by السيد عمار أبو رغيف | نوفمبر 7, 2022 6:33 ص
العقلانية – في ضوء الاستعراض التفصيلي لتاريخ جدل العقول – أخذت هويتها المعاصرة في ظل التطوّرات العميقة التأثير على حياة الغرب الحديثة، وسياقات سيادة النزعة الفردية في مناخ اقتصاد السوق. أقصد من هويتها: أنها تبلورت كاصطلاح في متن الدراسات العلمية والفلسفية في حقل ما عُرف حديثًا بـ “علم الاجتماع”، وعلى وجه التحديد في ضوء الخلافات المنهجية العميقة، التي انساق إليها البحث في فلسفة العلوم الاجتماعية، إبان النصف الثاني من القرن العشرين.. وتجد جذورها عامة في علم الاجتماع الرأسمالي، وأعمقها في سياق التأسيس النظري لعلم الاقتصاد الرأسمالي. وهنا نحاول الإشارة الإجمالية إلى سياق ولادة هذا الاصطلاح:
في نهاية النصف الأول من القرن العشرين، وفي ظلّ تنامي الدراسات الاجتماعية، وتنوع اتجاهات البحث في علم الاجتماع المعاصر، برزت نظرية عُرفت بنظرية الاختيار العقلاني أو “نظرية التبادل” ارتبطت باسم جورج هومانز وبيتر بلاو، وتقرّر هذه النظرية: “أن نشاطات البشر المتبادلة ترمي إلى الحصول على الحد الأقصى من المنفعة، وهي تركز في ذلك على الإجراءات العقلانية التي يتبعها البشر في تقرير أفعالهم”([1][1]).
جذر طرح العقلانية في النماذج الإرشادية لعلم الاجتماع المعاصر ترجع إلى نهاية القرن التاسع عشر عند عالم الاجتماع الإلماني “ماكس فيبر”، خصوصًا في نظرته للأخلاق البروتستانتيه، وما وجد فيها من وجهة نظره من عقلانيةٍ وترشيد وصلتها بالنظام العقلاني “الرأسمالية” والإدارة الرشيدة للإنتاج، وتوظيف رأس المال “البيروقراطية”. وقد كان ماكس فيبر من أشد المتفائلين بعقلانية عصر الحداثة، حيث أضحى العلم والمعرفة العلمية المعيار في فهم الطبيعة واكتشاف قوانينها، واستبعد الخرافة والسحر والعوامل الميتافيزيقية في فهم العالم.
إذا كان من الممكن أن نجد صلة رحم بين عقلانية “ماكس فيبر”، وبين اتجاهات مؤسسي علم الاقتصاد الليبرالي، واليد الخفية لدى “آدم سميث”، فإنه من المتعذر علينا تأويل عقلانية ماكس فيبر في ضوء العقلانية الكلية – إذا جاز التعبير – لعصر التنوير، الذي وسم بأنه “عصر العقل”، ذلك أن المعرفة والعلوم والفلسفة على تنوّع مدارسها المعرفية كانت دعوة إلى التنوير العقلي، وهي تنشد باتجاهاتها العقلية والتجريبية عامّة (المعرفة اليقينية الواثقة)، التي كانت الطابع العام لعصر العقل – هذا إذا استثنينا ريبيه دافيد هيوم – حتى النصف الثاني للقرن التاسع عشر. بينا أضحى من المسلّم بعد ذلك أن أي عقلانية ينشدها العلم والمعرفة الإنسانية – في العرف العام لحكمة الغرب – هي عقلانية احتمالية، تعتمد الترجيح أو التفضيل، جراء تماسك النظرية أو الفرض، إما بالإثبات الاحتمالي، وإما بصموده أمام الأبطال والتكذيب العملي التجريبي.
هناك في أفقٍ آخر تأكيدٌ على “العقلانية” بوصفها الأساس المعرفي لنهضة اليونان وعماد النهضة الحديثة… نجده عند فيلسوف العلم المعاصر “كارل بوبر”. يعتقد بوبر أن العقلانية الكلاسيكية متمثلة بالمذهبين العقلي والتجريبي تدين لها كل منجزات الحضارة الغربية المعاصرة. لكنّه ما برح أن حدد في كتابه “الحياة بأسرها حلول لمشاكل”([2][2]) ما يعنيه بعامة من العقلانية: أكّد بوبر أنه لا يريد من العقلانية مذهب ديكارت أو غيره من أصحاب المذهب العقلي في المعرفة أو الوجود، بل يعني منها أن العقلاني هو من يستعين بالنقد لفهم العالم. وأن يكون على استعداد دائم للتعلم عبر النقد، وأن لا ينشد الحقيقة المطلقة على غرار “العقلانية الكلاسيكية”.
