التدبر التربوي في ســـورة الفاتحــــة
مقدمة… حول معاني ما يأتي في سياق سورة الفاتحة
هذه خطرات تربوية من وحي سورة الفاتحة، لما لها من دلالات روحية، نقلية وعقلية.
نورد دلالات معاني كلمات: الحمد/ لله/ رب/ العالمين/ الرحمن/ الرحيم/ الدين/ نعبد/ الصراط/ المستقيم.
(الحمد): الثناء بالجميل على جهة التعظيم والتبجيل مقرونًا بالمحبة.
(الله): اسم علم للذات المقدسة لا يشاركه فيه غيره.
(رب): مشتق من التربية وهي إصلاح شؤون الغير ورعاية أمره، والرب يطلق على عدة معانٍ وهي: المالك، والمصلح، والمعبود، والسيد المطاع.
(العالمين): العالم: (بفتح اللام): اسم جنس لا واحد له من لفظه وهو يشمل: الإنس والجن، والملائكة، والشياطين، وهو مشتق من العلامة، لأن العالم علامة على وجود الخالق جلّ وعلا.
(الرحمن الرحيم): صفتان مشتقتان من الرحمة.
(الدين): الجزاء ومنه الحديث الشريف (كما تدين تدان)؛ أي كما تفعل تُجزى.
(نعبد): قال الزمخشري: العبادة أقصى غاية الخضوع والتذلل، ولذلك لم تستعمل إلا في الخضوع لله تعالى لأنه مولى أعظم النعم فكان حقيقًا بأقصى الخضوع.
(الصراط): الطريق، وأصله بالسين من (الاستراط) بمعنى الابتلاع، كأن الطريق يبتلع السالك.
(المستقيم): الذي لا عوج فيه ولا انحراف.
تفسير الآيات الكريمة من سورة الفاتحة.
- (البسملة): هي الآية الأولى في سورة الفاتحة، ومعناها: أبدأ بتسمية الله وذكره قبل كل شيء، مستعينًا به جلّ وعلا في جميع أموري، طالبًا منه وحده العون، فإنه الرب المعبود ذو الفضل والجود، واسع الرحمة.
الآية: (2) – أي قولوا يا عبادي إذا أردتم شكري وثنائي الحمد لله، اشكروني على إحساني وجميلي إليكم، فأنا الله ذو العظمة والمجد والسؤدد، المتفرد بالخلق والإيجاد، رب الإنس والجن والملائكة.
الآية: (3) – أي الذي وسعت رحمته كل شيء، وعم فضله جميع الأنام بما أنعم على عباده من الخلق والرزق والهداية إلى سعادة الدارين، فهو الرب الجليل عظيم الرحمة دائم الإحسان.
الآية: (4) – أي هو سبحانه المالك للجزاء والحساب، المتصرف في يوم الدين تصرَّف المالك في ملكه. ﴿يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ للهِ﴾[1].
الآية: (5) – أي نخصك يا الله بالعبادة، ونخصك بطلب الإعانة، فلا نعبد أحدًا، وإياك ربنا نستعين على طاعتك ومرضاتك، فإنك المستحق لكل إجلال وتعظيم، ولا يملك القدرة على عوننا أحد سواك.
الآية: (6) – أي دلنا وأرشدنا يا رب إلى طريقك الحق ودينك المستقيم، وثبتنا على الإسلام الذي بعثت به أنبياءك ورسلك، وأرسلت به خاتم المرسلين، واجعلنا ممن سلك طريق المقربين.
الآية: (7) – أي طريق من تفضلت عليهم بالجود والإنعام من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، أي لا تجعلنا يا الله من زمرة أعدائك الحائدين عن الصراط المستقيم السالكين غير المنهج القويم، من اليهود المغضوب عليهم أو النصارى الضالين، الذين ضلوا عن شريعتك القدسية، فاستحقوا الغضب واللعنة الأبدية.
الآثار التربوية لسورة الفاتحة.
