التصوف والفن من منظور فلسفة الدين

التصوف والفن من منظور فلسفة الدين

تمهيد

“التصوف” و”الفن” كلاهما من مفردات عالم الوجدان بشكل أساسي، والبحث في العلاقة بينهما من المباحث التي تخوم العلم، ولما كان “الحكم على شيء فرعًا عن تصوره” كما تعلمنا القاعدة الذهبية في علم أصول الفقه، فإننا قد لا نبدو قادرين على إصدار “حكم”، إذ نحن بإزاء ما قد يستحيل “تصوره”، ومن ثم تعريفه تعريفًا جامعًا مانعًا، يعرف ذلك كل من خاض تجربة دراسة أي من الظاهرتين: “التصوف” و”الفن” طامحًا إلى ضبط أي منهما بضوابط المنهج العلمي، فكلاهما تجربة شخصية فردانية تقوم في المقام الأول على الذوق. غير أن استحالة “الحكم” لا تعني الإحجام عن السعي للاستكشاف والاقتراب أملًا في أن تسفر المحاولة عن الاقتراب من الدور الذي يقوم به الفن في “النسق الصوفي” بالنظر إليه من منظور “فلسفة الدين”، الذي يعدّ هو الآخر فرعًا حديث الميلاد من فروع البحث الفلسفي. وبقدر ما تشكل الاعتبارات السالفة قيودًا على حركة الباحث بقدر ما تفتح له آفاقًا واسعة لارتياد أرض بكر وهو العلاقة بين ظاهرتين مركبتين أشد التركيب كلاهما له جذور راسخة في عالم الوجدان.

حول مفهوم التصوف

أول مشكلة تثار بالنسبة للتصوف مشكلة “الاسم”، ومن أين يشتق؟ وهي مشكلة قديمة قدم الظاهرة نفسها(1)، ومشكلة تعريف التصوف التي لا يكاد يخلو مرجع متخصص من آثارها انعكاس لمشكلة “المسمّى”. وفي “المعجم الوسيط”: “الصوفي: العارف بالتصوف، وأشهر الآراء في تسميته أنه سمّي بذلك لأنه يفضل لبس الصوف تقشفًا”، وإذا تجاوزنا المعني اللغوي إلى إشكالية التعريف وجدنا على سبيل المثال مؤرخ الفلسفة المعروف الدكتور عبد الرحمن بدوي يورد في كتابه: “تاريخ التصوف الإسلامي: من البداية حتى نهاية القرن الثاني”، خمسة وعشرين تعريفًا للتصوف من أقوال الصوفية أنفسهم تحت عنوان: “حد التصوف”، ونكتفي هنا بإيراد ما يتصل بالتصوف كتجربة دينية كقول الجنيد: “أن تكون مع الله بلا علاقة”(2). وإثبات المعية مع نفي العلاقة تعبير صارخ عن رفض مفاهيم: الوساطة والاختلاف والمسافة والشعائرية في الاتصال بالإله، وتلك سمات وثيقة بالأديان السماوية.

وينقل بدوي أيضًا قول الجنيد: “التصوف ذكر مع اجتماع، ووجد مع استماع، وعمل مع اتباع”، وقول الشبلي: “الصوفي منقطع عن الخلق متصل بالحق”. ويعلق عبد الرحمن بدوي على هذه التعريفات مقرّرًا أنها تغلب التعبير البلاغي ولا تشير للجانب المعرفي، وهي حسب المستشرق لويس ماسينيون “لا شأن لها بتاريخ معاني اللفظ”(3).

وقد أوردت هذه اللمحة من الجدل حول الاسم والمسمّى لأهميتها لسياق البحث حيث تشير إلى سمة بنيوية نراها وثيقة الصلة بطبيعة التصوف كـ “تجربة دينية” في الاتصال بالإله تحيط بها غلالة من الغموض، وتساق لها تعريفات عديدة، وهي سمة في الأنساق العرفانية القائمة على الذوق والإشراق وانفكاك الجهة بين الأسباب والمقدّمات كما يعرفها “عالم الشهادة” في الإسلام.

وفي سياق سعيه لتعريف التصوف يحدّد بدوي “حقيقة التصوف” بوجود أساسين لجوهره هما:

أولًا: التجربة الباطنة المباشرة للاتصال بين العبد والرب.

ثانيًا: إمكان الاتحاد بين الصوفي وبين الله(4).

