الجهاد وإمكانية التوظيف المغاير

الجهاد وإمكانية التوظيف المغاير

تنطوي بعض المفاهيم على معاني صلبة ومرنة في ذات الوقت، فهي صلبة من ناحية صمودها أمام المتطلبات الزمنية بما تفرضه من معايير وما تستحدثه من أولويات قد تكون مغايرة عن مرحلة ولادة هذه المفاهيم، ومرنة من حيث تأقلمها مع ما ينشأ من هذه المتغيرات، بحيث تنسجم مخرجاتها وتصب بشكل أو بآخر  في صالحها.

ولعل الجهاد هو المفهوم البارز لما ذُكر في المقدمة، فمن ناحية هو حاضر في معظم الحقب التأريخية للمسلمين، وإن كان بنسب متفاوتة، وكذلك وهذا ما سنوضحه تباعًا، قابلية هذا المفهوم على أن يتشكل وفق القوالب الزمنية الحالية، دون المساس بجوهره.

الجهاد وتهمة الإرهاب الإسلامي

يتمحور مفهوم الجهاد في الإسلام حول المنحى الدفاعي حتى في بدئه، لأنه لم يشرع لأغراض الحرب كذات مبتغاة، وكوسيلة لتحقيق الأهداف، بل يدور حول حفظ الإسلام بما هو دين، وكذلك كأمة متواجدة في حيّز مثقل بصراعات مستمرة، من ثم بداهة تعرضها للخطر.

وهذا المفهوم بعيد كل البعد عن التفسيرات الملحقة والتي أخذت طابع التطرف والطائفية من حيث توظيف هذا المصطلح في السياقات التي تخدم مثل هكذا جماعات.

ومن هذا المنطلق نميز بين الجهاد الإسلامي الأصيل، وبين استخداماته المنحرفة، هذا التمييز يقودنا بالطبع إلى مصطلح الإرهاب الإسلامي، كظاهرة غربية شائعة الآن بالتزامن مع شيوع حالة الإسلاموفوبيا، وكلاهما تأججا في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر، بعد تبني القاعدة لها، ورغم أنهما ليسا وليدا هذا التاريخ، إذ يعود تداولهما إلى فترات سابقة.

 وبالعودة إلى جذور المصطلحين، فالإسلاموفوبيا ووفق بعض الترجيحات ابتدأ إبان القرن العشرين، وبالتحديد أكثر مع الغزو الفرنسي، كوصف من قبل علماء الاجتماع الفرنسيين تم إطلاقه على الإداريين الذين رفضوا وعادوا المجتمعات الإسلامية، التي كانت خاضعة للاحتلال الفرنسي، وحتى الآراء الأُخرى التي تعلقت بتفسير منشأ هذه الظاهرة لم تخرج جميعها من الإطار السياسي، أما فيما يتعلق بالإرهاب الإسلامي الذي لا يزال في طور النضج، فإنه في معظم الأحيان يُرد إلى أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وهو أيضًا مرتبط بصيغته السياسية كمنشأ وكدافع، فمن حيث المنشأ تعد حادثة برجيَّ التجارة العالميين، وبغض النظر عن وصفها الجرمي، ذات طبيعة سياسية سوى من حيث المعلن، الذي أكدته القاعدة تدريجيًّا في وقتها، وإنه جاء كرد فعل على السياسات الأمريكية والإسرائيلية، أو بحسب التقارير التي ظهرت تباعًا سواء من ضباط استخبارات أمريكيين، أو تصريحات لبعض المسؤولين هناك، من وجود تواطؤ من إدارة بوش بخصوص هذه الهجمات، بغية كسب الرأي العام الداخلي والعالمي من أجل تنفيذ الأجندة الأمريكية في التوسع، خصوصًا وإنه عقب هذه الهجمات أصبح العالم مؤطرًا بين خيارين لا ثالث لهما، أما مع الرواية الأمريكية الرسمية ومن ثم تأييد حملتها ضد ما أسمته محور الشر (إيران، العراق وسوريا)، أو أنك بالضد من ثم تحشر في زاوية الإرهاب العالمي، وبالطبع كل ذلك يرافقه دعايات إعلامية كبرى، ضاغطة في اتجاه هذه المعادلة، أما من حيث الدوافع فهو خدم كما أسلفنا في إيجاد المبررات الداعمة والمساندة للتوسع الأمريكي بحجة الإرهاب، وهو ما حصل بالفعل من غزو أفغانستان من ثم العراق وإلخ…،  ومن نتائج سياسية رسخت وقائع جديدة في منطقة الشرق الأوسط، وما أعقبه من زيادة الحضور العسكري الفعلي سوى من خلال الاحتلالات المباشرة التي قامت بها أمريكا، أو من خلال نشر المزيد من قواعدها في المنطقة.

