شعريّة محمد علي شمس الدّين وموقعها من الشعريّة العربيّة والعالميّة

by معهد المعارف الحكميّة | يناير 9, 2023 11:56 ص

إعداد: ملاك المغربي

 على مائدة كبيرة مدّها الراحل الكبير الشاعر محمد علي شمس الدين، اجتمعوا، مائدة سرمدية ليس المسكوب في قصاعها شعرًا عاديًّا، إنما هو من لقاح المجد والعنفوان، تحيا به النفوس التي تأبى الذلّ لباسًا. رحل محمد علي شمس الدين، وما أعظمها لوعة أن غيّب الموت رجل الضوء، ليحلّق غيمة من دخان ترنو نحو الله، رحل شمس الدين مجلّلًا بدواوينه ومضفورًا بقصائده، فاستحق بذلك مؤتمرًا تكريميًّا تحت عنوان: “شعرية محمد علي شمس الدين وموقعها من الشعرية العربية والعالمية“، نظمه منتدى النقد الأدبي في معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية برعاية وحضور وزير الثقافة في حكومة تصريف الأعمال القاضي محمد وسام المرتضى.

ناقش المؤتمر في محوره الأول: “أبعاد في شعرية شمس الدين“، حيث تطرق الدكتور طلال المير في كلمته إلى البعد الحسي في مطولة شمس الدين والتي عنوانها: “عودة ديك الجن إلى الأرض”، لافتًا إلى أننا اليوم أمام شاعر جنوبي، صقلته المعاناة، وشحن البعدُ الوطني أحاسيسه شحنًا أنضج تجربته، فأضحى يملك أسرار اللعبة الشعرية امتلاكًا أبعده عن الشفافية الهشة، وعن التقليد المقيت، فحرّر نفسه من إضاءات شعراء الحداثة العراقيين رغم إعجابه بهم وتقديره لهم، واستمدّ خيوط إشعاعه من مناهل كثيرة أهمها قسوة الواقع.

وأضاف، وإذا أنعمنا النظر في قصائد شمس الدين وجدنا لديه غير وشم من مقومات السريالية، كترك مفازات اللاشعور مكشوفة أمام رؤياه، كشفًا يجعله يرى عريه وعُري مجتمعه العربي المتخلّف بعد نزع الأقنعة عنهما، لكن شمس الدين الذي اقترب من السرياليين لم يسمح لنفسه بالوقوع في الهذيان والشطط والضباب.

وقال: “وشاعرنا في قصيدة “عودة ديك الجن”، كان يعاني غربةً وخواءً وضياعًا مجنّحًا، لكنه لم يسمح للضياع المذكور برمينا في الغموض المستفلِق، أو بارتطامنا بركام من الألفاظ الخاوية، بل يُبقي القصيدة صامدة وموحّدة ويكثّف من إشعاعها الدلالي مستخدمًا الألفاظ التي توصل إلى المتلقي حال الاستلاب، الذي يعانيه معتمدًا الاختصار قدر الإمكان”.

أما الدكتورة ريما أمهز فتحدثت عن جمالية اللغة الشعرية عند شمس الدين ودورها في الكشف عن العالم المرجعي، لافتة إلى أن الشاعر الراحل كرّس شعره للذّود عن القضيّة الّتي آمن بها، قضيّة النّضال من أجل الإنسان، ومن أجل الأرض، والحرّيّة والكرامة والمساواة والدّيمقراطية، وقد انطلق في إبداعاته من موقف واع لدوره ورؤيته الواضحة، وكان يؤكد أنّ عملية الخلق ثورة دائمة على كلّ ما هو قائم، ودعوة مستمرّة لخلق عالم جديد، فكانت لغته الشّعريّة حركة مستمرّة، لا تعرف الانقطاع، شكّلت منهجًا في التّسميةِ والتّعبير، متميّزًا عن منهج اللّغة العلميّة العاديّة، ومختلفًا عنه، لأنّهُ مطالبٌ بتسمية أشياء، لم تسمّها اللّغة العاديّة، ومطالبٌ بالتّعبير عن عالمٍ غير العالم المنطقيِّ العاديّ المألوف.

وقد اعتمدت أمهز في بحثها على المنهجين الأسلوبي والسّيمائيّ، لما لهما من دور في الكشف عن أدبيّة النّصّ وجماليّاته.

