عفيف عثمان يستحضر كانط في معهد المعارف الحكمية

عفيف عثمان يستحضر كانط في معهد المعارف الحكمية

أقام المنتدى الفلسفيّ في معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية ندوته الدورية في 2 تموز 2024، في مقر المعهد بسان تيريز، حيث حاضر الأستاذ الدكتور عفيف عثمان في محاضرة تحت عنوان: “ كانط بين النظرية والتطبيق“، جاء هذا النشاط ضمن فعاليات الذكرى الـ300 لولادة هذا الفيلسوف، الذي لعب دورًا محوريًا في الفلسفة الحديثة، حيث إنّ بعض الدارسين يعتبره فاتحة الحداثة في الفكر الغربي.

بدأ النشاط، الذي حضره عدد من الباحثين والأكاديميين المهتمين بالموضوع، بكلمة لمدير الجلسة الشيخ  الدكتور سمير خير الدين الذي تحدث عن أهمية الموضوع وضرورة طرحه في هذه المرحلة، لِمَ لهذا الفيلسوف من دورٍ في افتتاح مرحلة جديدة من تاريخ الفلسفة، تقوم على إعادة النظر بدور الميتافيزيقا، والانتقال بها من العقل النظري باتجاه العملي، الذي تلعب فيه أخلاق الواجب دورًا مركزيًّا. كما أنّ هذا الفيلسوف وإن لم يتحدث عن الفلسفة إلا أنّ أثره في الفكر في هذا المجال كبير، وقد يكون هناك حاجة للعودة إليه من جديد لِمَ للأفكار التي طرحها من أهمية في الراهن من الزمن حيث تسود أخلاقيات مكان أخلاقيات التسامح التي سعى إليها.

ثم انتقل للتعريف بشخصية المحاضر، فقال: عمل عفيف عثمان أستاذًا محاضرًا في الجامعة اللبنانية وعدد من الجامعات في لبنان، أشرف على عدد من رسائل الماجستير والدكتوراه، شارك في عدد كبير من المؤتمرات في لبنان والخارج منها: المؤتمر الفلسفي العربي الثالث، بيت الحكمة (30 آذار / نيسان 2002)، الذكرى المئوية الأولى لمولد أنطون سعاده (من 5 إلى 9 تموز 2004). أعمال الندوة الفلسفية السادسة عشرة التي نظمتها الجمعية الفلسفية المصـرية في جـامعة القاهـرة، (عام 2004)، ساهم في  كتاب حال تدريس الفلسفة في العالم العربي (إشراف ومشاركة مع مجموعة من الباحثين)، (بيبلوس – لبنان، المركز الدولي لعلوم الإنسان)، ترجم العديد منها: النظر يأتي قبل الكلام، موجز تاريخ الفن الغربي، (بيروت، دار النجوى، 2007)، (العولمة، الدين، إسرائيل)، (بيروت، مركز الدراسات الاستراتيجية، 2007، 135 ص). (أ. باث، ب. بيكاسو، ب. هاندكه، و. بنجامين، أ. موران)، (بيروت، دار النجوى، 2007)، ترجمة كتاب أريك غريلو، فلسفة اللغة، (بغداد، المركز العلمي العراقي، 2012). ترجمة بحوث مجموعة من المؤلفين تحت عنوان: نصوص فلسفية (راينر وايهل، مارك سنكلير وآخرون)، (بغداد، المركز العلمي العراقي، 2012). ترجمة كتاب “ولادة الفلسفة” للفيلسوف الإيطالي جيررجيو كولي (بيروت، دار المعارف الحكمية، 2016). وبعد هذا التقديم دعا الدكتور إلى إلقاء كلمته.

قال الدكتور عفيف: لا يمكن لأي باحث متبصر أن ينكر الحضور الطاغي للفيلسوف الألماني إمانويل كانط (I. Kant)  (1804 – 1724) في الفلسفة المعاصرة؛ إذ إن تأثيره كان هائلًا، خرجت “من عباءته فلسفات فشته، وشلنج، وهيجل، والكانطية الجديدة، وهو وهيغل من الفلسفات المعقدة، التي لا يمكن أن تكون مردًا للقراءة إلا عند المتخصصين، ويعود سبب ذلك إلى أن نصوصهم كتبت للطلاب المتخصصين، لذلك كانط لا يقرأ إلا بالدوائر البحثية والفلسفية”.

