قراءة في المدرسة الإيكوية ما لا يمكن تنظيره ينبغي سرده للدكتور علي زيتون

قراءة في المدرسة الإيكوية ما لا يمكن تنظيره ينبغي سرده للدكتور علي زيتون

ارتبط اسم إمبرتو إيكو بروايته الفريدة “اسم الوردة”. وهي رواية متفرّدة تنفتح سياقاتها الرّوائيّة المشوّقة، والفكريّة المحفّزة على تساؤلات وإشكالات فلسفيّة وجوديّة، تشكّك في إمكانية جيازة أية معرفة لإجابات نهائية حاسمة. وما بين العنوان “اسم الوردة”، والجملة التي يلقيها إيكو خاتمًا روايته حيث يقول: “كل الأشياء تندثر ولا يبقى منها إلّا الأسماء”، مرورًا بالحوارات التي تخلخل عند القارئ ثوابت فكرية ومعرفية استكان لها وأنس بها عقل يستسهل الركون إلى وهم الحقيقة، تفضي بك مساقات الرواية – المتاهة كما أرادها كاتبها إلى نقطة العراء الفكري، إلى البداية حيث يوقظ إيكو لدى القارئ الذي يستحيل مؤولًا رغمًا عنه، حدس الدهشة الفطريّ الأوّل، فإذا به عودٌ على بدء يستنطق الأشياء ثانية، ليستولد منها دلالاتٍ، فيكشف فيها عن زواياها الخفية المبعدة. ويأتي كتاب الدكتور علي زيتون، “المدرسة الإيكوية، ما لا يمكن تنظيره ينبغي سرده”، محاولةّ قيّمة للاستدلال به والاستهداء من خلاله إلى خيوط تقودك في أروقة الرواية – المتاهة التي تلفي نفسك داخلها حين تقرأ أعمال إيكو. والاستدلال الأوّل يرشدك إلى أن قراءتك لسرد إيكو يبقى منقوصًا إن لم يتفيّأ بظلّ تنظيراته التي تشكّل الإطار المعرفي المرجعي الموجّه لفكرة الرواية، أي الحديقة الخلفية حيث يمكث إيكو الفيلسوف التفكيكي المابعد حداثي. وبالمقابل، فإنّ أطياف التأثر الفلسفي تلوح في رواياته المثقلة بأبعاد فكرية ومعرفية متعددة؛ كالفلسفة والنقد الأدبي، ونقد النقد، والتاريخ واللاهوت وعلم النفس… إنّه الفكر ما بعد الحداثيّ حيث تسيل حدود التخصصّات المعرفية وتنجح المعرفة في الإفلات من تخوم الأطر وحدودها الضيّقة. وتتنزّل هذه المعارف لتتلاقى وتتشابك عند المعيوش الإنساني الذي تنغمس به الرواية، وتخترق تفاصيله وسرديات شخوصه الصغيرة التي لطالما ازدرتها علياء المعرفة، لكن مع إيكو المابعد حداثي، بات لزامًا على المعرفة أن تتواضع وتنحني لتتمكّن من التقاط ما في الزوايا حيث المقصيّ والمرذول والمسكوت عنه. ويبرع إيكو براعةً فذّةً في توظيف تعدّدية المعارف روائيًا، ليلتقي في متن نصّه السّرد والتنظير في عملية تشبيكية فيها من الضنّا والإثارة، ما يحرّضك على قبول تحدّي مغامرة القراءة الإيكوية مسترشدًا كما أسلفنا بالكتاب موضوع النّدوة.

