الأوقاف: علاقاتها بالدولة ونظامها الخاص (1)

الأوقاف: علاقاتها بالدولة ونظامها الخاص (1)

مقدمة

تعدّ الأوقاف من أهم المؤسسات الاقتصادية الاجتماعية، التي كرّسها الإسلام في المجتمع الإسلامي؛ لأنها حلّت مشاكل كثيرة، ومكّنت الكثير من المؤسسات من النشوء والاستمرار، لا سيّما عندما كانت الدولة لا تستطيع تلبية احتياجات مجتمعاتها في مجالات العلوم وإعالة العلماء والفقراء والمجاهدين.. وحتى في أحلك الظروف.

وهي اليوم ما زالت حاجة ملحّة في مجتمعاتنا، سواء منها الغنية أو الفقيرة، ففي الأولى لتغطية نشاطات دينية أو اجتماعية لا تغطيها مؤسسات الدولة المختلفة، من تعليمية أو صحية أو اجتماعية، كتيسير العلوم الدينية للغرباء عن البلد، أو للاجئين إليها بطريقة غير رسمية، أو لسائر الفقراء، الذين لا تغطّيهم صناديق الضمان والحماية الاجتماعية.

كما أن حاجة الأوقاف ما زالت وستبقى قائمة، إلى جانب سدّ حاجات مؤسسات التعليم والصحّة والضمان في مواجهة الفقر، للإنفاق على المساجد ودور العبادة والمقامات، وحتى صيانة الأوقاف القديمة، إلى جانب النشاطات الدعوية، ومواجهة الكوارث.

إلى جانب ذلك ترتدي الأوقاف أهمية اقتصادية لجهة حفاظها على الموقوف، ومنعه من التفتّت بعامل الإرث، حيث نجد في بلداننا الكثير من الملكيات التي أصبحت مهملة، فلحقها الخراب والبوار، نتيجة لضآلة الحصص الإرثية، التي يطالها الكثير من التفتيت مع مرّ الزمن، فلا يستفيد منها أصحابها ولا المسلمون، فإذا وقفت تنجو من هذه العوامل، ويحافظ عليها منتجةً، إذا ما كان وقفها على غير محدّد، كأعمال البرّ والإحسان وغير ذلك.

وفيما يأتي سنعمد إلى:

  1. إلقاء نظرة سريعة على الوقف مفهومًا وشروطًا.
  2. معالجة العلاقة الواجب قيامها بين الوقف الدولة.
  3. التنظيم الداخلي الذي نرى أن يخضع له الوقف.

 

الأوقاف

الوقف مصدرًا، أن يخصص إنسان بشكل دائم مالًا له منتجًا أو صالحًا للاستعمال، دون أن يستهلك، للإنفاق على شخص أو أشخاص، أو جهة أو جهات، أو في أعمال البرّ على وجه عامّ.

والوقف ماديًّا، هو الموقوف للجهات المذكورة أعلاه، فهو صدقة جارية على ما نقل عن رسول الله (ص) من أنه قال: “إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلّا من ثلاثة، إلّا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له”[1].

والتخصيص يتمّ بأن يتخلّى من وقف المال عن ملكيته لصالح المستفيدين، الذين عيّنهم. ومن هنا فلا يجوز له الرجوع فيما خصّص لقول أبي عبد الله الصادق (ع): “لا يجوز لمن أعطى الله شيئًا أن يرجع فيه”[2].

والواقف يجب أن يكون أهلًا للتصرّف بماله، بالغًا راشدًا، غير محجور عليه، ولا ممنوع بسبب إفلاس أو ما إليه.

والمال يمكن أن يكون غير منقول، كالأرض الزراعية والبساتين والمساجد والأبنية وما إليها. ويمكن أن يكون منقولًا كأي وسيلة تدرّ مردودًا، كالسيارات والبواخر والطائرات، أو كرؤوس الأموال المستخدمة في التجارة، أو كحقوق المؤلفين وبراءات الاختراع، أو كالشركات والمؤسسات.

أما الموقوف له، فيمكن أن يكون شخصًا، كابن صغير أو كبير، أو عالم أو متعبّد، أو أشخاصًا، كجماعة محدّدة مثل فقراء بلدته أو معاقيها… أو جهة، كطلبة العلم أو اليتامى، أو لجهات متعدّدة من هذه الأصناف، أو كالمنافع العامّة التي يستفيد منها الكافّة، كالطرق والجسور، أو أماكن الضيافة…

شروط الوقف

يشترط في الوقف الإيجاب أو العرض، والقبول والإقباض والتنجيز والدوام.

فالإيجاب تعبير عن إرادة الواقف بجعل العين موقوفة، وبالتعبير الذي يدلّ على ذلك.

والقبول هو القول أو التصرف الكاشف عن النية، من قبل الشخص أو الأشخاص الموقوف عليهم، إذا كانوا محدّدين، أو الحاكم الشرعي، إن لم يكونوا محدّدين، وكانوا ممن له ولاية عليهم. وإن كانوا أجيالًا على الترتيب، فيكفي قبول الجيل الأول.

والإقباض يعني تمكين الموقوف عليه أو عليهم من وضع اليد على الموقوف، فإذا لم يمكّنوا من ذلك، فلا وقف، وتبقى العين في ملك واقفها.

والتنجيز ألّا يكون الوقف معلّقًا على شرط غير أكيد، أما الشرط أكيد الوقوع، فيجوز. كما يجوز إذا ضمّ محتمل الوقوع إلى واقع، كفلان وأولاده الموجودين والذين سيولدون فيما بعد.

الدوام ألا يكون إلى أمد محدّد سلفًا، وإلا فهو يتحوّل إلى حبس أو نحوه.

