مجالس أهل البيت (ع) في عاشوراء هي معاقل للتضحية والجهاد

مجالس أهل البيت (ع) في عاشوراء هي معاقل للتضحية والجهاد

المجالس العاشورائية ومراسم إحيائها هي من أهمّ مميّزات الشيعة عن غيرهم من المسلمين، لما تُظهِره من فيوضات التعلّق والارتباط بآل رسول الله (ص)، من خلال ذكر مصائبهم وسرد مظلوميّتهم والتفاعل العاطفيّ معها، فهي أيضًا تعدّ مصدرًا مهمًّا لبث روح الجهاد والتضحية في صفوف الشيعة عامة وبالخصوص رواد هذه المجالس، وعن رسول الله (ص): “إنّ لقتل الحسين حرارةً في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدًا”. لا شكّ في أنّ الحرارة تعبّر عن الشوق والارتباط، وعاشوراء الحسين (ع)كانت أنموذج العشق المتجدّد عامًا بعد عام، ومسارًا تفجّرت معالمه، ووُضعَت خارطته سنة 61 للهجرة، وما زالت حرارة هذا الشوق تتعاظم مع تقادم الزمن، على عكس ما هو معهود من أنواع الارتباط الذي يُضعفِه تعاقب السنوات. هذه الحرارة تنعكس أثرًا خارجيًّا كلَّ عام، في أيّام عاشوراء ومحرّم الحرام، بإحياء هذه الشعيرة الإلهيّة التي اتحد فيها العقل مع الحبّ والعاطفة والحزن والبكاء والتضحية والجهاد، من خلال مجالس حسينيّة ومجالس لطم ومسيرات عاشورائيّة، وتتكشف خلالها الكثير من الألطاف الإلهية والمنافع والرحمات، لترشح فيما بعد قيمًا ونهضةً ودينًا وإيمانًا وحياةً في مفاصل الأمّة كافّة.

ثمّة آثار خاصّة لإحياء هذه الشعيرة المقدّسة، وفوائد وثمار وألطاف إلهيّة جليلة، يرشح بها رحمةً وتوفيقًا على المجتمع الحسينيّ إذا تمسّك بوصيّة “إحياء الأمر”، ومن أهم الواجبات التنويه في هذه المجالس على البعد الجهادي لثورة عاشوراء وتوضيح التضحيات التي قدّمها الإمام الحسين (ع) في هذه الثورة. إنّ هذه المجالس ومراسم العزاء تُسهِم في تأجيج العاطفة، وتحفّز عمليّة البكاء والتباكي. وإنّ إحدى أكبر الفوائد والرحمات التي تفيض بها هذه المجالس، هو زيادة هذه الرابطة العاطفيّة في قلوب الناس اتجاه أهل البيت (ع)، لذا على الخطباء أن يغتنموا هذه المجالس في زيادة العاطفة وأن تمتزج ببعض من صور الجهاد والتضحية، بل يجب أن يحافظوا على هذا المسار لخلق جيل عارف بقيم الثورة الحسينية في عاشوراء، وبما أنَّ العزاءَ الحسينيَّ يعني إحياءَ القيمِ المعنويّةِ الإلهيّةِ، فإن الجهاد هو قيمة إلهية عليا ويجب أن يكون له حصة كبيرة داخل المجالس كي لا ننسى أن الجهاد له الفضل في إحياء الدين، وهذا ما سأتطرق له بسير الحديث، ويجب أن تطرح هذه التفاصيل داخل المجالس الحسينية بلغة سهلة تصل للمتلقي ممتزجة بالعاطفة لتأجج داخل الحاضرين شعلة حسينية لا تخمد أبدًا.