والتجربة الصوفية تقتضي القول بملكة خاصة غير “العقل المنطقي” هي التي يتم بها الاتصال، وفيها تتحد “الذات” بـ “الموضوع”، وفيها أيضًا تقوم اللمحات واللمع والإشراقات مقام التصورات والأحكام والقضايا في المنطق العقلي، والمعرفة فيها معاشة “وجدانيًّا”، ويغمر صاحبها شعور عارم بقوى تضطرم فيه وتغمره كفيض من النور، ويصحب هذه الأحوال أحيانًا ظواهر نفسية غير عادية مثل الشعور بوجود “هاتف”، أو رؤى خارقة والإحساس بخبرات ومواجيد. وقد يستعان على استدعاء هذه الأحوال بوسائل صناعية مثل الموسيقى (السماع حسب التعبير الصوفي)، أو الرقص أو تحريك البدن بطريقة منتظمة وبإيقاعات متفاوتة الشدة، ولذا كان للأحوال والمقامات – بالمعنى الاصطلاحي – دور أساسي جدًّا في كل تصوف(5).

أما الأساس الثاني فضروري جدًّا في مفهوم التصوف كتجربة دينية، وإلا كان مجرّد أخلاق دينية، ويقوم في توكيد المطلق أو الوجود الحق، أو الموجود الواحد الأحد، الذي يضم في حضنه كل الموجودات، وفي إمكان الاتصال به اتصالًا متفاوتًا في المراتب وصولًا إلى مرتبة الاتحاد التام بحيث لا يكون إلا “هو”، ومن هنا كان التصوف سلّمًا صاعدًا نهايته الذات العلية وقمة معراجه وذروته “الاتحاد”(6)، ويعد التعريف الذي أورده أحمد النقشبندي الخالدي للتصوف في كتابه “معجم الكلمات الصوفية” الأقرب إلى رسم صورة حقيقية للتصوف كتجربة دينية ظاهرها التواضع والافتقار وباطنها النزوع إلى التأله، فهو يعرف التصوف بأنه: “التخلق بالأخلاق الإلهية”(7).

والطريق إلى استكناه البنية الحقيقية للتصوف لا تمر عبر تفسير ما ورد في تراث التصوف الإسلامي بغرض استجلاء المفهوم، ذلك أنه تجربة دينية سابقة على الإسلام نفسه. وأول ما يتبلور المفهوم الصوفي للاتصال بالخالق نجده في اليونان قديمًا؛ إذ كانت الديانات اليونانية جزءًا من البناء السياسي، فلكل مدينة آلهتها، وآلهة كل مدينة هم بناتها وحماته وتكريمهم واجب وطني، وبين “العابد” و”المعبود” عواطف ثلاث:

–       عرفان الجميل.

–       والمصلحة الخاصة.

–       وخوف العقاب.

وكان الإلحاد في حقهم خيانة للوطن. وفي هذا المناخ ظهرت تيارات دينية كان هدفها تجاوز حدود المدينة إلى العالم عبر دعوة الناس جميعًا وتجاوز البناء السياسي للمدينة عبر دعوة الأرقاء الذين كانوا خارج هذا البناء بشقيه السياسي والديني، والسعي لبناء ما اعتبروه حياة روحية أسمى وأقوى، وهو ما أفرز في النهاية تصور أن بالإمكان إيجاد علاقة بالآلهة غير علاقة العبد بالسيد(8).

وفي هذه البداية تتبلور السمات كافة التي اتسم بها التصوف في مدارسه كافة الدينية والإلحادية، فهو في حقيقته تمرد على “الواسطة” بين العابد والمعبود تسعى لتحطيم قيود المكان والزمان والاختلاف، وصولًا إلى الاتحاد التام بينهما.

وهذه الديانات اليونانية “المتمردة” على سلطان “الدين الوطني” واقتصاره على حدود المدينة سميت “ديانات الأسرار”، وكان أشهرها “إلوسيس”، و”الأورفية”. أما إلوسيس فقامت على أسطورة غامضة وتعاليم ظلّت سرًّا لألف عام، وكان المريدون يمثّلون في احتفالها السنوي الديني قصة ميثولوجية لكي يبعثوا في نفوسهم العواطف التي انفعل بها الإله أو الآلهة، ويتلون عبارات مبهمة ويرقصون على موسيقى صاخبة ليحققوا حالة الجذب والاتحاد بالآلهة. أما الأورفية فتأتي أهميتها الأساسية في البحث من أنها تمثّل “نموذجًا” للاستمرار التاريخي بين ديانات المصريين والتصوف اليوناني، فقد كان من بين صلواتهم تلاوة نصوص من “كتاب الموتى الفرعوني”(9).

