عزاء الإمام الحسين (ع) بصورة سياسية محضة
فلسفة وفكر الإمام الخميني (قده)
إنّ إقامة مجالس العزاء هي إحدى الثقافات التاريخيّة للشيعة، وأهل البيت هم أوّل مَنْ أقام العزاء على الإمام الحسين (ع)، وقد أوصُوا الشيعة مؤكِّدين على إقامة هذه المجالس، تخليدًا لذكرى الإمام الحسين (ع) وقضيّة عاشوراء، ولذا فقد تحوّلت هذه المجالس، وبشكلٍ تدريجيّ، في الأوساط الشيعيّة إلى تقليدٍ راسخ، ثمّ اتَّسعت أبعاده مع مرور الزمن، ولكنّها كانت تؤدّي وظائف مختلفة في الأزمنة المختلفة، بالالتفات إلى الظروف السياسيّة والاجتماعيّة الحاكمة عليها. فكانت هذه المجالس أحيانًا دينيّة صِرْفة، حيث كان الشيعة يقيمون العزاء فقط لإبراز الحزن على الإمام الحسين (ع) وأولاده، وكانت تقام بمنأى عن العمل السياسيّ إلى حدٍّ كبير، وأحيانًا أخرى كانت تُطْرَح فيها حادثة عاشوراء كرواية سياسيّة ثوريّة، يتوجَّب على أساسها أن ينهض المعزُّون، كالإمام الحسين (ع)، في طريق محاربة الظلم وحكومات الجَوْر؛ تأسِّيًا بشهداء كربلاء.
لماذا نحن اليوم نتحدث عن هذه الثورة في مجالسنا رغم مرور زمن طويل على حدوثها؟ يمكن القول: إن الثوار عندما يقومون بثوراتهم فإنهم لا يكتسبون هذه التسمية إلا عندما تحقق أفعالهم تغييرًا جذريًّا وحقيقيًّا في المجتمع الذي ثاروا فيه وعلى مختلف الصعد والأبعاد، بحيث يغدو المجتمع بعد ثورتهم مختلفًا تمامًا عما كان عليه قبلها، فهل يصدق خروج الإمام الحسين (ع) وصحبه الكرام أن نطلق عليه اسم ثورة لا سيما ونحن نحاول في هذه السطور التطرق إلى الأبعاد السياسية لهذا الخــروج؟ إن الإجابة على هذا التساؤل الكبير لا تكون واضحة إلا بعد أن ندرك كيف استطاع الإمام الحسين (ع) بخروجه أن يؤثر على مجرى الأحداث السياسية في عصره وفي العصور اللاحقة حتى يومنا هذا، مما يجعلنا إزاء نوعين من الأبعاد السياسية، أحدها يتعلق بتأثير الإمام الحسين (ع) السياسي في الامتداد العرضي؛ أي بمجرى الأحداث السياسية لعصره، وما جرى في ذلك الوقت وما دعاه للخروج طالبًا إصلاح شامل على جميع الأصعدة، والآخر يتعلق بتأثيره في الامتداد الطولي؛ أي بمجرى الأحداث السياسية للعصور اللاحقة التي تلت ثورة عاشوراء سواء في نفس الحقبة، أو وصولًا لوقتنا هذا.
وعند الحديث عن العصر الحالي، قدّم الإمام الخميني (قده) عزاء الإمام الحسين (ع)، على أنّه رواية سياسيّة محضة، وهي الرواية التي كان يعتقد بها الإمام الخميني (قده) منذ تأليفه كتاب (كشف الأسرار)، وهو يرى في هذا الكتاب أنّ هدف كربلاء هو نزع أسس الظلم والجَوْر، وفلسفة العزاء هي حفظ هذا الهدف في كلّ الظروف، وبصورةٍ عامّة تختلف رؤية الإمام الخميني (قده) للعزاء اختلافًا كبيرًا عن الخطاب الغالب في ذاك الزمان، لا تظنوا أنّ دافع البكاء والاجتماع في مجالس العزاء هو فقط أن نبكي من أجل سيّد الشهداء، فلا سيّد الشهداء بحاجةٍ إلى هذا البكاء، ولا هو ينتج شيئًا، القضيّة هي ليست قضيّة بكاءٍ وتباكٍ، وإنّما هي مسألة سياسيّة، فقد أراد الأئمّة من خلال رؤيتهم الإلهيّة أن تنهض هذه الشعوب، وتشكّل نسيجًا واحدًا.
