by محمد عباس طباجة | سبتمبر 27, 2022 11:12 ص
مقدمة
إنّه عصر التقدم والازدهار.. ولكن أي تقدم يا ترى؟ إنه تقدم “مادّي”، وتراجع “معنوي”.. تقدم تقني، وتراجع أخلاقي. نعم، إن الإنسان رجّح كفة المدنيّة على كفة الثقافة فاختل ميزان حضارته وأودى بها قشرًا دون لب، ومبنًى دون معنى.
فرغم التقدم الهائل الذي حققته الشعوب منذ عصر النهضة إلى يومنا هذا، على مستوى العلم والصناعة، والحصول على أدق الأدوات لمعرفة كل شيء من الذرات إلى المجرات، إلّا أن ذلك أنسى الإنسان معرفة نفسه.. فما كان ذلك إلا مقدّمة لاندلاع حريق اللذات المادية، وإطفاء نور الجنبة الروحية. لينتهي الإنسان ليس إنسانًا لفقد جوهره ومعدن روحه الذي يتميز به.. ألا وهو “الأخلاق”.
إذًا، إن هكذا خطر يلزم العلماء والمصلحين بالنهوض لترميم ما تهدّم من هذه القيم الأخلاقية، وإلا ستتبلور “أزمة الهوية” يومًا بعد آخر فلا يملك الإنسان إنسانيته.. وتندثر الشرائع النبوية، وتغيب التعاليم الإلهية عن الساحة العملية.
ما هي مبادئ الأخلاق؟ ما هو واقع تلك الأصول الذي يبتني عليها علم الأخلاق؟ هل القضايا الأخلاقية خبرية تحكي عن واقع ما، أم أنها محض دعوى وإنشاءات؟ ما هي المذاهب الأخلاقية وأيها الأصح؟ ما علاقة الأخلاق بالدين؟ هل الأخلاق نسبية أم مطلقة؟
كلها أسئلة لا تستوعبها بضع صفحات.. ولكن الحاجة الضرورية للجواب عنها يتطلب ولو الإشارة إليها.
الفصل الأول: في تعريف فلسفة الأخلاق
الخلق في اللغة هو الصفة الثابتة الراسخة؛ أي الملكة. والأخلاق تطلق على مجموع هذه الصفات، فالشخص الوحيد الذي يمكن القول عنه: إنّه يملك خلق الشجاعة، هو الذي تكون هذه الصفة متأصلة وراسخة فيه؛ أي لا يتردد في الإقدام، ولا يصعب عليه ذلك.
ولا بدّ من الإشارة أن كلمة الأخلاق لا تختص بالأخلاق الحسنة فقط، فهي تشمل السيئة منها أيضًا، فيقال: “فلان عنده خلق السخاء”، و “فلان مبتلى بخلق البخل”.
أما في الاصطلاح فيمكن تلخيص الأقوال بأن الأخلاق هي كل الصفات النفسانية التي تعتبر منشأ الأعمال الحسنة، أو غير الحسنة.
هو الباحث عن الصفات الفاضلة والرذيلة التي يمكن أن يكتسبها الإنسان عن طريق الأفعال الاختيارية والإرادية، وهذه الصفات هي موضوع علم الأخلاق.
أما على الشق الآخر، فيرى بعض علماء الغرب أن علم الأخلاق مرتبط بالسلوك لا بالصفات من قبيل قول
فولكيه: “الأخلاق عبارة عن مجموعة قواعد السلوك بمراعاتها يمكن للإنسان أن يبلغ غايته لو عمل بها”(1).
جاكس: “علم الأخلاق هو علم يبحث عن السلوك الإنساني كما ينبغي أن يكون” (2).
هنا نحن مع سؤال “لماذا”، لا سؤال “كيف”.. يبحث في علم الأخلاق عن قضايا من قبيل (الظلم قبيح)، ولكن لا يبحث عن ما معنى الظلم؟ ماذا تفيد هذه القضية، هل تحكي عن واقع أم أنها إنشاء طلب اعتباري؟ ومن قال الظلم قبيح؟ وهل دائمًا هو قبيح، أم المسألة نسبية؟
إذًا، هذه الأسئلة وما شابهها تحتاج الى علم خاص، هو “فلسفة الأخلاق”، أو ربما “ما وراء الأخلاق”.