وهكذا فإن صيغة الوقف لا يجوز أن تقترن يما يدلّ على توقيت الوقف وعدم تأييده.

(وهذا هو رأي محمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة، وخلافًا لرأي المالكية، الذي أخذ به قانون الوقف الذرّي اللبناني، الذي قصره على طبقتين على الأكثر)[3].

الطبيعة القانونية للوقف

يجب التمييز هنا مجدّدًا بين الوقف كفعل (الإيقاف)، وبين الوقف بمعنى المال الموقوف.

فالوقف كفعل هو في نظر بعضهم ليس عقدًا، بل هو نوع من التصرفات الشرعية التي تنقسم إلى تبرعات وإسقاطات فيكون في نظر أبي حنيفة “مجرّد تبرّع” بالريع، وهو غير لازم، فيمكن التراجع عنه، وهو من باب الإعارة[4].

لكن هذه النظرة لا تستقيم لما فيها من تناقض، فهو ليس عقدًا، وهو من باب الإعارة لكن الإعارة (مع تحفظنا على الوصف) هي عقد.

والوقف مختلف عن الإعارة، لأنه لا يرجع مبدئيًّا إلى من وقفه، خلافًا لرأي أبي حنيفة المذكور، الذي خالفه فيه تلاميذه(4). من هنا يرى فريق آخر من الفقهاء أنه عقد، كما جاء في اللمعة الدمشقية[5]، وهو عقد ملزم لجانب واحد[6] unilatéral. وهو عقد تبرع شبيه بعقد الهبة acte de libéralité، لأنه ناقل للملكية، وليس عقد تفضّل acte de bienfaisance[7].

وأهمية هذا النقاش تكمن في كشفه عن الطريقة التي يجب أن يتمّ بها الوقف، هل يتمّ بإيجاب، من جهة، وقبول من جهة أخرى؟ أم يتم دون شرط القبول.

كما تكمن أهمية هذا النقاش في مفاعيل إرادة الواقف، فإذا كان إيقاعًا، بمعنى أن يقتصر دور الواقف على التخلّي عن الموقوف لصالح الموقوف عليه، فلا يستطيع فرض أيّ شرط. أما إذا عدّ عقدًا، فللواقف الحرية في فرض أي شرط لا يتناقض مع وظيفة الوقف أو النظام العام والأخلاق والآداب العمومية.

ولما كانت الآثار والفقه تدل على إمكانية الشرط من حيث المبدأ، نكون فعليًّا أمام عقد.

ومن الآثار في هذا المجال ما فعله رسول الله (ص)[8] في وقفه، عندما شرط أن يأكل منه أهله، وكذلك ما فعلته الزهراء (ع)[9].

ومنها شرعية شرط الواقف أن يعود إليه الوقف عند الحاجة، كأن يقصّر ماله عن مؤونة سنة[10].

وكذلك شرط الواقف أن يدخل مع الموقوف عليهم أشخاصًا آخرين[11]. أو شرط “الواقف في وقفه أن يباع عند حدوث أمر مثل قلة المنفعة، أو كثرة الخراج والمخارج، أو وقوع اختلاف بين أربابه، أو حصول ضرورة أو حاجة لهم أو غير ذلك[12]، أو كأن يشترط جعل الولاية لأحد الأشخاص أو يشترط عزله[13].

على أنه لا يجوز الشرط إلا إذا اقترن بإنشاء الوقف، لأن بعد الإنشاء تكون يد الواقف قد ارتفعت عن الموقوف[14].

أمّا الوقف بمعنى الشيء الموقوف، فهو مال أو ما يقوّم بمال، منقول أو غير منقول. وإن كان بعضهم لا يجيزه في المنقول، على أساس عدم دوامه، ما لم يكن ملحقًا بغير منقول، كما هو موقف الحنفية، بينما تجيزه المالكية والشافعية[15].

ولكن المال يمكن أن يكون مالًا عامًّا، أو مالًا خاصًّا:

  • – المال العام هو المخصّص للمنفعة العامّة، كالجوامع ومحلات الأوقاف الخيرية المخصّصة للتعليم العام أو للبر والإحسان والمرافق.
  • – المال الخاص، وهو الموقوف الذي لا تنفق الحكومة عليه وتديره[16].

وبناءً على هذا، يمكننا، حسب رأي العلامة السنهوري، أن نميّز في الأوقاف بين صنفين:

  1. صنف يخضع للأفراد، يوقفه شخص ويسلّمه إلى مستحقيه، أو يعيّن له متوليًا يديره، فيحافظ عليه ويصونه ويجبي غلته ويوزعها على مستحقيها، فلا يكون للحكومة السلطة عليه، من حيث المبدأ، وهو ما أسماه بعضهم “الأوقاف المستثناة”، التي تدار مباشرة وباستقلال من قبل متولّيها، بدون مداخلة إدارة الأوقاف، ويعود أمر الإشراف عليها مع الأوقاف الذرية إلى المحاكم الشرعية، التي تبتّ في الدعاوى والخصومات العائدة لهذه الأوقاف وفقًا للقانون[17].
  2. صنف يخضع للحكومة تنفق عليه، ولو من أموال خصّصها الأفراد لهذا الغرض، وتديره[18].

وإذا كان الصنف الأول لا يحتاج في علاقته بالسلطة إلا إلى القانون، المستمدّ من الشريعة الإسلامية على كل حال، والذي يجب تطبيقه، تحت مراقبة الموقوف عليهم، إن كانوا محددين، أو السلطات المحلية الأهلية في الحالة الأخرى، وإلا فتحت مراقبة المحكمة الشرعية التي يتبع لها، علمًا أن هذا الصنف من الأوقاف لا بدّ أن يكون محدودًا أو قليل الأهمية، كالوقف على مزار أو مسجد أو غير ذلك.

