشعوب.
وعن مستقبل محور المقاومة في المنطقة، قال النابلسي: لا شك أن الصعود المتواصل لمحور المقاومة يثير الكثير من القلق للكيان الصهيوني.
ويسعى المحور من خلال الشراكة والتعاون مع حلفائه لتقوية وجوده في المنطقة، وخلق نفوذ له في مياه البحر المتوسط والخليج الفارسي.
وأكد إنّ إيران بتشكيلها محور المقاومة أوجبت على نفسها:
أ-دعم وحماية حلفائها وتمكينهم بشتى الوسائل للحيلولة دون إقصائهم من الساحة السياسية بالقوة.
ب-تعزيز قوة المحور ومكانته في الساحة الإقليمية.
ج-تطوير هوية ثورية إيمانية مشتركة وإدراكًا أمنيًّا استراتيجيًّا لمواجهة قوى الهيمنة وأدواتها في المنطقة.
د-التوصل إلى تعريف مشترك للمصالح الجيو-سياسية والثقافية والاقتصادية.
ه-إبراز العمق الاستراتيجي لدول وقوى المحور في مواجهة إسرائيل وقوى إقليمية مناوئة تواجه فراغًا جيو-سياسيًّا متواصلًا وتآكلًا مستمرًا في دورها ونفوذها.
و- المشاركة في أية ترتيبات سياسية وأمنية ترتبط بمصير بلدان قوى المقاومة ومستقبلها.
ز- الاستفادة القصوى من الموارد النفطية والغازية والثروات المعدنية والطبيعية الأخرى، ومن موقع بعض البلدان الجغرافي كالعراق واليمن وسوريا، حيث تعتبر ممرًّا مهمًّا في طرق المواصلات في سبيل تعزيز التواصل والتعاون وتسهيل مدّ حركات المقاومة بالسلاح والعتاد والدعم المادي المطلوب.
ح- عرقلة الاستراتيجية الأميركية الرامية إلى تنمية نفوذها وزيادة وجودها للتأثير على مجريات الأحداث.
ط-إعطاء الأولوية لدعم الشعب الفلسطيني ومقاومته ومده بالسلاح خصوصًا في الضفة الغربية.
أما محور المقاومة الذي طوّر إمكاناته وتجربته وإدراكاته فهو أظهر التالي:
أ-فهمه العميق لطبيعة القوة وجدواها وكيفية استخدامها بكفاءة على نحو متدرج، وضمن سياق وظروف تحقق الأهداف والغايات المرجوة منها.
ب- نجاحه في إبراز القوة وإخراجها إلى حيز الوجود وإرادة نشرها واستعمالها عند اللزوم.
ج- نجاحه في لجم العدو عن استخدام القوة والنيل من استراتيجيته، وبراعته في قذف رسائل الرعب لإبطال وإفساد خطط العدو، والتأثير على معنوياته وتغيير نواياه من دون الاضطرار في كثير من العمليات إلى المواجهة المباشرة.
د-نجاحه في اختيار الأهداف ومسرح العمليات وتوقيت الضربات وطريقة ومنهج تطبيق القوة وتوظيف النتيجة على المستويين السياسي والاستراتيجي.
ه-قدرته على تحسس تهديدات العدو وتفسير نواياه وتحليل سلوكه في إطار هيكل نظري دقيق ومترابط.
و-فهمه للسياق السياسي والاستراتيجي الذي تدور فيه المعارك والحروب، وإيجاده التوازن بين العناصر السياسية المحلية والأهداف العسكرية ذات البعد التكتيكي والغايات الاستراتيجية.
“في الثورة وعلاقتها بالاقتصاد: محاولة تأسيس” تحدث الدكتور عبد الحليم فضل الله وسأل، ما العلاقة بين الاقتصاد والثورات، هل هو عامل في إطلاقها، أم إنه مكون ثانوي من سياق أوسع يوجده إجماع تأسيسي وتاريخي نادر الحدوث، وكيف يتمظهر ذلك في التجربة الغربية وفي المثال الثوري الإسلامي المتمثل في الثورة الإيرانية؟
وهل يُقارَب الاقتصاد المقاوم بوصفه نموذجًا لدولة تقليدية، أم هو أيضًا جزءٌ لا يتجزّأ من الثورة واستمراريتها؟
وكيف يُنظر إلى الثورة في الفهم الديني، هل هي فعل ناتج عن الوعي أم نابع من الواقع أم من علاقتهما الجدليّة، وما انعكاسات ذلك على المعرفة الدينية وعموميّتها وتجلياتها؟
وعرض في الشق الأول لماذا الثورة؟ فقال: في الفهم المثالي تعادل فكرة الثورة التغيير الذي لا يمكن مقاومته، وهي مظهر من مظاهر روح العالم التي تتجلى أثناء سعي الجماعات والأمم والأفراد نحو غاياتهم الخاصة. ينظر الماركسيون إلى الثورة على أنها نتيجة القوى التاريخيّة التي لا يمكن مقاومتها، وهذا ما يظهر في الصراع بين البرجوازية والبروليتاريا. ويرى آخرون في التجارب الثوريّة عمليّة استرداد يقوم بها المتمردون والثوار للحريات والامتيازات التي سلبت منهم[2].
وتابع، ومع أنّ معظم الباحثين في شأن الثورة يرونها قفزة تاريخية حُضّر لها طويلًا، ولا مناص فيها من القطع مع الحاضر الذي لم يعد محتملًا بنظر الثوريين، فسنجد من يكتفي بإطلاق أوصاف عامّة عليها كالقول بأنّها “لحظة استراتيجية ذات مكانة خاصة”[3] (لا تنطوي بالضرورة على تغيير اجتماعي أو تاريخي)، أو أنّها تمرّد على امتيازات وتمايزات غير مبرّرة، أو أنّ حدوثها يرتبط بتجاوز أزمات داهمة تترك اختلالات لا تطاق في الهياكل الاجتماعية والاستقرار، أو بشعور الناس أنّهم يُعاملون بصورة غير متساوية مع الآخرين، أو بسبب هيمنة الخطاب الديموغاجي الذي يحرّض العامّة ضد النخبة والطبقات العليا على خلفيّة ذلك الإحساس باللامساواة.