هذا وقد عاش الإمام الحسين (ع) في عهد تأهّب فيه الحكام المستبدون من بني أمية لهدم الإسلام ومحو الشريعة، والقضاء على دين الله، وكان جهاده سببًا في إحياء الدين وبعث روح جديدة في نفوس المسلمين، ومن منطلق الشعور بالمسؤولية أدرك الإمام الحسين (ع) أن الأمة قد وصلت إلى حالة من الخدر والسبات حدًّا جعلها لا تفكر في واقعها ولا تعي المخاطر المحدقة بها بعد أن استخفها الحكام واستحوذوا عليها بأسلوبي: الإفساد والإرهاب، وأنها بحاجة إلى هزة قوية وعزيمة توقظها من سباتها وتنفض عنها تراب الذل والهوان، وهذه الهزة لا تحصل بالإرشاد والوعظ والتذكير، وإنما لا بدّ من دم يراق على ساحتها ليرجع إليها رشدها وهمتها وإرادتها، ويحرك الدم في عروق أبنائها. وقد قال الإمام الحسين (ع) بهذا الصدد مستندًا إلى قول رسول الله (ص): “من رأى سلطانًا جائرًا مُستحلًّا لحرام الله، ناكثًا عهده، مخالفًا لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير عليه بفعل ولا قولٍ كان حقًّا على الله أن يُدخله مُدخله”.

آثر (ع) عدم السكوت أمام السلطة الجائرة، والتصدّي للأهواء والبدع، والسخط على قتل الأبرياء، وهتك الأعراض، ومنع الحقوق عن أصحابها، فنهض للجهاد ضد الظلم والطغيان، ومن أجل إحقاق الحق وإنقاذ الدين وإحياء الشريعة وإصلاح الأمة الإسلامية وفق مبادئ وتعاليم الرسالة المحمدية، مضحيًّا بنفسه وأهله وصحبه في سبيل صيانة أسس ذلك الكيان الذي بشر به جده، ولتصحيح مسار الأمة والمحافظة على رسالة السماء ومعانيها الخالدة، وقد عبّر الإمام الحسين (ع) عن ذلك بقوله: “إني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا، ولا مفسدًا ولا ظالمًا، إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله (ص)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي”، فكان جهاده وتضحيته منارًا للأجيال في مختلف الحقب التاريخية بما جسدته من مبادئ ومثل عليا للإنسانية جمعاء، حيث تركت النهضة الحسينية آثارها وبصماتها في الفكر الإنساني لدى البشرية جمعاء، ولم تنحصر آثارها بطائفة دون أخرى ولا بزمان دون غيره، بل شملت كل أحرار العالم على اختلاف دياناتهم ومعتقداتهم لما تضمنته من قيم ومثل جهادية عليا.

ونحن اليوم، حين تمر علينا ذكرى نهضة وجهاد الإمام الحسين (ع) بحاجة ماسة إلى اقتباس الدروس والعبر البليغة من تلك النهضة المباركة وطرح هذه المفاهيم في المجالس الحسينية، وتوضيح ما جسدته ثورة عاشوراء من قيم ومعاني جهادية سامية من أجل إحياء فريضة الجهاد في سبيل الله بمعناها الصحيح، وغرس هذا المفهوم لدى الناشئة في مجتمعنا بمحتواه النبيل الإنساني المتمثل في الدفاع عن النفس والوطن بعيدًا عن ما علق به من تصورات خاطئة وتأويلات مغلوطة تستخدمها الجماعات الإرهابية من أجل شرعنة أعمالها الإجرامية ضد المدنيين الآمنين في عصرنا الراهن، وذلك باتخاذ الإمام الحسين (ع) وجهاده في واقعة الطف نموذجًا يقتدى به من قبل المجاهدين على مر الأجيال في استلهام معاني الجهاد والتضحية والفداء في سبيل نصرة الحق والعدل.



المقالات المرتبطة

في ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر: قراءة في مشروعه المقاوم وتجربته السياسية الرائدة

افتخر أني من جيل عاش في مرحلة نهضة الإمام موسى الصدر وعاصر تجربته الرائدة، ولامس عن قرب الثوابت التي كانت تشكل مرتكزات جهاده السياسي في تلك المرحلة

في مفهوم العدل وتساؤلاته من منظور أرسطو

شغلت مسألة العدل أذهان المفكّرين والفلاسفة، بل وكل فرد في مجال حياته اليومية على مر التاريخ الإنسانى، كنتاج لحالة القلق الاجتماعي والأيديولوجي داخل المجتمعات الإنسانية

رحمة النبيّ (ص) رسالتنا للعالمين

إذا كانت المسيحيّة مثلًا تقوم على قيم من الرهبنة والمحبة، فإنّ الإسلام المحمّديّ يقوم على قيم الرحمة والحق والعدالة.

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<