وأضافت، لجأ شمس الدين إلى التشبيه نتيجة تفاعل جدليّ متبادل مع واقع الأمّة وأزماتها، وبنظرة سريعة على هذا الواقع، نرى أنه وليد عصور من القحط الفكري، والرّزوح تحت نير الاحتلال، إضافة إلى أنّ مجتمعاتنا تعمّ فيها ظواهر الانحطاط والتخلّف، وخضوع الشّعوب للحكّام.

لذلك كان عليه أن يقوم بدور استثنائي للخروج من هذه الأزمة، انطلاقًا من فهم، يفتح المجال أمام توسيع دائرة الرؤية لتشمل كلّ كلام يخرق العرف السائد، وبالتالي الواقع ليغيّره. فلعب التّشبيه وظيفة الكشف عن خصوصيّة رؤية محمّد علي شمس الدّين إلى الأشياء، وأخرجت المتلقّي من واقعه الموضوعيّ ودخلت به إلى عالم فنّي، يشعر معه أنّه قد دخل مناخًا ثقافيًّا راقيًا يلذّ به، وجعلته شريكًا في إنتاج ذلك العالم والانتماء إليه.

ثم كانت كلمة للدكتور هاشم الأيوبي تحت عنوان: “معه يستمر وهج القصيدة” لفت من خلالها إلى أن التحدي الأكبر الذي يواجه القصيدة ليس في الإعجاب اللحظوي أو التصفيق التقليدي، بل يكمن في مدى تجاوز القصيدة مناسبة إلقائها أو سماعها، وفي مدى انتشار التأثر بوقعها وجماليتها وملامستها عصب الأحاسيس وتجارب الوجدان. وهذا كله جانب من الشعرية التي لا تتجزأ والتي تشكل الأساس في استمرارية القصيدة في وهجها، الذي لا يخبو مع مرور الزمن، وهذا الركن الأساس لا يتوفر إلا عند شاعر أصيل يعيش الشعر بكل جوارحه ورؤاه، ويمتلك المقدرة الكافية على امتطاء صهوة الكلمة وامتلاك عنانها والتحكم بجموحها في فضائها الجميل.

وقال: إلى هذه الفئة من الشعراء ينتمي محمد علي شمس الدين، وإلى هذا النهج من الشعر تنتمي قصائده.

بدوره تحدث الدكتور لؤي زيتوني عن الإثم الكنعاني ورموز الأرض في شعر شمس الدين، “النّازلون على الرّيح أنموذجًا” بوصفه ممثّلًا لتجربته الشّعريّة ومسيرته الإبداعيّة، وذلك بوساطة المنهج السّيميائيّ الثّقافيّ. وهنا يلاحظ المطالع لشعر شمس الدّين توظيفه للرّموز المأخوذة من الطّبيعة والمرتبطة مباشرةً أو مداورةً بالأرض، لكنّ هذا التّوظيف لم يكن مجّانيًّا، كما أنّه ليس توظيفًا مستهلكًا، وقد أكّد من خلاله فرادته الشّعريّة ونضوج تجربته الفنّيّة.

وأضاف، يمكن أن يرى أنّ الباحث بدخوله المقصود أو غير المقصود في هذا المفهوم، تنوّع ضمن إطار محاور ثلاثة، الأوّل يتمثّل في محور (الأرض=الوجود)، الذي ارتبط بحضور الإنسان، أمّا المحور الثّاني فتجلّى في (الأرض=الصّمود)، الذي ارتكز فيه إلى مسألة الرّسوخ في الأرض والتّجذّر فيها، والمحور الأخير، الذي يدور حول (الأرض=القيامة)، وهو يستكمل رؤية شمس الدّين بجعل الأرض عاملًا حاسمًا للنّهوض والخروج من الأزمات المحيطة بها، إضافةً إلى جعلها تأسيسًا لحياةٍ أخرى أفضل. وهذا ما يوصل إلى الاستنتاج أنّ هذا النّوع من الرّموز كان ركيزةً أساسيّةً في شعره، ومنحى استند إليه منهجه الشّعريّ ورؤيته الفكريّة.