لكن الصنف الثاني يطرح مشكلة لجهة استقلاليته أو تبعيته، فهل من الأفضل أن يرتبط بإدارة عامة، وزارة من الوزارات، فيكون مسؤوله الأعلى وزيرًا يرئس موظفيه، أم يجب أن يتمتّع باستقلالية إدارية ومالية، وفي أي حدود، ثم كيف تكون العلاقة بين وحداته، أهي علاقة هرمية بحيث تكون القاعدة الأوقاف المختلفة في المناطق، تعلوها هيئة على صعيد الأقضية والمحافظات ثم هيئة على الصعيد الوطني، أم علاقة مصفوفية، بحيث تقوم كل إلى جانب الأخرى وتخضع للسلطة العليا؟

خضوع الوقف لإدارة حكومية

عرف الوقف في حياة الرسول (ص)، وكانت إدارته بسيطة لمحدوديته في ذلك الزمن، ولكن الأوقاف تطوّرت وأصبحت بحاجة إلى إدارة خاصّة، فأخضعت في العصر الأموي لإشراف السلطة القضائية مباشرة، بالاستقلال عن الحكم. وكان أول تنظيم وضع ذلك الذي وضعه قاضي مصر زمن حكم هشام بن عبد الملك الأموي، فقد أنشأ ديوانًا مستقلًّا جعله تحت إشرافه، ومنذ ذلك الحين، أصبحت الأوقاف تابعة للقضاء[19].

وفي العصر العباسي أخضعت الأوقاف لما سمّي “صدر الوقف”.

وفي الدولة الفاطمية وضعت الأوقاف تحت سلطة القضاء، وأنشئت مؤسّسة خاصّة سمّيت “بيت مال الأوقاف”[20].

وفي عصر المماليك أنشأت دواوين لإدارة الأوقاف منها:

  • – ديوان الأحباس والمساجد.
  • – ديوان أحباس الحرمين الشريفين وجهات البرّ.
  • – ديوان الأوقاف الأهلية.

وفي العصر العثماني، كانت أمور الأوقاف تنظّم بموجب نظام “إدارة الوقف العثماني”، وآخر تعديلاته صدر في 19 جمادي الآخرة عام 1280، بعد أن أنشئت “نظارة الأوقاف العثمانية”، في عهد السلطان عبد العزيز (1860- 1876)[21].

واليوم ترتبط الأوقاف في بعض الدول الإسلامية بالحكومة وتخضع لوزارة الأوقاف، بحيث يكون القرار النهائي للوزير في كل الشؤون المتعلّقة بالوقف، لجهة إدارته والحفاظ عليه وجباية غلته وتوزيعها وغير ذلك. وفي هذه الحالة يخضع كل ما يتعلّق بالوقف للروتين الإداري، من جهة، وللبيروقراطية في التعامل مع أموره، من جهة أخرى.

والروتين يؤدي إلى تكبيل الأيدي وبطء المعاملات، بحيث يمكن أحيانًا أن تفوت المصلحة من القرار المطلوب قبل اتخاذه، وهذه أمور أشبعت درسًا لدى فقهاء القانون، لا سيّما الإداري منه.

أما البيروقراطية، فتبعد المسؤول عن المشاكل اليومية والتفصيلية التي يصطدم بها المرفق، وهذه المشاكل يؤدي تراكمها إلى فشل مؤسّسة الوقف، وفوات جزء هام من أغراض إجرائه.

من جهة أخرى تحتاج إدارة الأوقاف إلى الخبرة الفنية، وحتى المتخصصة أحيانًا، كما لو أوقفت مؤسسة حديثة، من قبيل الشركات أو الحقوق المعنوية أو غير ذلك.

وقد يضاف إلى كل هذا، العوامل السياسية، التي لا يمكن استبعاده، وخاصّة في مجتمعاتنا الإسلامية على نحو عامّ، فيخضع الوقف في توجّهاته وفي العاملين فيه من الموظفين وغيرهم، للأهواء، ويعمل على توظيفه لصالح الفريق السياسيّ الحاكم ضد خصومه، فإذا استبدل هذا الفريق غدًا، تبدأ محاولات جديدة تستهدف صالح الفريق الجديد.

وفي ظلّ هذه الحالاتّ ينتشر الفساد والمحسوبية، وتصبح القيم الدينية، وخاصّة قيم البرّ، آخر ما يفكّر فيه القيّمون على الأوقاف.

تمتّع إدارة الوقف بالاستقلالية

إن أشكال الإدارة المتمتّعة بالاستقلالية، تتراوح بين اللاحصرية الإدارية، والاستقلال الكامل عن السلطة السياسية. ولكن فيما يناسب إدارة الأوقاف. يمكن أن يطرح شكلان من أشكال الإدارة:

  • – اللاحصرية، أو عدم التمركز الإداري.
  • – اللامركزية في الإدارة.

اللاحصرية

في هذا المجال، تقوم اللاحصرية على تفويض موظفين يقومون على المرافق بعضًا من صلاحيات السلطة المركزية، بحيث يستطيعون اتخاذ القرارات النافذة في أمور محددة، على أن يخضعوا في الأمور الهامّة إلى السلطة المركزية نفسها، الوزير أو مجلس الوزراء، حسب الأحوال، إن هذه الصيغة تعتمد عادة على أساس جغرافي، إلا أنه لا مانع من استخدامها في مجال المرافق العامة كمرفق الوقف[22].

غير أنها لا تحل مشكلة الروتين والبيروقراطية، وإن كانت تخفّف منها، لأنها تعفي الإدارة المركزية من معالجة الأمور الثانوية. غير أنه يبقى دون حل:

  • كلّ ما يتعلّق بالأمور الأساسية، التي تبقى من صلاحية السلطة المركزية.
  • ما يتعلق بالخبرة التقنية، التي لن يستطيع حلها الموظفون المولجون بالإشراف على الوقف وإدارته، إلا بشكل جزئي، كما تثبت التجربة.
  • العوامل السياسية، التي تدخل في تعيين الموظفين، إلى جانب دخولها على مستوى الموقف من الوقف بشكل عام.

