عن الحداثة وما بعدها | حوار مع رئيس قسم الأبحاث والدراسات في معهد المعارف الحكمية الدكتور أحمد ماجد

by مصطفى خليفة | أكتوبر 26, 2022 6:13 ص

“إنّ كل نقد يتقدم به الحداثيون لمجتمعنا يجب أن يعامل بحذر شديد ويوضع على محك النقد حتى لو التقط بحق هذا الجانب أو ذاك من جوانب السلبية في واقع مجتمعاتنا، لأن مشكلته في منهجيته الإطلاقية في قراءة السلبيات، وفي منهجيته القاصرة عن رؤية العناصر الإيجابية في قلب ذلك الركام من السلبيات، وأخيرًا في منهجيته التي تتخذ من الحداثة الغربية وعلى الخصوص الأمريكية منها مقياسها للحكم على مجتمعاتنا، وتبني مشروعها التغييري على أساس الاقتداء بها بل والتحول إليها أيضًا”.

بهذه العبارات يعرب المفكر العربي منير شفيق عن موقفه السلبي من الحداثة والدعوة إليها، والحداثة تلك كانت الشغل الشاغل للمفكرين والمثقفين والعلماء في العالمين العربي والإسلامي في القرن العشرين، فتخاصموا بين داعِ لها بالمطلق ورافض لها جذريًّا، ولم يكد هذا التخاصم ينتهي حتى دخلنا على ما يعرف الآن بزمن ما بعد الحداثة.

عن الحداثة وما بعدها وموقف الإسلام منها، نحاور رئيس قسم الدراسات في معهد المعارف الحكمية الدكتور أحمد ماجد.

إذا نظرنا إلى الحداثة الأوروبية سنرى بأن هذه الحداثة التي بدأت ما بين القرنين الثالث عشر والرابع عشر للميلاد من خلال النهضة الأوروبية التي نشأت عن ظروف موضوعية متعددة؛ منها توسع الحركة المدينية في القارة الأوروبية، واكتشاف الطرق البحرية، والتحول بالبنى الاقتصادية من اقتصاد ذو طبيعة إقطاعية إلى اقتصاد متنوع يقوم على موارد متعددة؛ صناعية، تجارية، وزراعية. كل هذه الأمور جاءت لكي تضع العقل الأوروبي أمام واقع جديد، هذا الواقع الجديد افترض بأن يكون هناك تحولات على مستوى الرؤية الكونية والنظرة للعالم، اقتضت جملة من الأمور التي أدت بدورها إلى تحول مركزية الرؤية من الكنيسة والله إلى الإنسان، حيث أصبح الإنسان هو المحور الذي تدور حوله جميع القضايا المتعلقة بالنهوض. وعلى هذا الأساس بُدِءَ بمفهوم العقلانية؛ فجرت العقلانية السياسية مع مكيافللي التي أدت إلى جعل الدولة القومية هي النقطة المركزية التي يجب أن يتبعها كل الفعل السياسي، والعقلانية التاريخية التي نقلت التاريخ من أحداث مقررة سابقًا وتاريخ ذو طبيعة خطية إلى تاريخ يقوم على الإنجاز التاريخي، ويرافق ذلك من جعل التاريخ عبارة عن أحداث تاريخية يمكن قراءتها، والعقلانية العلمية؛ أي تحول النظرة من سيطرة الكنيسة على ماهية العلم وجعل العلم مقبولًا لديها لكي يكون علمًا، إلى مكان آخر يقوم على مبدأ التجريبية وعلاقة الإنسان بالواقع، وإمكانية فهم هذا الواقع الإنساني بشكل كامل. وسنرى أيضًا أن هذه المرحلة أدت إلى انقسام الكنيسة الأم صاحبة المرجعية الوحيدة إلى كنائس متعددة تتصارع فيما بينها، الأمر الذي نتج عنه في أوروبا حربًا سمّيت بحرب المئة عام، وصولًا إلى انقسام الكنيسة إلى كل من الكنيسة الكاثوليكية وكنائس بروتستانتية. هذا فيما خص “العقلانية” والتي رافقها أيضًا مفهومي “الحرية” و”الفردانية”.

كل هذه المفاهيم، أتت لتحول الرؤية من مركزية الله إلى مركزية الإنسان، هذا الكائن الحر الذي يقوم على مبدأ التعاقدية بدل مبدأ التسيير الشامل الذي اعتمدته الكنيسة.