توجد آثار تربوية، تصلح للمسلم، من صباه إلى شيخوخته، فالتربية القرآنية حركة مستمرة طوال الحياة على الأرض، ونورد بعض الآثار التربوية لسورة الفاتحة، وهي باختصار كما يلي:
- أن يعرف المؤمن معنى [أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم]، وسبب بدء أقوالنا وأفعالنا بها، وتسمى [الاستعاذة]، ومعناها: أستجير بكتاب الله وأعتصم به من شر الشيطان العاتي المتمرد.
- أن يفزع المؤمن إلى ربه عند وسوسة الشيطان بقوله: “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم”، فلا يكف الشيطان عن الإنسان إلا الله.
- أن يستشعر المؤمن الأمن والأمان عندما يستجير بجناب الله ويعتصم به عند الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم.
- أن يعرف المؤمن سبب بدء سور القرآن بالبسملة ما عدا سورة التوبة – ليرشد المسلمين إلى أن يبدؤا أعمالهم وأقوالهم بباسم الله الرحمن الرحيم، التماسًا لمعونته، وتوفيقه.
- أن يؤمن المؤمن أن كل قول أو فعل لا يبدأ بالبسملة، فهو قول منحرف ومشوب بغرور قائله.
- أن يدرك المؤمن أن البدء بالبسملة تمنحه الثقة بالله تعالى وتدفعه إلى القول الصائب، والفعل المبارك.
- أن يتأكد المؤمن أنه قد قهر الشيطان، وأقصاه عن قوله وفعله.
- هي سورة مكية، وآياتها سبع بالإجماع، وتسمّى “الفاتحة” لافتتاح الكتاب العزيز بها، وهي أول القرآن في الترتيب لا في النزول.
- أن يعرف المؤمن أن الفاتحة: تسمى الفاتحة، وأم الكتاب، والسبع المثاني، والشافية، والوافية والكافية.
- أن يعرف المؤمن فضلًا من فضائل سورة الفاتحة: في صحيح البخاري أن النبي ﷺ قال لأبي سعيد بن المُعَلىَّ (لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن: الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته)… قال تعالى في سورة الحجر، الآية 87: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾.
- أن يعرف المؤمن أن سورة الفاتحة، حوت معاني القرآن العظيم، واشتملت على مقاصده الأساسية.
- أن يفرق المؤمن بين معنى (الحمد)، وبين (الشكر) فإن: (الحمد) نقيض (الذم)، وأعم من (الشكر)، لأن الشكر يكون مقابل النعمة بخلاف الحمد.
- أن يفرق المؤمن بين معنى (الرحمن)، ومعنى (الرحيم)، فإن: (الرحمن): بمعنى عظيم الرحمة، لأن (فعلان) صيغة مبالغة في كثرة الشيء وعظمته، ولا يلزم منه الدوام، أما (الرحيم): بمعنى دائم الرحمة، لأن صيغة (فعيل) تستعمل في الصفات الدائمة، قال الخطابي: الرحمن ذو الرحمة الشاملة التي وسعت الخلق في أرزاقهم ومصالحهم، وعمت المؤمن والكافر، أما الرحيم: خاص بالمؤمن، قال تعالى: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾[2].
- أن يفرق المؤمن بين معنى (الله)، و(الإله) فإن الأول اسم علم للذات المقدسة، ذات الباري جل وعلا ومعناه المعبود بحق، أما الثاني: فمعناه المعبود بحق أو باطل فهو اسم يطلق على الله تعالى وعلى غيره.
- أن يفطن المؤمن إلى سبب ورود [نعبد]، و[نستعين] بلفظ الجمع لا المفرد؛ ذلك للاعتراف بقصور العبد عن الوقوف في باب ملك الملوك.
- أن يتذوق المؤمن الجمال البلاغي في قوله تعالى: ﴿أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾[3]، فقد نسب النعمة إلى الله عز وجل، فالشر لا ينسب إلى الله تعالى تأدبًا، وإن كان منه تقديرًا “الخير كله بيديك والشر لا ينسب إليك”.
- أن يعرف المؤمن أن جملة (الحمد لله) جملة خبرية من حيث اللفظ، ولكنها إنشائية من حيث المعنى، فهي (أمر) في معناها بـ (قولوا الحمد لله)، وفيها قصر الحمد عليه تعالى وحده.