اللامركزية

في هذه الحالة، تقوم على إدارة مرفق الوقف هيئة تتمتع بالاستقلال الذاتي self-government ، تمتلك صلاحية اتخاذ القرارات باستقلالية، لكن تحت مراقبة “السلطة العليا”، التي يقتصر تدخّلها على القبول أو الرفض، في الأمور الأساسية المتعلّقة بصرف الأموال أو تعيين كبار الموظفين أو غير ذلك مما تحدده القوانين. على أن يخضع أي خلاف بين إدارة الوقف وسلطة المراقبة:

  • – إما إلى القضاء، إذا كان متعلّقًا بنواح قانونية.
  • – وإما إلى السلطة التنفيذية، إذا كان متعلقًا بالسياسة الإدارية للمرفق.

بهذه الطريقة يمكن أن تتلاقى المشاكل التي تطرحها إدارة الوقف من قبل السلطة الإدارية (الحكومة)، لجهة الخبرة الفنية والمرونة في اتخاذ القرارات.

فالخبرة الفنية يسهل توفيرها، عندما تتحرّر الإدارة من الروتين المفرط، بل يذهب بعض فقهاء القانون الإداري إلى إمكانية أن يدير المرفق الفنيون أنفسهم، فيرون: “أن الميزة التقنية (للامركزية) تتمثل في تطوير إدارة المرفق من قبل الجهاز الفني نفسه”[23].

أما المرونة في اتخاذ القرارات، فتتمثّل في عدم تعقيد الجهاز الإداري إلى درجة تخضع كل قراراته إلى عدد كبير من التواقيع، تستهلك أحيانًا الوقت الملائم لتنفيذ القرار.

إن هذه الإدارة، أكثر ملاءمة للديمقراطية، لا سيّما إذا كانت إدارتها تأتي بطريق الانتخاب، وحتى إذا لم تأت بهذه الطريقة، فإنها، في مطلق الأحوال، تجعل المرفق العام أكثر قربًا من الناس، وتجعل التعامل معه أيسر من التعامل مع الوزارات وفروعها”.

أما ميزات هذا النمط من الإدارة فتتمثل في كونه “يوفر قدرًا من الاستقلالية للقيّمين عليها، فتحرّر قراراتهم من الروتين البغيض، الذي يعرقل الإدارات المركزية، كما يسهّل التعامل في الجوانب المالية، بحيث يخفّ عدد الموافقات المسبقة، التي تستنزف الوقت والجهد”[24].

وهنا نعود إلى طرح إشكالية تعيين القيّمين على الإدارة، فالسؤال هو الآتي:

كيف يجب أن تعيّن الهيئة التي تدير الأوقاف؟ هل بالتسمية من قبل الإدارة (الحكومة) أم بالانتخاب؟

فإذا كانت تعيّن من قبل الإدارة، فإننا نعود هنا إلى التسييس والهوى، حتى لو تمّ اختيار الأكفياء، على أنه لا بدّ من الاعتراف بأن المشاكل الأخرى، كالبطء في بتّ الأمور والبيروقراطية وانعدام الخبرة، قد تحلّ؛ لأن الهيئة المستقلة ذاتيًّا، القائمة على الوقف، تكون قريبة من مشاكله، وملمّة بأساليب تنميته، وقادرة على اتخاذ القرار الملائم في الوقت الملائم. وهذا من حيث المبدأ.

أما حلّ الإشكالية السياسية فلا يمكن إلا باعتماد طريقة غير طريقة التعيين من قبل السلطة التنفيذية.

ويمكن أن يطرح هنا طريقة أخرى للتعيين، كالتعيين من قبل السلطة الدينية (إذا كانت السلطة السياسية تسمح بذلك).

في هذه الحالة، يمكن أن يتأمّن أمران: الاستقلالية الفعلية، والإلمام بالجوانب الشرعية.

الاستقلالية

الاستقلالية الذاتية هنا استقلالية أوسع نطاقًا عن السلطة السياسية وأهوائها، وتبقى مسألة الكفاءة التي قد تجد السلطة الدينية لها حلًّا لها، أو لا تجد، وإن كانت ربما أكثر التزامًا من الحكومة في التحرّي عنها.

إلا أن هذه الميزة تضعف عندما تكون السلطة الدينية تابعة للسلطة السياسية، كما هو الحال، وبشكل صارخ، في مصر مثلًا.

وتطرح هنا طريقة الانتخاب حلًّا، فلا تكون الهيئة صنيعة شخص أو جهة معيّنة، لكن من هو الناخب؟ ومن هو المرشح؟

إن الناخب يجب أن يكون من المعنيين بمسألة الوقف، كأصحاب الوقف (الموقوف5 عليهم)، أو المتولّين عليه، مع تفصيلات يمكن متابعتها.

وأما المرشح، فيجب أن يكون من الملمّين بالجوانب الشرعية، وليس من الضروري أن يكون من الملمّين تقنيًّا بإدارة الوقف، لأنه يمكن أن تسدّ هذه الثغرة عن طريق الاستعانة بالكفاءات.

الإلمام بالجانب الشرعي

هل يستطيع الناخبون تحديد الملمّين بالجانب الشرعي؟

هنا لا بدّ من أحد أمرين:

إما أن تتدخّل الهيئة الدينية العليا، لتغربل الترشيحات بحيث لا يبقى إلا المرشحون الأكفياء في هذا المجال.