وقد كان للموسيقى والرقص مبكرًا جدًّا دور في الطقوس الدينية كعامل مساعد للوصول للنشوة الدينية، فعندما نرنو بأبصارنا بعيدًا عبر الماضي قبل الميلاد بألف عام حيث كانت تسود وقتئذٍ عقائد وثنية متعددة ومتزامنة في وادي النيل وبلاد الرافدين، يبدو من نقوش قدماء المصريين، ونقوش الآشوريين على جدران معابدهم، أن نوعًا من الرقص كان يمارس ضمن الشعائر الدينية المعهودة وقتها يشبه إلى حدٍّ بعيد الرقص الشرقي في عصرنا هذا. وربما مرّ على كثير ممن أطلع على تاريخ تلك الحقب، وصف مؤرخي الإغريق للرقص في منطقة وادي النيل، بأنه حركات اهتزازية تشبه حركات راقصات اليوم. فضلًا عن ممارسة نوعٍ من الرقص في المناسبات والأعياد والشعائر الخاصة كطقس من طقوس العبادة والتقرب(10).

حول مفهوم الفن

وإذا كان “الفن” والتصوف قد ارتبطا عمليًّا من قرون فإن إخضاع هذه العلاقة الارتباطية لمحاولات التفسير يعد حديثًا نسبيًّا، وتعتري تعريف الفن المشكلة نفسها التي تعتري تعريف التصوف فكلاهما قد استعصيا على التعريف بمعناه التقليدي “الجامع المانع”. ولنبدأ بالمعنى المعجمي، ففي “المعجم الوسيط”: نجد عدة تعريفات للفن فهو: “التطبيق العملي للنظريات العلمية بالوسائل التي تحققها، ويكتسب بالمران والدراسة”، و”جملة الوسائل التي يستخدمها الإنسان لإثارة المشاعر والعواطف وبخاصة عاطفة الجمال، كالتصوير والموسيقى والشعر”، و”ومهارة يحكمها الذوق والمواهب”(11).

وقد تتسع دائرة الفن لتشمل كل ما ليس علمًا، أي كل ما استبعده العلم من دائرته، فإذا عرفنا أن باحثًا أمريكيًّا معاصرًا أحصى حوالي مئة فن من الفنون البصرية والسمعية أمكننا أن ندرك إلى أي حد اتسعت دائرة المفهوم حتى العصر الحديث. والكلمة في أصليها اليوناني واللاتيني لم تكن تعني سوى: “النشاط الصناعي النافع بصفة عامة”، غير أن أرسطو ميّز بين “الفن” و”المعارف العملية”(12).

وإذا حاولنا تتبع رحلة العقل الفلسفي اليوناني مع الموسيقى بوصفها أحد أكثر الفنون ارتباطًا بالتصوف كتجربة دينية، وجدنا أن فيثاغورث منشئ “العلم الموسيقي” عند اليونان كان هو نفسه مؤلف فرقة دينية/ فلسفية ذات تعاليم سرية وكان تلاميذه أشد غلوًّا منه في التصوف. وهناك أدلة قوية تبعث على الاعتقاد بأنه سافر إلى مصر وعاد منها إلى اليونان ناقلًا إليها بعض النظريات البسيطة في علم الصوت، ومنها أن الموسيقى البشرية الفانية إن هي إلا أنموذج أرضي للانسجام العلوي بين الأفلاك، أما الفيثاغوريون المتأخرون فاعتقدوا أن السماوات تنبعث منها موسيقى بالفعل. ولم ينفرد الفيثاغوريون بمقولة الأصل السماوي للموسيقى، فقد روى أرسطو في الساعات الأخيرة من حياته حلمًا سجله أفلاطون في محاورة فيدون رأى فيه أرسطو أن الوحي أتاه ليأمره بتأليف الموسيقى؛ ويعني هذا الحلم ضمنًا أن للموسيقى قدرة تفوق العلم على تقريبنا من الحقيقة النهائية، وقد نقل عنه قوله: “بعض الناس يغيبون في حالة تشنج ديني فإذا استخدم هؤلاء من الألحان المقدسة ما يثير في النفوس حالة من الوجد الصوفي فإنهم يبرأون”. وفي الأدب اليوناني إشارات إلى حالات كان الكهنة يجمعون فيها النساء ذوات العقول المضطربة في المعبد للعلاج بالموسيقى، حيث يرقصن على موسيقى صاخبة حتى يسقطن في غيبوبة، وعندما يفقن يكن قد شفين شفاء نهائيًّا أو مؤقتًا. وحسب هيرودوت فإن المصريين كانوا يعتقدون أن لألحانهم الدينية أصلًا مقدّسًا، ولذا كانوا شديدي الحرص على حمايتها من أي تغيير أو مؤثر أجنبي، كما أنه امتدح قدرتهم على خلق ألحان يمكنها قهر الانفعالات الغريزية في الإنسان وتنقية الروح(13).

