في عشق الكتب الذي لا ينتهي

في عشق الكتب الذي لا ينتهي

يظهر شغف الباحث العُماني، نعيم بن محمد الفارسي، بالكتب عظيمًا، فمُنجزه الخامس “تباريح القراءة، مقالات في القراءة والكتابة وشؤونهما” (الرافدين، 2023)، ينضم إلى مثيله من النصوص: “القراءة صنعة العظماء” (2018)، “لو كنا نقرأ” (2019)، “عزاءات القراءة” (2019)، “شجون القراء” (2021). محتذيًا ألبرتو مانغويل في عمله “تاريخ القراءة” (1996) الذي أخذ عن فرجينا وولف زعمها أن الرغبة في القراءة مثلها مثل الأشواق الأخرى.

وبعد الحمدلة والبسملة والإهداء، يوضح الفارسي لفظة “تباريح” الواردة، ومعناها “الشّدائد”، ويشير إلى الشدة التي أخذت منه كل مأخذ في القراءة والكتابة والبحث، فاعتمدها في عنوان نصه. ويضع بعض الاقتباسات المفيدة لمؤلفين عالميين مشهورين، حيث: “من خلال الكتب، نعيش جميعًا أوقاتًا أخرى”، وتساعدنا القراءة “على تحمل الحياة”، وتمنحنا المعرفة “القدرة على التحكم”، وتفتح لنا “أبوابًا جديدة”، وتقودنا “إلى آفاق ما توقعناها وحلمنا بها من قبل”، والكتب إلى ذلك “أدوات خطيرة وأسلحة ماضية”.

وما يرومه هو الكلام عن تجربته وعن معاناته، وفي الأثناء يقدّم النصح من دون مقابل. ويلاحظ الفارسي عادة انتشرت، وهي التنافس في حجم الكتب المقروءة، ويواكب ذلك إشهار إعلاني، وهو إلى تقديره الجانب الإيجابي، إلّا أنه ينتقد الجوانب السلبية لها، من مثل غياب القراءة الواعية المتأنية وتحولها إلى سباق وسوق للتنافس، ويستشهد برأي للكاتب الأميركي هنري ميلر، الآخذ علينا عدم انفعالنا بما نقرأ أو تفاعلنا، وفكرته أن علينا الاستفادة من هذا الفعل في الوقت نفسه. ويستنجد بقول يعتبر القراءة إثراءً، وهذا لا يتأتى بتلك السريعة بل الهادئة. والخلاصة في هذا الشأن أن الإثراء المعرفي والتطور الفكري لا يتوافق مع القراءة السريعة.

يطلب الكاتب من مُحبي القراءة ألا يشتتوا أنفسهم في الموضوعات الكثيرة، بل يتوجب التركيز في حقل معرفي بعينه، وينقل إلينا خبرة بيتر دراكر، مؤسس الإدارة الحديثة، الداعي إلى اختيار مجال محدد وإشباعه بحثًا ما يقرب من أربع سنوات. وغاية الفارسي أن تكون قراءات الأفراد مُجدية وفاعلة، والمهم عنده الإبقاء على هذه العادة.

الكاتب مُغرم بالأسئلة الافتراضية، من قبيل: هل يجب الاحتفاظ بالكتب بعد قراءتها والاستفادة منها؟ وهل تشيخ الكتب، بحيث يتم التخلص من قسم منها؟ والفكرة الأساس الرائجة أنه من الضروري قراءة البعض منها قراءة جيدة. أما الفارسي فهو مع عدم التخلي بسهولة عن أي كتاب لظنه أننا قد نحتاج إليه لاحقًا، بطريقة أم بأخرى. ومن الأسئلة التي تراوده إمكان لقاء مؤلفين نحبهم، ويستدعي هنا رأي الناقد  المصري رجاء النقاش غير المحبذ للفكرة، فالأفضل في ظنه ترك مسافة مع الأشخاص الذين نحبهم، أما شعار الفارسي الأثير: لا تقترب من كاتبك المفضل قربًا شديدًا يجعلك تعرف عيوبه، ومن ثم تزهد في ما يكتبه، “كن وسطًا في القرب، بلا إفراط ولا تفريط”.