وإما أن تخصّص نسبة في مجلس الإدارة لعلماء الدين.

سلطة الرقابة

إذا كانت الرقابة (أو الوصاية حسبما يرد في بعض القوانين) ضرورية، فما هي الجهة التي يمكن أن تقوم بها؟

يمكن العودة هنا إلى وزارة أوقاف، لكن ليس على أساس أن يكون الوزير رئيسًا لهيئات الإدارة، أي أن ترتبط به هذه الإدارات ارتباط المرؤوس بالرئيس، بل يقتصر دور هذا الوزير على المراقبة، بحيث ترفع إليه القرارات الرئيسية في مجالات محدّدة، فإما أن يرفض، وإما أن يوافق، دون أن يمتلك حقّ المشاركة في الإدارة، فتبقى قرارات إدارة الوقف على مسؤولية هذه الإدارة، ولا يتحمّل الوزير أي مسؤولية، إلا فيما يعرقله من أعمال ضرورية”.

لكن هنا، ما الضمانة في أن يكون الوزير والمعاونين الذين تعيّنهم السلطة التنفيذية، أهلًا للإشراف على الأوقاف، إن لجهة الإخلاص والخلو من الهوى السياسي، أو ما يشبهه، أو لجهة الإلمام الكافي بالأحكام الشرعية الضرورية لمعالجة شؤون الوقف، ولو بالقدر الذي تتطلبه المراقبة أو الوصاية؟

ولعلّ الأفضل أن تخضع إدارة الأوقاف للسلطة الدينية العليا، لأن هذه السلطة تكون عادة أقلّ تسييسًا وبعدًا عن الهوى، ولا نقول إنها معصومة، إلا أن وضع الأوقاف يكون أفضل مما لو كانت تابعة مباشرة لرقابة السلطة الإدارية.

أما في لبنان، وكما جاء في المادة الأولى من قرار المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى، رقم 8 بتاريخ 7 آذار 1974:

“إن الأوقاف الإسلامية (السنية) بجميع دوائرها تحتفظ بخصائصها وميزاتها الذاتية، وبطابعها الرسمي، وبصفتها مؤسسة من المؤسسات العامة”.

كما جاء في المادة 28 من القانون رقم 72 بتاريخ 9/12/1967، المتعلّق بشؤون الطائفة الشيعية:

م28: المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى يتمتّع بالشخصية المعنوية العامّة.

والسلطة الدينية يجب أن تكون مستقلة، كما جاء في المادة الأولى من قانون تنظيم دوائر الأوقاف الإسلامية (السنية) في لبنان (المرسوم الاشتراعي رقم 8 الصادر بتاريخ 13/1/1955): “المسلمون السنّة مستقلون استقلالًا تامًّا في شؤونهم الدينية وأوقافهم الخيرية، يتولّون تشريع أنظمتها وإدارتها بأنفسهم طبقًا للشريعة الغراء والقوانين والأنظمة المستمدة منها، بوساطة ممثلين من ذوي الكفاءة وأهل الرأي…”.

كما جاء في القانون رقم 72 بتاريخ 9/12/1967.

م1: الطائفة الإسلامية الشيعية مستقلة في شؤونها الدينية وأوقافها ومؤسساتها، ولها ممثلون من أبنائها، يتكلّمون بلسانها ويعملون باسمها، طبقًا لأحكام الشريعة الغراء، ولفقه المذهب الجعفري، في نطاق الفتاوى الصادرة عن مقام المرجع العام للطائفة في العالم.

كما أن رئيس الطائفة (رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى) يعيّن بعيدًا من التدخل الحكومي، فالحكومة لا تملك إلا أن تصادق على انتخابه من قبل الهيئات الشيعية المكلّفة بذلك، إذ تنصّ المادة 23 من القانون المذكور على أنه:

“فور مضيّ ثلاثة أيام من إعلان نتيجة انتخاب الرئيس ونائبيه… تبلغ الحكومة بشخص رئيسها نتيجة الانتخاب، فيصدر مرسوم بتكريس الانتخاب، ويكون لهذا المرسوم الصفة الإعلامية فقط”.

فإذًا تستقلّ الطوائف بإدارة شؤون الأوقاف التابعة لها، لكن أي نوع من الإدارة تمارس على الأوقاف، هل هي الإدارة المباشرة، بحيث يكون الرئيس الأعلى للسلطة الدينية، مفتي الدولة، هو الرئيس التسلسلي لمتولّي الأوقاف، أم أن هذه تستقلّ عنه استقلالًا كاملًا، أو استقلالًا ذاتيًّا؟

في لبنان، ورد النص على أن لمفتي الجمهورية (السني) أن يتخذ القرارات في الأمور الموقفية، إذ نصت المادة 3/د “يمارس مفتي الجمهورية مهامه ويتخذ قراراته في مختلف شؤون المسلمين الدينية والوقفية، وفقًا لقانون تنظيم دوائر الإفتاء والأوقاف الإسلامية والأنظمة المرعية الإجراء، ويستعين في الأمور الهامّة، عند الاقتضاء، بمجلس استشاري…”.

ويقضي القانون بأن يكون مدير الأوقاف من معاوني مفتي الجمهورية ( م24/2 من المرسوم الاشتراعي رقم 18 بتاريخ 13/1/1955).

كما جاء في القانون رقم 72/ 67، حول صلاحيات المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى:

م2/ أولًا: يقوم (المجلس) بشخص رئيسه، وبعد استطلاع رأي الهيئتين الشرعية والتنفيذية، كل منهما فيما يعود إليها، بتنظيم أوقاف الطائفة، ويعمل على إحيائها والعناية بها.

