أمراض الفكر السلفي
مقدمة
منذ سبعينات القرن الماضي والفكر السلفي الوهابي يجتاح المنطقة العربية، بل والعالم الإسلامي عمومًا؛ بدعوى أنه إسلام السلف الصالح.
وكل المتابعين المنصفين يقرون بالمشكلات الثقافية والاجتماعية والسياسية والوطنية التي نتجت عن تغلغل هذا الفكر المميت والسام في مجتمعاتنا.
الأمراض العقلية والنفسية في الفكر السلفي
نحن في هذا المقال وبعجالة نعرض بعض الأمراض العقلية والنفسية في الفكر والعقل السلفي في عدة نقاط:
- سماعي: العقل السلفي هو عقل سماعي.. يتغذّى على الخطب والدروس السمعية، وحتى لو قرأ لا يقرأ إلا الكتيبات الصغيرة الموجهة التي تهدى ولا تباع، والتي يمثّل فيها فكر ابن تيمية، وابن القيم، وابن عبد الوهاب، وابن باز، والألباني “الفكر المعصوم” في نظره؛ بدعوى أنه يمثل رأي السلف الصالح “المأخوذ من القرآن والسنة” وهما معصومان، فيكون الفكر السلفي بالتبعية معصومًا، بل يحظر أوصياء السلفية على أتباعهم قراءة الكتب الفكرية ويعتبرون ذلك من أسباب النجاة من الفتن “عبيد الجابرى شريط” أسباب النجاة من الفتن “نموذجًا”.
ويبدأ تشكيل العقل السلفي بخطة ممنهجه كالآتي: يتم دعوة الفرد لتعلم دروس تجويد القرآن التي لا يستطيع أحد رفضها، وخلال هذه الدروس يتم دس السم في العسل، حيث يتم إهداء الفرد مجموعة مختارة من الشرائط والكتيبات عن أشياء عامة لا خلاف عليها حتى لا يخاف الفرد المستهدف للتجنيد، ثم تتم الدعوة للاستماع إلى دروس ومحاضرات مشايخ السلفية في المساجد، ثم رويدًا رويدًا يتم إهداء الشرائط والكتيبات عن اللحية والنقاب وتحريم الموسيقى والغناء، وتحريم أقوال وأفعال معينة درج عليها المسلمون مثل قول “والنبي”، والاحتفال بالمولد النبوي، وأثناء ذلك يتم هز الثقة في علماء الأزهر والأوقاف، والادعاء بأن دعاة السلفية هم العلماء الحقيقيون، وأن الأزهر عنده أخطاء في العقيدة، وعلماءه علماء سلطة، وأن ابن تيمية هو شيخ الإسلام وحجته، وأن النجاة – كل النجاة – في كتب “ابن تيمية، وابن القيم، وابن عبد الوهاب، وابن باز، والألباني”، وأن كتب مخالفيهم بها بدع وضلالات شركية خصوصًا علماء الأزهر من الأشاعرة والصوفية، وعند هذه النقطة يكون الفرد قد دخل المصيدة السلفية الوهابية والتي لا يستطيع الفكاك منها إلا بشق الأنفس، حيث إنه ترك قيادة نفسه لاتجاه فكري يعتبر المخالف ضالًا، بل كافرًا.
- تقديم الحديث على القرآن الكريم: العقل السلفي يقدم – عمليًّا – الحديث على القرآن الكريم، ويعتبرهما صنوين ووحيين على قدم المساواة، وليس للقرآن فضل تقديم على السنة “أنظر فتاوى الألباني”، وكذلك دفاعهم المستميت عن رضاع الكبير وشرب أبوال الإبل اعتمادًا على روايات منسوبة زورًا إلى النبى (ص) تخالف العقل، وتخالف روايات أصح منها، فكل اهتمامهم بالأحاديث، والقرآن للتلاوة فقط، وينسخون آيات القرآن البينات بأقوال وروايات ساقطة بل بأدنى شبهة، مع أن القرآن الكريم هو عمود الإسلام والسنة النبوية مبينة ومفسرة، والقرآن هو الكتاب المهيمن والمسيطر على غيره من الكتب، ولذلك يتورط العقل السلفي بتبني آراء مخالفة تمامًا للقرآن الكريم.