وفي الدين والثورة، أشار إلى أن الثورة لا تتخذ كما نرى طابعًا دينيًّا حتميًّا لكنها قد تكون كذلك، وهي لا تنطوي بالضرورة على ولادة جديدة، بل إنها تواكب حركة التاريخ الذي تنتقل مساراته الدائريّة، وهو يمضي إلى الأمام، من مدار إلى آخر. التحوّل الذي أحدثته الرسالة الإسلامية الشريفة في التاريخ قامت على رفض الانصياع لما كان عليه الآباء والاعتراف من ثمّ بالوقائع الجديدة التي تنبثق في الزمن. لكن ذلك لم يأت على سبيل القطع مع الماضي بل في سياق علاقة جدليّة معه، علاقة مثالية تقوم على الخطأ والصواب؛ الحق والباطل، أكثر مما هي علاقة ماديّة قوامها الممكن وغير الممكن. وبخلاف الماركسيّة التي ترى أنّ تطور بنى الإنتاج أسرع من تطور علاقات الإنتاج، فإنّ الوعي في الرؤية الإسلامية أكثر تأثيرًا من البنية، فهو الذي يمسك بقيادها وينقلها من حال إلى حال.
وأضاف، الإسلام بهذا المعنى ثورة وبداية جديدة غيّرت بصورة جذرية وعلى نحو تام المجتمع والسلطة والتاريخ وموقع الإنسان فيه، وأنتج وعيًا جديدًا بين الناس لما هم فيه ولما يجب أن يكونوا عليه. وحتى عندما عاود النظام القديم بالظهور فقد وجد نفسه في وضع جديد وإزاء إنسان لديه تصورات مختلفة عن حياته ووجوده وغاياته واجتماعه، ورؤية كونية ذات أفق جديد، ولم يكن أمام قوى النظام القديم من سبيل سوى محاولة الاندماج في الوضع الجديد والتكيّف معه، وهذا ما أفلحت في القيام به وإعادتها إلى السلطة بعد عقود قليلة من وفاة الرسول (ص).
ورأى أن التغيير في الإسلام يكون بوصفه عقيدة ورسالة وثورة، من خلال البشر والناس أكثر مما هو في البيئة الماديّة المكوّنة من قوانين المجتمع وعالم الأشياء المحيطة به. ولذلك يوجه القرآن الكريم خطابه إلى العالمين ومعشر الإنس من أجل تبديل أحوالهم وتغيير الحياة من خلالهم، فيما تنحو الهندسات الاجتماعية الغربيّة نحو تغيير الناس من خلال استبدال ظروفهم المادية والاجتماعيّة بأخرى.
وأوضح أن الثورة الإسلامية نجت من الفخ الذي وقعت فيه الثورات عمومًا والمتمثل في عودة الملأ والمترفون والأرباب من دون الناس إلى صدارة المشهد، ونجحت في الإفلات منه. ساعدها على ذلك تمسّكها بمرجعية الإسلام وحاكميّته والحقّ المتمثّل به، ومن خلال الشعب (العامّة من الناس) وفي وجه سطوة الخاصة وتحكّمها وسعيها وراء غاياتها.
وأكد: لقد انبثقت الثورة في إيران في عالم من المصالح والقيم التي ترسّخت أثناءها وبعدها لتكون قيمًا مشتركة وغالبة وعامّة، وهذا ما حال دون نشوء وضع مهيمن جديد يمثّل مصالح فئات تشبه في وضعها وموقعها النظام الاجتماعي القديم. كانت إيران في مواجهة دائمة مع الشرك الخفي والظاهر، وعارضت الدين الذي يبرر الوضع القائم، وأبعدت نفسها عن تأويل تردي أوضاع الناس وفقرهم بالغيب ولم ترجئ أمر الظالم إلى يوم القيامة، ولم ترَ في كلَّ وضع جائر قضاءً وقدرًا من الله.
وتساءل: هل العلاقة سببية أم تفاعلية بين الثورة والاقتصاد؟ عرض لآراء متعددة حول هذا التساؤل وخلص إلى خمسة مداخل لتفسير الثورات وفهم أسبابها وأبعادها:
المدخل الليبرالي: حيث تنطوي الثورة على بداية جديدة، ويكون هدفها الحرية.
المدخل المحافظ: يعدّها تحوّلًا مؤقتًا في التاريخ الذي سرعان ما يعود إلى جادته الأصليّة، ويظهر القديم ليحتل مكانه إلى جانب النظام الجديد.
المدخل الماركسي: يحصر الثورة في الصراع الطبقي الذي يحقّق غاياته في إطار أممي نقي، لا تشوبه شائبة قوميّة أو سياسيّة أو عرقيّة.
مدخل الثورة السياسيّة والاقتصاديّة المزدوجة: الذي ينظر إلى ثورات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في أوروبا بوصفها نتيجة تحولات واسعة في البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسيّة.
مدخل الثورة الإسلامية: وفيه تكون الثورة رفضًا لسلطة الخاصة والملأ والمترفين والمستكبرين وكل الأرباب من دون الله، ويكون التغيّر فيه شاملًا ونهائيًّا ونابعًا من الوعي وعالم القيم، لا من البنية وعالم الأشياء، لكن ضمن علاقة جدليّة بين الطرفين.
وشرح لمعنى فهم نموذج الاقتصاد المقاوم والذي يقتضي التمعن بخلفياته فقال:
هو أولًا: امتداد للثورة، وجزء لا يتجزأ من الفكرة الثوريّة التي يُعمل في إيران على ترسيخها وإعادة إنتاجها باستمرار، والغاية الأساسية من وجود اقتصاد مقاوم وضع التطلعات والتوقعات في مدار واحد. فالنمو لا يقاس بمقدار الكسب والوفرة والثروة الذي يتيحه للناس، بل أيضًا بحجم الضرر أو النفع الذي يخلّفه بالمعايير المعنويّة والفكريّة والسياسيّة. فلا يعتد مثلًا بنمو يزيد التبعية إلى الخارج ويقلّل القدرة على الصمود في وجه الضعوطات الآتية منه، أو يخلّ بميزان العدالة لمصلحة أقليّات مسيطرة داخل البلد، أو يلحق الضرر بتماسك المجتمع وقيمه الروحيّة.