ورغم أنّ هذا الكلام قد صدر بعد الثورة الإسلاميّة، ولكنّه يبيِّن رؤية الإمام الخميني (قده) حول مجالس العزاء، والذي عمل على أساسه خلال الثورة أيضًا، وقد أدّى هذا الفهم لثورة الإمام الحسين (ع) إلى إيجاد حماسٍ سياسيّ في المجالس، والحقيقة أنّ هذه المجالس تحوَّلت من مراسم العزاء المحض التي كانت تعقد بهدف الحصول على المغفرة الفرديّة، إلى حركة ذات هدفٍ سياسي يهدف للمصلحة العامة، وباعتبار أنّها كانت تمتلك دائمًا وعلى مرّ التاريخ حقيقة جماعيّة وثوريّة فلم يكن التحكّم بها ممكنًا من جانب النظام البهلويّ، ونؤكِّد مجدَّدًا أنّ هذه المراسم كانت تمتلك هويّة سياسيّة، ولكنْ ظلّ هذا البُعْد السياسيّ لها مكتومًا على مرّ التاريخ، لأسباب مختلفة، وكان الإمام الخميني (قده) واعيًا لهذه القدرة وهذا التكتم وسعى جاهدًا لبيانه، ولهذا السبب كان يؤكِّد أنّ هذا الجانب السياسيّ لهذه المجالس هو أرقى من جميع الجوانب الأخرى، ويجب أن يكون العنصر الأساسي في مجالس الحسين (ع) وأن نتحدث عنه ونبين مدى فاعليته.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو لماذا طرح هذا البُعْد لمجالس العزاء بشكلٍ أكثر بروزًا من الأبعاد الأخرى، إلى حدّ اعتبر أنّ فلسفة وجود مجالس العزاء هو وظيفتها السياسيّة؟ في الواقع كان هدف الإمام من إشاعة هذا الكلام في المجتمع هو الاستفادة من القوّة العظيمة للجموع المشاركة في هذه المجالس، والتي لم يكن لها نظيرٌ في أيّ مراسم دينيّة أخرى، وفي الوقت نفسه لم يكن للنظام أيّ سلطةٍ على هذه المجالس، ولهذا السبب كان يختار هذه الأوقات “محرَّم وصفر” من أجل توجيه الخطابات التاريخيّة والحاسمة، وكان حضور الناس في هذه الشهور يهيِّئ الأسباب الموجبة لسقوط النظام الفاسد، وقد كان يؤكِّد في خطاباته على اقتداء الثورة الإسلاميّة بنهضة عاشوراء بشكلٍ صريح، لقد كانت نهضة الثاني عشر من محرَّم والخامس عشر من شهر خرداد، في مقابل قصر الشاه والأجانب ومأوى الظلم، كانت مؤثِّرة وحاسمة بسبب اقتدائها بالثورة الحسينيّة، إلى حدٍّ جعلها تحوِّل عصر الظالمين والخائنين إلى ليلٍ أسود، وفي الوقت نفسه كان الناس أيضًا يشعرون أثناء إقامة مجالس عاشوراء بتعاطفٍ أكثر مع مبادئ الثورة الإسلاميّة، وكانوا يعتبرون هذه الأهداف موافقةً تمام الموافقة لمبادئ الإمام الحسين (ع) في نهضة عاشوراء.