وبالجملة يمكن القول: إن فلسفة الأخلاق هي: علم يبحث عن المبادئ التصورية والتصديقية لعلم الأخلاق؛ أي عن المفاهيم والتصورات المستعملة في علم الأخلاق، بالإضافة إلى الأحكام التي تتوقف القضايا الأخلاقية على معرفتها.
أما أهمية فلسفة الأخلاق فتكمن بقدرة الإجابة على الإشكاليات والتساؤلات التي تشكل الركن الأساسي لعلم الأخلاق وبدونها لا يوجد مبرر لوجود الأخلاق أساسًا.. فتندثر القيم وتغيب تعاليم الأنبياء والصالحين. وبعبارة أخرى، يكون كل بحث وجهد فكري أو نظري لإثبات أو رد بعض القيم الأخلاقية عبثًا إذا لم تسعفنا فلسفة الأخلاق بالجواب المناسب، وكفى بهذا مشيرًا إلى أهمية هكذا علم.
الفصل الثاني: نظرة عامة على مواضيع فلسفة الأخلاق
قبل القفز إلى الأحكام العملية.. إذا ألقينا نظرة على القضايا الأخلاقية من قبيل: “الصدق حسن”، و”لا تكذب”. أيها الأصل في المقام الأول؟ وبعبارة أخرى، هل إن الصدق واقعًا هو حسن ويترتب على ذلك إنشاء طلب أم لا واقعية للصدق فتنتفي الجملة الخبرية وتثبت الجملة الإنشائية فقط؟
إذًا الإشكالية: هل الأصل في القضايا الأخلاقية، أن تكون ناظرة إلى الواقع، حتى لو صيغت بصورة إنشائية؟ أم العكس هو الصحيح؛ أي إن الأصل فيها أن تكون إنشائية حتى لو كانت بصورة خبرية؟ وبناءً على الاحتمال الثاني، لا يكون لها منشأ سوى إبراز رغبة المتكلم في الأمر والنهي لا أكثر، فلا ربط لها بالكشف عن واقع محدّد.
وجعل هذه القضية من أولى القضايا المقترحة إنما كان لأهميتها فيمكن تصنيف المذاهب الأخلاقية على أساس موقفها من هذه المسألة.
من الإشكالية الأولى يعرج بنا البحث إلى هذا السؤال.. إذا تم اعتبار القضايا الأخلاقية واقعية، هل واقعها عقلي أم فطري، قبلي أم بعدي؟
وإذا تم اعتبارها اعتبارية، فهل كل فرد له حق بإنشاء واعتبار حكم أخلاقي أم ما هي الضابطة؟
“الصدق حسن”، و”الظلم قبيح”.. يمكن تحديد معنى محدد للصدق والظلم، ولكن النقاش يقع ما هو الحسن؟ ومعنى كون الشيء قبيح؟
أو إذا قلنا: “ينبغي مساعدة الفقراء”، ما معنى “ينبغي”؟ أو من يحدد مفهوم الواجب؟
كلها مفاهيم تجعل القضايا الأخلاقية تحت مجهر البحث والتنقيب لفهم الموضوع تارة والمحمول أخرى.
يتردد مصطلح “القيم”، والقيمة” كثيرًا في علم الأخلاق وغيره من العلوم، مثل: قيمة الأفعال الإنسانية في علم الأخلاق وقيمة السلعة في علم الاقتصاد.. ويقال: “علم الأخلاق كعلم الحقوق من العلوم القيمية”.