تابع: أتى كانط بنظرية وسطية بين المدرسة التجريبية والمدرسة العقلية، فأبقى على إمكانية المعرفة عبر الحواس، واعتبر أنّنا لا يمكننا أن نعرف الشيء في ذاته إنّما المعرفة تنحصر في حدود العقل، وكان كانط قد أوضح في مقدمة مؤلفه نقد العقل المحض غرضه في: “نقد قدرة العقل بعامة بالنسبة إلى جميع المعارف التي يمكن أن ينزع إليها بمعزل عن كل تجربة”، وفي توسيعه لدائرة الفلسفة النقدية ذهب إلى أنها تنصرف إلى أسئلة ثلاثة، حيث يتوحد كل غرض للعقل فيها، وهي: ماذا يمكن أن أعلمه؟  (Was kann ich wissen ? — können)، (العقل النظري) ماذا علي أن أعمله؟ (Was soll ich tun ? — sollen)، (العقل العملي) ماذا يمكن لي أن آمله؟  (Was darf ich hoffen ? — dürfen)، (العقل الديني)، وأضاف إليها سؤال: ما الإنسان؟ وهو السؤال المعلق حتى اللحظة لأنّه حتى الآن لم يستطع أحد أن يجيب عليه. حيث نرى البربرية التي تجري في غزة، الأمر الذي يعيد طرح نفس السؤال. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ الكتب المركزية لكانط، كتبت في مرحلة متأخرة من حياته وكان بين 57 و60 عامًا، وهذه الأفكار لم تكن مقبولة من الكنيسة، لأنّها رأت فيها خروجًا عن تعاليمها، ولكن كانط أراد من خلالها أن ينقذ الدين من خلال قوله: إنّ للعقل حدودًا لا يمكن أن يتخطاها، فهو لا يستطيع أن يثبت وجود الله، وهذا ما لم يعجب الكنيسة، ووجهت له نقدًا عليها، وطلبت منه التوقف عن الكتابة، مما دفعه إلى نشر أحد كتبه في روسيا.

أضاف، كما أنّه لا بدّ من الإشارة إلى أنّ أعمال كانط، لا تستحضر بشكل دائم، حيث نلاحظ أنّه في التسعينات تمّ العودة إلى كتاب “نقد ملكة الحكم”، وهو من الكتب التي تهتم بالجميل، وهذا يُظهر إلى أنّ كلّ فترة كان الاهتمام يتركز على موضوع محدد.

ولفت الدكتور عثمان، أنه بعد كانط ظهرت الكانطية الجديدة في روسيا، ونحن كعرب كما كتب الدكتور عطية في كتابه “نحن وكانط” يبدو أنّ اهتمامهم به، لم يتعدَّ نقد العقل، فكل المعرفة في كانط جاءت من التعليم الجامعي، وعلى هذا الأساس نجد أثر هذه الشخصية في كتاب “دستور الأخلاق في القرآن” لعبد الله الدراز، حيث نراه يوازن بين الأخلاق الإسلامية وكانط. وكلّ أعمال الجابري هي من كانط، وهذا ما نلاحظه في استخدام كلمة النقد في أعماله المركزية، كنقد العقل العربي، ونقد العقل السياسي… وحتى أركون كتابه “نقد العقل الإسلاميّ” الذي ترجم إلى العربية باسم “تاريخية العقل الإسلاميّ”. وأخيرًا لا بدّ من التنويه إلى أنّ المكتبة الكانطية قد أصبحت شبه مكتملة في العالم العربي.

ثم انتقل الدكتور عثمان إلى الحديث عن الجانب السياسي في فلسفة كانط، فقال: حين قامت الثورة الفرنسية في العام 1789، تحمس لها كانط، ورأى فيها أملًا وبادرة في أن يعمَّ النظام الجمهوري أوروبا، وأن تسود الديمقراطية ويزول الاستعباد والاسترقاق، وأن يَنشُر السِّلم لواءه في البلدان، واعتبر وظيفة الحكم والسلطة هي احترام كل فردٍ، ويؤكد كانط على فكرة الغاية (وفي ذهنه ما حققته الثورة الفرنسية)، فيقول: “على هذا النحو، وبمناسبة تحويل شامل لشـعب كبير إلى دولة، فقد جرى استعمال متكرر لكلمة تنظيم، وذلك بشكل ملائم جدًّا، وذلك لإقامة القضاء، إلـخ، بل وهيئة الدولة بأكملها أيضًا. وبالطبع يجب على كل عضـو أن يكون في كل كهذا ليس فقط وسيلة، بل في الوقت نفسه غاية، وبما أنه سوف يعمل مع غيره من أجل إمكانية الكل، فإنه سيكون بدوره من حيث موقعه ووظيفته من فكرة الكل”.