- الانفصام عن الواقع المعاصر: العقل السلفي يعاني من فصام مع الواقع المعاصر، حيث إنه يعيش بروحه وعقله ومشاعره في عالم مغاير تمامًا عن الواقع المعاصر، يعيش في عصر كتب الأحكام السلطانية، وبناءً على عدم معرفة الواقع يتم إصدار فتاوى ورؤى صادمة ومجافية للواقع وللحقيقة مثل الموقف من الدولة القومية الحديثة والدستور والديمقراطية والمعارضة والصحافة والعلاقات الدولية.
- لا يغوص في علل الأحكام ومآلاتها: إن العقل السلفي، عقل نقلي لا يغوص في علل الأحكام ومآلاتها، وذلك راجع إلى أنه ظاهري في الفقه، يقدم النقل الضعيف على العقل السليم، فالعقل عنده متهم دائمًا، ويقومون بتضعيف أي حديث يعلي من شأن العقل في الإسلام: مثل حديث معاذ بن جبل عندما بعثه النبي (ص) إلى اليمن، وكيف أنه عندما تأتي له مسألة أو قضية سينظر في القرآن، فإن لم يجد فالسنة، فإن لم يجد فيجتهد رأيه ولا يألو؛ “أي يقصر”. فهذا الحديث الذي تلقاه علماء الأصول بالقبول هو عندهم مرفوض وضعيف، ولا يعيرون مئات الآيات القرآنية التي تعلي من العقل أي اهتمام.
- الاهتمام بالفروع وإهمال الأصول: أولويات العقل السلفي هي الشكل وليس الجوهر، القشر وليس اللباب، والاهتمام بالفروع وعدم الاهتمام بنفس الدرجة بالأصول والقضايا الأساسية فنجدهم يهتمون “باللحية والنقاب والجلباب ويقيمون عليها الولاء والبراء، ولا يهتمون بقضايا العدالة الاجتماعية، والحريات والكرامة الإنسانية، وسيادة القانون وحماية الأوطان”.
- إنكاره للمجاز في القرآن والسنة مما أوصله للتجسيم في العقيدة.
- تقديس ابن تيمية: يجعل العقل السلفي – عمليًّا – كلام ابن تيمية، هو الأصل، وإذا خالف ابن تيمية القرآن والسنة يتم تأويل القرآن أو تأويل الحديث أو تضعيفه ليوافق كلام شيخ الإسلام، ولاعتماد العقل السلفي على أفكار مدرسة ابن تيمية فقط.. فهذا جعله عقلًا نمطيًّا في التفكير لأنه يتغذى على صنف واحد فقط من الفكر وممنوع من قراءة غيرها.
- يختار الأعنت وليس الأيسر: يختار العقل السلفي أشد الآراء تعنّتًا من كتب التراث محاولًا فرضها على عموم الأمة مع أنها مسائل خلافية، وينسبها للسلف الصالح وللجمهور، مع أنها آراء ابن تيمية ومدرسته فقط، علاوة على أن هذا ليس الهدي النبوي الذي ما خير بين أمرين إلا أختار أيسرهما، طالما المسألة خلافية.
- عقل استرجاعي وليس عقلًا توليديًّا: يقول د. عبد الله البريدي: “العقل السلفي عقل استرجاعي لا توليدي، فهو يسترجع الأفكار والتطبيقات من الذاكرة السلفية….. والعقل السلفي على اختلاف درجاته، يفصل ثوبًا بمقاسات وألوان سلفية ثم يطالب الجميع بارتدائه، دون مراعاة تغير الأحجام والخامات والاحتياجات “انظر مقال، العقل السلفي… العقل الليبرالي لا يبدعان ؟!”، جريدة الجزيرة السعودية، بتاريخ 23 جمادى الأولى 1428ه، العدد 12672.
- الخلط بين الثوابت والمتغيرات: يخلط العقل السلفي بين الثوابت التي لا تتغير ولا خلاف عليها، وبين المتغيرات التي تتغير باختلاف الزمان والمكان.