أما الكلمة الأخيرة في المحور الأول، الذي أداره الإعلامي عدي الموسوي، فكانت للدكتورة سوزان زعيتر التي تحدثت عن الجنوب في شعر محمد علي شمس الدين، لافتة إلى أن الشاعر شمس الدين كان من الشعراء الذين حملوا قضايا وطنهم والذين جعلوا شعرهم وقفًا على قضايا مجتمعهم قضايا الإنسانية، حيث الذي غلّف شعره الحزن العميق استنادًا إلى موقفه في تجربته في أنه صاحب قضية عالية، قضية الجرح الجنوبي.

وقالت: انتمى في شعره إلى الأرض والإنسان، وكان جنوب لبنان قبلته الدائمة. وتجربة الشاعر المنتمي إلى بيئته لها تأثيراتها على تكوينه الشعري. فالجنوب لم يكن مجرد مكان عند الشاعر، بل هو الأرض التي يعشقها ويمجّدها، وتتغلغل في شرايينه. هو جنوب كونيٌّ، وفيه سقطت آخر قطرة من دم الإمام الحسين (ع)، وفيه كانت سكينة تذرف مواويلها، ومنه استلهم الشاعر بداية رحلته الكونية “باحثًا عن منبع النهر الإله”.

ولفتت إلى أن الجنوب في قصائد الشاعر محمد علي شمس الدين جزء لا يتجزأ من شخصيته وهويته؛ إذ يقول: “انتمائي للجنوب وجودي أكثر ما هو مذهبي. أنا مسيحي بمقدار ما أنا شيعي، وأنا مسلم بمقدار ما أنا وجودي، فلا تعنيني المذاهب ولكن تعنيني العبر من كلّ شيء”.

ناقش المحور الثاني: البعد العرفاني في شعر محمد علي شمس الدين، فتحدثت الدكتورة فريال الحاج دياب عن البعد العرفاني في نص محمد علي شمس الدين الشعري، لافتة إلى أن الشاعر الراحل وفي سنواته الأخيرة اتّجه إلى نوع من شعر التّصوّف والفيوضات العرفانيّة، متّخذًا من التّصوّف لدى الشّعراء الإيرانيّين هاديًا، وكان مهتمًا بتقطير اللّغة، وتهذيب الصّورة، وتهدئة الإيقاع الرّوحيّ في بناء سلس منسجمًا مع حال الزّهد التي آثرها.

وعمدت الدكتورة دياب في بحثها إلى تسليط الضّوء على البعد العرفانيّ في نصّ شمس الدّين الشّعريّ، والتّحليق في مدارات روحٍ شعريّة عرفانيّة تنشدُ الصّفاء والحبّ، وتسمو إلى لغةٍ تتخطى السّائدَ والمألوف. واعتمدت في دراستها على البنيويّة المتمحورة حول فكرة البنيّة وطبيعة العلامة اللّغويّة المكوّنة من ثنائية (الدّال والمدلول). وقد كان المنهج البنيويّ مدخلًا إلى المنهجين المتبعين أيضًا الأسلوبيّ والسّيميائيّ، حيث لا يمكن أن توجد الأسلوبيّة والسّيميائيّة بعيدًا عن بنية النّصّ.

وعالجت الدكتورة دياب في بحثها المستوى المعجميّ من خلال دراسة ظاهرة التّكرار، والحقول المعجميّة، لا سيّما حقل الماء، وأبعادهما العرفانيّة في نصّ شمس الدّين الشّعريّ.

بدوره تحدث الأستاذ سلمان زين الدين عن تجليات العرفان في شعر شمس الدين، “كرسي على الزبد” أنموذجًا، حيث أشار إلى أنه تتعدّد النفحات العرفانية في “كرسيّ على الزبد”، وتتوزّع على مفاهيم العرفان الفلسفية المختلفة، بدءًا من العنوان الذي يعبّر عن مفهوم الامّحاء ويكتسب العنوان دلالات أخرى، في سياق المتن الشعري، من قبيل الاغتراب والانخطاف والوحدة.

وقال: تتحقّق وحدة الوجود في شعر محمد علي شمس الدين، من خلال وحدة الموجودات، وتناغمها فيما بينها، ذات نفحة عرفانية، يلتقي فيها السماوي والأرضي والبشري في حيّزٍ واحد، ويتفاعلون فيما بينهم.