وتابع: وقف كانط مع مبدأ الديمقراطية والنظام الجمهوري، بسبب أن صاحب الحق في التشريع هو إرادة الشعب، لأن الشعب لا يمكن أن يضر بنفسه، بينما الفرد الواحد حين يشرع لغيره قد يضر بهذا الغير. ولا أحد يريد الأذى لنفسه، فالشعب إذا شرع لا يريد الأذى لنفسه. ونقول طبعًا: “لا يريد، وإن كان يقع أن يؤذي نفسه بنفسه، ولكن هذا إنما ينم عن جهل بمصلحته الحقيقية، لا عن إرادة إيقاع الأذى بنفسه”، وكان كانط قد نشَر في عام 1784 عرضًا موجزًا لنظريته السياسية (أي فلسفته العملية) بعنوان: “فكرة عن تاريخ كوني من وجهة نظر كوسموبوليتية”، مقرًّا التنازُع والخلاف، بل أوجبه وحتَّمَه، بيد أن النزاع هذا مقيد بقوانين وبحدود العادات والتقاليد، والنزعة الفردية هي ما فرضت على الإنسان مسألة الاجتماع، والجانب الاجتماعي عند الأفراد ينطبق على الدول والأمم، ما يضطرهم إلى التعاقد في اتحاد مدني ينظمه القانون من أجل السلام، “وإنَّ لُبَّ التاريخ ومعناه هو الحدُّ من الخصومة والعنف والاعتداء الذي بين الدول، وهذا توسيع مُتواصِل لدائرة السلام”، وتقليص لدائرة الحروب.

وأضاف: جاهر كانط بموقفه ضد العصيّان، ورفض تضمين “حق العصيّان” في الدستور، ويرغب في إبقاء فكرة اللجوء إليه مكتومة: “فالأمر الجائر في العصيان يتجلى في أن إشهار مبدئه يجعل قصده مستحيل التحقيق، وإذن فلا بدّ من كتمان أمره. لكن هذا الشرط الأخير ليس بلازم للحاكم لزومًا مطلقًا؛ فإنه يستطيع أن يعلن على رؤوس الأشهاد عزمه على مجازاة كل عصيان بإعدام زعماء الفتنة، ولو كان هؤلاء يعتقدون أنه هو البادىء بخرق القانون الأصلى”. وفي الواقع، فقد أنشأ كانط القانون العام (Le droit Public) على نحو قريب من الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن، فعلى الدولة العقلانية، في زعمه، أن تتأسس على “حرية” الأفراد، وعلى “المساواة” بينهم، بوصفهم رعايا، وعلى “استقلال” المواطن، والذي هو في مجال القانون شريكًا في التشريع.

ثم تطرق الدكتور عثمان إلى موضوع الأخلاق، فقال: تتماهى فلسفة كانط العملية مع فلسفته الأخلاقية؛ إذ الفلسفة العملية الشاملة عنده علمٌ موضوعه توجيه الأفعال الحرة وفقًا لقواعدَ عامة، يهتم بالوسائل والدوافع أكثر من اهتمامه بغايات الأفعال وأهدافها. ومع أن موضوع هذه الفلسفة العملية هو الأفعال الخلقية بوجه خاص، فإنها تحدد الأفعال الإنسانية بوجه عام وتميز بينها وفقًا للنظام الطبيعي، فالقانون الأخلاقي يقوم على التزامٍ طبيعي، أي على التزامٍ يرتكز على جوهر وطبيعة الإنسان والأشياء، فالقانون يُسَمَّى قاعدةً إذا كُنَّا نلتزم، على حد تعبير كانط، بتحديد أفعالنا وفاقًا له[1]. فأشار إلى ضرورة استخدام العقل لتحديد السلوك، بل ذهب إلى الاعتقاد بأنه لو كان الإنسان عقلًا محضًا، لاتجه بطبيعته نحو الخير، ولتحقق التطابق بين عقله وإرادته، فقوام الفعل الأخلاقي عنده هو الإرادة الحرة.

تابع، والقول بأن ما يتطلبه الواجب نظري (باطل)، يعني إنكار أنه يُلزمنا، هو إنكار أنه واجب. يمكننا أن نتخلى عن كل الأخلاق ولا نعتبر أنفسنا ملزمين باحترام حرية الإنسان (باستثناء الخوف من الانتقام). إن الأطروحة التي بموجبها تعتبر الأخلاق مجرد وهم وضرورة اجتماعية بسيطة تنتشر في شكل جيد. لكن لا يمكننا أن نقول إننا مطالبون بفعل ذلك من الناحية النظرية، وأن ذلك مستحيل من الناحية العملية، لأنه لا أحد مطالب بالقيام بالمستحيل. والواجب الذي يفرض أمرًا مستحيلًا قطعًا، كإحياء الميت، ليس بواجب على الإطلاق: فهو ليس بواجب.