ثم العدالة، بوصفها جزءًا من التقدّم الاقتصادي وليست معارضة له، وأوسع مدى من العدالة بالمعنى الاقتصادوي، سواء كانت عدالة ليبرالية تقصر نظرها على تساوي الحقوق والفرص، أو طبيعيّة تكتفي بالتوزيع الأولي الذي يحقّقه السوق، أو حتى عدالة اجتماعيّة يجسّدها تدخّل الدولة من خلال إعادة توزيع الدخل. اتساع معنى العدالة يتمثل عند الإمام الخامنئي، في عدالة توزيع الموارد التي هي منبع تكوين الدخل والثروة.
ولفت إلى أنّ هذا التحليل يساهم في حلّ التعارضات والأوهام المنسوبة إلى فكرة العدالة: وهم عدم تناسب النمو والتنمية مع العدالة، ووهم التعارض بين المبدئية والواقعية، ووهم التناقض بين الحياة الأخلاقيّة والحياة المتطورة، ووهم الفصل بين ثروة الفرد وثروة الجماعة.
كذلك يكون في الاستقلال الاقتصادي عن المستكبرين دون الانعزال عن الآخرين، فالمطلوب حسب قائد الثورة الإسلامية “تحقيق الاستقلال الاقتصادي وهو الأصعب بعد كسب (إيران) الاستقلال السياسي”، ولا يكون ذلك إلّا من خلال جعل الاقتصاد ركيزة من ركائز مواجهة فئة المستكبرين التي تشمل كل من يعدّ نفسه فوق الحقّ.
وأيضًا في القدرة على الصمود من خلال اقتصاد إنتاج لا ريع، يعارض وينبذ الفساد، محوريته الشعب لا القطاع العام أو القطاع الخاص بتعريفهما الضيّق، ويعالج المشكلة الاقتصادية من جانبي العرض (خفض التبعية للنفط والموارد الطبيعيّة واعتماد التنويع الاقتصادي، والاستثمار في القدرات المحليّة والادخار وتحقيق الاكتفاء الذاتي الممكن في السلع الاستراتيجيّة والحيويّة)، والطلب (ترشيد الاستهلاك وتجنب الإسراف والتبذير)[4].
وفي خلاصة البحث قال فضل الله:
تتعدد نماذج الثورة تبعًا لقوتها واستمراريتها والزخم الذي تسهم به، فهناك: الثورات الكبرى التي تستمر مدة زمنية طويلة وتشارك فيها جماهير ضخمة وتترافق مع عنف شديد، وتفضي إلى تغيير جذري في بنية السلطة السياسية والنظام الاجتماعي.
وهناك الانقلاب الثوري، الذي يتصف بضعف المشاركة الشعبيّة ومحدودية المدة الزمنية التي يستغرقها مع عنف متوسط القوة وتغيير جذري في السلطة ووجود انعكاسات محتملة على البنية الاجتماعية. أمّا الانقلاب الإصلاحي، فتكون فيه المشاركة الشعبيّة ضئيلة وتنقضي أحداثه بسرعة ولا يرافقه عنف ملحوظ ويؤدي إلى تغيير معتدل في السلطة السياسية. فيما تمرّ ثورة القصر (الثورة من فوق) دون صخب وبلا أي مشاركة شعبيّة ويقتصر أثرها على الطرق المتّبعة في إدارة السلطة.
يؤيد توكفيل الرأي القائل بأنّ الثورة تتضمن تغييرًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا مكثّفًا ناجمًا عن الإطاحة بنخبة دستورية شرعيّة واستبدالها بأخرى. ويميّز برينتين بين الانقلاب الذي هو إحلال سهل لنخبة مكان أخرى، والثورات الكبرى كالفرنسية والروسية التي ترافقت مع تغيرات سياسية واجتماعية واقتصادية. وهذا التمييز بين الانقلاب والثورة يتبناه أيضًا جورج بلانكشتاين الذي يعتمد تصنيفات أخرى للثورات (اجتماعية، سياسيّة..). وأدرج صامويل هانتنغتون في تعداده لأشكال الثورات الحرب الداخلية إلى جانب الانقلاب الإصلاحي والثوري وثورة القصر. وذهب آخرون إلى تصنيفات تعتمد درجة المشاركة الثورية والمدة الزمنية وسيلة متكاملة لتوصيف التجربة الثوريّة[5].
وبناء على التصنيف أعلاه، فإن الانقلابات الثورية بأنواعها الثلاثة (الانقلاب الثوري والإصلاحي وفي القصر) كانت الأكثر انتشارًا وعُدّ من أبرزها حوالي خمسة عشر حدثًا خلال عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي وحدهما، وجزء كبير منها كان في العالم العربي، فيما لا تزيد الثورات الجماهيرية في التاريخ عن أصابع اليد الواحدة آخرها كانت الثورة الإسلامية في إيران التي تنطبق عليها كل خصائص الثورة، وربما هي من بينها الأكثر رسوخًا واستدامة في التاريخ المعاصر.
ويأخذ تفسير الثورات أكثر من منحى، يربط بعضهم أسبابها بالاستبداد والتوق إلى الحرية، ويجدها آخرون ردة فعل على نظام قديم يتسم بالتمييز وسوء الإدارة واضطهاد فئات واسعة من الناس من قبل أقليّة منهم. وسنجد دائمًا من يربط قيام الثورات بالفقر والأزمات الاقتصاديّة، ومع أن الثورات الكبرى كانت مسبوقة بأوضاع معيشية تتصف بالاستقرار على المدى الطويل، لكنها أعقبت انكسارات حادّة في النمو ساهمت وفق بعضهم في انفجارها.