وأضاف، تتحقّق الوحدة، بدرجة أعلى، من خلال الحب المتموضع في منزلة وسطى بين البشري والإلهي، فيتراءى للمحب أنه يرى صورته في مرآة محبوبه، وتبلغ وحدة الوجود حدّها الأقصى، في “كرسيّ على الزبد”، حين تتحقّق بين المُوجِدِ الإلهي والموجود المكاني.

وأشار إلى أن المفهوم العرفاني المحوري في “كرسيّ على الزّبد” هو مفهوم الحب الإلهي. وهو حبٌّ بين محبٍّ واحد هو الذات الشاعرة العارفة ومحبوب متعدّد، على وحدته، يتراوح بين الإنساني في أدنى تجلّياته ممثّلًا بالإمام الحسين، والإلهي في أقصاها ممثّلًا بالذات الإلهية. وهو حبٌّ تتفاوت درجاته ومقاماته وأحواله، وتتراوح بين الشوق والأرق والعشق والجوى والذهول والتيه والمشاهدة، وتتفاوت العلاقة بين الحبيبين فيه من أقصى البعد إلى أدنى القرب تبعًا لمقتضى الحال ومنزلة المقام.

ثم تناول الدكتور كميل حمادة  في مبحثه حضور الدين في النص الشعريّ لمحمد علي شمس الدين موضوعًا، لافتًا إلى أن شمس الدين كان يرى إلى الدين، أيِّ دين، حاجة روحية لتوفير الطمأنينة والاستقرار في داخل الإنسان، لذلك كان الدين، كما الشعر، محاولةً لتهدئة هذا القلق الوجوديّ.

وأضاف، وقد رأى شمس الدين إلى الله إلهًا جميلًا وأبًا عطوفًا، حتى في الموت، الذي اختص الله به نفسه وقهر به البشر، وهنا تفيض عرفانية محمد على شمس الدين التي ترى الجمال في الله وتفيض الشعرية التى تزيح الجلال الذي يشكل الموت واحدًا من عناصره في صفات الله: خفف من وطء جمالك فيّ.

وتابع الدكتور حمادة، لم يقف الأمر عند ذلك، بل نظر شمس الدين إلى النبي على أنه وليّ الثوب المتخافق والأسمال، وإذا كان الثوب المتخافق يشير إلى الحركة مقابل الجمود فهذا يعني أن النبوة فعل متجدد مستمر في حركية دائمة، وأن يكون النبي ولي الأسمال، بما تعنيه الأسمال من الأثواب الرخيصة الزهيدة الممزقة وثياب الفقراء والزّهاد، فهذا يعني أن شمس الدين يرى إلى النبي أنه ولي الفقراء والزهاد، هؤلاء هم من نزلت النبوات لأجلهم، ومن من المفترض أن تقوم الثورات لأجلهم، وأن يكتب الشعراء لأجلهم.

وكانت الكلمة الأخيرة في المحور الثاني، الذي أدارته الدكتورة هالة أبو حمدان، للدكتور فاروق شويخ تحدث من خلالها عن البعد العرفاني في نص الراحل شمس الدين الشعري، لافتًا إلى أن نصوص الشّاعر شمس الدّين الصّوفيّة لا تتّكئُ على الرّموز الصّوفيّة بمدلولاتها بشكل مطلق؛ فمعظم هذه الرّموز تتّخذ أبعادًا جديدة في قصائده تبعًا لرؤيته الخاصّة للغيب والمطلق والمكاشفة. والمتتبِّعُ لنصوصه يجد أنّها على تناصٍّ واضح وشبه دائم للتّراثِ الصّوفيّ. وإذا صحّ القول، فإنّ لغة الشّاعر شمس الدّين تحوّلت من استخدام ما يسمّى بـ “الرّمز”، أو “المصطلح” الشّعريّ الصّوفيّ إلى اعتماد لغة شعريّة خاصّة، تحمل مُناخ الشّعر الصّوفيّ وتحيل إلى المعاني الرّمزيّة الّتي نشأت عليها الشّعريّة الصّوفيّة، من دون أن تتقيّد هذه اللّغة الشّعريّة بحَرفيّة الرّمز ودلالة المصطلح، كما أُثِرا.