- تطبيقه الجرح والتعديل على علماء الفقه والرأي: مع أن هذا العلم موضوع للرواة فقط، لمعرفة صحة السند من عدمه كمرحلة أولى للحكم على الخبر المروى، أما الفقه والرأي فيتم مقارعة الحجة بالحجة، فالحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أولى بها، فالمهم الرأي وليس صاحب الرأي، فنحن نعرف الرجال بالحق وليس الحق بالرجال، ولكن هذا هو مدخل السلفيين لتجريح العلماء والمفكرين المخالفين لهم ليس لسوء في أخلاقهم وسلوكهم والعياذ بالله ولكن لمجرد اختلافهم معهم… وبعد ذلك يفرضون على أتباعهم عدم أخذ أي علم من هؤلاء العلماء لأنهم – في زعمهم – مجروحون.
- يجيز الكذب على المخالف: العقل السلفي يجيز الكذب على المخالف، بدعوى أن الحرب خدعة، يقول الإمام تاج الدين السبكي، كما جاء بكتاب طبقات الشافعية الكبرى (ج2 /ص16ـ 17): “فِي المبتدعة لَا سِيمَا المجسمة زِيَادَة لَا تُوجد فِي غَيرهم وَهُوَ أَنهم يرَوْنَ الْكَذِب لنصرة مَذْهَبهم وَالشَّهَادَة عَلَى من يخالفهم فِي العقيدة بِمَا يسوءه فِي نَفسه وَمَاله بِالْكَذِبِ تأييدًا لاعتقادهم ويزداد حنقهم وتقربهم إِلَى اللَّه بِالْكَذِبِ عَلَيْهِ بِمِقْدَار زِيَادَته فِي النّيل مِنْهُم فَهَؤُلَاءِ لَا يحل لمُسلم أَن يعْتَبر كَلَامهم… وَقد وصل حَال بعض المجسمة فِي زَمَاننَا إِلَى أَن كتب شرح صَحِيح مُسلم للشَّيْخ محيي الدّين النَّوَوِيّ وَحذف من كَلَام النَّوَوِيّ مَا تكلم بِهِ عَلَى أَحَادِيث الصِّفَات فَإِن النَّوَوِيّ أشعري العقيدة… وَهَذَا عِنْدِي من كَبَائِر الذُّنُوب فَإِنَّهُ تَحْرِيف للشريعة وَفتح بَاب لَا يُؤمن مَعَه بكتب النَّاس وَمَا فِي أَيْديهم من المصنفات فقبح اللَّه فَاعله وأخزاه”.
- الخفة والسذاجة العلمية: العقل السلفي يعتقد أنه طالما أن القرآن موجود والسنة موجودة – على أسطوانة مثلًا – أصبح من حقك الاجتهاد وتخطئة الأئمة المجتهدين وعدم تقليدهم، فيقول محمد بن سلطان المعصومى في مؤلفه (رسالة “هل المسلم ملزم باتباع مذهب معين من المذاهب الأربعة؟” للمعصومى): “أمر الاجتهاد سهل لا يحتاج أكثر من الموطأ والصحيحين وسنن أبي دواود وجامع الترمذي والنسائي، وهذه الكتب معروفة مشهورة يمكن تحصيلها في أقرب مدة فعليك معرفة ذلك.. ولم يبق لك عذر”. وهذا استخفاف بالعلم فبجانب معرفة القرآن والسنة لا بدّ من ملكة الاستنباط علاوة على معرفة الواقع.
- عدم قراءة أدلة المخالف من مصادرها الأصلية، والاكتفاء بمعرفتها من مخالفيهم، ومحاسبة المخالف بلازم المذهب، مع أن العلماء قرروا أن لازم المذهب ليس بمذهب.
- تبديعه وتفسيقه وتضليله للمخالف وقد يصل الأمر لاستباحة دمه.
- البراجماتية والمصلحية: فمن الممكن التحالف مع الشيطان للمصلحة.
- اعتقاده إمكان جمع الأمة كلها على رأي واحد– هو رأيه طبعًا – وهذا ناتج عن عدم احترامه للخلاف الفقهي بين العلماء وتضعيفهم حديث (اختلاف أمتي رحمة) ظنًا منهم أن هذا الحديث هو الدليل الوحيد على حق الاختلاف معتبرين أن الاختلاف في الفروع ليس رحمة.
