عاشوراء الحدث والمعنى
باسمه تعالى
لقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان، وجعله خليفته في أرضه، وبعث إليه الأنبياء والرسل بغية صيانته من الانحراف، وتوجيهه نحو أهداف الخلافة الرشيدة. فكان الدين الإلهيّ واحدًا مذ وقع آدم، الإنسان الأوّل، على هذه الأرض. وتعاقبت الأجيال، وكلّها تدور في فلك هذه المحوريّة، والهدف هو إخراج الناس من ظلمات الجهل إلى نور العلم والإيمان. وكذلك إحياءً لعقل الإنسان وتحريره من براثن العبوديّة لغير الله سبحانه، ليكون حرًّا كما أراده الله.
إلّا أنّه في مسيرة الحياة، يقف في كلّ عصر طاغية في مقابل شرع الله ودينه، ويبتغي عودة الإنسان الحرّ إلى عبوديّة غير مرجّوة، وكان على المؤمنين محاربته بالكلمة، بالموقف، والدم أحيانًا؛ وهو ما أراده الإمام الحسين عليه السلام من خلال النهضة العاشورائيّة. فثار، عليه السلام، في وجه الظلم معلنًا الهدف الأساس “إنّي لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر”[1].
فلا يمكن تحييد النهضة الحسينيّة عن المنظومة الكاملة للدين الإلهيّ. فهي ليست مجرّد حادثة تاريخيّة مضت في الزمن الغابر، بل إنّها تمثّل عمق الحياة الإيمانيّة، وهي ليست حدثًا تاريخيًّا أتى كنتيجة حتميّة وضروريّة لمجموعة من الظلامات التي عاناها الإمام الحسين وأهل بيته عليهم السلام فحسب، بل هي بما تختزن من قيم ومعانٍ تعبّر عن نهضة الإنسان، بما هو إنسان، في وجه الظلم. فهي خير مصداق يجسّد تعاليم القرآن الكريم من نصر المستضعفين المحقّين، والهدف الأسمى والأساس للأنبياء وللرسل وللرسالات السماويّة كلّها.
ليس السرّ في كربلاء في استمرار ذكر ابن بنت النبيّ صلّى الله عليه وآله وحسب، بل السرّ بما تحوي من هدي وإرشاد إلهيّ. السرّ في أنّها شعلة تنتفض وتثور فتُسقط عروش طواغيت، وتهدّ أركان سلاطين. السرّ في أنّ هذا الدم الذي سقط في كربلاء ويسقط في كلّ يوم على امتداد الزمن يعطي القيمة لروح الإنسان الخليفة لله تعالى ونفسه.
يقدّم الكتاب أربع مقالات متفرّقة لسماحة الشيخ محمّد مهدي الآصفي، جمعها عنوان واحد هو عاشوراء، أعاد معهد المعارف الحكميّة تحريرها وإصدارها. وقد بُوّبت هذه المقالات وفقًا لترتيب منهجيّ متسلسل متتابع بدأ من نقطة الصراع بين التوحيد والشرك، مرورًا بخروج الإمام الحسين، عليه السلام، وما أنتجت هذه الثورة المباركة من دروس وعبر، وصولًا إلى التحدّيات التي عانى منها زوّار الإمام، عليه السلام، في كربلاء عبر الزمن.
يعرض الباحث في مقالة “مناقشة الفهم الآخر لعاشوراء” حتميّة الصراع بين حركة التوحيد والشرك عبر التاريخ. ويقول: إنّ هذين الخطّين يمتدّان على وجه الأرض وفي حياة الناس من دون أن يتقاطعا، وأنّ مهمّة الأنبياء كانت عبر الزمن الدفاع عن المحرومين والمستضعفين ضدّ المستغلّين الطامعين الظلَمة. إنّ الصراع بينهما صراع حضاريّ لا على المال أو السلطان، بل على الحاكميّة والولاية. ثمّ عرّج على مواجهة الإسلام لهذا الصراع من حركة الدعوة في مكّة والمدينة، ثمّ في معركة صفّين والجمل، وصولًا إلى حادثة الطفّ التي أفشلت مخطّطات بني أميّة الذين حاولوا أن يستعيدوا ممارساتهم التي أفشلها الإسلام، باسم الإسلام من غناء ومجون وغيرها من عوائد الجاهليّة. وأنّ من أهمّ أهداف الحركة الحسينيّة إسقاط بني أميّة وسلب الصفة الشرعيّة عنهم، وتجريدهم عن مواقع الشرعيّة ليعيد للإسلام نقاوته.