وأشار إلى أن النّزعة الصّوفيّة لدى الشّاعر شمس الدّين نزعة لغويّة فنّيّة؛ فهو أفاد من لغة التّراث الصّوفيّ وقدرة رموزه على اكتناه أسرار الوجود واستجلائها في الوقت عينه. إذْ يَرى إلى أنّ فكرة التّصوّف لم تخدم الشّعراء المتصوّفين حينها، حيث لم تشهد أيّامهم شعراءَ يُعتدّ بهم من الناحية الفنّيّة، فالشّاعر شمس الدّين له رأي صريح في هذا الموضوع الشّائك، حيث يقول: “أشعار هؤلاء ضعيفة بالإجمال، وقوّتهم الرّوحيّة موجودة في أحوالهم. استفدتُ من الأحوال، لكنّني اخترتُ أن أكونَ الشّاعر لا السّالك أو الفقير”.

ناقش المحور الثالث: حركية الرمز في شعر محمد علي شمس الدين، الكلمة الأولى في هذا المحور كانت للدكتور علي جعفر تحت عنوان: “محمد علي شمس الدين: يقرع باب العرفان بالرمز”، أشار من خلالها إلى أن الرّمز يُعدُّ من الأدوات المهمّة الّتي يُعبّر الشّاعر من خلالها عن رؤيته إلى الأشياء، ويتّسم الرّمز بالاستتار الّذي يتطلّب هدف إزالته إعمال العقل، والإحاطة الثّقافيّة بمصدر الرّمز، ما يجعله أكثر اقترابًا من الشّعريّة الّتي تبتعد عن المباشرة، وتنحو منحًى يتجاوز ظاهر الأشياء وصولًا إلى باطنها.

أمّا الرّمز العرفانيّ عند شمس الدّين، فقد اقتصر في هذا البحث على رمز المرأة وبعض رموز الطّبيعة. والمرأة والطّبيعة هما الرّمزان اللّذان رأى فيهما الصّوفيّة تجلّيًا للإلهيّ، ومظهرين سامقين لجماله سبحانه، لافتًا إلى أن أبرز رمز أنثويٍّ لدى شمس الدّين هو رمز ليلى، الّذي فارق في بعض دلالاته وصوره ما ألفناه من توظيفٍ للأنثى في النّصّ الشّعريّ ذي السّمة الصّوفيّة – العرفانيّة. وإلى الجمال الإلهيّ الّذي يتجلّى في المرأة، والّذي ذهب شمس الدّين في وصفه بلغة تتخطّى ما درج عليه شعراء التّصوّف، منح شمس الدّين صفة الرّحمة بعدها الجماليّ في الأنثى بوصفها صفةً متفرّعة عن الرّحمة الإلهيّة.

وأشار إلى أنه  في شعر شمس الدّين الكثير من الرّموز العرفانيّة الإضافيّة، ومنها: الرّموز المسيحيّة، المصطلحات الصّوفيّة بوصفها رموزًا، الشّخصيّات الصّوفيّة بوصفها رموزًا، الشّخصيّات الدّينيّة بوصفها رموزًا، الخمرة بوصفها رمزًا عرفانيًّا، إضافة إلى رموز أخرى تساهم في ترسيخ الدّلالة الكلّيّة والرّؤية العرفانيّة عند محمّد علي شمس الدّين، الّذي عرج إلى الله سبحانه بالقلب، والمعرفة، وحبّ الحقّ والإنسان والقيم السّامقة المحمودة.

بدورها تناولت الأستاذة زينب راضي في بحثها “دراسة الرمز مقومات أساسية من مقومات الشعرية عند محمد علي شمس الدين” لافتة إلى أن “الرمز هو معراج الشاعر إلى آفاق أدبية شعّت في سماء من مضوا تاركين آثارًا لا يمحوها الزمن، بل يجعلها تتجلّى دائمًا في نتاجاتٍ محمّلةٍ بشحنات تجارب الآخرين. و”محمد علي شمس الدين” جعل من الرمز مقومًا فاعلًا من مقومات الشعرية لديه وذلك بأن أعطى للرموز فسحة مرئية في ديوانه “النازلون على الريح”، فكانت أحيانًا عناوين لقصائده، وأحيانًا أخرى مقيمة في بطونها تشعّ كما النجمة”.