ويذهب المؤلف إلى تخيّل حوارات مع بعض الكُتّاب للوقوف على خبرتهم وتجاربهم في القراءة. فيستوقف السعودي عبد الله الغذامي، المُدرك فعل القراءة كفعل نخبوي يمارسه قلة من الناس، تتمكن منه إبداعيًّا وعلميًّا، وهذه الصفوة تقود الأمم إلى التقدم. ومن ثم يتوجه إلى الأديب الفرنسي أندريه موروا الذي يعتبر الكتب كما البحث عن الأصدقاء، متى وجدهم المرء “اصطفاهم واعتكف معهم”، وهي تساعدنا على تعرُّف الحياة وفهمها. ولا بدّ من رأي فيلسوف روماني عتيق هو سينيكا، الداعي إلى صحبة الكُتّاب أصحاب العبقرية، فمعهم تتحصل الفائدة للعقل. ويستنطق الفارسي من ثم البريطاني مات هيغ (تولد في العام 1975) الذي عانى من اكتئاب، وكانت الكتب سبيله للشفاء، إذ انغمس في قصص الآخرين وشكّلت الأمل بالنسبة إليه، ووجد في عالم الخيّال “حقيقة أكبر من حقيقة الواقع”. وإذ يسأل الأردني أيمن العتوم، المهووس بالكتب، فيجيبه بأن القراءة حرفة، يمكن اكتسابها مثل الرياضة، وهي قد تملك الإجابة عن بعض ما يعتمل في الذهن من أسئلة الوجود الحارقة، ويربط عجلة التقدم والحضارة عند الأمم بالموقف من الكتاب.

ويتوجه إلى الفيلسوف الإنجليزي، اللورد أفبري (1913 – 1834)، للاستزادة، فيحيله إلى ما قاله سابقًا، الأسقف ريتشارد بري، في وصف الكتب: “هي الأساتذة التي تعلمنا بدون عصا، بدون حدة ولا كلمات خشنة، بدون أجرة ولا مكافأة. تأتيها أنّى شئت فلا تجدها نائمة تستفهمها وتسائلها في ما تهمك معرفته، فلا تضن عليك بما عندها ولا تخفيه عنك، تُخطئها وتناقضها، فلا تتبرم بك ولا تحقد عليك. وإذا كنت جاهلًا فلا تضحك منك ولا تسخر بك”. واللجوء إلى الكتب يكون بغرض الاستفادة لا التسلية، وهي الحاملة تجارب الناس، تصل إلينا بأهون السبل في أسطر مطبوعة. ويختم الفارسي جولته الحوارية المفترضة مع السوري المنشغل بالتربية الإسلامية، عبد الكريم بكار(تولد في العام 1951)، الراغب في جعل القراءة سلوكًا ونشاطًا يوميًّا، والداعي إلى اختيار ما نقرأ حتى يكون هناك فائدة تُرجى منها.

وقد كوّن الباحث بعض الآراء الخاصة بالكتابة، فإنه يرغب في مشاركة الآخرين بها، من مثل: وجود الأخطاء في النصوص، وكأنها قدر لا فكاك منه، وتطور الكاتب ومن ثم تبدل نظرته إلى أعماله، وينقل عن الثعالبي قوله: “لا يكتب أحد كتابًا فيبيت عنده ليلة، إلا أحب في غيرها أن يزيد أو ينقص منه، هذا في ليلة، فكيف في سنين معدودة!”. ويتساءل هل على الكاتب أن يروّج لنفسه أم لا؟ مع إقراره بأهمية هذا الأمر، مهما كان الكتاب جيدًا. ويقدم الفارسي بعض النصائح لمن يريد أن يصبح كاتبًا مستعينًا بآراء بعض كبار المؤلفين، ورأس الوصايّا عنده: اكتب ثم اكتب على نحو منتظم، ومن دون تراخ، وإذا تم ذلك في شكل يومي، فإنها تغدو نمطًا وضرورة. وأنا أذكر أن غابرييل غارسيا ماركيز، كان يجلس إلى طاولته بانتظام وكأنه يداوم في عمل مأجور. ويختم  الفارسي متباهيًا بمكتبته الغنية التي غالبًا ما قدمت له الأمل.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
الكاتبالكتبالقراءةالفيلسوفالكتابة

المقالات المرتبطة

حفريات الخطاب الغربي محددات الخطاب

عرّف ميشيل فوكو Michel Foucault (1926-1984) الخطاب بأنه نظام أو نسق معرفي وفكري

مبادئ الإبستمولوجيا في الفلسفة الإسلاميّة

تمتاز المعرفة الحضوريّة بموضوع ذاتيّ، فلا مجال فيها للمحاكاة لغياب الموضوع الموضوعيّ. وبالتالي، لا تصدق قسمة التصوّر والتصديق المنطقيّة بحقّها

الشهيد الحاج قاسم سليماني: أيّ معنى لمسار الشهيد؟

إنّ الشهادة ترقّي في الوجود وليست خاتمة للوجود، لهذا كان الشهيد حيًّا ما بقي الليل والنّهار، وعنوان خلود ما طلعت الشمس وهبّ النسيم.

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<