وأضاف، لم تخل الثورات الكبرى قبل الثورة الإسلامية من أغلفة آيديولوجية، ومن قيادات ذات شأن في توجيهها، لكن القوة الدافعة فيها كان الإجماع الذي عبّر في الثورة الفرنسية مثلًا عن تحالف الطبقات الدنيا مع البرجوازيّة المدينيّة، وفي الثورة الأميركيّة عن صعود الشمال على حساب الجنوب ورسوخ دوره في رسم مستقبل أميركا، أما في روسيا فكان الفشل السياسي والعسكري وانتشار العوز حافزًا لتوحد إرادة كثير من أبناء المجتمع لتغيير الوضع المزري، لتحمل بعد ذلك ملامح آيديولوجّية غير خافيّة.
وتعتمل في قلب البيئات الحاضنة للحالة الثورية، عوامل شتى، سياسيّة واجتماعيّة وفئويّة واقتصاديّة، لا يختصر أي منها على حدة الأسباب التي تطلق الموجة الثوريّة من عقالها، وقد تجتمع نفس الظروف في مكانين، دون أن يحدثا الأثر نفسه، ويصعب فهم الثورات انطلاقًا من خلفيّاتها الوطنية أو القوميّة وحدها، فبطبيعتها تميل الثورة إلى اختراق الحواجز وتكتسب نزعة تحررية تشمل الإنسان أينما كان، وهذا ما يقرّبها حسب بعضهم من الحركات الدينية. لكن الموجات الثلاث في أوروبا في نهاية القرن الثامن عشر وفي الربعين الأول والثاني من القرن التاسع عشر، فقدت نزعتها العالميّة بعد أن اصطدمت بتعارض المصالح القوميّة واصطدامها، الأمر الذي زج أوروبا في حروبٍ طويلة كبدتها خسائر بشريّة وماديّة كبيرة، وفي المقابل ما زال وهج الثورة الإسلامية في إيران قادرًا على لفت اهتمام جمهرة واسعة من مستضعفي العالم في مناوأة المستكبرين في الخارج، وفي منع انبعاث سلطة الملأ المستكبرين في الداخل.
ورأى أن تتبّع الثورات الناجحة منها والفاشلة، يؤكد وجود تداخل بين العوامل والبلدان، فلا يمكن فهم الثورة من زاوية واحدة ولا في إطار اجتماعي وقومي محدّد، إنّها نتيجة تلاقي عناصر تحريك متعددة في لحظة تاريخيّة مؤاتية، وأكثر ما يعبّر عن ذلك مصطلح هوبزباوم عن الثورة المزدوجة الذي تضافرت فيه الثورة الصناعية (إنكليزيّة المنشأ) مع الثورة الفرنسية السياسية، فيما تنحو النظرة الإسلامية إلى ثورة مزدوجة من نوع آخر في الفكر والواقع. وعلى الرغم من تاريخيّة الثورات وطبيعتها الجذرية سنجد من يقول: إنّ النظام القديم الذي يختفي إبان الثورات سرعان ما يظهر من جديد بعد مسافة زمنيّة قصيرة منها.
واعتبر أنه لو أردنا تصنيف وجهات النظر بشأن دوافع الثورات، لوجدنا العامل الأساسي في المقاربة الليبرالية: الحريّة، وفي المقاربة الاجتماعية: الفقر، وفي المقاربة السياسية: التمييز واللامساواة، وفي المقاربة الآيديولوجيّة/الاقتصادويّة: البنية الاقتصادية والمرحلة التاريخيّة. وفي المقاربة الاقتصاديّة: الفجوة بين التوقعات والتطلعات.
أمّا في المقاربة الدينية التي عبّرت عنها تاريخيًّا الثورة الإسلامية في إيران فسنجد الثورة مرتبطة بالعناصر الآتية:
– التغيير: حيث يقوم دين التوحيد (في مقابل دين الشرك) على رفض الواقع الذي يسيطر فيه الملأ المترفون، بالمعاني الثلاث للترف: الغنى والنفوذ والاستكبار، فهؤلاء يؤيدون الوضع القائم ويدافعون عنه أيّما دفاع، في وقت يسعى الدين إلى تغييره. وتكتسي الثورة عند الإماميّة ملمحًا خاصة برسمها خطًا تصاعديًا للتاريخ، يمرّ بنقطتي التضحية والفداء في الماضي (واقعة كربلاء) ووراثة المستضعفين للمستكبرين في المستقبل لنشر القسط والعدل في الأرض (ظهور المهدي عج).
– الوعي بوصفه عاملًا غالبًا في تحريك الثورات يعلو على الظروف التاريخية والبنى الاجتماعيّة، ويؤدي دورًا حاسمًا في إطلاق شرارتها وإذكاء جذوتها، فالأهم من وجود الفجوة الثوريّة بين توقعات الناس في المعيشة والحياة وتطلعاتهم وآمالهم، هو إدراك هذه الفجوة إدراكًا صحيحًا وتكوين معرفة بشأنها وبالطريقة التي يُتَعامل معها. فالثورة المزدوجة في الرؤية الثورية الإسلامية، تنبثق من تفاعل المعرفة والواقع، القيمة والمنفعة، الحق والتاريخ، ولا تكمن حصرًا في تضافر التحولين السياسي والاقتصادي، أو في انفجار التناقض بين الطبقات تبعًا لتطور أدوات الإنتاج[6]. إن أبرز ما تعبّر عنه هذا التجربة الإسلامية هي قدرتها على جعل المعرفة الدينيّة الخاصة (بالمؤمنين وحدهم) معرفة عامّة تشمل المؤمنين وغيرهم، وهذا مدخل لتحقيق التغيير السياسي والاجتماعي والثقافي، وإدراك الغايات الدنيوية والبشرية من أحكام الدين وقيمه وتشريعاته فضلًا عن الغايات الأخروية (سعادة الدارين) التي يبتغيها المعتقدون به.
