قول في السفسطة
لطالما أثارت كلمة سفسطة في نفسي سؤالًا عن أصل التسمية ومورد استخدامها، وهذا الأمر حفّز رغبة التقصي لديّ، ومع العمل على هذه الفكرة للنظر إلى أصل القرابة مع الفلسفة، وهذا ما جعلني أذهب باتجاه اللغة للنظر إلى ما تحمله في طياتها من محمولات دلالية، تساعد في الكشف عن المخزون الذي تحتويه.
وعند العودة إلى المعاجم المختصة، أخذ يتضح أنّ هذا اللفظ، لم ينشأ من طفرة حدثت في اللغة اليونانية، إنّما هي من الكلمات التي عَرِفَت الكثير من التحوّلات إلى أن وصلت إلينا بصيغتها النهائية، وعند البحث عن جذور هذا اللفظ، نرى أنها تشتق من كلمة σοφός / Sophos الحكيم، والتي تعني بالأصل الرجل الحذق[1]، حيث أطلق اليونانيون هذه المفردة: “على كلّ الفنون الجميلة بلا تفريق، ابتداءً من الشعر إلى فن النحت والزخرفة. كما … على أنواع مختلفة من الأنشطة البعيدة كلّ البعد عن الشعر، مثل إدارة دفة السفينة والبناء والقيادة والطهو. وليس هذا كلّه مجرد أشكال “للحكمة”، بل هو كذلك أشكال “للبراعة الفنية”[2].
من هنا، تُظهِرُ العودة إلى اللغة اليونانية أنّ كلمة sophist / σοφιστής استُخدِمَت لإبراز المهارة والحرفية بالعمل مهما كان، وعلى هذا الأساس وُصِف الحكماء اليونانيين الأوائل بهذه التسمية، كما تمّ استخدامها كثيرًا للإشارة إلى الشعراء، والموسيقيين والكهان وغيرهم من الخبراء الدينيين والفلاسفة ما قبل سقراط[3]. وهذه الحرفية التي يتمّ الكلام عنها جعلت بعض الباحثين يربطون السفسطائية بالاحتراف. وفي هذا المجال ذهب “جورج كروت” و”ألكساندر غرانت” إلى التأكيد على هذا الدور.
فالسفسطة عند ولادتها كانت وصفًا للإتقان والعمل الذي يؤدي إلى نتائج مجدية بالنسبة إلى القائم بها دون تحديد لنوعية العمل، وهذا يربط بينها وبين المنفعة التي تؤديها، على هذا الأساس قد يكون المتكلم حكيمًا إذا استطاع من خلال كلامه تحقيق الغاية التي يسعى إليها سواء على المستوى الفردي أو السياسيّ أو …
وهكذا تصبح الحكمة المتعلقة بنفعيتها وليس بالمحتوى القيمي. لذلك لم تكن السفسطة مدرسة اعتقادية بالمعنى الأيديولوجي تحمل أفكارًا مشتركة بقدر ما كانت حركة تمتاز بالفردية، وتعمل على تحقيق الغايات عبر نسق من الأفكار، يقوم على إقناع الخصم، وجعله يسير في ركبهم. فأثناء الحديث عنهم، لا يتعدى الكلام عن “مجتمع مهنة”، يرتبط بأجر محدد، يقول غرانت: “استخدمت كلمة σοφιστής بمعنى وسيط للإشارة إلى أي شخص مارس أو أظهر نوعًا من الحكمة أو الذكاء بحكم المهنة؛ وهذا الأمر ينطبق على الفيلسوف والفنان والموسيقي وحتى الشاعر”[4].
ويذهب باحثون آخرون من أمثال “فيرنر جايجر”، و”ويلهلم نستله”، و”جون موريسون” إلى اعتبار السفسطائية وريثة الشعر اليوناني المبكر، حيث تمت الإشارة إلى “هوميروس”، و”هيسيود”، و”سولون”، و”سيمونيدس” بهذا الاسم، وإن كان السفسطائيون انتقلوا من الشعر إلى النثر، إلا أنّ ذلك لا يعود إلى تبدل الموضوع، وإنّما إلى تبدل في الوسائل التي تستخدم لإيصال الفكرة إلى الآخرين، إذ إنّ: “الوظيفة التعليمية أصبحت تتحقق أكثر فأكثر من خلال هذه الأداة”[5].