لكن المفتي ليس مستقلًّا في ممارسة السلطة الدينية والوقفية، بل هناك مجلس يمتلك السلطة التقريرية، بحيث يصبح المفتي سلطة تنفيذية، وهذا المجلس هو “المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى”، الذي يرئسه المفتي نفسه. وهذا المجلس يتكوّن حسب نص المادة 42 المعدلة بالقرار رقم 5 بتاريخ 2 آذار 1967، من:

  • ‌أ- رئيس المجلس النيابي ورئيس الوزارة ورؤساء المجالس النيابية ورؤساء الوزارة السابقون من المسلمين السنيين.
  • ‌ب- أعضاء منتخبين عن المحافظات: بيروت 8، محافظة الشمال 8، محافظة الجنوب 4، محافظة جبل لبنان 2، محافظة البقاع 2 = 24.
  • ‌ج- أعضاء يعيّنهم المفتي، يساوي عددهم ثلث عدد الأعضاء المنتخبين أي 8 أعضاء.

أما العلاقة بين المجلس ومفتي الجمهورية فهي علاقة- السلطة التقريرية بالسلطة التنفيذية، كما ذكرنا، مع شيء من الأرجحية للمفتي، قياسًا على السلطات التنفيذية في اللامركزية الإدارية، فقرارات المجلس التي يتخذها بأكثرية أصواته نافذة بذاتها (م 51) وهي تتناول، فيما يخص الأوقاف:

  • ‌أ- سلطة إدارة جميع أوقافهم الخيرية، على اختلاف أنواعها وغاياتها وأسمائها، بما يكفل حفظ عينها وحسن استغلالها، وتأمين الجهات الخيرية الموقوفة عليها (م 38).
  • ‌ب- سلطة تدقيق وتعديل وتصديق موازنات الأوقاف في العاصمة والمناطق (م 39/1).
  • ‌ج- سلطة التصديق على اقتراح تعيين رؤساء دوائر الأوقاف، وكذلك تصديق اقتراح ترقيتهم ونقلهم، واتخاذ التدابير التأديبية بحقهم (م 39/39).
  • ‌د- سلطة استبدال العقارات الوقفية.
  • ‌ه- مراقبة تنفيذ النظم والقرارات والتعليمات الصادرة عنه، في كل ما يتعلّق بالشؤون الدينية والأوقاف وأعمال المديرية العامة (للأوقاف) في العاصمة، ودوائر الأوقاف في المناطق (م 39/5).

أما سلطة المفتي على مقررات المجلس فتتمثّل بصلاحية الطلب منه أن يعيد “النظر في أي منها لمرتين اثنتين، لأسباب وجيهة يوردها في مذكرة الطلب، وذلك في خلال عشرة أيام من تاريخ تبلغه القرار”.

فإذا لم يستخدم المفتي صلاحيته هذه في مهلة العشرة الأيام، يصبح القرار نافذًا، وكذلك يصبح نافذًا، إذا أصرّ المجلس على قراراه (م 51).

وأما سلطة المفتي على المجلس فتتمثّل بإمكانية حلّه قبل إتمام ولايته، التي تبلغ أربع سنوات، ويشترط من أجل الحلّ أسباب خطيرة، من جهة، وموافقة خمسة عشرة عضوًا من أعضائه، على أن تدعى الهيئات الناخبة لانتخاب مجلس جديد، في مهلة شهر (م 44).

إن هذه الصيغة تجعل الشؤون الدينية مستقلّة في إدارة شؤونها عن السلطة السياسية، بما في ذلك الإدارة العليا للأوقاف، ونحن نرى أن هذه الصيغة أو أي صيغة قريبة منها ملائمة للغرض، غير أن الأوقاف تبقى بحاجة إلى إدارة خاصّة، مستقلّة ذاتيًّا، وترتبط بهذه الإدارة العليا بطريقة أو بأخرى، وتتولّى الشأن الوقفي حصرًا، كأن تنشأ مؤسسة عامة للأوقاف، تتصل بالإدارة العليا الدينية.

أما ما هو قائم في لبنان، فيتمثّل بلجنة تابعة للمجلس الأعلى للطائفة.

فلدى الطائفة الشيعية، تشكل لجنة تتبع المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، تهتمّ بشؤون الأوقاف، وذلك بالانتخاب كما ورد في المادة 314:

“تؤلف خلال شهر من انتخاب الهيئتين الشرعية والتنفيذية (وهما الهيئتان العلييان للمجلس)، لجنة تدعى “اللجنة العامة للأوقاف” من أربعة أعضاء، تنتخبهم الهيئة التنفيذية على أن يكون بينهم قاض مدني، على الأقل، وثلاثة أعضاء تنتخبهم الهيئة الشرعية، لمدّة تنتهي بانتهاء ولاية الهيئتين المذكورتين.

كما تقوم لدى الطائفة السنية لجنة تابعة للمجلس الشرعي الأعلى، تدعي “لجنة الأوقاف والتنمية الوقفية”، يناط بها “رسم السياسة العامة للتنمية الوقفية، ووضع استراتيجية شاملة لثقافة الوقف، ورسم منهجية علمية لاستثمار أمواله المنقولة وغير المنقولة، وتنميتها وضبطها وجدولتها، ووضع الدراسات والخطط والبرامج الاستثمارية، والموافقة على مشروعات التنمية التي تقرّرها المجالس الإدارية: (م 54/ 5).

إن هذا التنظيم لا نعتقد أنه يعطي الوقف حقه، أو بتوافق مع أهميته، إذ أنه خاضع للجنة من بين سبع لجان تابعة للمجلس الأعلى، وما نراه، أن تنشأ إدارة عامة، تكون أكثر استقلالية من مجرّد لجنة تابعة للمجلس، دون استقلالية، وهذه الإدارة تتمثّل في:

  • مجلس إدارة يتولى الأمور التقريرية.
  • مدير عام، يتولى السلطة التنفيذية.