يضع عادةً المهتمون بالحداثة تاريخ عام 1729م. الذي شهد دخول نابليون بونابرت إلى مصر كنقطة بداية، ولكن إذا نظرنا بشكل أعمق إلى الأمر سنلاحظ أن المجتمعات الإسلامية ابتداءً من القرن التاسع عشر بدأت تشهد تحولًا كبيرًا جدًّا وبدأت تتعرض للحملات خاصة مع بروز الدولة القومية في أوروبية ما أدى في نهاية الأمر لتأثر المدينة الإسلامية بالحركة العلمية التي كانت تجري في القارة الأوروبية، وفي هذا المجال إذا نظرنا بشكل تدقيقي سنرى بأنه ابتداءً من القرن الخامس عشر والسادس عشر سقطت الهند – وهي إحدى الحاضرات الإسلامية المركزية – بيد شركة الهند الشرقية التي انتقلت بعد ذلك باتجاه الدولة البريطانية، هذا السقوط للهند أدى إلى تراجع الحضور الإسلامي على المستوى المعرفي، وحلول اللغة الإنجليزية كلغة مركزية للتخاطب بين النخب في شبه القارة الهندية، وإلى تراجع دور المؤسسات التعليمية الإسلامية مما أدى إلى تخلف المجتمعات الإسلامية لحساب الأكثرية الهندوسية.

نعم كانت نقطة الانطلاق باتجاه بدء عملية التحول، وسنلاحظ أنه حتى الدولة العثمانية في ذلك الحين بدأت تشهد تدخل الدول الأوروبية فيما سمي بسياسات القناصل، الذي أدى إلى إنشاء نوع من المحميات الطائفية داخل الدولة العثمانية، والتي هي نفسها كانت قد بدأت قبل القرن الثامن عشر بالذهاب باتجاه المنظومات القانونية الغربية للاستعانة بها داخل السياق الحضاري العثماني، وكان من الملاحظ أن ما يجري هناك هو انبهار بما يحدث في القارة الأوروبية، وميل باتجاه استيراد ما وصلت إليه إلى داخل الحضارة الإسلامية.

نعم، حتى على المستوى المعرفي.

نعم صحيح، أيضًا إذا نظرنا إلى بداية الدولة الصفوية سنلاحظ أن الشاه عباس الصفوي عمل على استقدام عدد من الخبراء الأجانب لتنفيذ مصانع الأسلحة، وكان لديه انبهار شديد بالحضارة الغربية حتى إنه في أحد المرات حمل عملة إسبانية فيها صورة مار الياس وخاطب المحيطين به فقال لهم: انظروا إلى الحضارة الغربية كيف هي تقوم بالامتثال بصورة الإمام علي، وذلك في محاولة لتمهيد الطريق باتجاه الاستعانة بهؤلاء الخبراء الأجانب.

إذن، كان هناك أزمة بدأت بالظهور قبل القرن التاسع عشر، وبدأت تجد استجابات داخل المجتمع الإسلامي لقبول مبدأ دخول الأجانب حتى لتنمية القطاعات العلمية الإسلامية، ولكن هذا ظهر بشكل واضح في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر مع دخول حملة نابليون بونابرت إلى مصر، والتي تبعتها ظاهرة إرسال البعثات العلمية، سواء أكان داخل الهند أو بلاد فارس أو الدولة العثمانية أو مصر، هذه البعثات العلمية التي ذهبت باتجاه الغرب بدأت تستجلب معها الرؤية الحضارية الغربية والفلسفات التي كانت سائدة في الغرب.

فإذا نظرنا إلى رفاعة رافع الطهطاوي، سنرى كيف أنه أعجب بهذه المجتمعات الأوروبية حتى قال بأنه وجد الإسلام في الغرب ولم يجد المسلمين، هذه المقولة تظهر بشكل واضح جدًّا أن الذين ذهبوا باتجاه الغرب قد بهروا بالتجربة الغربية ولذلك أرادوا أن يستجلبوا هذه التجربة على مستوى العالم الإسلامي، وبدأوا بعمليات تقريب بين الإسلام والغرب.