- النهم في متع الدنيا: رغم تقليده الصارم للسلف في الهدى الظاهر إلا إننا نجد رموزهم – إلا من رحم ربك – لا يقلدون السلف في الزهد في متع الدنيا، فنجد رموزهم يركبون أغلى السيارات ويسكنون أفخم الفيلات، ويعددون الزوجات عشرات المرات، وهذا ليس حرامًا ولكن عليهم عدم الادعاء بأنهم يقلدون السلف الصالح في كل شيء.
- الاستعلاء على المخالف تحت دعوى “أنهم على العقيدة النقية وغيرهم مبتدعة”. وهذا من أمراض بني إسرائيل، كما أوضح ذلك القرآن كثيرًا، فإنهم بدلًا من أن يعتبروا أنهم بتوع ربنا ويحمدوا الله على ذلك اعتقدوا والعياذ بالله “أن ربنا بتاعهم (أي لهم فقط)، واستطالوا على خلق الله، بدعوى أنهم بتوع ربنا”.
وقد رأيت هذا بنفسي، ففي أحد مساجد السلفية منذ 15 عامًا وفي العشر الأواخر من رمضان، وأثناء الوضوء، قام أحد كبار السن – غير ملتح – بمدح المسجد وكيف أن الملائكة طوال الليل موجودة بالمسجد أثناء صلاة التراويح، وهذا أمام أحد قادة السلفيين بالمسجد، فوجدت رد فعله استعلاء غريب بدلًا من أن يتواضع لله ويخاف من التذكية والعجب بالنفس وكان لسان حاله: أن ما يقوله الرجل المسن ما هو إلا تحصيل حاصل، مع أن كبار العباد يقولون دائمًا: “رب معصية أورثت ذلًّا وانكسارًا خير من طاعة أورثت عزًّا واستكبارًا”.
- الطعن في معظم علماء ومفكري وزعماء الأمة، لمجرد اختلافهم مع المنظومة السلفية.
- إدخاله مسائل خلافية مثل “التوسل، زيارة الأضرحة، النقاب واللحية” من باب الفقهيات إلى باب العقيدة وترتيب الولاء والبراء عليها، حتى طالب أبو إسحاق الحويني مثلًا في أحد خطبه بإدخال النقاب واللحية في كتب العقيدة مثلما أدخل السابقون مسألة المسح على الخفين في كتب عقيدة أهل السنة والجماعة.
وبعد،
إن العقل السلفي عقل مريض في أزمة، ويمثل أكبر خطر على الدين الإسلامي وعلى الأوطان والحضارة الإنسانية، وطالما بقيت المدخلات “كتب ابن تيمية وابن عبد الوهاب” محصّنة ضد النقد والمناقشة.. بقيت الكارثة.
ولذلك، فالحل هو مراجعة وتفكيك أفكار ابن تيمية وابن عبد الوهاب وغيرهما من رموز السلفية، وتوضيح ما بها من خطايا منهجية وليس أخطاء عادية، وحتى يتم ذلك وطالما المدخلات هي هي فستكون النتيجة الطبيعية هي السلفية الجهادية وتنظيم القاعدة وداعش والإرهاب والعقول المفخخة، وخطرها لا يقل عن خطر الصهيونية، فالصهيونية تخرب الأرض وتقتل النفس وخطرها معروف للجميع، ولكن السلفية الوهابية تخرب العقول وتقتل الروح وهي تتستر وراء الدين الإسلامي ودعوة التوحيد..
المقالات المرتبطة
جذور التحوّل الثقافيّ مقاربة نظريّة
يتضمّن النص القرآنيّ العديد من الآيات والشواهد التاريخيّة، التي تؤكّد على ضرورة أن يراجع الإنسان أفعاله، وينقد ممارساته من أجل تقويمها بما ينسجم والقيم الإسلاميّة العليا. فالباري عزّ وجلّ يقسم بالنفس اللوّامة ويعلي من مقامها،
مصطلحات عرفانية | الجزء 11
بدء / عود – الوجود يتنزل من سماء الإطلاق إلى أرض التقييد مترتبًا؛ فيبتدئ من الأشرف فالأشرف إلى أن ينتهي
البعد العرفاني في فكر محمد رضا فضل الله
يحفل التاريخ الفكري بالكثير من الشخصيات التي لم تأخذ حقها في البحث والتحليل، فهي بقيت في عالم الظل