يقترح الشيخ الآصفي في مقالة “الفئات المعارضة لخروج الحسين عليه السلام” تصنيفًا للمعارضين، بناءً على أسباب عدّة: الفئة الأولى، هم الذين يضمرون الحسد والضغينة للإمام. والسبب الثاني هو الضعف والجبن والتخاذل عن اتّخاذ قرار الخروج. أمّا الفئة الثالثة، فهم الذين جهلوا أهداف الثورة ولم يمتلكوا الوعي السياسيّ الكافي لأهدافها. ويعرض الباحث رأي الإمام الحسين عليه السلام بضرورة الخروج ومواجهة الظلم والاستكبار. كما يقول الباحث: إنّ هذه الدراسة تعكس صورةً دقيقةً عن الأوساط المعارضة للعمل الإسلاميّ والحركة والثورة الإسلاميّة في الساحة الإسلاميّة المعاصرة.
بينما دعا الشيخ الآصفي في مقالة “الخطاب الحسينيّ” إلى استلهام الدروس والعبر والثقافات من مدرسة عاشوراء، وهي السنن الإلهيّة التي وعد الله المتّقين فيها، ومنها: ميراث الأرض، ونصر المؤمنين، وتلبية النداء والحضور في ساحات النزال وأخذ الموقف الرافض للظلم والذلّ، ورفض العمالة لأنظمة الاستكبار العالميّ، كذلك الوعي الدينيّ والسياسيّ والحضور الواعي والمسؤول تجاه الأمّة. وأيضًا ضرورة الحضور الموجّه في الساحة من قبل المرجعيّة الدينيّة الراشدة لحفظ وحدة المواقع السياسيّة من التشرذم والتشتّت من دون رفض التعدّديّة السياسيّة، شرط أن لا تؤدّي إلى فساد الرأي. ويذكر أيضًا أنّ الخطاب الحسينيّ هو خطاب مزدوج: الأوّل لتفعيل الشعائر الحسينيّة، والثاني هو الجانب الثقافيّ في نهضة الحسين عليه السلام للقضاء على الطغاة وتحرير العالم من ظلمهم، وكذلك تفعيل دور المرأة في صناعة الأمّة والتاريخ.
أمّا في مقالة “التحدّي والتحدّي الآخر: رؤية حضاريّة –حركيّة لزيارة الإمام الحسين عليه السلام”، فيشير الكاتب إلى أنّ لزيارة الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء تاريخ طويل مخضّب بالدم. فقد سعى مبغضو الإمام عليه السلام عبر الزمن من منع الموالين من الزيارة ابتداءً من خلفاء حكومة بني العبّاس إلى التحدّيات الوهّابيّة لحكومة آل سعود، وفي العهد العثمانيّ، إلى تحدّيات العصر الحالي مع صدّام حسين والهجوم العسكريّ على القبر الشريف إلى التفجيرات الإرهابيّة في كربلاء بعد سقوطه. ويشير إلى سرّ موقف السلاطين من قضيّة الإمام الحسين عليه السلام، فهم لا يخافون من البكاء والنياحة فقط، بل الخوف من أن يستلهم الضعفاء القدرة وقوّة مواجهة الظلم والاستكبار، ويظهر ذلك من خلال حثّ الإمام الحسين عليه السلام في خطاباته لمواجهة الظلم ورفض الذلّ وضرورة تعرية الظالم وفضحه.
لم ولن تتوقّف مكائد الأعداء عبر الزمن، وإنّ دم الحسين أيضًا لم ولن يجفّ؛ سيبقى شعلة النصر التي ستطفئ حتمًا نيران الظلم والاستبداد، والحدث الذي ينقذ البشريّة في كلّ لحظة من لحظات الزمن وينشلها من عبوديّة غير الله، وسيبقى المؤمنون والأحرار في كلّ العالم يستلهمون القوّة والعزم من ذلك الحرّ الخالد، خليفة الله الحقّ، الإمام الحسين عليه السلام.
سكينة أبو حمدان
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار الطبعة 2 (بيروت: دار إحياء الثراث العربيّ، 1983م)، ، الجزء 44، الصفحة 330.