فما حقيقة القيمة؟ وهل يستعمل بشكل واحد بكافة العلوم؟ ومن يحدد تلك القيمة؟ وعلى أي أساس يعد العمل الأخلاقي ذو القيمة أم لا؟
مفهوم “المسؤولية” من المفاهيم المتداولة في أبحاث فلسفة الأخلاق. إذا أخذنا بإنشائية القضايا الأخلاقية التي تأخذ الجهة التي أصدرت هذا الإنشاء بعين الاعتبار، وألزمت القيام به، فستتمتع المسؤولية بموقع متميز في تلك المنظومة الفكرية. أما مع المذاهب التي تذهب إلى إخبارية القضايا فسيكون للمسؤولية موقع أضعف.
ويبقى السؤال نحن مسؤولون أمام من؟ المسؤولية اتجاه الله؟ اتجاه المجتمع؟ اتجاه الضمير؟
يعد هذا البحث من أكثر الأبحاث إثارة في الساحة العلمية لما يترتب عليه من آثار عملية ونظرية. ويتفرع من القول ببشرية القضايا الأخلاقية القول بإطلاقها لأنها ذات واقع معين، أما القول بكونها إنشائية فيجعلها نسبية متغيرة مع تغير العوامل من الزمان والمكان.
إذًا، هل القضايا الأخلاقية من قبيل “الظلم قبيح” مطلقة؛ أي أنها محكومة لمعايير تقييم ثابتة لا يؤثر عليها الزمان والمكان، أم أنها متحركة وخاضعة للظروف الناتجة عن الزمان والمكان، وآراء الأشخاص، والمجتمعات؟
الفصل الثالث: المذاهب الأخلاقية عرض ونقد
إن كثرة المذاهب الأخلاقية تحول دون البحث عن كل واحدة منها تفصيلًا. ومن هنا، يأخذنا البحث إلى الإشارة الموجزة حول أهم “أصولها الاعتقادية”.
وانسياقًا مع البحث السابق، نعرض المذاهب الأخلاقية على أساس موقفها من إخبارية القضايا الأخلاقية، أو إنشائيتها.
إذًا، سيتم تقسيم المذاهب الأخلاقية إلى نوعين:
النوع الأول: المذاهب التي ترى إنشائية القضايا الأخلاقية أي أنها اعتبارية؛ باعتبار معتبر، ووضع واضع لا تمت لعالم الواقع بصلة، فلا يمكن القول هذه القضية صادقة أو كاذبة بحكم أن مورد الصدق والكذب يقع على الجمل الخبرية.
وهذه الفئة يطلق عليها اسم: “المذاهب غير التوصيفية”.
النوع الثاني: المذاهب التي تعتقد بخبرية القضايا الأخلاقية، وبالتالي يصح الحكم عليها صدقًا أو كذبًا.
ويطلق عليها اسم: “المذاهب التوصيفية”.
أولًا: المذاهب غير التوصيفية:
وهو اتجاه كلامي أساسي في إطار علم الكلام الإسلامي والسنّي منه خاصة. وأن أبرز القضايا التي كان بصدد الجواب عنها. “أفعال الإنسان”، على أي أساس تقسم إلى أفعال حسنة وأخرى قبيحة؟ واستتبع ذلك نقاشات واسعة عرفت باسم “مسألة التحسين والتقبيح”، فذهب البعض إلى التحسين والتقبيح العقليين؛ أي أن العقل هو المعيار في تحديد حسن وقبح الأشياء كما ذهب المعتزلة والإمامية.
أما الأشاعرة فاختارت التحسين والتقبيح الشرعيين، وماذا يعني هذا؟ أنّ الشرع عبارة عن مجموعة أوامر ونواهي اعتبارية. وما يأمرنا به فهو حسن وما ينهانا عنه فهو قبيح، ولا مكان للعقل في الساحة التقييمية. فتم إرجاع حسن الأفعال وقبحها على ما يعتبره الشارع، وهذا جوهر ما تفيدنا به إنشائية القضايا الأخلاقية.
فالنتيجة إذًا، أن الشارع إذا قال: “لا تكذب في المورد الفولاني”، فيكون الكذب قبيح، وإذا قال: “اكذب في المورد الفولاني”، فيصبح الكذب حسنًا، هكذا تم تعرية الأفعال من واقعها وعاد المعيار لاعتبار الشارع.