وتابعت، “تنوّعت الرموز عند “شمس الدين” فكان الرمز الأدبي والديني والتاريخي والأسطوري والاجتماعي، وكل ذلك كان أحيانًا للإضاءة على مضمون فكر الشاعر وقضاياه المحقّة، وأحيانًا أخرى لإعمال فكر المتلقّي لاستخلاص رؤية الشاعر وضميره. فالشاعر “شمس الدين” عاش شاعرًا مؤمنًا مقاومًا ناصرًا للقضيّة الفلسطينية، وللقضايا الإنسانية برمّتها، ورحل تاركًا حصادًا يقتاته التواقون إلى المعرفة والشعر ونتاج العقول”.

الكلمة الثالثة كانت للدكتور عبد الله فضل الله تناول من خلالها الرمز وقيمته الجمالية في شعر شمس الدين، اعتبر فيها أن شمس الدين  كان شاعر رؤيا، معرفي وعرفاني. ظل طيلة حياته ماورائيًّا، يبحث عن علاقة الكون بالله وعلاقة الأنا بالآخر، كل ذلك بلغة عربية فصحى، عشقها وغامر في سبيلها؛ في سبيل المعاني التي اشتملتها لغته هذه، من صور وتعابير ورموز، ولقد استطاع شمس الدين أن يملك ناصيتها، فمارس نفوذه القوي عليها مستثمرًا جزالتها وثراءها.

اعتمد الدكتور فضل الله في بحثه على المنهج السيميائي للكشف عن الأبعاد المختلفة في نصوص شمس الدين الشعرية ومحاولة تفسيرها وتأويلها وربطها بقضايا معينة اجتهد شمس الدين لكي يوصلها للمتلقي بلغته الخاصة الملأى بالرموز.

أما الدكتور علي جمعة فتطرق في كلمته إلى جمالية الرمز في شعر شمس الدين حيث سلط الضّوء على البعد الرمزيّ في شعر شمس الدّين، وكشف الجوانب الجماليّة المتخفية خلف هذه الرموز، حيث نجد أن الشاعر قد أتقن فنّ الإيغال في تفاصيل الحياة، فأبدع في نظم الأحداث مُعيدًا بلورتها كما ارتأى، ليقدّم رؤى جديدة مختلفة حافلة بآفاق واسعة منفتحة على عوالم أخرى. إنّه الأفق الذي حلمه لوطنه العربيّ، إذ أراد التخلّص من ترسّبات الماضي العقيمة، وقدّم من خلال شعره معطيات جديدة، تنم عن وعي كبير، واهتمام بقضايا الإنسان، فكان متفرّدًا في عطاءاته، يسبغ على الآتي من عصارة فكره، ويحاول أن يبتكر وسائل مختلفة لبناء مجتمع مثاليّ خال من الخوف والخنوع، مع كلّ ما واجهه من مشاكل.

وقال: كان الرمز أحد أدوات الشاعر الذي صاغ فيه قوالبه الفنيّة للواقع، واستطاع من خلاله النفاذ إلى رؤاه وأفكاره التي اكتست قوة في المعاني وجلاءً في المفهوم وعمقًا في التأثير، مشيرًا إلى أن شعر محمّد علي شمس الدّين امتاز بالتفاعل وتجاوز للواقع الراهن والوصول إلى الواقع الممكن، فقد كانت رموزه الفنية تتحرك في قالب حسب مقتضيات المراد والهدف المنشود، إذ أدّت دورًا فنيًا محكمًا في إبراز مرام والتعبير به عن قضايا العصر.

واختتم المحور الثالث الذي أدارته الإعلامية عفاف علوية، بكلمة الدكتور حسن إسماعيل تحدث من خلالها عن التناص وأثره، لافتًا إلى أن ثقافة محمد علي شمس الدين المتعّددة المصادر والمشارب، من الدين والأدب والتاريخ والفلسفة ولا سيما الشعر العربي على اختلاف عصوره، وإلمامه باللغات الأجنبيّة من الفرنسيّة والإنكليزيّة والإسبانيّة، وبآداب هذه اللغات وفنونها، جعلته واسع الأفق المعرفيّة، غزير الإبداع، لا يرضى إلا بالجمال، ولا يثبت إلا الأصيل من شعره. وقد أسعفته هذه الثقافة في ابتكار الصور، وتوليد بعضها من بعض؛ فرأيناه يضمّن قصائده صورًا متنوّعة المصادر يلمّح إليها من بعيد أو يعارضها أو يستند إليها على سبيل التشبيه الضمني وكل ذلك ليثبت علوّ كعبه في الشعر ويؤكد ما أطلق عليه أنه “أيقونة الشعر العربي”.