وعند الحديث عن التأثير السياسي لخروج الإمام الحسين (ع) بامتداده الطولي، لم تتوقف نتائج ما حصل سنة 61 هجرية على أرض كربلاء عند هذا التأريخ، بل استمرت وتراكم زخمها مع مرور السنوات والعقود والقرون، فبعد استشهاد الحسين (ع) وصحبه المأساوي دقت أجراس التغيير والنقمة في كل العالم الإسلامي وكان من نتائجها القريبة والمباشرة هو تمزيق وحدة الصف المعادي الذي ثاروا عليه، كما أصبح خروج الإمام الحسين (ع) مدعاة إلى إثارة جدل فكري محتدم لم يخمد لهيبه حول من يحكم الناس؟ وما يجب عليه؟ وما يجب على الناس في حالة ارتكابه للمعاصي وتجاوزه على حقوق الله وحقوق الناس؟ وقد دفع هذا الجدل إلى خلق المدارس الفكرية الرئيسة في الإسلام، كالمعتزلة، وأهل العدل والتوحيد، والأشاعرة وغيرهم، ومن التأثيرات السياسية الأخرى أيضًا، هو الفلسفة الكامنة وراء خروج الحسين (ع) بأهل بيته من النساء والأطفال إلى جانب المقاتلين، فهذه الفلسفة لا تقتصر على تأثيراتها الآنية المتمثلة بالدور الإعلامي المتميز الذي جسدته الحوراء زينب (ع)، بل تمتد إلى ما بعد هذا التاريخ لتصل إلى يومنا هذا، فكما هو معلوم أن المعسكر الذي قاتل الحسين (ع) لم يكن معسكرًا شريفًا، إذ وصلت همجيته وبربريته إلى حد الحرمان من الماء وإحراق الخيام على النساء وقتل الأطفال حتى الرضيع منهم، مما يدل على لا إسلاميته واحتكامه إلى منظومة قيمية لا تمت إلى الإسلام بصلة. استطاع الإمام الحسين (ع) أن يترجم هذه الصور بصورة سياسية عظيمة للأجيال اللاحقة.
استطاع الإمام الخميني (قده) أن يواجهنا بنص يدعو فيه سماحته إلى ضرورة التوفر على وعي عميق للعزاء الحسيني، فيما أداه من دور تاريخي، وفيما يملك من إمكانات واسعة في الحاضر، والإمام الخميني (قده) يعتقد أن وعينا الراهن بمجالس العزاء ناقص، وأحيانًا منعدم، لذلك يدعونا سماحته لإدراك عمق قيم مجالس العزاء الحسيني التي يعرف البعض عنها القليل، وقد لا يعرف البعض الآخر أي شي عنها. وإذا كان الإمام الراحل يطالبنا باستئناف وعي عميق للعزاء الحسيني، ولما لأشكاله المختلفة من دور في الماضي والحاضر والمستقبل، فإنه (قده) كان يمارس تأسيس خطوط عريضة لهذا الوعي عبر فكره النهضوي النير، ومن خلال خطاباته وأحاديثه التي أكّد فيها على الوظائف السياسية للمآتم الحسينية، ونجح في إيصال فكره للمجتمع سواء على صعيد الثورة المباركة، أو ما تلاه من محاضرات ومجالس أسست لطرح الأفكار السياسية لثورة عاشوراء، وصارت قواعد ثابتة تطرح اليوم في مجالس العزاء الحسيني، لاستنهاض الهمم وتحريك العقول اتجاه الباطل، والخروج على الباطل وسحقه، وجعل ثورة الإمام الحسين (ع) ومجالس العزاء عليه محطة بارزة لإعلاء كلمة الحق في كل مكان وزمان.
المقالات المرتبطة
نظرية روح المعنى عند الإمام الخميني (قدّس سرّه)
إنا لا نتقيد بالصدق اللغوي أو لزوم تحقق الحقيقة اللغوية في هذه الحقائق الإلهية، بل الميزان في هذه المباحث هو صحة الإطلاق ووجود الحقيقة العقلية
تاريخ علم الكلام | الدرس الثاني عشر | كلام الإماميّة في حقبة تشكّل الجوامع الكلاميّة مدرسة بغداد الكلاميّة
حقّقت مدرسة قم إنجازَين مهمَّين؛ أوّلهما تنقية الأحاديث واختيار الموثوق وما يمكن الاعتماد عليه من بينها، حيث تمّ في هذه المدرسة الفكريّة تصفية النقولات والروايات التي رافقتها انحرافات فكريّة واعتقاديّة،
الانتصار في مواجهة الشرق الأوسط الجديد
شكل الانتصار الذي حققته المقاومة الإسلامية في لبنان ممثلةً بحزب الله منعطفًا هامًا في تاريخ أمتنا المعاصر على وجه العموم