ويبقى السؤال.. هل يمكن التسليم بأن العقل الإنساني عاجز عن إدراك وتشخيص القبح؟
يعتقد المذهب الانفعالي بأن القضايا الأخلاقية مجرد بيان كاشف عن أحاسيس وعواطف من يطلقها؛ ومن هنا جاءت تسميته بالانفعالي.
ويدين هذا المذهب لديفيد هيوم الذي صرّح في إحدى كتبه: “أن الأخلاقيات ترجع بالنهاية إلى الإحساس الأخلاقي لا إلى العقل وإدراكاته”، فهو صاحب نزعة حسية مفرطة يعتبر القضايا الأخلاقية الحقيقية هي تلك المبرزة للأحاسيس والإنفعالات، لا الحقائق الواقعية.
كما انتهى الوضعيون المنطقيون إلى نفس النتيجة باعتبار أن القضايا التجريبية والقضايا التحليلية هي فقط ذات معنى، والقضايا الأخلاقية لا تخبر عن حقيقة واقعية لأنها لا تضيف شيئًا إلى مضمونها. فعندما أقول لشخص “لقد فعلت قبيحًا بسرقتك للمال”، لا أكون قد قلت شيئًا زائدًا عن “لقد سرقت المال”.
أما النقد فيتمحور حول البحث الإبستمولوجي؛ أي في علم المعرفة، فهل صحيح أن نسلم بحسية مصدر المعرفة؟ ونضع المذهب العقلي برمته جانبًا؟ أو أن من اللازم أن تصدر كل قضية أخلاقية بأحاسيس وانفعالات مسبقة؟
إن الذهن ينسبق عند سماع المذهب الاجتماعي إلى “أميل دوركهايم” Emile Durkheim – العالم الاجتماعي الفرنسي الكبير الذي يعتبر من أبرز مؤسسي المذهب-، الذي يذهب إلى القول إنه لا وجود للأخلاق دون المجتمع، ففي الوحدة لا شيء اسمه “فعل أخلاقي”. وصرح بهذا قائلًا: “ظواهر المعتقدات والأعمال الدينية وقواعد الأخلاق، وعدد لا يحصى من القواعد القانونية. أي هذه الأمور التي تعدّ من أكثر ظواهر الحياة الاجتماعية بروزًا. وظاهر أنّها جميعًا أمور ملزمة، وأن هذا الإلزام هو الدليل على أنّ هذه الأنماط سواء منها ما يتعلق بالعمل أم ما يتعلق بالتفكير، ليست من عمل الفرد، وإنّما هي في جملتها صادرة عن قوة معنوية تفوقه…”(3)؛ بمعنى آخر تبدأ الأخلاق عندما يندمج الفرد في مجتمع، ويرتبط بجماعة كائنة من كانت هذه الجماعة.
ولكن هذا الأمر لا يجعل من الأفراد يذوبون في المجتمع كالمركبات الكيميائية، فللمجتمع شخصية مستقلة عن الأفراد ما يعد غريبًا للوهلة الأولى. فقال: “يحمل الكل مضمونًا ومعنًى مختلفًا عن المعنى الذي تحمله الأجزاء”(4).
فإن الماء يحمل خصائص أخرى لا توجد في أي من الأوكسيجين والهيدروجين.
ويبقى السؤال مطروحًا خاصة من النزعة الوجودية، لماذا وضع الإنسان في خانة النسيان؟ هل للمجتمع هذه السلطة التي تحدد قدرة وهوية الإنسان؟
وفلسفيًّا، ما هي حقيقة المجتمع إذا نزعنا عنه الأفراد؟ أتبقى التسمية دون الحقيقة؟
ثانيًا: المذاهب التوصيفية
وهي كثيرة سنقتصر على أبرزها:
مؤسسه “أبيقور” أحد فلاسفة اليونان القدماء، الذي يقول: إن اللذة هي غاية الحياة، وهي المحققة للسعادة: “اللذة هي مبدأ الحياة السعيدة وغايتها؛ وذلك لأننا نعتبرها الخير الأول الذي هو ذاتي لنا ويولد معنا، ولأجل هذا الخير الأول على أساسه نختار كل أفعالنا”(5). ولكن يأتي أبيقور بدور للعقل ثانوي عند تعارض اللذات؛ أي في مقام ترجيح لذة على أخرى فيأخذ الزمن والألم وغيره بعين الاعتبار.