– الشمول: في نموذج الثورة الإسلامية في إيران لا يمكن النظر إلى عامل من العوامل المحرّكة لها إلّا في إطار أشمل مضماره العقيدة والقيم المؤسّسة والحقوق الأساسيّة التي تبعث الروح والقوة في العوامل الأخرى. لو تتبعنا مسار النمو في إيران في العقود السابقة للثورة لوجدناه يدلّ على صحة مقاربة الفجوة الثوريّة التي أتى بها دايفس. فقد اتسم ذلك المسار بنمو مستقر طويل الأمد، قبل أن يتعرّض لانكسار حاد قبيل الثورة. والأمر لم يكن ليكتسب تأثيره لولا أنه جاء ضمن سياق أوسع يشمل الحقوق الخاصة والجماعية، والقيم الفردية والوطنية، والعمق الروحي للشعب والمجتمع. وبذلك يكون العامل الاقتصادي حاضرًا في البيئة التي ولدت فيها الثورة الإسلامية (الفقر والظلم والتمييز) وموجودًا أيضًا في مستقبل الثورة وركنًا من أركان صمودها، بالطريقة التي يعبّر عنها في نموذج الاقتصاد المقاوم.
وتحت عنوان: “السياسة الإسلامية في عصر الهيمنة والتباس مفهوم السلطة” ألقى علي الشاب نص بحثه فقال: إنه من غير الجائز معرفيًّا إطلاق تعبير حكم إسلامي أو سلطة إسلامية بشكل يوحي بامتداد معرفي للمفهوم من زمن إلى زمن؛ أي كما كنا نتكلم عن الدولة الفاطمية أو المملوكية أو العثمانية؛ أي أنها كانت دولة إسلامية تمتلك السيادة؛ أي سيادة الأمة أو جزء من الأمة الإسلامية على الأرض والناس والثروة بمعزل عن طريقتها في الحكم وانسجامها أو مخالفتها لمنطلقات وقواعد الحكم الإسلامية.
وأضاف، مع ظهور الثورة الإسلامية المباركة بقيادة الإمام الخميني (قده) طرحت شعارًا أساسيًّا هو “استقلال، حرية، جمهورية إسلامية”، ذلك أن هذه الحركات الإسلامية الأخرى حين أرادت الإجابة عن هذا السؤال أشارت إلى الهياكل المحلية التي ابتدعها الغرب ونصبها كوكالات له ودفاعات عنه حتى إن بعض هذه الحركات الإسلامية اندفع للصراع بمواجهة السياسات التحررية لقيادات وطنية تاريخية كما حصل في مصر زمن حكم الرئيس عبد الناصر، كذلك في سوريا ضد نظام الرئيس الأسد، على اعتبار أن هذا النظام غير عادل أو غير مطابق لمواصفات الحكم الإسلامي.
كما يجب الالتفات إلى التوجيه الذي أعطاه الإمام الخميني للجماهير التي نزلت إلى الساحات وبدأت تتلقى الرصاص بصدورها العارية بأن لا يجري الرد على إطلاق النار بالنار واستهداف الجنود ورجال الأمن، بل أن يحملوا ورودًا ويقدموها للجنود الذين يطلقون النار، والتركيز على وجود جنود إسرائيليين يطلقون على المتظاهرين، وقد أراد الإمام من خلال هذه التوجيه الرمزي ومن خلال السياسات والشعارات التي أطلقها بشكل متتال بعد ذلك أن يقول للشعب الإيراني الثائر وكذلك لركائز السلطة الداخلية أنه ليست هذه هي السلطة التي نبغي إحداث الثورة عليها وإسقاطها، بل إن السلطة التي يجب أن نعمل معًا على إسقاطها عن بلادنا موجودة في واشنطن عاصمة “الشيطان الأكبر”، وفي غرف عمليات القواعد والأحلاف العسكرية المنتشرة في كل بقاع الأرض بما فيها “جرثومة الفساد”، أو الغدة السرطانية” المتمثلة بالكيان الصهيوني، بل هي الشركات العاملة على نهب ثروات الشعوب وفي دوائر أجهزة المخابرات التي تعيث في العالم فسادًا وفي مراكز أبحاث الغربيين الذي تتعدد صفاتهم.
ودعا الشاب كافة الحركات السياسية الإسلامية والتغييرية بشكل عام مراجعة السياسات التي حكمت حركتها المنطلقة من مفهومها للسلطة السياسية الحاكمة أو صاحبة السيادة الحقيقية في الأزمنة الحديثة بدءًا من مفهوم “الحاكمية” حيث لم تستطع تحديد الحاكم الفعلي الذي ينازع رب العزة حكمه وقدرته وعظمته وكبرياءه، والذي يستطيع أن يقول للعالم “أنا ربكم الأعلى” و”أنا أحيي وأميت” ليس بإدخال أربعة نفر وإحياء اثنين وإماتة لاثنين، بل بإدخال أمم وشعوب في حصار الموت والتجويع، أي أنها لم تستطع التمييز بين الحاكم الشكلي الذي يقبع في السلطة المحلية، وبين الحاكم الفعلي في مركز الهيمنة العالمي، ومن ثم شعار مثل “رأيت إسلامًا ولم أر مسلمين” لحظة لقائه بالغرب واندهاشه به دون أن يدرك الخير والجمال الذي وجده في الغرب شبيهًا بخير الإسلام وجماله هو ليس من نتاج جهد شعوب هذا الغرب، بل هو خير وجمال مغتصب من شعوب العالم، وكذلك حال شعار “الإسلام هو الحل” أي يمكن أن يرتجي مع البقاء في ظل نظام العولمة والليبرالية الجديدة المتوحشة.
وختم علي الشاب مؤكدًا أن تجربة الثورة الإسلامية والصراعات السياسية الإقليمية والعالمية في الحقبة الأخيرة أكدت أن المسألة المركزية التي يجب أن تحكم الموقف الإسلامي والسياسة الإسلامية في زمن نظام الهيمنة الإمبراطورية الغربية أي ما أطلقت عليه الثورة الإسلامية مصلح الاستكبار العالمي بزعامة الولايات المتحدة يجب أن تكون مرتبطة بموقع هذه السياسة من الصراع مع نظام الاستكبار العالمي.
