الفلسفة وإشكالية نظرية المعرفة
لم تك نظرية المعرفة موضوعًا مستقلًّا في التفكير الفلسفيّ، حيث كانت تنطوي في أقوال الفلاسفة، ولكن مع التحوّلات التي شهدتها المجتمعات الغربية على المستوى المعرفي، أخذ هذا الموضوع يتقدم ليتحول إلى قضية مستقلة، تحتل مركز الصدارة في الدراسات الفلسفية، وهذا يقتضي مراجعة الوقائع ورصد كيفية حصول ذلك الأمر.
يعتبر الفيلسوف جون لوك رائد التفكير الحديث في مشكلة المعرفة، حيث يعتبر كتابه “مقالة في الفهم البشري”، الذي نُشر سنة 1690 باكورة الأعمال التي أثارت هذه القضية، حيث وصف هذه الفيلسوف كما يقول الدكتور “ميد”: “كيف أن مجموعة من أصدقائه كانت لديها عادة التلاقي من أجل مناقشة المسائل الفلسفية. ويبدو أنّ النتائج التي أسفرت عنها هذه الجلسات لم تكن مرضية تمامًا”[1]، وهذا ما حفزه لدراسة هذه المشكلة ووضعها في إطار مستقل، وقد ارتأى أنّه لا بدّ أولًا من النظر في شروط المعرفة وحدودها قبل النظر في طبيعة الوجود.
وإذا راجعنا تاريخ الفلسفة، نرى أنّ جون لوك قضى فترة طويلة في إعداد هذا الكتاب أثناء مقامه في فرنسا إبان منفاه في هولندا – وهذا الكتاب وإن طُبع في الفترة التي أشرنا إليها سابقًا – إلا أنّه كان قد اُنجز عام 1687، وهو يضمّ أربعة أبواب: الأول يتصدى لنقد نظرية الأفكار والمبادئ الفطرية. والثاني عرض الأصول التي تنبع منها أفكارنا، أي تحليل للتجربة الحسية، ورد الأفكار المركبة إلى أبسط عناصرها. وفي الباب الثالث بحث في صلة الفكر باللغة وتأثير الألفاظ في التفكير، وتحليل للفلسفة المدرسية على ضوء هذه العلاقة بين اللغة والفكر، فهي في نهاية الأمر فلسفة ألفاظ وليست معاني ومضامين. وفي الباب الرابع والأخير يعنى لوك بتحديد الإطار العام للمعرفة، وبذلك نجد أنّ نظرية المعرفة تتبلور في هذا الباب الأخير[2]. أي أنّ هذا الكتاب أُفرد العمل فيه من أجل تحديد آليات المعرفة الإنسانية، وحصرها في مصدرين رئيسيين، هما:
أولًا: الإحساس الخارجي: فالحواس تنقل إلى الذهن إدراكات عديدة متميزة تميز الطرائق المتنوعة التي أثرت بها الموضوعات الخارجية عليه. ومن ثم تصل إلينا أفكار الأصفر والأبيض والحار والبارد والصلب واللين والمر والحلو، وهي ما ندعوه صفات حيث تشكل في الذهن الإدراكات. هذه الإدراكات هي معظم الأفكار التي لدينا، وهي تعتمد تمامًا على الحواس، هذه الإدراكات هي الإحساس الخارجيّ.
ثانيًا: الإحساس الباطني: ويتمثل في ذلك النشاط الذي يمارسه الذهن بعملياته التي تدور حول الأفكار التي انتقلت إليه الحواس، من إدراك وتفكير وشك واعتقاد، وينجم عن ذلك بعض انفعالات مثل الرضا والضيق، ونستقبل من هذا النشاط أفكارًا متميزة تُميّز الأفكار التي نستقبلها من الموضوعات الخارجية التي تؤثر على حواسنا. مثل هذه الأفكار لا علاقة لها بالإحساس الخارجي، فهي تنشأ من ثم عن الإحساس الباطني[3].