أما أنواع اللذة عند أبيقور تنقسم وفق الطبيعي والضروري منها:
– اللذات الطبيعية والضرورية وهي التي تقتضيها طبيعة الإنسان كلذة الطعام والشراب.
– اللذات الطبيعية وغير الضرورية وهي اللذات التي تقتضيها طبيعة الإنسان ولكن يمكن الاستغناء عنها كالأطعمة اللذيذة ولذة الزواج.
– اللذات غير الطبيعية وغير الضرورية وهي ما يجب اجتنابه كلذة الجاه والمقام وغيره.
أما السؤال الذي يمكن أن يتوجه إلى هذا المذهب أنه مع ذكر كل هذه اللذات المادية لماذا لا نرى حديثًا عن اللذات الأخروية، مع أنها أطول زمانًا إذا أخذنا بمعيار أبيقور؟ بالإضافة إلى فقدان معيار أخلاقي للمفاضلة بين اللذات، أو ما الدليل على أن اتباع هذه اللذات يحقق السعادة مع أنه قد يؤدي إلى الانتحار كما في بعض بلدان اليوم؟ فاللذات خاصة المادية منها كماء البحر لا تزيد الشارب إلا عطشًا.
وأهم من تبنّى هذا المذهب الفيلسوفان هما: جرمي بنتام ( 1748-1832م) Jeremy Bentham وجون ستيوارت ميل (1806-1873م) John Stuart Mill.
وخلاصة ما نستفيد منه أنه نسخة معدّلة عن مذهب الأبيقورية، ولكن يقع الفارق أن هذا المذهب يلتفت إلى المنفعة العامة، ولم يقصر نظره على المنفعة الخاصة.
ويرى بنتام أن المنفعة العامة وسيلة للهدف الأساس وهو المنفعة الشخصية، أما جون ستيوارت ميل فيخالفه بجعل المنفعة العامة هدفًا لا وسيلة. “[أنا أعتقد] أن السعادة الحقيقية لا يصل إليها إلّا من يفكر دائمًا في سعادة الآخرين”.
وإذا حللنا المذهب يتضح أنه يعاني من مشاكل الأبيقورية وزيادة. فإذا تعارضت المنفعة العامة مع المنفعة الخاصة أيهما أرجح؟ وإذا رجحنا المنفعة العامة كما ذهب جون ستيوارت مل، فعلى أي أساس؟
أما بنتام فنسأله أنه قد يوجد منفعة عامة، مع عدم وجود نفع شخصي، فهل تنتفي الوسيلة بانتفاء الهدف؟
ويعود هذا المذهب كما هو مشهور إلى الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (1844-1900م) كردة فعل على الأخلاق المسيحية التي تستند إلى المذهب الأخلاقي الرواقي. فأراد نيتشه أن يتحرر من الأخلاق السلبية التي تدعو إلى الخضوع والاستسلام فيغدو الإنسان خمولًا مستعدًا لتحمّل الظلم.
“أنا أدين المسيحية، وأحكم عليها بأقسى حكم أصدره مدّع حتى الآن، وأرى فيه أبشع صور التدمير؛ أذمّها وأعدّها لعنة عظيمة، فهي ليست سوى ذل البشرية الخالدة”(6).
إذًا يرى نيتشه أن “القوة” و “السلطة” أساس الأخلاق الفاضلة بغض النظر عن مصدر نظريته. مثلًا: الإنسان العفيف يصبح عفيفًا من خلال قوته على تحدّي شهواته.كذلك الرياء والكذب نتيجة ضعف، أما الجرأة والصراحة نتيجة القوة.
وأحسن خلاصة ما قاله بنفسه: “ما هو الخير؟ هو الذي ينمّي حس السلطة. ما هو الشر؟ هو ما يولد من الضعف …” (7).
