القدس الموقعية والتاريخ

القدس الموقعية والتاريخ

لشراء الكتاب

تحميل الكتاب

كلمة المعهد

لم تعانِ مدينة من بين مدن العالم الإسلاميّ، بل ومدن العالم قاطبةً، بعضًا ممّا عانته مدينة القدس الغرّاء في رحلتها المريرة مع الشعوب والأقوام طوال سِنِيّ التاريخ. فما يراه الناظر إلى حالها في يومنا الحاليّ، من اضطهاد اليهود الصهاينة لها، واستباحتهم حرماتها، وقتلهم الأطفال والنساء فيها، ليس إلّا حلقةً من سلسلةٍ طويلةٍ من أزمات عانتها مدينة القدس وأحاطت بأهلها لعهود طويلة خلت، منذ عصور ما قبل الإسلام وحتّى عصرنا هذا.

فمنذ ما قبل عهد نبيّ الله داوود (ع)، تشهد المدينة حروبًا لنيلها وبسط يد السلطة فيها، فهي لم يهنأ لها نوم ولم يهدأ لها بال، وما كانت تخرج من فاجعة حتّى تقع في أخرى، فشهدت ما شهدته من حروب وغزوات ومجازر امتدّت طوال تلك المدّة[1]، لتتّصل دماء الأوّلين فيها بدماء الآخرين، ويجتمع من السفك فيها ما لم يجتمع في غيرها. ولم تتوقّف المأساة عند ذلك، بل تبع وفاة صلاح الدين عدّة حملات صليبيّة على البلاد الإسلاميّة نالت القدس منها نصيبًا من الحرب والدمار[2]. والقدس ما زالت تشهد، حتّى يومنا هذا، الوتيرةَ نفسها من السفك والعدوان، وكأنّه لم يكتب لمدينة السلام أن تبصر السلام.

لا يشكّ عارف بما لهذه المدينة من مزايا وخصائص روحيّة ومعنويّة جعلتها قِبلةً ونقطة لقاء لأهل الديانات السماويّة قبل الإسلام، فكما تمثّل المدينة للمسلمين رمزًا من رموز القداسة لما احتضنته من حركات الأنبياء طوال التاريخ، فهي تمثّل لأهل المسيحيّة واليهوديّة رمز القداسة نفسه، إذ كانت أيضًا موطنًا لدياناتهم وأنبيائهم. ولكنّ المثير، هنا، هو البون الشاسع بين حال المسلمين القدامى – الذين مثلّت لهم المدينة أولى الأولويّات، واستماتوا غير مرّة في الدفاع عنها أو تحريرها من أيدي محتلّيها – وبين مسلمي يومنا هذا، الذين باتوا قريري العين عن احتلال اليهود الصهاينة لفلسطين، التي تشكّل القدس عاصمةً لها، وإنشائهم فيها لدولتهم (دولة إسرائيل) مدّعين أنّ ذلك حقّ شرعيّ لهم، اكتسبوه بأمر الإله الواحد واغتُصبوه سابقًا، وهم الآن استعادوا ما اغتُصِب منهم ظلمًا في أحقاب سابقة.

إنّ مركزيّة قضيّة القدس، وفلسطين عامّةً، تنبثق عن ركيزتَين: (1) محوريّتها في الحركة الروحيّة المعنويّة للإسلام كدين توحيديّ متمّم لما سبقه من أديان سماويّة حيث كان إليها إسراء النبيّ (ص) وفي مسجدها أقام الصلاة بجموع الأنبياء ومعهم جبرائيل[3]؛ (2) كونها دولةً عربيّةً مسلمةً قابعةً بين دول بحسب المفترض أشقّاء لها، ملتزمين الدفاع عنها ومعاونتها في قبال الأخطار الخارجيّة الغريبة.

ما يشهده العالم العربيّ والإسلاميّ اليوم، يُظهر، بوضوح، تغاضيَ المسلمين عامّةً – إلّا قلّةً منهم – عن الركيزة الأولى، بحيث لا نسمع من قبلهم أثرًا في سبيل نصرتها، أو دعوةً للجهاد فيها؛ وإعراض العرب خاصّةً عن دورهم وواجبهم الذي التزموه كمنتمين لما يسمّى بجامعة الدول العربيّة، من دور مناط بهم للدفاع عن دولة عربيّة شقيقة تعاني القتل في كلّ يوم، وتتكبّد ما يجلّ من خسائر مادّيّة تتمثّل بدمار البنى الفوقيّة والتحتيّة، ومعنويّة تتمثّل بفقد الهويّة الإسلاميّة فيها.