لذلك لا يبدو هناك أي ارتباط بين الجهاد الإسلامي الأصيل وبين الإرهاب، فضلًا عن كون هذا المصطلح الأخير ومن خلال تطبيقاته الواقعية التي سرت، يحمل في طياته المعنى الأداتي، أكثر من كونه مفهومًا مستقلًّا يحمل في داخله الانضباط النظري اللازم، والذي من خلاله يتم التحكم بمخرجاته عبر مقياس واحد لا مقاييس عدة، تمتد وتتقلص حسب الحالة محل الوصف، وهذا ما يظهر بشكل واضح وجلي في المجتمع الدولي، من خلال التقلص الذي يتخذه هذا المصطلح أمام الأنظمة المتوحدة والمنساقة خلف السياسة الأمريكية والمثال الصارخ هنا (الكيان المؤقت) من غير ذكر طبعًا للجرائم التي ارتكبتها أمريكا، بينما نرى ذات المصطلح يمتد ويتسع اتجاه كل ما هو مضاد لأمريكا والغرب، وهذا ما دفعنا للقول بكون الإرهاب صيغة أداتية، لأنه ببساطة سوط يملكه الأقوى عالميًّا، فضلًا عن كون تنظيمات مثل القاعدة وداعش وإلخ…، ذات صناعة واستخدام أمريكي صرف، من عهد السوفيات في أفغانستان، مرورًا بتغذية حملات العنف في العراق وليس انتهاءً بسوريا، كل ذلك ينفي أولًا أي ربط وصلة بين الجهاد والإرهاب، ويقلص من أي مساحة ممكنة عن علاقة هكذا تنظيمات بالإسلام سوى من خلال هذا المفهوم أو غيره، وإن كان لها إسناد من التراث التأريخي الإسلامي، لكن استخدامها كعصى سياسي، وتحريكها بحسب المسارات الأمريكية يقطع كل صلة ممكنة.

الجهاد الحل الناجع للدفاع الوطني

لم يعد المجتمع دائرة مغلقة، تتفاعل ضمن محركاتها الداخلية من عادات وتقاليد، إنما دائرة مفتوحة تستقبل أكثر مما تورد للغير، وهذا ينطبق بالذات على مجتمعاتنا التي تعاني من الاغتراب والاستلاب على المستوى الجمعي والفردي، كل هذا يؤدي إلى جعله مفتوحًا بالكامل، سواء ماخلفته الاحتلالات المتتالية، أو ما فرضته تقنيات الاتصال الحديثة، حيث أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي اليوم جزءًا من المتطلبات اليومية، لا يستطيع  الفرد كجزء من منظومة اجتماعية ولا المؤسسات ككيان جمعي الاستغناء عنها، نظير ملائمتها لمتطلبات القرن الجديد، الذي يستلزم سرعة الاتصال ومدى أوسع للتواصل ضمن ما يعرف أو ما يمكن أن نطلق عليه قروية العالم (العالم قرية صغيرة)، ولا يمكن التسليم بالفهم الشائع لهذه الوسائل ولا الاكتفاء بالصورة النمطية المقتصرة على كون هذه المنصات مجرد وسائل اتصال حديثة، مهمتها تأمين سرعة الاتصال ضمن فضاء واسع يخلو من الرقابة ولا تحدّه جغرافيا، فلا يمكن منطقيًّا التسليم بهذا الفهم البدائي، والذي تطغى عليه السذاجة بشكل كبير، فهذه المنصات منتج دول كبرى لم تكن يومًا غاياتها تخلو من المخالب السياسية الهادفة إلى تأمين مصالحها وتحقيق مزيد من الأهداف في سبيل ذلك، وباستخدام شتى الوسائل، ولعل أبرزها حاليًّا هذه المنصات.