عامة اعترف “بوبر” بعدم إمكانية تعريف العقلانية تعريفًا محدّدًا، ولذا استعان بنقيضها “اللاعقلانية”، التي تعني عنده فيما تعني رفض الفروض التي لا يمكن التحقق منها عقليًّا أو تجريبيًّا. ثم أضاف إليها أنها تعني الدوغمائية، التي تعني بدورها ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة وعدم قبول النقد.
عقلانية بوبر المعرفية يمكن قبولها بوصفها مذهبًا في المعرفة، يخضع للدرس والنقد. ومن ثمَّ نلاحظ على عجلٍ أن الرجل ذهب مع “هيوم” في المضي بالمذهب التجريبي إلى نهايته المنطقية – كما قال رسل بصدد هيوم – فأعاد إنتاج نزعة من الريبية، ذهبت به أبعد من هيوم، ذهبت به إلى لا أدرية في تفسير مصدر العالم ومنبع الوجود. خلافًا لـ “كَنْت”، حيث كانت نقدية عمانوئيل كَنْت – التي مجَّدها بوبر – إنقاذًا للعلم وفلسفته في مطلع نشأة العلم الحديث من ريبية، لا تتلاءم مع تطورات العلم – لا أقل في مرحلته التاريخية إبان القرن الثامن عشر والتاسع عشر – ونمو المعرفة العلمية.
طمح بوبر صوب إقامة مذهب كلي – رغم إصراره على مجانبة المذهبية الكلية – في المعرفة ومناهج العلوم، وتعميم وجهات نظره لتتعدى الإبستمولوجيا، فتشمل العلوم الإنسانية من سياسة واقتصاد، وسائر العلوم الاجتماعية، وتكون العقلانية النقدية معيارًا لهذه العلوم، وهذا يفضي بنا إلى وضع مفهوم العقلانية البوبرية تحت مبضع النقد في إطار العلوم الاجتماعية، على غرار ما تمَّ من مراجعاتٍ نقدية لتعريف العقلانية، لدى مدرسة الاختيار العقلاني “نظرية التبادل” في علم الاجتماع المعاصر.
خضعت نظرية الاختيار العقلاني للنقد في دراسات المتأخرين من رواد علم الاجتماع. سأكتفي هنا بنقل نموذجين متشابهين من النقد، أحدهما لـ “باري هندس” في ضوء تأويل إيان كريب، والآخر لـ “ريمون بودون”.
يقول “إيان كريب”: “وحجتي الثالثة أستعيرها من هندس… وما يُفهم ضمنًا من حجة هندس هنا هو أننا إذا ما أخذنا أساليب التفكير بعين الاعتبار أمكننا أن نرى جميع الأفعال أفعالًا عقلانية بمعنى آخر، ذلك أن أساليب الاستدلال هي التي تعرّف ما هو الفعل العقلاني وغير العقلاني. وما قد يکون عقلانيًّا بأسلوب من أساليب الاستدلال ربّما لا يكون كذلك في أسلوب آخر. وأحد الأمثلة التقليدية على ذلك هو أننا نستطيع أن نتفهم إيمان الأزاندة بالسحر لو عرفنا كيف ينظر هؤلاء إلى العالم”([3][3]).
وفي نفس السياق يأتي نقد “ريمون بودون”، إذ يقول: “ما من تصرف إلا ويرتكز على معتقدات… تجدر الإشارة هنا إلى أنني استخدم كلمة “معتقد” في أوسع معنى لها، ذاك الذي، بحسب اللغة المتداولة، يخوّل المرء أن “يعتقد” بفاعلية طقس سحري محدد “اعتقاده” بالمعادلة: اثنان زائدًا اثنين يساوي أربعة، بذلك يكون لدينا نوع أول من الظاهرات التي تخرج عن صلاحية نظرية الاختيار العقلاني، وهي تلك التي يرتكز فيها تصرف الأشخاص على معتقدات غير مبتذلة.