وفي العصور الوسطى المسيحية بقيت الكلمة تشير إلى الحرفة أو الصناعة، وأصبحت تنطبق على طيف واسع من النشاطات الإنسانية ضمنها: النحو والمنطق، والسحر والتنجيم… وفي معجم لالاند الفلسفي نجد أن البعد الجمالي يصبح أكثر وضوحًا حيث الفن “كل إنتاج للجمال يتحقق في أعمال يقوم بها موجود واع أو متصف بالشعور”، وقد سار الكثير من الكتّاب المحدثين على هذا النهج مؤكّدين البعد الجمالي في الفن على حساب أي اعتبارات عملية، وعليه أيضًا سارت “دائرة المعارف البريطانية”، و”معجم أوكسفورد” وغيرهما. ويرى أصحاب هذه النزعة أنه لا يمكن أن يتولد الفن إلا حينما تدع هموم الحياة ومطالب المعيشة متسعًا من الوقت لظهور “الحلم”(14)، وهذا البعد الوجداني للفن أحد أهم ملامح التشابه البنيوي مع التصوف إذ هو (الفن) تجربة “شبه دينية” شخصية وجدانية تتم خارج نطاق الحواس فلا تقيدها قيود الواقع ولا المنطق.

بل إن الدكتور زكريا إبراهيم يعتبر الفن “قوة روحية” خلّاقة توجد من العدم مخلوقات لا مادية كالموسيقى والشعر، وموجودات مرئية كالنقوش والرسوم، أما تلك المخلوقات التي يبدعونها فهي كائنات عجيبة يجمع بينها كلمة “الفن”(15).

وإذا كان الدكتور عبد الرحمن بدوي قد أشار – كما أسلفنا – إلى ملكة خاصة عند المتصوف تمكنه من ممارسة التجربة الصوفية في السعي للاتحاد بالإله، فإن بعض مدارس علم النفس الحديث ترى ذلك في الفنان، فحسب كارل يونج فإن الفنان ليس مخلوقًا عاديًّا يبدع أعماله عن قصد وتفكير وروية، بل هو مجرد أداة في يد “قوة عليا” لا شعورية(16)، ويتسم مفهوم يونج على مستوى البنية بروح قدرية تعد هي الأخرى ملمحًا من ملامح التشابه بين الفن والتصوف، فالعمل الفني يصنع الفنان وليس العكس، ومن العبث مطالبة الفنان بتفسير عمله وهو أقرب إلى الحلم لا بدّ أن يظل غامضًا ملتبسًا(17).

وعلى يد هنري برجسون وصل مفهوم الفن إلى قمة الصوفية، فالفن في فلسفته “عين ميتافيزيقية”، والفنان قادر عبر الإدراك المباشر على النفاذ إلى “باطن الحياة”، وعين الفنان تملك مقدرة صوفية هائلة على الاتحاد مع موضوعها(18)، وفي النهاية فإن الفن عند برجسون حدس يستولي على الذات العارفة فيجعلها تتطابق مع موضوع معرفتها على نحو شبه صوفي. وفي فلسفة شوبنهاور يصل الأمر إلى نوع من المطابقة بين المتصوف والفنان، فالفنان هو الذات العارفة الخالصة المتحررة من الإرادة وأسر الجسد وعبودية الأهواء، فهو لا يعود يعيش إلا بوصفه مرآة لموضوعه، بعد أن فقد ذاته واستحال ذاتًا عارفة خالصة عارية من الإرادة. وفي نهاية معمار فكرته اعتبر شوبنهاور أن الفن “أداة للمعرفة والعرفان”(19). وتحتل الموسيقى مكانًا خاصًّا في مفهوم شوبنهاور للفن حد أنه يعتبر أن “السيمفونية السديدة قد تكون نسخة ميتافيزيقة كاملة للوجود”(20).

 

الطبيعة التأويلية للفن والتصوف

وقد يكون البعد التأويلي في الفن والتصوف هو الرابطة الأعمق بينهما، فمع تحول الفن بشكل واضح خلال العصور الحديثة إلى الغموض والذاتية والانفلات المتسارع من الأطر كافة: دينية واجتماعية وحضارية ليصبح تعبيرًا فردانيًّا عن مكنون مبدعه تأتي أهمية استحضار مفهوم “الغنوصية” كنموذج تفسيري لهذه العلاقة.