على أن تكون سلطة الرقابة (أو الوصاية) هي المجلس الشرعي الأعلى، لدى الطائفة السنية، والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى لدى الطائفة الشيعية.

بهذه الطريقة يمكن أن تدار الأوقاف بمرونة واستقلالية ذاتية، وهما ضروريتان، لا سيّما عندما تشتمل الأوقاف على مؤسسات حديثة كالشركات أو ما إليها، وعندما يكون حجمها كبيرًا، الأمر الذي يطرح من المشاكل ما لا يمكن حلّه بالطرق البيروقراطية التقليدية.

في هذه الحالة يمسي من أهمّ الضروريات أن تتمتّع الإدارة بحرية الحركة في المجال الإداري والمالي، تحريرًا لهما من المركزية التي لا بدّ أن تعيق حركتهما. فتكون الإدارة الوقفية مرتبطة ارتباط وصاية بالإدارة العليا الدينية أو ارتباط رقابة.

لكن هل ينتفي أي دور للسلطة السياسية في مجال السلطة الدينية، وبالتالي الوقفية، فيصبح استقلالها استقلالًا ناجزًا تامًّا، أم أنه لا بدّ من شكل من أشكال الارتباط؟

إن الاستقلال التامّ يجعلها خارج النظام القانوني للدولة، لا سيّما إذا كانت تتمتّع بسلطة التشريع، فينتفي دور البرلمان اتجاهها، أو يصبح في أحسن الأحوال شكليًّا، كما عليه الحال في الأوقاف اللبنانية، حيث يرد في المادّة الأولى من قانون تنظيم دوائر الإفتاء والأوقاف الإسلامي (المرسوم الاشتراعي رقم 28 بتاريخ 13/1/1955).

“المسلمون السنيون مستقّلون استقلالًا تامًّا في شؤونهم الدينية وأوقافهم الخيرية.

يتولون تشريع أنظمتها وإدارتها بأنفسهم، طبقًا لأحكام الشريعة الغرّاء، والقوانين والأنظمة المستمدة منها، بواسطة ممثلين من ذوي الكفاءة وأهل الرأي..”.

لكن هذه الاستقلالية أمكن تحقيقها في لبنان استثناءًا بالنسبة للدول الإسلامية الأخرى، وذلك بسبب تعقيد الصيغة اللبنانية الطائفية، لذلك لا يمكن أن نأخذها مثالًا لسائر الدول الإسلامية، التي لا يمكن أن توافق السلطة السياسية فيها على هذا القدر من التحرّر، فما الحل؟

إننا نعتقد أن الحلّ هو في خضوع الأوقاف لرقابة السلطة الدينية العليا، وهذه الأخيرة ترتبط بشكل أو بآخر بالسلطة السياسية، ذلك أن هناك موازنات ترصدها الدولة للهيئات الدينية الإسلامية؛ إذ يلحظ في القسم المتعلّق بالشؤون الدينية الجعفرية والسنية والدرزية والعلوية، من موازنة الدولة باب خاص للمجالس القائمة على هذه الشؤون (م27 من قانون تنظيم شؤون الطائفة الإسلامية الشيعية في لبنان القانون رقم 72 بتاريخ 9/12/1967، وأمثاله لدى الطوائف الإسلامية الأخرى).

أما شكل العلاقة، فنرى أن تكون إدارة الأوقاف دائرة مستقلة ذاتيًّا، لما تتطّلبه إدارتها من خبرة في مجالات مختلفة، على أن تخضع لرقابة (أو وصاية) الإدارة الدينية العليا، التي لن تكون مستقلّة كليًّا عن السلطة السياسية.

في هذه الحالة تصبح إدارة الأوقاف متمتّعة بالاستقلال المالي الإداري.

فهي تستطيع الاتفاق على المشروعات التي تقرّرها، دون تدخّل من جهات أخرى، فيما يتعلق بملاءمة هذه المشاريع أو عدم ملاءمتها.

وهي تدير أمورها بنفسها دونما حاجة إلى العدد الكبير من المراجعات والموافقات والتواقيع، كما أنها تمثل أمام القضاء، مدّعية أو مدّعى عليها، وتوكّل المحاميين للدفاع عن قضاياها…”.

وهذا يحرّرها من الروتين، الذي يمكن أن يفرض في حال كونها تابعة للإدارة الدينية العليا (دار الفتوى، مثلًا)، تبعية المرؤوس للرئيس. وقد لاحظ بعض الكتّاب المراقبين لطبيعة العلاقة القائمة داخل الأوقاف اللبنانية (السنية خاصة)، أن الأمور لا تسير في الطريق الصحيح. فقد انتقد السيّد خلدون نجا، عضو نقابة محامي طرابلس، المركزية الإدارية المعتمدة في إدارة الأوقاف في لبنان، وطالب “بضرورة العمل على تعديل القوانين الوقفية، ولا سيّما الإدارية منها، للحد من المركزية التي تشلّ عمل إدارات الأوقاف في المحافظات، ذلك لأن صلاحيات المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى، والصلاحيات العائدة للمديرية العامة في بيروت، تجعل كلّ شاردة وواردة تدخل ضمن تلك الصلاحيات[25].

ونحن نعتقد أن ما يصحّ بالنسبة للوقف السني يصح بشكل أو بآخر على الوقف الشيعي وسائر الأوقاف في لبنان، لذلك نرى ضرورة اللامركزية التي طرحناها.

في ظل هذا الشكل من العلاقة، تتخذ إدارة الأوقاف قراراتها على مسؤوليتها، على أن تخضع القرارات الكبرى لموافقة سلطة الرقابة (أو الوصاية)، لا سيّما في الشؤون المالية، فتكون الاعتمادات المراد استخدامها ابتداءً من عتبة معينة، أو حد أدنى معينًا، خاضعة لموافقة سلطة الرقابة.