وعلى الرغم من أنّ موقف “لوك” كان يدخل في إطار الرأي حول موضوع نظرية المعرفة، وهو يوحي أنّ المعرفة ترتبط بالذهن ولا علاقة لها بالميتافيزيقا، إلا أنّه فتح بابًا جديدًا، جذب إليه العديد من المفكرين في ذلك الّذين ربطوا بين الفلسفة والثمار المتأتية منها، والناتجة عن مقدار فعالية أدواتنا المعرفية فيها، كما أنّ هذا الموضوع أخذ يخطف الضوء عن الموضوعات الأساسية التي كانت تثيرها الفلسفة من قبل: “ذلك لأنّ الفلاسفة التأمليين المحدثين لما كانوا يعتقدون أنّ من الواجب الاستقرار على نوع معين من نظرية المعرفة قبل أن تستطيع أن تتحول بطريقة مثمرة إلى بحث المشكلات الخاصة في مجال المنطق والأخلاق والميتافيزيقا وعلم الجمال، لقد وضعوا ما يعرف باسم “الفلسفة النقدية”، التي تركز على النشاط الفلسفيّ حول مشكلة المعرفة”[4].
الواقع الذي استجد وإن فتح بابًا جديدًا إلا أنّه أوجد واقعًا لا يمكن التغافل عنه في تاريخ الفلسفة، فهو أدى إلى جعلها: “مريضة عقليًا. ذلك لأن المفكرين قد أصبحوا منهمكين في المشكلات المتخصصة الدقيقة في ميدان المعرفة إلى حدّ أنّهم أخذوا يفقدون بالتدريج اتصالهم بالمسائل ذات النطاق الأوسع، التي كانت الفلسفة تهتم بها تقليديًّا”[5].
وبهذا أصبحت الفلسفة متعلقة بهذا الموضوع أكثر مما ينبغي، حتى أصبح هجاسًا لها، وبدلًا من: “أن ينظر المفكرون المحدثون إلى العالم النظرة الصريحة الانبساطية التي كان ينظر بها اليوناني إليه، نراهم انطوائيين من الوجهة العقلية، وبينما الفلسفة الكلاسيكية كانت موضوعية، فقد أصبحت الفلسفة في عصرنا هذا ذاتية قبل كلّ شيء”[6]، وهذا الكلام يستدعي النظر إلى الفلسفة بنظرة جديدة، تعيد موضعة نظرية المعرفة فيها، حتى لا تبقى في حالتها الفصامية الراهنة، وحتى نستطيع الخروج من الإشكالية التي أوقعنا بها “لوك”.
[1] هنتر ميد، الفلسفة أنواعها وأشكالها، ترجمة: فؤاد زكريا، القاهرة، دار نهضة مصر، 1975، الصفحة 175
[2] محمد فتحي الشنيطي، مبحث في الفهم البشري، القاهرة، مجلة تراث الإنسانية، الصفحة 437.
[3] محمد فتحي الشنيطي، مبحث في الفهم البشري، مصدر سابق، الصفحة 438.
[4]هنتر ميد، الفلسفة أنواعها وأشكالها، مصدر سابق، الصفحة 176.
[5] المصدر نفسه، المعطيات نفسها.
[6] المصدر نفسه، الصفحة 177.
المقالات المرتبطة
زينب (ع) سند الأحرار وشافعة أهل الولاء
عجيبٌ ذاك التضاد في سيرتها التي جمعت بين خَفَر بالغ، وتصدٍّ ثوريّ حاكى الدنيا في تحدّياته.. عجيبٌ ذاك الحنوّ الذي ملأ الدنيا حبًّا ورحمة…
الشهادة بين مفهومي الموت والحياة
إن الأهداف الإلهية المعنوية التي تقوم على الغيب وإرادة الله عندما يضحي الإنسان في سبيلها، لن يموت الهدف بموت الشخص، بل ستحيا ويحيا الشخص معها، فالهدف لا يقوم بالشخص بل الشخص قائم بالهدف، “إن الدماء التي تسقط بيد الله فإنها تنمو”
نحو هوية متنوعة بنّاءة
اشتدت صراعات الهوية في نهاية القرن الماضي، على وقع تفتت الكيانات متعددة القومية، وتآكل وظائف الدولة، ولم تكن هذه الصراعات