 من هنا، فإن هذا التطور قد فرض واقعًا مغايرًا لما هو معروف، إذ أصبح المجتمع يسبح في بركة مختلطة أكثرها مضاف، سوى من عادات جديدة استمدت رسوخها من قوة الدعاية والنموذج؛ أي فرض الرمز المغاير عن المتعارف، وهذه العملية ذات تأثير استراتيجي في المجتمع بوصفها أداة تمنح الجديد البعد القيمي ولو كان مخالفًا لما هو سائد، والأمر لا يقتصر على وسائل التواصل الاجتماعي، بل جاءت على سبيل المثال هنا، وكذلك لأنها الأدوات الأكثر التصاقًا بنا الآن من جهة، ومن جهةٍ أُخرى نجاعتها وفعاليتها المنتجة بالنسبة للقوى المسيطرة، ورأينا ضرورة البدء من هنا كمدخلية لا بدّ منها، للتعريج على صلب الموضوع  ألا وهو الجهاد ومسألة الدفاع الوطني، ووجه الترابط يكمن في إشكالية كون أُمتنا الإسلامية عبارة عن مجتمعات مفتوحة، وأيضًا من حيث كونها مستقبلة بدون أي فلاتر تؤدي لاحتواء هذه المضافات، مثلما قد حصل مسبقًا في الاتصال، الذي حصل بين الحضارتين اليونانية والإسلامية عبر الترجمة، حيث جرى فلترة هذا الالتقاء عبر مروره بالأصول الإسلامية ومبادئ الشريعة، وصولًا لتضمين المضاف كقيمة إنسانية متعلقة بالبداهة العقلية بشكل عام، من ثم يصبح جزءًا مكملًا في المنظومة الفكرية الإسلامية، لا دخيلًا شاذًّا في هذه المعادلة، كما أن الاستقبال في حال كون المستقبل يمر بحالة مثالية، يختلف جذريًّا عن كونه هش في مختلف المجالات، ففي هذه الحالة سيكون المضاف إجباري ولو لم تتضح فيه صفة الإكراه، وهو ما يحدث حاليًّا، ومن هذا المنطلق فإن ما نعانيه من تلاعب وإضعاف في قيمنا الاجتماعية، بل وحتى الدينية كمقدمة للأولى يساهم في زعزعة وتلاشي هذه المبادئ تباعًا، فالمضاف بوصفه قيمة عليا من جهة الإجبار، وكذلك من جهة التصدير لا من حيث قيمته الفعلية، جلّه متشبع في الاتجاهات المادية والوجودية لناحية تأطير نظرتنا للكون وللحياة، وأغرقت الرأسمالية الليبرالية التعاملات المالية بعلمنا أو دونه، بينما نجد السلوك العملي من ناحية التواصل كفعل اجتماعي ملطخ بالبراغماتية من دون أن نلحظ الأثر وإلخ…