و”الغنوصية” من الكلمة اليونانية “غنوصيص” ومعناها “علم”، أو “معرفة”، أو “حكمة”، أو “عرفان”، وفي التراث العربي الإسلامي تستخدم كلمة “عرفان” عند المتصوفين لتدل على نوع أسمى من المعرفة يلقى في القلب في صورة “كشف” أو “إلهام”، والعرفان “هو العلم بأسرار الحقائق الدينية والخصائص الإلهية”، وهو من وجهة نظر صاحب العرفان أرقى من العلم الذي يحصله عامة المؤمنين البسطاء أو لأهل الظاهر من العلم الديني الذين يعتمدون النظر العقلي، والعرفاني هو من لا يقنع بظاهر الحقيقة الدينية، بل يغوص في باطنها لمعرفة أسرارها. وهي معرفة تقوم على تعميق الحياة الروحية وإحلال “الإرادة” محل “العقل”، فالمعرفة هنا لا تعني اكتساب معارف، بل بذل مجهود متواصل بقصد التطهر والوصول للصيغة الغنوصية اللازمة للاندماج في العالم الإلهي الذي جاء منه الإنسان. وترى الغنوصية أن ثمة جوهرًا واحدًا يجمع كل الديانات، ولذا لا تقدّم نفسها كديانة جديدة، بل كباطن للشريعة القائمة، ومهمتها الكشف عن المغزى العميق للعقيدة التي ينتمي إليها الغنوصي بواسطة معرفة باطنية وكاملة لأمور الدين(21).

ومن ثم فهي شيعة دينية مبدؤها أن العرفان الحق ليس المعرفة بواسطة المعاني المجردة والاستدلال، إنما هو العرفان الحدسي الحاصل من اتحاد العارف بالمعروف وغايتها الوصول إلى عرفان الله. وكانت الغنوصية تعدو على الأديان والمذاهب بالتأويل والتحوير مدعية تحويلها عبر التأويل والتحوير إلى معان أعمق(22)، ومن المصادر المهمة لفكرة التأويل في تاريخ التصوف على نحو خاص الرافد التأويلي لفلاسفة الإسكندرية اليهود الذين كانوا يشرحون التوراة شرحًا رمزيًّا على غرار شرح الفيثاغوريين لقصص الميثولوجيا وعبادات الأسرار(23).

وأيًّا كان القول الفصل في من أثّر، ومن تأثّر بين اليونان واليهود، فإن التأويلية وازدواج المعنى وبخاصة بالنسبة لمعنى نصوص التوراة قد استقر على نحو راسخ في التراث اليهودي بحيث صار هناك تفسيران متمايزان كل التمايز أحدهما ظاهري والآخر باطني، وهي سمة انتقلت من اليهودية إلى الفكر الصوفي الإسلامي منذ زمن بعيد، فلا يكاد مفهوم الحلول والاتحاد عند بعض الصوفية الحلوليين في التاريخ الإسلامي يختلف عن المفهوم المقابل في التصوف اليهودي “القبالاه”، فمفهوم “التوحد بالإله والالتصاق به” يعني: “الحب العميق للإله الذي يؤدي إلى التوحد معه… والالتصاق بالإله لا يعني الخضوع له أو الفناء فيه، بل التوحد به وهو توحد يؤدي إلى معرفة الإنسان سر الإله وطبيعته وكنهه”(24).

وحديثًا يكتسب السؤال عن المفهوم حدّة بالغة فيما يخص النتاج الفني الراهن. فهذه المرتبة تدعو إلى أن يكون في العمل الفني شيء قابل للفهم موضوعيًّا، وإذا لم نرد أن نجعل من الفهم مسألة داخلية للجهة الفاعلة فنحن نحكم عليها بالنسبية. ولكن إذا كان على العمل الفني أن يعبّر عن المغلق على الفهم، فهو يشتت في داخله ما هو مفهوم، حينها تتعرض للانكسار كامل تراتبية الفهم التقليدية، ومن ثم يأخذ مكانها التأمل المكرّس لطبيعة الفن الغامضة(25).

العلاقة من منظور فلسفة الدين

وعند تناول العلاقة بين التصوف والفن كظاهرتين يغلب عليهما الطابع الوجداني ينبغي الانتباه إلى ما يكتنف مفهوم “الدين” في أدبياتها التي تتنازعها تعريفات متباينة للدين تأثرت في نشأتها بالمذاهب الفلسفية الغربية، ذلك أن الراجح عند باحثيها أنها “ليست جزءًا من التعاليم الدينية، ولا ينبغي أن تعالج من وجهة نظر دينية”، وهناك العديد من المفاهيم المتباينة للدين منها ما هو ظاهراتي يحاول عرض ما هو مشترك بين كل الأشكال المعروفة للأديان مثل تعريف قاموس أوكسفورد: “الدين اعتراف بشري بوجود سلطة فوق بشرية مسيطرة هي الإله أو الآلهة المؤهلون لأن يطاعوا ويعبدوا”، وهناك تعريفات سيكولوجية مثل تعريف وليام جيمس: “الدين هو الأحاسيس والأعمال وتجارب البشر في العزلة حينما يعلمون أنهم مرتبطون بالشيء الذي يعتبرونه إلهًا”، وثالث اجتماعي كتعريف تالكوت بارسونز: “الدين هو مجموعة الاعتقادات والممارسات والمؤسسات الاجتماعية التي طورها البشر في مجتمعات مختلفة”(26).