أضاف، لذلك، يقول كانط، إنه إذا أكدنا على أن العدالة جميلة ولكنها غير قابلة للتحقق عمليًّا، فإننا بذلك نحرر أنفسنا على هذا النحو من أي التزام بالعدالة. وهذا أمر جيد من الناحية النظرية، ولكن ليس من الناحية العملية، وهذا القول، إنما يدل على خراب الأخلاق. وهي طريقة ملائمة للغاية لإعفاء المرء نفسه من العدالة، كرجل أو كمواطن. على العكس من ذلك، فإن الاعتراف بالصدق كواجب يعني أيضًا الاعتراف بأنه ممكن، مهما كانت الصعوبات، والثقة في إمكانية ذلك، أي الاعتقاد بأن طبيعة الأشياء خارجنا وداخلنا (الطبيعة البشرية) لا تتعارض مع إدراك ما يتطلبه العقل، إننا لا نعيش بالضرورة في عالم مجنون. لكن المعرفة العلمية لا تؤكد لنا ذلك بأي حال من الأحوال، ولا تساعد في إرشادنا حول إمكانية العدالة هذه. فكيف يمكن للإنسان المفكر أن يفكر في هذا الاتفاق الأساسي بين ما يريده وبين الطبيعة، بين الحرية والطبيعة؟ هذا هو السؤال الذي تطرحه الفلسفة.

وختم الدكتور عفيف عثمان محاضرته بالقول بضرورة العودة إلى كانط وتفعيل نظريته في كتابه السلام الدائم، والذي يتكلم فيه عن الأمم المتحدة، ودورها في تنظيم العلاقات الدولية على أساس المساوة. معتبرًا، بأنك لكي تكون  كانطيًّا في راهن الأيام، حيث يصم ضجيج الحرب الآذان، ومدينة غزة الفلسطينية حجرًا وبشرًا تباد من جيش الاحتلال الإسرائيلي، هي مهمة صعبة جدًّا. فكانط رجل الأخلاق والقانون الأول، وهي عنده شرط السياسة نفسها. فالسياسة الصحيحة “لا تستطيع أن تخطو خطوة إلا بعد أداء التحية أولًا للأخلاق”، وحقوق الإنسان عنده “واجبة التقديس، والواجب على السياسة أن تنحني للحق”.

بعد انتهاء المحاضرة، دار حوار بين الأستاذ الدكتور عفيف عثمان والحضور، تمّ التأكيد على ضرورة استحضار كانط في هذه المرحلة من تاريخ الإنسانية، حيث نحن نحتاج إلى ما يخرجنا من دائرة الاستكبار، والتي أوصلت إلى حرب الإبادة في فلسطين من قبل العدوان الصهيوني.

[1]    ملاحظة من د. عبد الغفار مكاوي، في الهامش رقم 7، الصفحة 23.  ضمن كتاب: كانط، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق (القاهرة، الطبعة 1، 1963، طبعة مؤسسة هنداوي 2020). ترجمة د.عبد الغفار مكاوي، ومراجعة د. عبد الرحمن بدوي.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
معرفةكانطفلسفة

المقالات المرتبطة

إيّاكم أن تسمحوا بخلق الفرقة بين المسلمين: آية الله الشيخ محسن الآراكي

عقد المنتدى الدولي للحوار المسؤول في معهد العارف الحكمية حوارًا مع آية الله الشيخ محسن الآراكي عبر منصة المعهد على الفايسبوك، بتاريخ 28 تشرين الأول 2020

مناقشة لكتاب الدين بين معطيات العلم وإثارات الالحاد

أقام منتدى قارئ للشباب مساء أمس مناقشة لكتاب الدين بين معطيات العلم وإثارات الالحاد في معهد المعارف الحكمية مع الدكتور عبدالله زيعور

كتابة المقالة الاسلامية وكيفية تحليل مضمون الخطاب الثقافي

أقام معهد المعارف الحكمية عصر يوم الثلاثاء 9/8/2016 وضمن منتدى قارئ_للشباب ورشة تخصصية تحت عنوان “كتابة المقالة الاسلامية وكيفية تحليل مضمون الخطاب الثقافي”

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<