- أن ينتبه المؤمن إلى أن: آمين: بمعنى استجب دعاءنا، وهي ليست من القرآن الكريم إجماعًا.
- أن يتذوق المؤمن الجمال البلاغي في تقديم المفعول به (إياك) في ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، فإن: تقديم المفعول به يفيد القصر، أي [لا نعبد سواك]، [ولا نستعين إلا بك].
- أن يشعر المؤمن بالتفاؤل والتيمُّن وهو يبتدئ أقواله وأفعاله بباسم الله.
- أن يعرف المؤمن أن (الحمد) غير مستحق إلا لله وحده.
- أن يقابل المؤمن ربوبية المولى عز وجل بالشكر الدائم، فقد وعد الله الشاكرين نعمة بزيادة النعمة والرزق، وتوعد الكافرين بنعمة بالعذاب الشديد.
- أن يتخلق المؤمن بخلق الرحمة، فينزع من قلبه القسوة والغلظة فيكون رحيمًا بنفسه وبغيره من المخلوقات.
- أن ينزع المؤمن من نفسه أدواء الكبر والغرور؛ إذ إن الملك لله وحده.
- أن يجاهد المؤمن نفسه، ويجعل كل حركة وكل سكنة منه لله تعالى خالصة لوجهه فلا يعبد إلا الله، ولا يستعين إلا بالله، فلا يتخذ من الخلق إلهًا يعبده من دون الله.
- أن يدعو المؤمن ربه دائمًا بأن يهديه الصراط المستقيم، فإذا استجاب إليه ربه جنبه سبل الزيغ والهوى والانحراف والفشل، ودله وهيّأ له سبل النجاح والتوفيق والهدى.
- أن يحرص المؤمن على مصاحبة الذين أنعم عليهم ربهم بالصراط المستقيم لقوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾ [سورة الكهف، الآية 28].
- أن يرقى بها المؤمن نفسه وغيره من المؤمنين.
- أن يلح بها المؤمن ويتوسل بها إلى الله تعالى، ففيها الحمد والثناء على الله والتوسل إليه بعبوديته وتوحيده.
- أن يرغب المؤمن إلى الله تعالى طالبًا الهداية بعد أن توسل إليه بعبوديته وتوحيده.
- أن يعرف المؤمن – من خلال سورة الفاتحة – معرفة: التوحيد، ومعرفة الذات، وإثبات الشرع والقدر والمَعَاد، وتجريد توحيد الربوبية والإلهية.
32 . أن يعلم المؤمن أن التعاون بين الناس على الخير، لا ينافي الاستعانة بالله، وقد طلبه الله سبحانه وتعالى في آيات كثيرة ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ (سورة المائدة، الآية 2).
هذه بعض آثار أول سورة في القرآن العظيم، التي يفتتح بها المسلم صلاته وحياته ووعوده، وكل ما يخص المرء في دنياه، تمهيدًا لآخرته… والله ولي التوفيق…
[1] سورة الانفطار، الآية 19.
[2] سورة الأحزاب، الآية 43.
[3] سورة الحمد، الآية 7.
المقالات المرتبطة
مفهوم الإرهاب وعوامله والمباني النظريّة
بات مفهوم “الإرهاب”، راهنًا، أكثر أمثلة التمويه الإعلاميّ انتشارًا لتغيير موقف الناس من الكفاح العادل
الصوم: العودة إلى آدم…
في لائحة الواجبات والمحرّمات في الإسلام، الصوم يقع في دائرة تحريم الحلال.
علمًا أن فلسفة التحريم قائمة على مبدأ رفع الضرر بتأثيراته المتنوعة، في الجسد والروح، في الاجتماعي والفردي، في الدنيوي والأخروي.
الطبيعة البشريّة: ما-فوق-المفهوم- قراءة في فكر هانس أُرس فون بلتزار
لقد اعتاد أغلب المفكرين مقاربة مفهوم الطبيعة البشرية بمصطلحات عمومية وجامدة،