وفي هذا المجال نستطيع أن نرى بشكل واضح جدًّا مقولات رفاعة الطهطاوي إضافة إلى مقولات خير الدين التونسي، الذي وصل ليكون الصدر الأعظم في السلطنة العثمانية عندما بدأ بمقاربة البنية القانونية الغربية، وقال إنها تتشابه بشكل كبير جدًّا مع المنظومة القانونية الإسلامية، وبدأ يتحدث عن التشابه على المستوى القانوني، وهذا سيؤدي بشكل تلقائي إلى تسويغ دخول الحضارة الغربية، ولا نتحدث على المستوى العملي فقط، فما قاله التونسي أو الطهطاوي يذهب للحديث عن الحاجة إلى إعادة إنتاج البنية القانونية الإسلامية بما يتلاءم مع البنية القانونية الغربية. وواحدة من النقاط التي أقدم عليها وسوغها المثقف المسلم، وقام السلطان محمود الثاني بالاشتغال عليها هي “المواطنية”، وهو ما أدى حينها إلى مظاهرات في حلب وفي صفد لأنه ساوى بين المسلمين والأقليات الدينية، كما أدى إلى إحداث الفتن الطائفية عام 1840 وعام 1860 لأنه أظهر هشاشة البنية المجتمعية الإسلامية، والتي كانت تعرضت أصلًا للتفكيك بشكل أولي بسبب سياسة القناصل التي اعتمدت في السلطنة العثمانية.

تصور البعض أن الحداثة الأوروبية هي مجرد رؤية ذات طبيعة اجتماعية؛ أي أنها لا تدخل في النسيج العقلي، وأنها لا تقوم حتى بتحديد الخيارات الأساسية للإنسان، لأنها عندما انطلقت من رؤيتها تصورت أن الحضارة الغربية هي مجرد مقولات ولا يوجد فيها رؤية حاكمة، وهي عبارة عن تجديد في البنى الفكرية دون المساس في الأصل، لكن جمال الدين الأفغاني في البدايات وقبل أن تنتشر تلك الحضارة بدأ يحذر بأن المشكلة مع الحضارة الغربية ليست مشكلة مقولات تتعلق بالتقدم، إنما هي مشكلة تتعلق بالرؤية الكونية التي تقوم عليها هذه الحداثة والتقدم الغربي الذي يقطع مع مرجعية الوحي، ويقيم الاجتماع الإنساني على أساس ثلاثية الأرض والشعب والمؤسسات. أما الآخرون فقصروا رؤيتهم على المبدأ التدبيري، دون التنبه إلى أن وراء هذا الموضوع أفكار كلية تحكم الجزئيات، وبالتالي فكل النتاج مرتبط بشكل أو بآخر بالرؤية الكلية تلك.

لذلك سنرى أنه ابتداءً من ستينات القرن التاسع عشر ستبدأ تظهر مجموعة من المثقفين مثل البستاني وفرح أنطون وشبلي شميل وإسماعيل مظهر وغيرهم، هذه المجموعة كانت واضحة في رؤيتها بأن الحل ليس بالعودة إلى الإسلام كمنظور، بل أتت لتقول بأن المشكلة هي في أصل المنظومة الدينية الإسلامية التي لا يمكن أن تكون نقطة البداية في إعادة بناء المجتمعات الإسلامية، واعتبرت بأننا إذا ما أردنا أن نقوم بنهضة ونحقق الحداثة فلا بدّ أن نتحول باتجاه الضابطة الاجتماعية، وأن عمليات التطور الاجتماعي القائم على حدود الواقع هي الأصل في البناء، وهذا الأمر أدى فيما بعد إلى ظهور الأحزاب العلمانية على تنوعها.

والمثقف، حتى المثقف المسلم، لم ينتبه إلى أمر آخر، بأنه حتى المصطلحات عندما تستخدم لا يمكن أن تؤخذ باعتبارها فارغة المعنى، فهي تحمل منظومة القيم التي انطلقت منها. حتى الإسلامي عندما أراد أن ينشئ رؤية ذهب باتجاه أخذ الخيارات الاصطلاحية الغربية لكي يبني عليها منظورًا خاصًّا به، هذا الأمر أدّى إلى غياب الرؤية حتى عند المسلم لقيام حداثة من داخل السياق الإسلامي.