وإن كان الدكتور علي يذهب إلى أنّ الرواية الإيكوية ومن خلال سردها ما لا يمكن تنظيره، قد سهّلت على القارئ تفهم ما هو نظريّ، فإننا، وفيما يسّر لنا مؤلف الدكتور علي الاطّلاع عليه من طرح إيكو النظري، استضأنا بالتنظير لاستجلاء ما استغلق علينا من سرده، لا سيّما “اسم الوردة”. لذا فلقد انصبّ اهتمامنا على القسم الأوّل من الكتاب أي “ما يمكن تنظيره”. ولأن قراءة السّرد الإيكوي عملٌ شاق، يقترح عليك الدكتور علي، أن تتأهّب أوّلًا على المستوى النفسي، باستعدادات قوامها؛ الجلَد، وطول النفس والتؤدّة، لتجنّب السّقوط والتراجع، فتدرأ عن نفسك الشعور بالخذلان والعجز وخسارة الفوز بلذّة نص غير عادية على حدّ قوله. ولتجاوز مرحلة الخطر، يشير إليك الدكتور علي، بجاهزيّة أخرى، هي أن تلمّ بثقافة فكر ما بعد الحداثة، وأن تفقه جيّدًا انزياجاته المعرفية والفلسفية عن فكر الحداثة ومخلّفاته. ولكن هذا لا يعني أنّ الدكتور علي يهلّل لموضة ما بعد الحداثة، باعتبارها تشكّل الإبستيمة أو الخلفية المعرفية لعصرنا، أو لأنّها كما ذكرنا تشكّل الهجاس المعرفي الذي يطغى في روايات إيكو. فها هو وكناقدٍ لنقد إيكو، يتبنّى منهجًا حداثيًا بامتياز هو المنهج الثقافي، مبرّرًا ذلك بقوله: “إنّ المنهج الثقافي، سمّي ثقافيًّا لحاكمية الثقافة على سائر مكوّنات الرؤية، وبانتمائه إلى الحداثة القائمة على سلطة العقل العلمي الموصل إلى اليقينية، هو منظار قادرٌ على مراقبة ما يضاد الحداثة (ص 14). وبين الحداثة وما بعدها يلفي الدكتور علي نفسه يسير عكس التاريخ رافضًا أو متأنيًا الخروج من مناخ الحداثة كأنّي به يقول: “مهلًا، لم تستنفد الحداثة كل ما لديها، والعبور منها إلى ما بعدها تجنٍّ عليها، ليس من الإنصاف أن ترمي كل محمولاتها وأن نحاكمها باعتبارها زمنًا استهلك مقولاته، فالعقل الحداثي لا يزال يمتلك سطوته في الرّقابة والتحكيم والتقرير والتعيين والتعيير. ولكن شبه انحياز الدكتور علي للحداثة، أو لنقل قناعته بمكانة العقل الإنساني، ولا تعني الاكتفاء بالحداثة والانغلاق ضمن دائرتها، وهو لا يقبل بتطرّف إيكو الرافض لها بقضّها وقضيضها، لذا يقيم الدكتور علي حوارًا بين منهجٍ حداثي هو المنهج الثقافي ونصٍّ ما بعد حداثي، هذا الحوار يفتح على إمكانيات التأويل اللامتناهية، والتأويل هو العقل في حركيّته الدؤوبة الخلّافة. إذًا يتموضع الدكتور علي بين الحداثة وما بعد الحداثة، محددًا موقعه كناقد للنقّد، متنقلًا بين تنظير إيكو وسرده، مفكّرًا معه، وداعيًا القارئ أيضًا إلى مشاركته قلق التفكير، مستنطقًا النصّ الإيكوي، علّه يجد في عبثيّته وفي زئبقية عالمه المرجعي أرضًا صلبة، أو أن يضبط فوضاه المتمرّدة على إيقاع نغم حداثيّ، ما يزال حاضرًا، وبالرغم من تنكّر إيكو له. باختصار يختار الدكتور علي أن يتجشّم الخوض فوق رمال متحرّكة، منتصرًا للعقل الإنساني، ولحضور الذات ولتأكيد هويّتها في هذا العالم، فهي أي الذّات حتى لو اغبرّت ملامحها للحظة في الزّمن ، وحتى لو ضلّت في عوالم التيه والضياع، فإنّها لا محالة ستجد الهداية في الاستظلال بالحداثة”، وبعقلها العلمي المرتبط بالأخلاق المشرقية، لتبقى متعالية على ما بعد الحداثة” كما يقول (ص 22).

وحرصًا منه على وضوح الرؤية منهجيًّا ومعرفيًّا، وليمسك القارئ بالخيط الناظم الذي ينجدل عبره التنظير بالسّرد، يستهلّ الدكتور علي كتابه، بالجزئية المعنونة بـ “هكذا تكلّم إمبرتو إيكو في مقابلاته”، حيث يبرز الخطوط العريضة للفوارق الأساسية بين فكري الحداثة وما بعد الحداثة من خلال ثلاثة عناوين هي: الحقيقة، التاريخ، والقضايا الكبرى. فوهم امتلاك اليقين الذي ضخّمه العقل العلمي الحداثي، تفكّك وتضاءل ليتحوّل إلى “أفضليات” تسخر من ضخامة المطلق وتفاخره الهش، وتقيم مكانه النسبيّ، فتمتزج الثنائيات الضدّية وتسيل مدلولاتها مخترقة الحدود التي أطّرتها فيما مضى. وميوعة الحقيقة ولايقينيتها تفضيان إلى ضبابية في الصّورة، حيث التيه والريبة والتشكيك والمجهول والغامض، هي مفردات تحلّ مكان الثبات والمطلق واليقين المعيّن والمحدّد والمعلوم، والتشكيك بما هو معيّن ومعلوم يعني انعدام الثقة بآلة العلم والتعيين والحكم وهي العقل، وهنا يبدو إيكو دريديّ التوجّه، نيتشويًا يحمل معول الهدم والتقويض، ويسخر من العقل وحقائقه سخرية مريرة. وأمام اللايقينية الفاغرة فاهها لابتلاع يودي إلى عدمية يرحّب بها إيكو أيّما ترحيب، يفقد التاريخ وثوقية هيغل وحتمية ماركس، فلا مثالية الأوّل ولا مادية الثاني تعطيان شرعية لثيمة التاريخ الكبير. فهذا الأخير ليس سوى إشاعة اندثرت وتقوّضت بعد أن تبيّن تهافتها، ولا جدوى الفكرة التي توجهّها، وهذا يعني انتفاء الغائية والهدفية اللتان تعطيان معنى لسيرورة التاريخ ولتحوّلاته. كما أنّ تبديد السّرديات الكبرى والمقولات المضخّمة، التي التهى بها الفكر الإنساني، منشغلًا بها عن العوالم الصغيرة التي تغرق في بؤس جزئياتها، أتاح للتفاصيل والحيثيات الضئيلة أن تطفو متمرّدة على إقصائها واحتقار المعرفة لها.