إن كل ذلك يؤدي بصيغة أو بأُخرى لتنحية القيم والمبادئ سواء كانت دينية، أو كانت نابعة من التقاليد السائدة عن السلوك الاجتماعي كفعل تواصلي بين الأفراد، ومن جهة أُخرى تضعف تراكم هذه المضافات ورسوخها حتى القيم الوطنية، مما يجعل علاقة الفرد بوطنه مستقبلًا مبنية على أُسس نفعية، ومن ناحية الواقع الفعلي للمجتمعات الإسلامية المحكومة في معظمها بسلطات زمنية جائرة من ناحية علاقتها بالأفراد، أو من حيث استخدامها المال العام، فغالبًا الفرد يكون إما مكبوت سياسيًّا أو ماليًّا (الفقر)، في مقابل ذلك تتمتع الحواشي بكل الرفاهيات الممكن تواجدها، وفي ظل جو ثقافي وفكري تغلب عليه المضافات التي ذكرناها، تنهار شيئًا فشيئًا علاقة وشعور الفرد اتجاه كل قيمه العليا، سوى ما تربى عليه من عادات وتقاليد، أو ما عرفه عن التعاليم الدينية، أو ما سمعه من شعارات الوطن وما إلى ذلك، من ثم ينسحب كل ذلك تأثيرًا على قضية الدفاع عن الوطن ومعتقدات المجتمع، ومثلما قلنا في البداية: فإن الجهاد كمفهوم له القابلية على التشكل والاندماج بفرضيات الحاضر ومعضلاته، لذلك يمكن أن يكون الجهاد الحل الأنجع بمجابهة المخاطر التي تتعرض لها البلدان، خصوصًا ونحن نعاني من أزمتين بخصوص المنظومات الأمنية في بلداننا.

 الأُولى: مؤسسية متعلقة بارتباط هذه المؤسسات بشكل وبآخر بالقوى الكبرى نتيجة المعاهدات الأمنية وقضايا التسليح والتدريب وما إلى ذلك، وهذا يعني تأطير هذه المؤسسات بالمديات والمصالح التي ترسمها هذه القوى.

 الثانية: فردية، كون أفراد هذه المؤسسات هم من عموم المجتمع، من ثم يعانون كبقيته بما يتعرضون له من تأثير المضافات، وكذلك الأثر الجائر والشاذ للسلطة، ناهيكم عن تكبيل المؤسسات التي ينتمون إليها ضمن الخطوط المرسومة للقوى الكبرى والتي أيضًا تكون مسؤولة عن تصدير هذه المضافات إلينا، بغية اكتمال جميع الأبعاد في السيطرة وتأمين المصالح.

ولكن السؤال هنا، إذا كانت هذه المضافات الخارجية، وكذلك التأثيرات السلبية المستمرة على ذهنية الفرد وتفكيره من قبل السلطات السياسية ومنتجها في أرض الواقع، مما يؤدي إلى ضمور في مبادئه الاجتماعية والدينية والوطنية، فلماذا هنا اعتبرنا الحل الديني عبر الجهاد هو الأنسب، وأهملنا بقية المفاصل الاجتماعية والقومية، أوليس جميعها قد وقع ضمن ذات التأثير؟ بلى وقد يكون الدين المجال الأوسع ضمن خارطة الصراع مع المضاف، لكن اختيار الجهاد جاء بناءً على البعد الروحي، الذي يشكله في داخل الفرد وهو الأهم في هكذا معادلة، وهو يسحب الإنسان من عمق صراعه الداخلي مع المضافات إلى حيز الوجود الفعلي كمنتصر آني (دنيوي)، ومستقبلًا (أُخروي)، فالحاضر كملبي لنداء الله عبر الفتوى في قتال أعدائه، بالإضافة لكونه الحامي المدافع عن أرضه وعرضه ومقدساته، مما يرمم شعوره ويعيد هيكلته النفسية، وينتقل به من التهميش والخمول إلى كونه ذا فعالية في مجالين: الأول المعنوي والمتعلق بالجانب الديني، والثاني مادي كبطل وطني يُشار له بالبنان، ومن الناحية الأُخروية، فله المنزلة الكبرى والثواب العظيم وإلخ… مما دلّت عليه الأدلة الإسلامية في منزلة المجاهد، لذلك الجهاد يعتبر الحل الأنجع، نظير اشتغاله في أكثر من حيز ولا يكتفي بالزمني ويقتصر عليه، كما إنه ونتيجة الاشتغال ضمن هذه المساحات التي ذكرناها يساهم أيضًا في معالجة الفرد من مشاكل المجتمعات المفتوحة التي ذكرت سالفًا، ويعزز ثقته بنفسه كعامل فاعل في معادلة الحياة، بالإضافة لكوننا لم ولن ندعو لإهمال بقية الحلول النابعة من الحيزين الاجتماعي والوطني، بل لهما أهميتهما الجوهرية في تعزيز الجهاد، عبر الاشتغال على الجانب القبلي وحميتها (الإيجابية) طبعًا، وتفعيل كل العناوين الاجتماعية والتقاليدية ضمن هذا المسار، وكذلك التعضيد متأتي من الأرض وما يحمله قاطنيها من ارتباط نفسي بها، وكل تلك الدوافع تصب في طريق واحد ألا وهو نجاعة الجهاد كحل شامل يحمل في طياته مختلف المجالات.