وتناولت الدكتورة مريم رضا خليل في بحثها دور القيادة في إعادة إنتاج مباديء الثورة الإسلامية (الاقتصاد المقاوم أنموذجًا)، وقد توزع البحث على عناوين ثلاثة:
أولًا: الاقتصاد المقاوم.. النشأة والمفهوم
في ظروف النشأة، أثقلت العقوباتُ الأمريكية التصاعدية التي بدأت بحظرٍ اقتصادي بعد سنة واحدة من انتصار الثورة الإسلامية، كاهلَ القطاعات الاقتصادية كافة وطالت تداعياتُها مختلفَ المؤشرات.
وتساءلت ما الذي يقصده الإمام الخامنئي بهذا المفهوم؟ وقالت: بداية، لا بدّ من الالتفات إلى أن التسمية تعود إلى طبيعة الحرب الاقتصادية التي تشنّها الولايات المتحدة الأميركية على إيران.
وتقوم رؤية الاقتصاد المقاوم على الإيمان بقدرة السياسات الحكومية الصحيحة والمناسبة، في ما لو توفّرت، على استثمار المقومات الداخلية من موارد وطاقات، وتوجيهها نحو تخفيف أعباء الحصار وضبط تداعياته ضمن إطار الهوية الثقافية الإيرانية في رفض الخضوع والاسترهان ومواجهة السياسات المعادية.
والاقتصاد المقاوم وفق كلام سماحته يهدف إلى توهين أثر العقوبات وكبح تأثيرات الضغوط الخارجية ومعالجة كلّ المشكلات الاقتصادية، والتعاطي مع المشكلات داخليًّا، وتحسين الأداء الاقتصادي وتنمية القطاع الخاصّ وعدم الارتهان للاقتصاد النفطي، بمعنى عدم الاعتماد على إنتاج النفط الخام دونما قدرة على بيعه أو تسعيره أو حظره.
ورأت أنه في هذا المستوى من التحليل، يمكن القول إن الاقتصاد المقاوم هو:
استراتيجية داخلية في كيفية تجاوز الأزمات الاقتصادية عبر تحويلها إلى تحدّيات، ومن ثم إلى فرصة للنهوض من خلال التركيز على الإنتاج وتأمين الاكتفاء الذاتي والاستقلالية. وتعود تسمية الاقتصاد المقاوم إلى طبيعة الحرب الاقتصادية التي تشنّها الولايات المتحدة الأميركية على إيران، لا سيّما بعدما نقلت الولايات المتحدة الأميركية غرفة عملياتها ضدّ إيران من وزارة الدفاع إلى وزارة الخزانة. وفي هذا السياق يفيد المفهوم استخدام البلاد طاقتها القصوى لكسر أوهام قوى الغطرسة بأن طهران ستغيّر من سياساتها.
إنّ الاقتصاد المقاوم، وفقًا للقائد، هو إحدى أولويات إنقاذ البلاد وتقدمه وكبح تأثيرات العقوبات والضغوط، فالمفهوم يشكّل إلى جانب القفزة العلمية والتحصين الثقافي أولويات ثلاث لا ترهن مصير البلاد للعقوبات والضغوط الخارجية، وينتج عن العمل بها تقدّم حقيقي وعميق، مستند إلى أسس ودعائم داخلية محكمة قوامها المحافظة على الخصائص الثورية، وعلى الحركة الجهادية، وعلى العزة والهوية الوطنية، وعدم الذوبان في الجهاز الهضمي العالمي الثقافي والاقتصادي الخطير[7].
كما إنه دينامية فاعلة في مواجهة الضغوط الاقتصادية الخارجية والتخفيف من أعباء الحصار، وبمثابة نهج ونمط حياة لحلّ مشكلات البلاد الاقتصادية بمعزل عن فرض العقوبات أو رفعها. فضلًا عن تحويل الأزمات والمشكلات كافة إلى تحدّيات تتطلّب المواجهة، فالانتصار. ويطرح القائد الخامنئي الاقتصاد المقاوم لمعالجة كلّ المشكلات الاقتصادية[8]، وتنمية القطاع الخاصّ وعدم الارتهان للاقتصاد النفطي، بمعنى عدم الاعتماد على إنتاج النفط الخام دونما قدرة على بيعه أو تسعيره أو حظره[9]. فالقائد وإذ يؤمن بأنّ العقوبات تركت تأثيرها على المشكلات الإيرانية، لكنّ التأثير الأساس وفق رؤيته يعود إلى الأداء الاقتصادي، إلى كيفية التعاطي مع المشكلات داخليًّا، بحيث إنّ تحسين الأداء يعني توهين أثر العقوبات وتأمين المزيد من الصمود والثبات والمقاومة[10].
وعن العنوان الثاني من البحث “الاقتصاد المقاوم وتمظهرات الثورة” أشارت إلى التعمق في مستوى تحليل خطاب القائد حول المفهوم إلى أن الاقتصاد المقاوم ما كان استجابة آنية أو ظرفية محيطة أو مرتبطة مباشرة بمواجهة العقوبات والحصار والخروج من الأزمات، وإنما نتاج صيرورة ثقافية فكرية تراكمية من المفاهيم والمبادئ الثورية في ثقافة السيادة والاستقلال والحرية ورفض الاستسلام أو الخضوع لأيّة تبعية.
ولفتت إلى أن الاقتصاد المقاوم يعكس إيمان القائد الخامنئي بقوة الشعب الإيراني ومدى صلابته في مواجهة التحديات والتحمّل، وبطاقات الشباب القادرة على افتعال المعجزات وتقديم الحلول الإبداعية كدأبها في مواجهة سنين طوال من الحصار والضغط. كما يؤمن القائد بوجود عناصر قوة ذاتية في الاقتصاد الإيراني من قبيل قدرته على النمو الذاتي بمعدلات مناسبة، وعدم وجود مشكلات قوية في هيكليته، وقدرته على امتصاص الصدمات الخارجية، بالتلازم مع جهود متنوعة لتقليص أثر العقوبات، والوزن الدولي النسبي للاقتصاد الإيراني الذي يجعل عزله بالأحرى بمثابة عقوبة على اقتصادات أخرى في العالم[11].