لا بدّ من التنبه إلى أن نشوء التصورات الإسلامية حول الفعل السياسي لم تكن مبكرة، فنحن لدينا حركة إصلاحية مع جمال الدين الأفغاني، أتت لتقول: إننا بحاجة إلى إعادة الاجتهاد داخل المنظور الإسلامي، ولكن بعد عام 1914، وصولًا إلى عام 1920 بدأ ظهور ما يسمّى بالحراك الإسلامي، وهذا الأمر بلغ ذروته مع إلغاء السلطنة العثمانية، في هذه اللحظة التي ألغيت فيه السلطنة العثمانية بدأت تتكون الرؤية الإسلامية لأننا أصبحنا أمام دولة وطنية، والدولة الوطنية كما أنشئت لم تقم على أسس ذات طبيعة دينية إنما ذات طبيعة ليبرالية، عندما أراد المثقف المسلم أن يعبر عن نفسه، عبّر عن نفسه باعتباره تيار فكري داخل المجتمع الإسلامي كما حال نموذج الإخوان المسلمين، الحركة التي تبنت فكرة الحزب السياسي واعتبرت أن العمل يقتضي وجود أحزاب سياسية لمواجهة الأحزاب الأخرى؛ مما يعني أن هذا الموضوع قد فتح المجال أمام دخول الحداثة إلى الإسلام الحركي مرة ثانية، وهذا الأمر أدّى إلى تصرف أحزاب الحركة الإسلامية الأولى التي أنشئت بنفس المنطق الخاص بالأحزاب الحداثوية، من خلال جعل الخطاب السياسي هو الأصل في بناء المنظور والتعامل، فدخلت في تحالفات عل المستوى السياسي، وجعلت الهدف الأول هو الحضور الجماهيري داخل الحزب السياسي وليس الحضور الاعتقادي في هذا الفعل، مما أدى إلى جعل الشأن السياسي مهيمن على الشأن العقائدي، وكلما تقدمنا بخطاب الإسلام الحركي بشكل عام سنلاحظ أنه إسلام ذو طبيعة حداثوية أكثر مما هو إسلام ينتمي إلى منظور اعتقادي وإيماني، فأتت تلك الحركات كاستجابة لسؤال الحداثة، ورد فعل على سيطرة الانتداب على الدولة الوطنية، ومحاولة إيجاد تيار فكري لمواجهة التيار الليبرالي، لكنها وفي محاولة مواجهة هذا التيار وقعت في نفس شرك الحداثة وصارت جزء منها بشكل أو بآخر.

ما بعد الحداثة جاءت لتقول بأن الحداثة لا تستطيع أن تستمر بهذا الشكل الموجود ونحن بحاجة للانتقال إلى مرحلة أخرى، فإذا كانت الحداثة قد بنيت على مجموعة من المقولات العقلانية والحرية والفردية، هل تخلت ما بعد الحداثة عن هذه الخرافات؟ والسؤال هو هل حقيقة هناك “ما بعد حداثة” حتى داخل المجتمعات الأوروبية؟

ما حدث داخل المجتمعات الأوروبية هو نوع من الاحتجاج حول المركزية الغربية، حاول البعض أن يعبّر عنه بمفهوم “ما بعد الحداثة”، لكن هل تخلى الغرب عن الرؤية التي تؤسس للاجتماع الغربي؟

ما يجري الكلام عنه هنا دائمًا هو الذهاب باتجاه المقولات الثانوية المتمثلة بمجموعة من العبارات منها، العقلانية والقول إنه لا بدّ للغرب أن يتخلص من الأساطير التي يؤسس عليها ومنها “العقل”، ولكن إذا تخلى الغرب عن هذه الأسطورة ما هو الأمر الذي يجب أن ينتمي إليه؟ هذا الأمر لم يكن واضحًا، وهل نحن بحاجة إلى إعادة الحديث عن ما بعد الحداثة للحديث عن الأصول والمرجعيات التي تكونت في هذا الغرب لنقول إنه ما هو الذي يجب أن يتخلى عنه الغرب للدخول إلى ما بعد حداثة واقعية. مع الإشارة إلى أن المشكلة ليست مشكلة في الرؤية والمباني التي يبنى عليها المنظور للعالم، وهي لا زالت مختلفة سواء كانت حداثة أو ما بعد حداثة، مع محاولة دمج الأطراف مع المركز، وأكثر ما يحققه هذا الدمج هو تكوين حداثة جديدة تشارك فيها الأطراف ولكن دون أن يكون لها أي دور في تشكيل الرؤية للعالم، ونكون هنا أمام عملية إدماجية وليس إعادة بناء رؤية جديدة للعالم.

 

Source URL: https://maarefhekmiya.org/15420/islamic-modernism/