أختتم المؤتمر بالمحور الرابع تحت عنوان: خصائص شعرية محمد علي شمس الدين، فكانت الكلمة الأولى للدكتور طراد حمادة تحدث من خلالها عن خصائص شعرية شمس الدين وتقدم الشعرية الصوفية في ديوان “ينام على الشجر الأخضر الطير”، لافتًا إلى أنه في هذا الديوان الصادر عام 2012 تتقدم الشعرية الصوفية عند محمد علي شمس الدين، ولم يعد الشاعر العارف يحتاج إلى استخدام الرمز الصوفي والاشتغال على موضوعاته ومصطلحاته، بل اكتملت عنده عملية خلق الشعر، كما توجد الروح للروح، القصيدة عنده، أنفاس تتوزع على المعارج، وأسماء تتجلى في المظاهر، بدفق شعري محض الشاعرية، متحرر من الفكرة الجاهزة، لأن الشعر لا يتطابق إلا مع الأفكار اليقظة، الشغوفة بالمجهول، والمنفتحة أساسًا على الصيرورة، فليس هناك شعر إلا حين يكون ثمة خلق وإبداع مطلق.

بدورها تحدثت الدكتورة نبال رعد عن قصيدة “أنا القصيدة” – بحث في ثقافة وشعرية الشاعر شمس الدين، حيث يشدّد شمس الدين كثيرًا على الناحية الصورية والحسيّة في قصيدته، يصعد في أفق تخييلي مزركش بالألوان الضّارية. القصيدة لديه مشروع مغامرة وتحدٍّ دائم فهو في بحث مستمر عن الأمثل والأجدر في قلق وجوديّ كأن الريح تحته. 

أما عن مدرسته فقالت: إنّه شاعر إشكاليّ، شعره مليء بالجدّة في المعاني، وكثافة الصورة وأصالتها، حيث تتجلى قدرته مبهرة على استعمال الرموز وتوظيف الأساطير في قالب جديد يسافر معه، على حد قوله، في القطار ويجلس في المقهى، لم ينتم إلى مدرسة محددة، فلهبته الشعرية تجمع سمات مختزنة.

وعن أسلوبه قالت: كان يكتب الشعر بشفافية الماء العذب لا الزجاج الجارح، فهو في الشعر حيث تأخذه نشوة الكتابة غير متعصّب لاتجاه أو مدرسة أو شكل، وكان محمد نرجسيًّا حتى العظم فهو يؤمن أن لا مبدع في العالم غير نرجسيّ، والنّرجسيّة الشعريّة تعني أنّ كلّ الأقنعة التي يرتديها الشّاعر ليست في الحقيقة بأهميّة ذاته، فنرجسيّة الفنّان المبدع الشّاعر أن يكون هو هو. وأضافت: كان محمد علي شمس الدّين متحرّرًا واضحًا، مناقشًا جاهزًا، فيلسوفًا حاضرًا، مثقفًا مقاومًا، وضع النقاط على حروف الفكر، لم يأخذ أفكار غيره كما هي، بل صافحها وصافعها، حاورها وانتصر عليها وتصالح معها.