يمكن التسليم بأن الفاعل الاجتماعي الذي يعتقد بشيء معين يرى أن معتقده مبني على نظرية معينة، وأن اعتناق إحدى النظريات هو عمل عقلاني، لكن عقلانية الفاعل، في هذه الحالة، هي من النوع المعرفي لا الأداتي… نستنتج ممّا تقدم أن ما تصادفه نظرية الاختيار العقلاني من صعوبات مرده إلى حصرها العقلانية بالعقلانية الأداتية”([4][4]).
لا نريد إطالة الوقوف عند “العقلانية” – بحكم حجم هذه الورقة البحثية المحدود – وإلا فالبحث في العقلانية يستوعب دراسات. نقتصر على الإشارة هنا إلى ملاحظتين – ننتقل بعدهما إلى استخلاص قاعدة تعريف يتم في ضوئها درس فكر السيد الشهيد الصدر – أما الملاحظتان فهما:
الملاحظة الأولى: أن مسألة تعريف “العقلانية” أعادت تظهير إشكالية هيوم، لوضوح أن الفعل العقلاني، الذي هو موضوع البحث في علم الاجتماع يرتبط غالبًا بأحكام معيارية، ويصعب التمييز بين الأحكام الواقعية (النظرية)، وبين الأحكام القيمية المعيارية في ثنايا الأفعال ونوايا الفاعلين. ومن ثم حاول ريمون بودون في دراسته سالفة الذكر أن يناقش (وهو خاطئ من وجهة نظرنا) في إمكانية تجاوز >مسألة هيوم<، وأن العبور من المعايير إلى الوقائع أو العكس أمر غير منطقي. فحاول أن يطرح صيغة معتقدًا أنها منطقية ويتجاوز هذه القاعدة التي تُعد أهمّ إنجازات هيوم، وأهمّ مرتكز منهجي للمعرفة الإنسانية.
الملاحظة الثانية: هناك اشتقاق آخر من جذر “العقل” في المتداول بين النصوص المستجدة، وهو توأم “العقلانية”، بل صنوها. أريد منه بالدرجة الأولى إيجاد أساس أخلاقي معقول للحضارة المعاصرة. كما هو الحال في محاولة باتريك فارو في دراسته الموسومة “العقل والحضارة”. وقد ذهب في تسويغ سعيه إلى القول: “فحالة العالم الراهنة، بتناقضاتها الصارخة بين الثراء والآلام تكفي لإثارة الشكوك بأن الحضارة العقلانية جلبت الخير للإنسانية. غير أن المعضلة تكمن في أنه ليس ثمة بديل حقًّا لهذا المشروع، لأن أولئك الذين يمجدون الليبرالية الاقتصادية والسياسية، وأولئك الذين يدينونها يفعلون ذلك باسم تصوّر معين للحضارة العقلانية، والواقع أن هذه المعاينة هي التي جعلت من الملحّ بناء تفكير حول الحاسة الأخلاقية للحضارة ضمن شروط العالم الاجتماعي المعاصر”.
ولا أدري كيف نستطيع بناء تفكير عن حكمة التدبير والأخلاق، ونحن نتكلّم عنها بلغة الحاسة وضمن شروط العالم الاجتماعي المعاصر. إن النهاية المنطقية للتمسّك المستميت بالمذهب التجريبي في حكمة النظر تفضي إلى ريبية معرفية، والنهاية المنطقية للتمسّك بشروط العالم المعاصر تعني الرضوخ لقواعد اللعبة في عصر المنافسة الضارية، وهي في تقديري لا تتعدى الذهاب بمذهب السعادة الأرسطي إلى نهايته المنطقية “البرجماتية”، ثم العالم المجنون بالحروب، وطغيان المصالح وواقعية المنفعة وغريزيتها على أي تدبير عقلي. وأي محاولة تلطيفية لا تجدي نفعًا، ما لم تمس القاعدة الأساسية التي يساق كوكب الأرض على ضوئها وتدار الدنيا على أساسها.
يهمنا في ضوء هذا التقديم الملخص جدًّا أن نخلص إلى:
1 – العقلانية مصطلح ملتبس، يصعب الاتفاق على دلالة محدّدة حوله في ضوء المتداول بين أصحاب الاصطلاح أنفسهم، هذا فضلًا عن صعوبة إيجاد اشتقاق لغوي سليم من أصله “العقل”.