لم يكن لقب سفسطائي، إذن يحمل أي معنى سيء أو بغيض، وإلّا ما كان: “بروتاجوراس Protagoras وأقرانه من السوفسطائيين قد اختاروا أن يطلقوه على أنفسهم باعتبارهم حكماء القرن الخامس”[6]. فهذه الكلمة كانت بالنسبة لهم تشريفية، تعطي صاحبها قيمة بين الناس: “إذ كان معناها أقرب ما يكون إلى ما نعنيه نحن اليوم من كلمة “أستاذ”؛ فقد كان السوفسطائي رجلًا يكسب عيشه بتعليم الشبان بعض الأشياء التي كان يظن أنّها قد تنفعهم في الحياة العملية”[7]، وهذا الأمر ينطبق على السياسي والتاجر.
فالسفسطة في حقيقتها نظام يقوم على مبدأ النفعية، ولا يمكن فهمها إلا من خلال فهم المجتمع اليوناني، فهي جاءت نتيجة تطور المدينة اليونانية، وانتقالها من مرحلة المدينة اليونانية المنغلقة على ذاتها، والتي تحكم من نخب فكرية، إلى مدينة عالمية، أصبح فيها التوسع الاقتصادي والرفاهية هو الأصل، بالتالي فالأساس الذي يحكم العلاقات الإنسانية ليست القيم إنما تراكم الثورات وتحقيق المنافع، وهذا ما جعل منها قاعدة لفكر الحداثة الغربية، التي عندما استعادت العقل التجربة اليونانية، ثمّرت ما يمكن أن يدغمه في حضارته المستجدة. على هذا الأساس، نرى التشابه بين ما ورد عنهم وفلاسفة العقد الاجتماعي من توماس هوبز، وجون لوك، وجون جاك روسو في ما يتعلق بالأصل الطبيعيّ للمجتمع الإنساني، كما نرى منهجيتهم في المعرفة منعكسة بشكل واضح في تجريبية ديفيد هيوم الذي اعتبر التجربة المصدر الوحيد للمعرفة بمواجهة المدرسة العقلية. بالإضافة إلى التشابه بينها وبين الذرائعية، فكما كان العمليين من فلاسفة السوفسطائية ينكرون الواقع الخارجي، ويعتبرون المعرفة الحقيقية هي من الواقع العملي للإنسان فقط، فإنّ البراغماتية لا يرون حقيقة في ذاتها مستقلة عن الإنسان؛ والحقيقة ما يكون نافعًا في الحياة العملية، حتى أن “فرديناند شيلر” أحد مؤسسي البرغماتية يقول عن نفسه بأنّه تلميذ لبروتاغوراس. دون أن ننسى في هذه العجالة فردريك نيتشه الذي دافع بشكل صلب عنهم، وبرر موقفهم، حين قال: “لقد قام هؤلاء بالتسليم بالحقيقة الأولى وهي أنّ الأخلاق في حدّ ذاتها والجيد في حدّ ذاته ليسا من الأمور الموجودة أساسًا، وهو ما يجعل التحدث عن الحقيقة في إطار هذا السياق نوعًا من الخداع”[8].
[1] Ivan Gobry, le vocabulaire grec de la philosophie. Ellipses, paris. 1974, pp120-121.
[2] س.م.بورا، التجربة اليونانية، ترجمة أحمد سلامة محمد السيد، القاهرة، الهيئة لمصرية العامة للكتاب، 1989، الصفحة 191.
[3] Kerferd, G.B, The first Greek Sophists. Class.Rev.64. 1950, pp 8-10.
[4] Hakan Tell, Plato` S Cunterfeit Sophists. Center For Hellenic Studies. 2011, P24.
[5] Hakan Tell, Plato` S Cunterfeit Sophists. Center For Hellenic Studies. 2011, P25
[6] مصطفى النشار، تاريخ الفلسفة اليونانية / من منظور شرقي، القاهرة، دار قباء، 1999، الجزء 2، الصفحة 34.
[7] برتراند راسل، تاريخ الفلسفة الغربية، ترجمة زكي نجيب محمود، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010، الصفحة 129.
[8]– A Companion to Ancient Philosophy, Edited by: Mary Louise Gill and pierre pellegrin, pp:78.
المقالات المرتبطة
الإسلاميّون بين المشروع الوطنيّ والولاء للأمّة- لبنان نموذجًا
طالما شكلت العلاقة بين الانتماء للوطن، والانتماء للأمة، إشكاليةً بارزةً عند الحركات الإسلامية، تطوّرت في بعض الأماكن وأزمان لتصل إلى حدود الراع
التجليات الأخلاقية في المشهد العاشورائي
التجلي في اللغة هو الوضوح والكشف والظهور، كما جاء في سورة الأعراف، الآية 143 ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾
زينب (ع) سند الأحرار وشافعة أهل الولاء
عجيبٌ ذاك التضاد في سيرتها التي جمعت بين خَفَر بالغ، وتصدٍّ ثوريّ حاكى الدنيا في تحدّياته.. عجيبٌ ذاك الحنوّ الذي ملأ الدنيا حبًّا ورحمة…