وتأتي أهمية التعريف الدقيق في سياق هذه الدراسة مما أشار إليه الدكتور يوسف كرم من أن البذرة التاريخية للأديان السرية بطبيعتها الغنوصية (الصوفية) نشأت في اليونان طموحًا إلى مفهوم للدين مغاير لما هو سائد، وبحثًا عن علاقة بين العابد والمعبود لا تقوم على علاقة السيد بالعبد. وللأديان بشكل عام خصائص عامة هي:

أولًا: التسليم الأولي أو “الاعتقاد” الذي لا يشترط البرهان.

ثانيًا: وجود مجموعة من المبادئ العليا التي لا يمكن الاستغناء عنها، ومع ذلك فهي غير قابلة للبرهنة.

ثالثًا: الإيمان بموجود لا يمكن إدراكه بالحواس سواء كان هذا الإدراك مباشرًا أو غير مباشر.

رابعًا: الخضوع أو التعبد لقانون أو (و) إرادة ذلك الموجود(27).

وفي الأديان التوحيدية، فإن العلاقة بين الإله والإنسان تقوم على الاتصال والانفصال بينهما، حيث لا يحل الإله في الإنسان ولا في الطبيعة، بينما النظم الدينية الحلولية تعبر عن رغبة في الاتحاد وصولًا للامتزاج ما يعني نفي الثنائية والمسافة(28). ويمثل مفهوم “المجاز” الحل الوسط المركب بين “الحرفية” و”الباطنية”، وهو وسيلتنا لإدراك الإله إذ يربط بين صفات الإله التي تتجاوز حدود الإدراك الإنساني: ﴿لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير﴾ (سورة الأنعام، الآية 103)، وبين بعض الشواهد المادية التي تدركها الأبصار والأسماع، فالمجاز بهذا المعنى رابط بين الإنساني المحدود والإلهي اللامحدود. ورغم محاولة الإنسان إدراك الإله من خلال المجاز فإنه – في الإطار التوحيدي – يعرف أنه لن يدركه في كل جوانبه فهو ﴿ليس كمثله شيء﴾ (سورة الشورى، الآية 11)(29).

ومهما بلغ المجاز من العمق والتركيب والجمال، فإن المسافة تظل واسعة؛ إذ لا يستطيع المؤمن أن يشبه الله بشيء وهو لا يتواصل مع البشر من خلال التجسد أو الكمون أو الحلول أو اختزال المسافات، وهو رغم ذلك يرسل للإنسان رسالة مكتوبة. ولأن الرسالة صادرة عن الله فإن مضمونها أكثر تركيبًا من قدرة الإنسان على الإحاطة. ولأن الإله يريد التواصل مع الإنسان فقد أرسل رسالته بلغة بشرية مفهومة ﴿لسان عربي مبين﴾ (سورة النحل، الآية 103). غير أنه سبحانه وتعالى يقول: ﴿قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا﴾ (سورة الكهف، الآية 109)؛ والآية تؤكد عجز “المادي” عن احتواء “الإلهي”، وقد استخدمت التعبير المجازي كحل لمعضلة التواصل(30).

والمجاز في الآيات القرآنية التي تتحدث عن الله تعبر عن هذه العلاقة المركبة: الاتصال/ الانفصال، التواصل/ التجاوز: ﴿الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء﴾ (سورة النور، الآية 35). والبنية العامة للمجاز هنا هي تقريب الله من العبد من خلال استخدام عناصر من عالم الإنسان المحسوس يتم الربط بينها وبين الله (الله مثل النور)، وتتم عملية الفصل وتأكيد التجاوز وغياب الحلول والكمون على نطاق مركب جدًّا. ويظهر ذلك في تكثيف المجاز حتى لا نرى مركزًا واضحًا، ولا علاقة محددة بين الله والنور، إلى أن نصل إلى الصورة المجازية “نور على نور”، وهي صورة بلا مركز خالية من الحلول والكمون والتجسد، وتعبّر عن المركز المتجاوز. وحين نفقد الإحساس بالمركز فإننا ندرك الإله من خلال تشبيهه بعناصر أرضية على سبيل التقريب للأذهان، إذ يظل إحساسنا به عميقًا، فهو “ليس كمثله شيء”(31).