وكانت كلمة للدكتورة سمية طليس تحدثت فيها عن شعرية شمس الدين بين تكوين الوعي الحداثي وتمايز علامات الهوية وأولوية السؤال، مشيرة إلى أن الشاعر الوجوديّ شمس الدّين لم يتبرّأ من الموروث العربيّ والإسلاميّ الثّقافيّ، بحداثات الماضي والحديث والمعاصر، على الرّغم من تخطّيه النّسق الأيديولوجيّ الجمعيّ، بل انحاز إليه عبر محاورته ليكونَ الإطار المرجعيّ الثّقافيّ الرّاعي القصيدة، لكنّه لم يقيّدها، بعد أن خاض الشّاعرُ في التّاريخ ووقائعه المفجعة، ورموزه التّاريخيّة والدّينيّة؛ إلى جانب محاورة حداثات الفكر الأوروبّيّ (الحديث المعاصر)، لتختمرَ تأمّلاته وينتجها على وقع الفضاء الكونيّ الخاصّ به والمفتوح، وليفرض غوايتها الشّعريّة المتمايزة عن الغواية الأوروبّيّة المنطوية عليها الحداثة الشّعريّة الغربيّة الّتي أسهمَتْ في إجراء تحوّلٍ ضمن آليّات تفكير الشّاعر العربيّ المثقّف الّذي وعاها ووعى أزمات واقعه العربيّ الثّقافيّ. لقد أخرجَ شمس الدّين ذاك الإرث الثّقافيّ بروحيّة العصر، محمّلًا إيّاه محمولًا حداثيًّا، مكثّفًا فيه الزّمن عبر جهد متفرّد إلى حدّ الخلق والإبداع.

وكانت كلمة للدكتور زكريا مكي تحدث فيها عن ثقافة شمس الدين ولغته الشعرية، مشيرًا إلى أن ما يميز البنية اللغوية في شعر محمد علي شمس الدين، هو تعدد الأبنية وتنوعها داخل القصيدة الواحدة، من البناء البسيط إلى البناء المركب فالمعقد فالأكثر تعقيدًا. ويأتي هذا التعدد أو التنوع تلبية لمقتضيات تعبيرية، إذ ترتبط درجة “البساطة” و “التعقيد” اللغويين بدرجة البساطة والتعقيد النفسيين.

وأضاف: أما الصورة الشعرية في شعر شمس الدين، فهي أداة تشكيلية لا بد منها في بناء القصيدة، لأنها تترابط ترابطًا تفرضه طبيعة التجربة الشعرية، وبفضل العلاقات الناشئة بين الصور، تكتسب كلّ صورة أبعادها الدلالية ودورها الوظيفي البنائي، وتأخذ القصيدة في النمو حتى تصبح بناءً متكاملًا.

واختتم المحور الرابع الذي أدارته الدكتورة هيفاء الإمام بكلمة الدكتور أحمد شحوري حول الأبعاد العرفانية وشعرية الخروج من بيت الطاعة – قراءة في شعر شمس الدين، حيث ركّز في دراسته هذه على دواعي انفتاح تجربة الشاعر شمس الدين على مصادر العرفان والتصوف، فوجد أنها تعود إلى غرضين يتصلان بثلاثية الشعر، الحداثة، الدين، وبمحاولة التأسيس لأرضية مشتركة بين الشعر والدين من جهة، وبين الدين والحداثة من طريق الشعر الممسوس بالعرفان من جهة ثانية.

ولفت شحوري إلى أن شمس الدين رأى أن الإنسان هو الأصل والغاية، وأن التجربة العرفانية هي المساحة الفضلى لاحتضان بذرة الشعر والحداثة والإيمان بالغيب، وتحقيق خرق في نهائية النسق الثقافي والشعري العربي وخلخلة سلطة النموذج الأبوي الثابت.

وبيّن شحوري أن شعر شمس الدين ينبّئ عن أن ما يجمع الحداثة والعرفان هو نظرتهما إلى كون الهوية تبدأ من نقص، وكونها مشروع اكتمال يبقى قائمًا في أفق انتظار مفتوح على الصراع والتحول، على عكس النسق التقليدي، الذي يقدم نموذجًا مكتملًا للهوية يستتبع التقليد والمحاكاة، فزمن الهوية في شعر شمس الدين تطلّع نحو المستقبل، أما في نسق المحاكاة فرجوع ماضوي بالزمن، متوقفًا عند اللغة وتقنيات الترميز لدى شمس الدين، في محاولته تأسيس أبجدية بكر داخل اللغة ليتعزز خرق طاعة النموذج دلاليًّا وجماليًّا.

اقرأ للمزيد:

كلمة معالي وزير الثّقافة في حكومة تصريف الأعمال القاضي محمد وسام المرتضى[1]

Endnotes:
  1. كلمة معالي وزير الثّقافة في حكومة تصريف الأعمال القاضي محمد وسام المرتضى: https://maarefhekmiya.org/15594/mohammad-shams-aldin/

Source URL: https://maarefhekmiya.org/15587/shams-el-din/