كما أنه يدفع الاقتصاد المقاوم كل من السلطات الرسمية والقوى الشعبية إلى الإيمان بالقدرات الذاتية على استثمار خيرات البلاد ومواردها وثرواتها الطبيعية ورفع طموحات إيران في التنمية. والأهم هو ما يتيحه مفهوم الاقتصاد المقاوم من مشاركة جماعية بين السلطة والقاعدة الشعبية في تحمّل مسؤولية استثمار المقومات الداخلية الطبيعية والبشرية كافة في التخفيف من عبء الحصار وضبط تداعياته. بهذا المعنى، يعبّر الاقتصاد المقاوم عن استراتيجية اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية لاستباقي اق النووي الموقّع عام صمود والتحمّل والصبر وتجاوز الأزمات وتحويل التحديات. في عملية تحصين الداخل وزيادة المنعة في مواجهة محاولات التدخل وقطع الأيدي الخارجية، وتقويض الأهداف الاستكبارية في التحكّم وبسط السيطرة ومحاولة إحداث ثغرات في البنية الاجتماعية السياسية تتهدّد بنية النظام السياسي وتماسك المجتمع داخليًّا.
وأتاح مشاركة جماعية بين السلطة والقاعدة الشعبية في تحمّل مسؤولية استثمار المقومات الداخلية الطبيعية والبشرية كافة في التخفيف من عبء الحصار وضبط تداعياته. بهذا المعنى، يعبّر الاقتصاد المقاوم عن استراتيجية اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية لاستباقي اق النووي الموقّع عام صمود والتحمّل والصبر وتجاوز الأزمات وتحويل التحديات. في عملية تحصين الداخل وزيادة المنعة في مواجهة محاولات التدخل وقطع الأيدي الخارجية، وتقويض الأهداف الاستكبارية في التحكّم وبسط السيطرة ومحاولة إحداث ثغرات في البنية الاجتماعية السياسية تتهدّد بنية النظام السياسي وتماسك المجتمع داخليًّا.
وفي العنوان الثالث من البحث “القيادة وإعادة إنتاج خطاب الثورة في الاقتصاد المقاوم“. أشارت إلى أن النظام يولّي أهمية كبيرة في الحفاظ على تنشئة أجيال ما بعد الثورة على ثقافة مواجهة “الاستكبار”، بحيث يعمل الولي الفقيه على ضخّ مفاهيم الثورة في جيل الشباب الصاعد، بالاستفادة مما يؤمنه خطاب التعبئة من قبل الولي الفقيه من قابليّة تفسير الهيمنة عن طريق الشرعية بأنواعها الثلاثة: الكاريزمية والتقليدية والعقلانية القانونية [12]، على حدّ تصنيف ماكس فيبر (Weber).
أضافت، يظهر دور القائد في صناعة الرأي العام الإيراني وتوليد الوعي السياسي حول ثوابت عدة، أبرزها حقوق الشعب الإيراني، ضرورة مواجهة أهداف القوى الخارجية، رفد الشعب بمخططات واشنطن ضد مصلحة الشعب الإيراني والنظام الجمهوري الإسلامي انطلاقًا من أهمية التحلّي بالوعي السياسي في الحفاظ على النظام الجمهوري الإسلامي، وحفظ المصالح الوطنية العليا، وإيمانًا منه بضرورة معرفةِ العدو وخصوصياته وأسلوب عمله ومخططاته للتخطيط وتحديد أسلوب المواجهة بشكل حكيم.
وبناء عليه، يصبح الاقتصاد المقاوم بهذا المستوى سياسةَ مواجهةِ الحظر الاقتصادي والمالي باستثمار مفهوم “المرونة البطولية” أو المرونة الشجاعة” الذي أدخله الإمام الخامنئي إلى القاموس السياسي الإيراني كتكتيك دبلوماسي إسلامي الهوية والطابع.
والقائد هنا يؤكد على أن المطالبة برفع الحظر في المفاوضات ليس بما يمثله من حل جذري للأزمة الاقتصادية ، ولكن لأنه حق طبيعي للشعب الإيراني، والمعيار هو عدم الخروج عن المبادئ الثورية والمصالح الوطنية.
وعليه يعكس مفهوم الاقتصاد المقاوم سمة بارزة من سمات الأداء القيادي والدورِ السياسي للولي الفقيه في متابعة شؤون الحكم، هي سمة التخطيط الاستراتيجي الطويل الأمد الذي يسعى للوصول إلى الأهداف استجابة لمتطلبات تحديات المرحلة لكن بحلول عميقة وجذرية؛ تتجاوز تداعيات الارتهان الخارجي قبل أن تتجاوز تداعيات الحصار الاقتصادي.
وختمت الدكتورة مريم رضا خليل بالقول: إنّ الاقتصاد المقاوم هو آلية دفاعية ضد السياسات الاستكبارية التي تسعى لمحاصرة الدول الممانعة والمقاومة اقتصاديًّا بعدما فشلت في إخضاع تلك الدول أو محاولة الانحراف بها خارج فلك السيادة والحرية باتجاه التبعية التي تحقق مصالح دول الهيمنة والاستكبار. وهو نموذج تطبيقيّ لهوية الثورة الثقافية في العقد الرابع من النظام الجمهوري في مواجهة الاستكبار كثقافة متجددّة في التعبير العملي لشعار “الموت لأمريكا” وإعادة إنتاجه.
وقد قدّم القائد الخامنئي المفهوم كحلّ إبداعي في مواجهة الهيمنة الأمريكية وكأحد مفردات خطاب التعبئة وإعادة إنتاج خطاب الثورة، تأكيدًا على استمرارية نبض الثورة وثبات مبادئها في النظام الجمهوري الإسلامي مع اتسامها بالمرونة، والتزامًا بمسؤولية حماية الدولة واستجابة لمتطلبات بنائها واقتدارها، وإظهار القدرة على التعامل مع التحديات المحيطة بها بالتوازي مع الحفاظ على منجزات الثورة.