2 – على مختلف دلالات مصطلح “العقلانية” تبقى دلالته في غاية النسبية، لكن هناك مندوحة يمكن الإمساك بها، ونحن نبحث عن قاعدة سليمة لإماطة اللثام عن دور العقل ونقد العقل في فكر السيد الشهيد الصدر.
3 – إذن يمكن الإطلالة على فكر السيد الصدر من الزوايتين النقدية والعقل والمعقول في ممارساته الفكرية، التي تنوعت على حقول مختلفة من المعرفة تجاوزت حدود اختصاصه المحوري (المعرفة الإسلامية) لتدور في المحور الأوسع (المعرفة الإنسانية عامة).
النبوغ والمدرسة التي ترعرع فيها يفسّران لنا نزعته النقدية. ترعرع في مدرسة فتح باب الاجتهاد، حيث تقتضي بناء القناعات الفكرية على أساس رؤية نقدية لاجتهادات السلف، لا على أساس التقليد والمحاكاة. أما نبوغه فقد كان ظاهرة، قلَّما تتكرّر عبر الأجيال. فقد نال رتبة الاجتهاد الفقهي بعمر قياسي في تاريخ الاجتهاد الإمامي، وأنجز أهمّ دراساته وهو لم يكد يبلغ الثلاثين عامًا، وانتهى من آخر إنجازاته الفكرية “الأسس المنطقية للاستقراء” وهو ابن السادسة والثلاثين.
من المؤكّد أن الصدر بدأ رحلته النقدية من العلوم الإسلامية، خصوصًا علم أصول الفقه، الذي يمثل ميدانًا إشكاليًّا مفعمًا بالنقاش الجاد من تعريفه حتى نهاية فصوله. لكن المؤكّد أيضًا أن أول أثر نقدي حرره السيد هو نقد منطقي لنظريات أرسطو، لم يطبع هذا الأثر، ولم يُعرف ماذا كتب السيد وأي اتّجاه ذهب، وهو لا يزال يافعًا. وبغية تنظيم البحث نضع توجّهاته النقدية في إطار تسلسلها التأريخي في عالم طرحها ونشرها:
في “فلسفتنا” وبعده في كتابه “اقتصادنا” كانت حصّة الماركسية من النقد حصة الأسد. ففي فلسفتنا تناول السيد الشهيد المادية الديالكتيكية بالنقد، حيث كانت فلسفتنا دفاعًا عن النظرة الإلهية للوجود. وكانت الماركسية الحاضر القوي في ثقافة الشرق، إبان تلك المرحلة من تاريخ الثقافة في العالم الإسلامي (الخمسينات والستينات من القرن الميلادي المنصرم). ومن ثم فرضت المرحلة التاريخية إيلاء الماركسية هذا الاهتمام النقدي، وهي تشكل تهديدًا عقائديًّا، اكتسح بيوت الفقراء والمضطهدين.
في فلسفتنا: تنوّع البحث على تمهيد عام، تعرض فيه الصدر بالنقد للمعالجتين الرأسمالية الديمقراطية والماركسية، بما أسماه بالمشكلة الاجتماعية. ووقع المتن في ثلاثة أقسام: نظرية المعرفة، النظرة للعالم، الإدراك. وقد أفصح السيد في المقدمة الوجيزة لفلسفتنا عن قاعدته المعرفية واتجاهه وغايته بالقول: “إن العقل بما يملك من معارف ضرورية فوق التجربة هو المقياس الأول في التفكير البشري.. وحتى التجربة التي يزعم التجريبيون أنها المقياس الأول… ولا غنى للنظرية التجريبية عن الرصيد العقلي. وثانيًا – درس قيمة المعرفة البشرية… على أساس المنطق العقلي لا المنطق الديالكتيكي الذي يعجز عن إيجاد قيمة صحيحة للمعرفة”.
كانت نظرية المعرفة في صيغتها الماركسية مركز النقد، دون أن يغفل السيد الصدر استعراضًا تأريخيًّا لنظرية المعرفة، ويقف ناقدًا لأهم حكماء نظرية المعرفة، بدءًا من أفلاطون وديكارت وباركلي وعمانوئيل كَنْت… ثم استفاض في القسم الثاني “النظرة للعالم” بعرضٍ تفصيلي لقوانين الديالكتيك وحركة المادة، وتابع نقدها بشكل تفصيلي، مستهدفًا إثبات عدم قدرة قوانين التناقض، والتراكمات الكمية وتحولاتها النوعية، على تفسير حركة المادة ونظام العالم.