من ناحية أخرى فإن لفكرة “ختام النبوة” دورًا مركزيًّا في مفهوم من حيث كونه ممارسة عملية، ولمحمد إقبال في ذلك رؤية تعبّر عن بصيرة ثاقبة، فهو يرى في “ختام النبوة” ميلادًا للاستدلال العقلي كقانون للعالم الحديث الذي افتتحته نبوة محمد (ص)، ولهذا أبطل إقبال كل قول بامتداد الوحي عبر نظريات الاتصال المشائية الإسلامية والدوائر الصوفية التابعة لها، وهو لا ينفي بقوله هذا “الرياضات الصوفية”، بل يقطع الصلة بينها وبين المقولات الإشراقية(32).

وهكذا، فإن الفن قد تبادل مع التصوف التأثير والتأثر ليس فقط على مستوى العلاقة التاريخية والاشتراك في البعد الوجداني الواضح فيهما، بل تجاوزت العلاقة ذلك لتصل إلى تشابه بنيوي ملفت من حيث السمات العامة والطموح إلى الإعادة تعريف الأشياء عبر قدرة يتصور المتصوف (والفنان) أنه يملكها وأنه قادر باستخدامها على الإحاطة (أو الخلق من عدم) بناء على “الإرادة”.

 

مصادر الدراسة:

(1)  عبد الرحمن بدوي، تاريخ التصوف الإسلامي: من البداية حتى نهاية القرن الثاني، الكويت: وكالة المطبوعات، الطبعة 2، 1978.

(2)  المعجم الوسيط- مجمع اللغة العربية، مصر، الطبعة 2، 1972، المجلد الأول، الصفحة 549.

(3)  أحمد النقشبندي الخالدي، جامع الأصول في الأولياء، الجزء الثالث: معجم الكلمات الصوفية، تحقيق: أديب نصر الدين، لبنان: دار الانتشار العربي، الطبعة1، 1997.

(4)  يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، السلسلة الفلسفية، مصر: لجنة التأليف والترجمة والنشر، الطبعة6، 1976.

(5)  يحيى هاشم حسن فرغل، حقيقة العلمانية بين الخرافة والتخريب، مصر: الأمانة العامة للجنة العليا للدعوة الإسلامية بالأزهر الشريف، سلسلة قضايا إسلامية معاصرة، د. ت.

(6)  زكريا إبراهيم، مشكلة الفن، سلسلة مشكلات فلسفية، رقم 3، مصر: مكتبة مصر، 1979.

(7)  جوليوس بورتنوي، الفيلسوف وفن الموسيقى، ترجمة: الدكتور فؤاد زكريا، مراجعة: الدكتور حسين فوزي، مصر: وزارة الثقافة، المكتبة العربية، 1974.

(8)  إروين إدمان، الفنون والإنسان: مقدمة موجزة لعلم الجمال، ترجمة: مصطفى الحبيب، مصر، مكتبة مصر، د .ت.

(9)  عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد، مصر: دار الشروق، الطبعة 1، 1999.

(10)  مقال عدنان المبارك، مفهوم الحداثة عند تيودور أدورنو: الحداثة مرة أخري.. التنافر بدل الهارموني، جريدة الزمان اللندنية، العدد 1402 – 10 – 1 – 2003.

(11)  مقال أحمد القطب، الرقص الشرقي من أروقة المعابد إلى شاشات التلفزة، الموقع الإلكتروني لقناة العربية الفضائية على شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت)، 18 أكتوبر 2004.

(12) جون هيك، مقدمة في فلسفة الدين، ترجمة: طارق عسيلي، مجلة المحجة، لبنان، العدد الثامن، شتاء 2004، الصفحة 43.

13  عبد الوهاب المسيري، اللغة والمجاز: بين التوحيد ووحدة الوجود، مصر: دار الشروق، الطبعة 1، 2002.

14 عبد القادر محمود، الفكر الإسلامي والفلسفات المعارضة في القديم والحديث، مصر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة 2، 1986.

 

 

هوامش الدراسة:

(*)  كاتب ومفكر إسلامي، مصر.

(1)  عبد الرحمن بدوي، تاريخ التصوف الإسلامي: من البداية حتى نهاية القرن الثاني، الكويت: وكالة المطبوعات، الطبعة 2، 1978، الصفحة 5 بتصرف.

(2)  المصدر نفسه، الصفحتان 15 – 16 بتصرف.

– المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، مصر، الطبعة2، 1972، المجلد الأول، الصفحة 549.

(3)  تاريخ التصوف الإسلامي: من البداية حتى نهاية القرن الثاني، مصدر سابق، الصفحة 18 بتصرف.