واليوم، وفي سياق سياسات الحصار والتجويع الأمريكية لدول محور المنطقة، والإمعان في الضغط على محور المقاومة، يصبح المفهوم وما قدّمه من تجربة حيّة ماثلة في النجاح بتخفيف أعباء الحصار، بل والنهوض بالدولة الإيرانية اعتمادّا على الطاقات والمقدّرات وعبر تحويل التحديات والتهديدات إلى فرص، يصبح حجة على تلك الدول وشعوبها، ومسؤولية يجب أن تتكاتف الجهود الرسمية والشعبية وتتضافر الإرادات للاستفادة من التجربة الإيرانية واستثمارها.
[1] خلال لقائه جمعًا من عوائل الشهداء المدافعين عن الحرم 25.6.2016
[2] Raymond Tanter & Manus Midlarsky، A theory of Revolution; The Journal of Conflict Revolution،Vol.11 No.3 (Sep. 1967) PP 264-280.p:264
[3] See: Rocher Guy; Introduction a la Sociology Generale; Paris HMH; 1968.
[4] فيما يتعلق بخصائص الاقتصاد المقاوم وغاياته يُراجع: السيد علي الخامنئي؛ الاقتصاد المقاوم؛ بيروت: دار المودة للترجمة والتحقيق والنشر؛ 2022.
[5] Theory of Revolution; Op.Cit; P:265-267.
[6] يمكن فهم فكرة الثورة المزدوجة في الإسلام على النحو الآتي: إنّ تدفق الحقائق والوقائع الجديدة في نهر التاريخ البشري الهادر يحتّم إحداث ثورات فكرية وعلميّة تسمح بتكيّف مجالات الدين وعلومه ومناهجه معها، وتكفل حماية منابعه الصافية من رواسبها، وتساهم في جعل منطقه الداخلي قادرًا على استيعاب واحتواء التحوّلات والانعطافات المتسارعة في السياسة والاجتماع وفي قوى الإنتاج والعلاقات المنبثقة منها… لكن ذلك لا يكتمل في إطار العلم والمعرفة وحدهما، بل يقتضي حدوث ثورات اجتماعية وسياسية ومادية تقرّب المسار البشري من معاني الدين وقيمة وآفاقه.
لقد اكتسب الإسلام حضوره في تجربته الأولى من تلازم الثورتين اللتين تمثلتا في القوة المعرفية المتأتية من عوالم العقل والأخلاق والفطرة والغيب، وفي قدرة صاحب الرسالة (ص) على تجسيدها في التاريخ والمجتمع وحياة الناس. وهذا ما تعبّر عنه المرحلتان المكية والمدنية. فالأولى انطوت على ثورة فكرية بشأن علاقة الإنسان بالإنسان، وبالطبيعة، وبالنُظم “الاجتماعية والسياسية” وباللَّه سبحانه وتعالى، لكن ذلك لم يكن ليؤتي أُكله ويعطي ثماره لولا المرحلة المدنية التي كانت ثورة في الواقع والزمن غرضها تغيير البيئة التاريخية لتتناسب مع أهداف الرسالة واستيعاب مخرجات الثورة المعرفية التي أدّت إليها. وفي هذه المرحلة كان دور الجهاد إزالة الموانع المادية والسياسية التي كانت تحول دون نشر الدعوة، ودخول الناس في دين الله أفواجًا. وتشكّل الثورة الإسلامية في إيران امتدادًا لهذا الشكل من أشكال الثورات المزدوجة، في الأفكار والمفاهيم والتاريخ والواقع.
[7] الإمام علي الخامنئي، “الملتقى التاسع عشر للدورة الرابعة لمجلس خبراء القيادة”، خطاب القائد، متوفر على الرابط التالي: http://nahjelwelayah.com/page.php?CID=%D9%83%D9
تاريخ الدخول: 17/3/2017.
[8] الإمام علي الخامنئي، “الإمام الخامنئي يشدد على تعزيز المقاومة ويسمّي العام الجديد: “عام الاقتصاد المقاوم… المبادرة والعمل”، خطاب القائد، 20/3/2016. متوفر على الرابط التالي:
http://www.tasnimnews.com/ar/news/2016/03/20/1031472/21/8/2016
تاريخ الدخول: 20/1/2019.
[9] الإمام علي الخامنئي، “كلمة الإمام الخامنئي في لقائه جمعًا من مسؤولي الجمهورية الإسلامية”، خطاب القائد، 23/5/2018. متوفر على الرابط التالي: http://arabic.khamenei.ir/news/2831، تاريخ الدخول: 21/8/2018.
[10] الإمام علي الخامنئي، “خامنئي: لا حرب ولا مفاوضات مع واشنطن”، خطاب القائد، 13/8/2018. متوفر على الرابط التالي:
https://www.al-akhbar.com/World/256114/. تاريخ الدخول: 11/9/2018.
[11] مغاوري شلبي علي،” الاقتصاد الإيراني بين العقوبات الدولية واحتمالات الحرب”، السياسة الدولية، العدد 168، نيسان 2007، المجلد 42، ص 124-128.
[12] ماكس فيبر، العلم والسياسة بوصفهما حرفة، ترجمة: جورج كتورة، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة1، 2011م، الصفحة 19.
المقالات المرتبطة
تقرير ندوة الثورة الإسلامية والقضية الفلسطينية مع الدكتور بلال اللقيس
عقد معهد المعارف الحكمية أمس ندوته التمهيدية السادسة لمؤتمر التجديد والاجتهاد الفكري الخامس بعنوان: “الثورة الإسلامية والقضية الفلسطينية” مع الدكتور بلال اللقيس، أدار الندوة الإعلامي حسن خليفة، وحضرها مجموعة من النخب الفكرية والثقافية والمهتمين بالقضية الفلسطينية.
الخطاب الجدّي
البعض قال إنّ خطاب الإعلام المقاوم هو خطاب جدّي، مدرسيّ، تعليمي.. ونحن نقول لا يمكن لإعلامنا إلا أن يكون إعلامًا جديًّا
برنامج مؤتمر التجديد والإجتهاد الخامس
برنامج المؤتمر