ولكن هل نجح إيكو فعلًا وهو المنتشي بلذّة التقويض، المنخطف في لحظات تفكيكه التي تظهره متمردًا ثائرًا، متفلّتًا من أية روابط تأسره إلى عالم بات متهالكًا يسير نحو خواء لا قاع له؟ هل يمكن لفكر ما حتى لو اغتذى من التفكيك، واعتاش على تفتيت أنقاض فكر سابق له، أن يفلت من سلطة العقل؟ من الذي يفكّك؟ ومن الذي يبني؟ فإذا كان العقل الحداثي قد شيّد نفسه على بناءات فكرية أرادها صلدة راسخة، فإنّه العقل ذاته قد انقلب على ذها البناءات مفكّكًا لها، بعد أن استحالت قيودًا تأسر حركيته التي لم ولن تستكين يومًا. وفي الحقيقة فإنّ إيكو هدف إلى خلخلة العقلانيات التي تغلق دائرة العقل على مقولات تحتكر الحقيقة وتصادرها، ولا سيّما عقلانية الحداثة المغالية القائمة على أسطورة العلم بشكل أساسي، ويذكر الدكتور علي ذلك “استندت الحداثة الغربية إلى العقل العلمي سلطة تحدّد الحقيقة…”. فالعقلانية العلمية التي تلفظ كل ما لا يدخل ضمن مركزيتها هي بالتحديد ما أراد إيكو أن يثور عليه. فلغة العلم هي بطبيعتها لغة الكم والقياس والتحديد والمباشرة والظاهر، تعجز عن الإحاقة ببواطن الحياة المخبأة وبأسرارها التي لمّا تكتنه بعد، ما يعد بإمكانية انفتاحها على تأويلات تبرعم إمكانيات العقل وتتيح أمامها فضاءات المعاني التي لا تنضب، لذا يستبدل إيكو لغة العلم العقيمة الفظة، باللغة الشعرية الولّادة الدفّاقة، وهي لغة الفن الحبلى بإمكانات استيلاد رؤى ابتداع منفتحة. وهذا ما أشار إليه الدكتور علي في الجزئية المعنونة “الأثر المفتوح ونقد النقد”، حيث يجعل من اللغة مفتاحًا للعالم المرجعي، خصوصًا أنّه لا وجود لأيّ تفكير خارج اللغة”… ويكمل قائلًا: “تلتقط اللغة العالم في لحظة محدّدة عالمًا منتهيًا، ولكن اللغة نفسها تتكفل بتقديمه قابلية للتغير والتطور، عالمًا غير مكتمل، وغير محدد”… فباللغة يتوسّع الكون، “والإمساك بالتغيّر الدائم الذي يحكم العالم، وبفوضاه لا يكون إلّا باللّغة”، و”سيولة الآلة اللّغوية هي أداة كشف تتبيّن بها سيولة العالم”، واللغة المتمرّدة على محاولات تجميدها، والحبلى بالمعنى الواعد وبإمكانات مستقبليّة، هي الرّحم الذي يتبرعم فيه التأويل. ويغوص كتاب الدكتور علي في المغامرة التأويلية الإيكوية وفي الغنى التأويلي الذي لا نهاية له. يبقى أنّ محاولته الإمساك بالتوثّب التنظيري لدى إمبرتو إيكو، والتشعّب السّردي في رواياته، والذي قارب من خلاله ميادين متنوّعة، هي محاولة اقتحام جريئة للملمة هذا الشتات النظري الكثيف في دراسة واحدة يمسك فيها بأبعاد النصوص النظرية وحيثيات النصوص السّردية على حدّ سواء.

ومع كل هذا السياحات النقدية البارعة بقيت إصبع أحمد جرار، وقبضة عهد التميمي من أهم القرارات التي يحج الدكتور علي إلى ولائم أعراسها المشبعة بأصالته وعراقة ولائه للقضية والطريق.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
المدرسة الإيكويةامبرتو إيكورواية اسم الوردة

المقالات المرتبطة

الفلسفة السياسية لولاية الفقيه 5 –

إنّ الفقهاء لا يتميزون عن الناس في خضوعهم لسياسات الحكومة المنتخبة وينحصر دورهم في استنباط الأحكام، وفي القضاء الصلحي بين الناس، والدعوة إلى الخير…

الحكمة عند الملّا صدرا

يعدّ مفهوم الوجود ومبدأ الحركة الجوهريّة من أبرز المباني والمرتكزات الفلسفيّة التي بنى عليها الملّا صدرا فكره الفلسفيّ.

إسرائيل الجديدة وتلك القديمة

في 12 أيّار 1948، دافع كلارك كليفورد، المستشار الأوّل للبيت الأبيض، عن الاعتراف بدولة إسرائيل أمام المجلس الوزاريّ المنقسم للرئيس هاري ترومان.

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<