ولم يغادر فلسفتنا إلا وقد أضاف – في الفصل الأخير حينما درس الإدراك البشري – نقدًا تفصيليًّا لنظرية “بافلوف” في تفسير الإدراك البشري على أساس القاعدة المادية وقوانين الديالكتيك المفترضة. وللتنويه هنا: قمتُ بإنجاز دراستين:
الدراسة الأولى: حول نظرية المعرفة عند السيد الشهيد مقارنة بالشهيد مطهري، تحت عنوان “نظرية المعرفة بين مطهري والصدر”.
الدراسة الثانية: حول نظرية الإدراك البشري لا يخلوان من ملاحظات نقدية، وقد أكّدت ما أؤكّده الآن أن السيد الشهيد الصدر الناقد في فلسفتنا كان متبنّيًا لنظرية المعرفة العقلية، دون زيادة أو نقصان. هذا التبنّي الذي تحول لاحقًا عبر النقد في مرحلة تكامل نضج الصدر إلى اختلاف، دون قطيعة تامّة مع مدرسة العقل في الحكمة النظرية عامّة. وذلك عبر دراسته الموسومة “الأسس المنطقية للاستقراء”، إذ استخدم هناك الحجاج العقلي، بأدق معانيه، لنقدٍ في الصميم لمدرسة العقل، وتفسير أرسطو للاستقراء والمعرفة الإنسانية عامّة.
في اقتصادنا: حيث كتبه ومارس بحوثه بعد أكثر من عام على الانتهاء من فلسفتنا، بدا السيد الصدر أكثر نضجًا، وأصلب عودًا على التحليل النقدي الشامل للتفسير الماركسي للتاريخ وللصراع الطبقي. لقد اتسمت نزعته النقدية للديالكتيك التاريخي بروح ٍمنسجمة مع السياق، إذ لم يكتفِ بالنقد العقلي التجريدي، إنّما لامس في نقوده وقائع التاريخ الإنساني وتطوّرات البشرية في عصورها المدوّنة تاريخيًا، كما استوعب في نقده بالأرقام التاريخية تطوّرات المعرفة، لتكون شواهد على نقضه للتفسير المادي الديالكتيكي للتاريخ، الذي يمثل في نهاية المطاف المسوَّغ الفكري للمذهب الاقتصادي الماركسي.
تعرض الشهيد الصدر لنقد الرأسمالية الليبرالية في مقدّمة فلسفتنا لُمامًا، وبشكل تفصيلي في كتاب “اقتصادنا”. وهنا طرح معيارًا أساسيًّا للنقد، وتمييزًا منطقيًّا بين أحكام التدبير ومذاهب الفكر، وبين أحكام الواقع ومدارس المعرفة النظرية. وقد أطلق على هذا التمييز “المذهب – العلم”. ومن ثم يجب منطقيًّا التمييز بين مذاهب الاقتصاد ورؤية المفكرين في هذا الحقل لما ينبغي أن تكون عليه حالة الدورة الاقتصادية من الإنتاج إلى التوزيع وانتهاء بالاستهلاك، وبين قوانين علم الاقتصاد السياسي، بوصفه دراسة وصفية تفسيرية لوقائع حركة السوق، واتجاهات الإنتاج والتبادل وممارسات الوحدات الاقتصادية.
وفي ضوء هذا المعيار اتّجه السيد الشهيد إلى فصل العناصر المعيارية “القيمية” التي تتمثل بما أسماه المذهب الرأسمالي، وبين القوانين الاقتصادية لاقتصاد السوق، نظير قانون الطلب والعرض، وقانون المنفعة الحدية… لقد كان تركيزه في نقد الاقتصاد الرأسمالي، بل الأيديولوجيا الليبرالية عامّة على مفهومها عن الحرية، وخلطها بين الحرية الطبيعية والحرية المجتمعية، ويمكن الرجوع مباشرة إلى نصه رحمه اللّه، حيث قال: “وإذا استطعنا أن نميّز بوضوح بين الحرية الطبيعية والحرية الاجتماعية أمكننا أن ندرك مدى الخطأ في منح الحرية الاجتماعية خصائص الحرية الطبيعية، وفي القول بأن الحرية التي يوفرها المذهب الرأسمالي مقوّم جوهري للإنسانية وعنصر حيوي في كيانها، فإن هذا القول يرتكز على أساس عدم التمييز بين الحرية الطبيعية بوصفها مقوّمًا جوهريًّا للوجود الإنساني، والحرية الاجتماعية بوصفها مسألة اجتماعية يجب أن يدرس مدى كفاءتها لبناء مجتمع سعيد، وانسجامها مع القيم الخلقية التي نؤمن بها”([5][5]).