(4)  المصدر نفسه، الصفحة 18.

(5)  المصدر نفسه، الصفحة 19 بتصرف.

(6)  المصدر نفسه، الصفحة 19 بتصرف.

(7)  أحمد النقشبندي الخالدي، جامع الأصول في الأولياء، الجزء الثالث: معجم الكلمات الصوفية، تحقيق أديب نصر الدين، لبنان: دار الانتشار العربي، الطبعة 1، 1997، الصفحة 22.

(8)  يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، السلسلة الفلسفية، مصر: لجنة التأليف والترجمة والنشر، الطبعة6، 1976، الصفحتان 5 – 6 بتصرف.

 (9)  تاريخ الفلسفة اليونانية، مصدر سابق، الصفحتان 6 – 7 بتصرف

(10)  مقال أحمد القطب، الرقص الشرقي من أروقة المعابد إلى شاشات التلفزة، الموقع الإلكتروني لقناة العربية الفضائية على شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت)، 18 أكتوبر 2004.

(11)   المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، مصر، الطبعة 2، 1972، المجلد الثاني، الصفحة 729.

(12)  زكريا إبراهيم، مشكلة الفن، سلسلة مشكلات فلسفية، رقم 3، مصر: مكتبة مصر، 1979، الصفحات 7 – 14 باختصار شديد.

(13)  جوليوس بورتنوي، الفيلسوف وفن الموسيقى، ترجمة: الدكتور فؤاد زكريا، مراجعة الدكتور حسين فوزي، مصر، وزارة الثقافة، المكتبة العربية، 1974، الصفحات 28 – 48.

(14)  مشكلة الفن، مصدر سابق، الصفحة 14.

(15)  المصدر نفسه، الصفحة  29.

(16)  المصدر نفسه، الصفحة  183.

(17)  المصدر نفسه، الصفحة  184.

(18)  المصدر نفسه، الصفحة 187.

(19)  المصدر نفسه، الصفحتان  193 – 194.

(20)  إروين إدمان، الفنون والإنسان: مقدمة موجزة لعلم الجمال، ترجمة: مصطفى الحبيب، مصر: مكتبة مصر، د .ت، الصفحة 116.

(21)  عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد، مصر: دار الشروق،  الطبعة 1، 1999، المجلد الخامس، الصفحة 38.

(22)  يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، مصدر سابق، الصفحة 244.

(23)  المصدر نفسه، الصفحة 284.

(24)  موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد، مصدر سابق، الصفحة 178.

(25)  مقال عدنان المبارك، مفهوم الحداثة عند تيودور أدورنو: الحداثة مرة أخري.. التنافر بدل الهارموني، جريدة الزمان اللندنية – العدد 1402 – 10 – 1 – 2003.

(26)  جون هيك، مقدمة في فلسفة الدين، ترجمة: طارق عسيلي، مجلة المحجة، لبنان، العدد الثامن، شتاء 2004، الصفحة 43.

(27)  يحيى هاشم حسن فرغل، حقيقة العلمانية بين الخرافة والتخريب، مصر: الأمانة العامة للجنة العليا للدعوة الإسلامية بالأزهر الشريف، سلسلة قضايا إسلامية معاصرة، د. ت، الصفحة 55.

(28)  عبد الوهاب المسيري، اللغة والمجاز: بين التوحيد ووحدة الوجود، مصر: دار الشروق، الطبعة1، 2002، الصفحة 165 بتصرف.

(29)  المصدر نفسه، الصفحة 158 بتصرف يسير.

(30)  المصدر نفسه، الصفحة 159 بتصرف يسير.

(31)  المصدر نفسه، الصفحة 159 بتصرف يسير.

(32)  عبد القادر محمود، الفكر الإسلامي والفلسفات المعارضة في القديم والحديث، مصر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة 2، 1986، الصفحتان 373 – 374.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
الفنّالتصوّففلسفة الدين

المقالات المرتبطة

النفس عند أفلاطون (1)

لا تخلو حضارة إنسانية بالحديث عن النفس، وإن اختلفت فيما بينها حول تحديد المعنى منها إلا أنّها تبقى كمسلّمة أساسية لا يمكن إغفالها أو القفز عنها

لا دويلة داخل الدولة

الإشكالية المطروحة اليوم هي أن المقاومة تقيم دويلة داخل الدولة، وما هو دور الثنائي الوطني، أو كما يسميه البعض الثنائي الشيعي؟

بين المنطق وعلم المنطق

يقترن الحديث عن المنطق كعلم من حيث النشأةُ بالحديث عن العصر الإغريقي؛ لما لتلك الحقبةِ الزمنيةِ من عظيمِ الأثرِ في

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<