ومن هذا المنطلق يمسي إشكال الجهاد مختص بالدين دون الوطن، وسؤال إمكانية أن يتعدى للوطن غير ذي معنى، لاعتبار المحصلة النهائية غالبًا ما تكون نتائج الجهاد وثماره هي في صالح الوطن ولو حدث ذلك عرضًا، كذلك فإن الجهاد متعلق وموجّه للمسلمين، وها هنا وبغض النظر عن طبيعة السلطة الزمنية من ناحية تطبيقها الشريعة من عدمه، فنحن نتحدث عن مجتمعات إسلامية بالكامل أو على أقل تقدير يشكلون الغالبية فيها، وهنا يمسي الجهاد كدفاع عن متعلقات المسلمين من أراضي وأموال وأعراض ومقدسات يصب في النهاية لصالح الدولة التي يقطنوها لا بما هي مفهوم قومي، بل بمن يسكنها وبما يعتقدون، وهنا المثال الأوضح والأقرب هي فتوى الجهاد الكفائي للمرجع الأعلى السيد علي السيستاني (دام ظله) في سنة2014، وكذلك يدلّل هذا الحدث على أهمية الجهاد كأداة فعّالة في الدفاع الوطني، فلا أحد كان يمكن أن يتصور أن تكون الاستجابة كبيرة للفتوى. 

 في ظل المؤشرات القائمة في وقتها من حالة نفور شعبي من الحكومة واستياء من فشلها المتكرر، كذلك الهالة الإعلامية المدعومة لداعش والتي جعلت الجو العام مشحون بالقلق والرعب، من هنا جاءت فعالية الجهاد، والذي كان مدعّم بالعنصر الاجتماعي وبالأخص الجهد العشائري، وهذا ما دّعم من عنصر الدولة كمؤسسات أمنية، خصوصًا في ظل الانسحابات التي حصلت وعمليات الهيكلة التي حدثت بعدها، وجعلها تخرج من حالة الانكسار والهزيمة إلى حالة صحية مثالية، سواء من الداخل والمتمثل بترميم الحالة النفسية وتدعيم عناصر الجيش والشرطة بدوافع (دينية) إضافية لصد الهجوم الإرهابي وهو ما وفرته الفتوى، أو من خلال مساندة الحشد الشعبي (وليد الفتوى) كجهاز عقائدي وأمني، مشحون بهالة مقدسة وفره الجهاد كغطاء شرعي، وقدرات تكتيكية ومناورات قتالية أضافتها الخبرات العسكرية السابقة للفصائل المسلحة، سواء من خلال تجارب قتال ومقاومة الجيش الأمريكي، أو مما جرى في سوريا ومحاربتها هناك الجهات المتطرفة والطائفية.