ويمكن تحديد الحدّ الأدنى المذكور، إمّا برقم مطلق 10 ألاف دولار مثلًا، وإما برقم نسبي 5% من الموازنة المخصّصة للأوقاف.

ومن خلف سلطة الرقابة، يجب أن تخضع مشاريع إدارة الأوقاف للخطة العامة للدولة.

فالعقارات الموقوفة، إذا كانت أراضي زراعية، فعليها أن تستجيب لخطة الحكومة، إن كان لها خطة، على صعيد نوع الزراعات أو توزيعها أو غير ذلك.

وإذا كانت أبنية، فيجب أن تلتزم الإدارة بما تقرّره السلطة في خصوص الاستعمالات كالإيجار مثلًا، خصوصًا إذا حدّدت له حدود معينة، حدًّا أدنى وحدًّا أقصى، وما إلى ذلك.

وإذا كانت شركات أو مؤسسات صناعية أو تجارية أو غير ذلك، يجب أن تلتزم خطة الدولة في هذه الحالات.

وهذا مطلوب كيلا تكون الأوقاف دولة داخل الدولة، تناقض سياستها، الأمر الذي يمكن أن ينعكس سلبًا على الأوقاف نفسها، وعلى الدولة.

[1] صحيح مسلم، وصايا /14.

[2] محمد بن يعقوب الكليني، فروع الكافي، الجزء 7، الصفحة 31.

[3]  راجع، زهدي يكن، قانون الوقف الذري، بيروت، دار الثقافة، الطبعة 2، 1964، الصفحة37.

[4] المرجع نفسه، الصفحة 31.

[5]  راجع، الشهيد الثاني، زين الدين الجبعي العاملي، شرح اللمعة الدمشقية، بيروت، دار العالم الإسلامي، دون تاريخ، الجزء 3، الصفحة 165.

[6] راجع، العلامة عبد الرزاق السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني، القاهرة، دار النهضة العربية، الجزء 1، الصفحة 158.

[7] المرجع نفسه، الصفحة 162.

[8] راجع، الشهيد الثاني، شرح اللمعة الدمشقية، مصدر سابق، هامش الصفحة307، وكذلك ابن قدامة، المغني، الجزء5، الصفحة 495.

[9] المصدر نفسه، وكذلك مستدرك الوسائل، م2، الوقوف والصدقات، الباب 6، الحديث 7.

[10] المصدر نفسه، وكذلك الوسائل، م2، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 3، الحديث 3.

[11]  أبو الحسن الأصفهاني، وسيلة النجاة، بيروت، دار المجتبى، 1992، الجزء2، الصفحة148.

[12]  المصدر نفسه، الصفحة 154.

[13]  المصدر نفسه، الصفحة156.

[14]  الشيخ محمد جواد مغنية، الأحوال الشخصية، بيروت، دار العلم للملايين، 1964، الصفحة 316.

[15] زهدي يكن، قانون الوقف الذري، مصدر سابق، الصفحة52.

[16]  عبد الرزاق السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني، مصدر سابق، الصفحة 111.

[17]  المصدر نفسه، الصفحة 121.

[18] المصدر نفسه.

[19]  راجع، حسن محمد الرفاعي، بحث مقدم إلى المؤتمر الثالث للأوقاف في المملكة العربية السعودية، تحت عنوان: إدارة الأوقاف بين المركزية واللامركزية، الصفحة 17.

[20] المصدر نفسه.

[21]  راجع، مروان عبد الرؤوف القباني، تجربة الأوقاف الإسلامية في الجمهورية اللبنانية، في كتاب نظام الوقف في التطبيق المعاصر، الصادر عن البنك الإسلامي للتنمية والأمانة العامة للأوقاف في الكويت، الصفحة 81.

[22] Georges Vedel، Droit Administratif، PUF، Paris، 1976، P. 639.

[23] Voir André Laubadere، droit administrative، LGDJ، 3Ème edition، T.2. p 100.

[24]  محمد طي، القانون الإداري الخاصّ، كسارة، مطبعة الجامعة، 2004، الصفحة 35.

[25]  حسن محمد الرفاعي، بحث مقدم إلى المؤتمر الثالث للأوقاف في المملكة العربية السعودية، تحت عنوان: إدارة الأوقاف بين المركزية واللامركزية، مصدر سابق، الصفحة 24.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
الاقتصاد الإسلاميالمجتمع الإسلاميّالأوقاف

المقالات المرتبطة

فلسفة المهدوية: العدالة ونهاية التاريخ

قد يكون من المبرّر منهجيًّا أن يُطرح أكثر من سؤال حول فلسفة المهدوية ومختلف أبعادها، وكيف يجب أن يُنظر إليها في إطار الرؤية الكونية الإيمانية….

حضور صدر الدين الشيرازي في الدراسات الفلسفية العربية (المرحلة الثالثة -2)

وتابعت الدراسات الصدرائية طريقها، فناقش “رياض سحيب روضان” رسالة ماجستير في جامعة المستنصرية، وحملت عنوان: “علم الكلام عند صدر الدين الشيرازي: دراسة في الإلهيات”

في البدء كانت الأخلاق

ذلك حقًّا، أصدق ما جادت به قريحة أمير الشعراء، أحمد شوقي. ولعله أبلغ تعبير وأسنى وصف في عصرنا الموسوم بفساد الضمير وتراجع القيم، بدءًا بدنيا الأفراد واجتيازًا للاجتماع السياسي ولحوقًا بمشاهد العلاقات الدولية. سوف تظل – إذن – قولة شوقي أبلغ ما نطق به شاعر عربي في العصر الحديث