ويمكن أن نقول: بالرغم من أنه كان محقًّا ببعض انتقاداته على المذهب الأخلاقي الذي كان شائعًا في أوروبا آنذاك، ولكن ألا يعدّ أنه ينحى منحى الإفراط بمبدأ القوة والسلطة؟ أمن الضروري للفرار من الظلم والضعف أن تكون صاحب سلطة وقوة وإن كنت ظالمًا؟ وهل كل الأخلاق واقعًا تصدر من القوة الغضبية؟ وهل القوة كانت حلًّا دائمًا كمبدأ أعلى أم أدّت إلى تعارض قوتين وأكثر، فأودت بنا لحروب دامية طاحنة؟
يعد إمانويل كانط (Immanuel Kant) (1724-1804م) الفيلسوف الألماني المعروف مؤسس أهم المذاهب في الأخلاق؛ وهو يعتقد بأن الفعل الموصوف بالحسن، من ناحية أخلاقية لا بدّ من أن يتمتع بثلاث خصائص:
إذًا يعتقد كانط بالتلازم بين القيمة الأخلاقية والدينية، ولا يكفي أن يكون العمل منسجمًا مع القانون.
أما الشرط الأخير الذي يميّز المذهب الكانطي عن غيره فيقول كانط: “لا يمكن اعتبار كثير من الأفعال التي توصف بالحسن حسنة مطلقًا، ومن دون أي قيد أو شرط آخر، فإذا تكن هذه الأفعال مشفوعة بإرادة الخير والنية الصالحة لا يمكن اعتبارها حسنة، بل ربما كانت مضرّة ومدمّرة …”(8).
إذًا كل الخيرات حسنها مقيّد بصدورها عن الرغبة في الخير.
وهذا ينسجم مع المصطلح المتداول في فلسفة الأخلاق بالحسن الفعلي (نفس الفعل)، والحسن الفاعلي (نيّة الفعل)، حيث يطرح سؤال: هل الذي يساعد الفقراء بنية اكتساب الشهرة يستحق المدح أم لا؟ فيتضح الجواب خاصة على مبنى كانط في الأخلاق.
أما ما يمكن أن يقال: إننا نسلم بكون الأفعال اختيارية، (كغيره من المذاهب الأخلاقية)، ولكن يقع الكلام في حقيقة الواجب الأخلاقي عند كانط، حيث يبقى مصطلحًا مبهمًا. فهو مبني على رأي يؤمن به كانط في نظرية المعرفة، وحاصلة تقسيم القضايا إلى طائفتين متباينتين: الأولى تحكي عن الوجود في الخارج، والثانية تتحدث عن الحسن والقبيح. وهذا الفصل قد لا يقبل به البعض خاصة إذا اعتبرنا وجود ترابط بين الأحكام القيمية، وبين القضايا المتعلقة بالواقع.
ومع القبول بإعطاء النية دورًا في تقييم الأفعال، إلًا أنه يبقى السؤال حول طبيعة النوايا التي تضفي على الفعل قيمته، فأي النوايا أكثر قيمة؟ وغيرها من الأسئلة التي قد تتوجه للمذهب الكانطي.
المصادر:
(1) عبدالرحمن بدوي، الأخلاق النظرية، وكالة المطبوعات، الطبعة 2، 1976 م، الصفحة 10.
(2) جاكس، فلسفة الأخلاق (الحكمة العملية)، ترجمة: أبو القاسم بور حسيني، الصفحة 12.
(3) إميل دوركايم، الفلسفة وعلم الاجتماع، ترجمة حسن أنيس، الصفحة 50.
(4) المصدر نفسه، الصفحة 51.
(5) فريدريك كابلستون، تاريخ الفلسفة، الجزء 1، الصفحة 145.
(6) نيتشه، الدجال، ترجمة عبد العلي دستغيب، الصفحة 135.
(7) المصدر نفسه، الصفحتان 26- 27.
(8) كانط، ميتافيزيقا الأخلاق، الصفحة34.
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/15351/ethicsphilosophy-2/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.