الجهاد والقوة الناعمة

يدور مفهوم القوة الناعمة حول عنصر الجاذبية، أي حول قابلية الشيء لأن يتبلور كنموذج له القدرة على الجذب، من ثم إنتاج محاكاة مفروضة بقوة هذا العامل على المجذوبين، دون أن يتخلل هذه العملية الإكراه، هذا هو الفهم الشائع للقوة الناعمة، والذي نختلف معه حاليًّا من حيث نفي الإكراه، إذ نرى حضور الإجبار وبشكل كبير في تطبيقات القوة الناعمة الحاصلة، وهو إكراه نفسي متأتي من طبيعة الضغط الإعلامي والدعاية التي ترافق تصدير النموذج، وهي عملية لها وجود وفعالية في نفس المتلقي، وتقوم على معادلة التأثير المكثف عبر عدة أساليب إعلامية ودعائية.

السؤال هنا كيف يمكن أن يشكل الجهاد عنصرًا في القوة الناعمة وتطبيقه الواقعي هو الميدان الحربي المختلف جذريًّا عن هذا المفهوم، والمتشكل ضمن نسق موازي له وكبديل يراد تثبيته كجزء منصهر في استراتيجيات الدول والمؤسسات؟ يمكن أن يكون الجهاد عنصرًا من عناصر القوة الناعمة لا من حيث ماهيتة العملية، بل من خلال مسرى تصديره، أي الفتوى ها هنا، وكذلك الاستجابة، أي حجمها وسرعة المتلقي والمكلف للالتزام والانخراط، هذه العملية برمتها حينما يتم ترويجها ضمن السياق التاريخي كسابقة، والندرة كعامل يصف الاستجابة، في ظل عالم غارق بمنظومة قيم نسبية، لا تعترف سوى بالأنا الفردية أو القومية، ولا يتم التواصل بين هذه الأناوات إلا من خلال النسق النفعي، ولا يتم فيه توفير الحماية إلا بالتبعية السياسية على المستوى الدولي، والانتماء للمورد المالي أكثر من استشعار القيمة الذاتية للأشياء المتسامية في الداخل المحلي، يجعل عنصري الفتوى والاستجابة لها كفيلان بتوليد النموذج الجاذب، إذا تم تسويقه بالطريقة المثالية الذي تجعله عابرًا لبيئته.

 جميع الذوات الدولية تمتلك قوة ناعمة كامنة في الغالب، ومتواجدة ضمن مجالات عدة، والفرق فقط يكمن بالتفعيل والفاعلية؛ لأن هذا المفهوم لا يدور حول ماهيات محددة قد تتواجد هنا وتنعدم هناك، بل يتجه للداخل ككيان بما يملكه، من ثم يعيد صياغته في قوالب جاذبة تستخدم للتأثير في المقابل، وإذا كانت القوة العسكرية موجهة لمخاطبة السلطات كلغة تهديد وردع، فإن القوة الناعمة مصمّمة للمحكومين؛ أي (الشعوب)، كقابليات متلقية فقط وخاملة في عملية التخاطب هذه، ولا تتحرك إلا إذا دفعت رسائل هذه العملية باتجاه الحركة، ومن جهة أُخرى فقد أتاح شبه التحول لمسار الإعلام من الخط العمودي إلى الأُفقي، أي من كونه محكوم برؤى السلطة إلى نوافذ إعلامية فردية بين الشعوب، فرضتها برامج التواصل الاجتماعي، كل ذلك يجعل من عملية التسويق والتصدير للنموذج أكثر قابلية للتحقق بمدى يفوق زمن الإعلام الكلاسيكي.