بدأت فكرة إعادة النظر في الدليل الاستقرائي لدى السيد الشهيد من دراساته لبحوث الحجج والأدلّة في علم أصول الفقه. وعلى وجه التحديد في تحليله للعلم الإجمالي، وتفسيره للأدلة التي تعتمد على جمع القرائن وتراكم الدلالات، كما هو الحال بالأخذ في الخبر المتواتر، والاعتماد على السيرة التأريخية، وفقًا لمنهج تجميع القرائن وغيرها من الأدلّة…
لقد وقف السيد الشهيد طويلًا على التفسير الأرسطي للاستقراء والمبدأ العقلي الأرسطي، الذي يسوغ حجية الاستقراء وعدِّه دليلًا في مصافي الأدلّة البرهانية في نظام أرسطو المنطقي والمعرفي. وقد انقضَّ على مبدأ “الأكثري والدائمي لا يكون اتفاقيًّا”، وتناوله بالنقد التفصيلي، لينتهي به المطاف إلى أن هذا المبدأ، الذي اعتبرته المدرسة الأرسطية مبدأ قبليًّا عقليًّا لتسويغ الاستقراء ما هو إلا نتيجة استقرائية بعدية. ومن ثم يصبح من الاستحالة المنطقية بمكان أن نتكئ على هذا المبدأ في تسويغ الاستقراء، وتبريره منطقيًّا.
ثم عكف على متابعة الاتجاهات التجريبية ناقدًا تراث التجريبية الاستقرائي، بدءًا بدافيد هيوم ونزعته السايكولوجية في تفسير التجربة والدليل الاستقرائي عامة، ومرورًا بـ “جون ستيوارت مل” ومذهب اليقين الاستقرائي عند “مل”، ثم أخيرًا اتجاهات الوضعية المنطقية، وما عُرف بـ “حلقة فيينا” في تفسير الاستقراء على أساس الاحتمال. هذا في القسم الأول من “الأسس المنطقية للاستقراء”، لكن النزعة النقدية، واستخدام مبضع النقد العقلي منطقيًّا وفلسفيًّا لم تغادره، وهو يصوغ في القسم الثاني نظريته في الاحتمال، ويفسّر طريقته في نمو الاحتمال بطريقة استنباطية، وفقًا للقواعد الرياضية للاحتمال، بدءًا ببديهيات برود، ومرورًا بقانون الاحتمال العكسي، وانتهاءً بنظرية برنولي في الأعداد الكبيرة، وما عُرف بقانون “التوزيع في الأعداد الكبيرة”.
بل كان السيد الصدر في صياغته لنظريته في الاحتمال ناقدًا لأهمّ النظريات التجريبية والمنطقية في الاحتمال، وقد أظهر قدرة تثير الدهشة في مطاولة كبار الرياضيين ومناطقة الاحتمال في العصر الحديث. بدءًا من “لابلاس”، ومرورًا بـ “برتراند رسل”، و “جون كينز” وانتهاءً بـ “ريشنباح”. وقد أخضع للنقد التفسير الكلاسيكي الرياضي للاحتمال، وناقش بجد الصعوبات المنطقية التي يعاني منها التفسير المنطقي للاحتمال، ونقد بجد التفسير التكراري للاحتمال، قبل أن يقدم رؤيته، ولم يفته النقد والمقارنة والتقويم وهو يقوم ببناء ومراجعة نظريته.
[6]([1]) النظرية الاجتماعية من پارسونز إلى هابرماس، الصفحة 111.
[7]([2]) راجع: بوبر، الحياة بأسرها حلول لمشاكل، ترجمة بهاء درويش.
[8]([3]) النظرية الاجتماعية من پارسونز إلى هابرماس، مصدر سابق، الصفحتان 123 – 124.
[9]([4]) ريمون بودون، أبحاث في النظرية العامة في العقلانية، ترجمة: جورج سليمان، الصفحة 100.
[10]([5]) محمد باقر الصدر، اقتصادنا (طبعة دار الصدر)، الصفحة 308.
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/15440/fekershahidsadr/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.