كما أن هناك جوانب أُخرى يمكن أن تدخل في الحيثيات المعاصرة من قبل الجهاد، وبالأخص المجاهد كرمز ومثال، وهذه العملية التي تتجه في معظمها للداخل؛ أي للمجتمع المحلي، ستكون ذات بعدين:

البعد الأول: وقائي، يتمثل في مزاحمة ومن ثم إزاحة الرموز التي تفرضها المضافات الخارجية، والتي غالبًا ما تكون مؤطرة بالانحلال الأخلاقي والانسلاخ من الهوية المجتمعية سواء كانت دينية أو من قبيل العادات والتقاليد، من هنا يأتي الجانب الوقائي لصناعة رمزية المجاهد.

 والبعد الثاني: متمثل بالحماية من إفرازات هذه المضافات في هذا الجانب، فحينما يكون المجاهد رمزًا فإنه يحمي الكثير من طبقات المجتمع من الانجرار خلف تبعات التقليد، الذي يولّده الإعجاب بالرموز سالفة الذكر، ولكن كل ذلك مشروط بالاستراتيجيات المتبعة في عملية التسويق ناهيكم عن المجاهد نفسه كشخص، والذي ينبغي أن يكون مثالًا يحتذى به، ومجاهدًا حقيقيًّا لا مزيفًا، وإلا كان تأثيره السلبي أكبر بكثير من المضافات نفسها، لأنها ستعطي المصداقية والشواهد للخصم والعدو بالترويج لنفسه بالتزامن مع ضرب هذه المعتقدات طبعًا. فالعملية التي يتم من خلالها صناعة الرمز تنطوي على حدين:

– حدٌّ إيجابي يتمثل بعملية التسويق للجهة المصدرة له، والفكرة التي يمثلها عبر الاستدلال التعريفي به أي (الرمز) من خلال تضخيم وتعظيم جميع مواقفه، وكذلك اتخاذه كجنبة وحدوية يقي من آفات التشرذم.

– وحدٌّ سلبي خطر يتمثل بصيرورة الرمز كتعبير أوحد عن الأيديولوجية التي يمثلها. ومن هنا سينصرف معناها من خلال الرمز، وبالتالي تحميلها كل سلبياته، بالرغم من عدم صوابية ذلك، فلا يصح التعميم نهائيًا، ولكنها فرضية التسويق التي ترسخ هذه الصلة وتجعلها مترابطة بشكل لا يمكن بعده الفصل بينهما.

وهناك إضافات أُخرى يمكن أن تدعم من فكرة التوظيف المغاير لمفهوم الجهاد، بالإضافة للحيز الذي شغله ولا يزال، وقد تعطي هذه التوظيفات مساحات أوسع لاشتغال هذا الفرع الديني المهم، بما يلائم الواقع ومستحدثاته، دون القطيعة أو الانفصال لا عن التراث ولا عن النص، بل هي تسير بمحاذاته، ولكن بخطوات تناسب الأرضية الجديدة.



المقالات المرتبطة

غزة والجهاد

إن الحديث حول الجهاد في الإسلام، من الأبحاث الإسلامية العميقة والحميمة، والتي لاقت اهتمامًا واسعًا عند مختلف الجهات الإسلامية وغير الإسلامية المهتمة بقضايا الإسلام والعالم الإسلامي.

الجهاد والشهادة في غزة هل نشهد “طوفان الأقصى 2؟”

على الرغم من عدم انتهاء أو وقف الحرب الصهيونية على قطاع غزة بعد قيام حركة حماس بعملية عسكرية مباغتة في السابع من شهر أكتوبر الماضي

“ظاهرة الجهاد والشهادة المجتمعية”

الجهاد والشهادة مفهومان حددهما الإسلام بمعانٍ دينية جديدة، وقيم إسلامية، وأرفدا المجتمع الإسلامي بثقافة أسست الركائز الأساسية للإصلاح والنهضة، هذا ما عبّر عنه الإمام الخميني منذ أكثر من ثلاث عقود

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<