لقد هادن مسلمو عصرنا هذا المحتلّ الغاصب وساوموه على استحلال مدينتهم المقدّسة، بل وأقرّوا أحقّيّة وجوده فيها، وذلك من خلال:

  1. توقيعهم معاهدات السلام مع العدوّ الإسرائيليّ.
  2. بذل فروض الطاعة والولاء المطلق لحكومات الدول الغربيّة والأوروبيّة – لا سيّما حكومة الولايات المتّحدة الأميركيّة – التي تدعم بشكل واضح ودونما استحياء الكيان المحتلّ بالمال والسلاح، وتبرّر له ما ارتكبه ويرتكبه من مجازر، ومعاونة هذه الدول في تطبيق مشروعها الدوليّ في منطقة الشرق الأوسط[4].
  3. سعيهم اليوميّ الحثيث – ولو بوسائل خفيّة – لتحقيق التطبيع مع ما يسمّى دولة إسرائيل.
  4. توقيع اتّفاقيّات تجاريّة واقتصاديّة وعسكريّة مع الكيان الغاصب.
  5. قطع سبل الإمدادات الحيويّة واللوجيستيّة عن أهل فلسطين، ما خلا بعض مواد غذائيّة لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تكفي جزءًا بسيطًا من أهل فلسطين. في حين تمدّ دول عربيّة كبرى الدول الغربيّة بمبالغ عظمى من الهبات والقروض، وتبيح لهم نفطها وخيراتها الطبيعيّة.
  6. الوقوف الصريح بوجه حركات المقاومة ومنع تسليحها بحجّة حفظ الأمن الداخليّ.
  7. مواجهة الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة ومن يتّصل بها من حركات وأحزاب بشتّى سبل المواجهة، واعتبارها العدوّ الاستراتيجيّ الأوّل للعرب. محوّرين بذلك وجهة الصراع من صراع عربيّ-إسرائيليّ، أو إسلاميّ-صهيونيّ، إلى صراع سنّيّ-شيعيّ، وهو ما تأسّس الخارجيّات الغربيّة سياستها على تعزيزه وتركيزه.

وفي إزاء ذلك كلّه، يجد المسلم الحقيقيّ نفسه ملزمًا، لما تمّ ذكره من اعتبارات، بأن يقدّم لفلسطين والقدس أيّ جهد قد يسهم في نصرتها، ولو كان وِترًا في عالم يملأه الظلم والظلام. وفي السياق نفسه، لا يقلّ تكليف المؤسّسات الثقافيّة ومراكز الأبحاث والدراسات عن تكليف غيرها من المؤسّسات الأخرى، بل يجب أن تجهد هي، أيضًا، في نشر المعرفة المتعلّقة بالمدينة المقدّسة وشعبها، سعيًا منها لاستنهاض بعض همم الخامدين من أهل الإسلام، وإيضاح مبهم الوقائع التاريخيّة والسياسيّة لهذه المدينة، والدعوة إلى نصرتها بشتّى السبل.

ومن هنا، يقدّم معهد المعارف الحكميّة لقرّائه كتابه هذا بعنوان القدس: الموقعيّة والتاريخ، سعيًا منه لإعطاء المدينة المقدّسة بعض حقّها، وإعادة قضيّتها إلى الضوء بعد ما غيّبتها مساعي الظلم والاحتلال. يتألّف الكتاب من مقالات أربعة قدّمها كتّاب من نخبة أهل الاختصاص. يقدّم حسن جابر في مقالته مقاربةً حول دور القدس المعنويّ كمدينة تقف جنبًا إلى جنب مع مكّة ليشكّلا محور حركة الإسلام الروحيّة والتشريعيّة؛ ثمّ تطرح المقالة الثانية، لكاتبها إبراهيم بيضون، عرضًا مسهبًا لواقع المدينة التاريخيّ منذ عهد الحكم اليبوسيّ فيها وحتّى عهد أبناء صلاح الدين الأيّوبي؛ ثمّ يقدّم سهيل زكّار، في المقالة الثالثة، سردًا تفصيليًّا لمرحلة ما بعد وفاة صلاح الدين حتّى الحملة الصليبيّة السابعة؛ وفي المقالة الرابعة والأخيرة، يطرح زهير جلّول المراحل التتابعيّة لاحتلال الصهاينة للقدس بعد أن يشير إلى بعض سماتها الحضاريّة.

إنّ معهد المعارف الحكميّة إذ ينشر هذا الكتاب ضمن سلسلة أدبيّات النهوض، يتمنّى أنّ يحقّق الكتاب ما رجى له كتّابه والمساهمون في إنجازه من غايات فكريّة نهضويّة، واعدًا قرّاءه الكرام أن لا يكون هذا الكتاب آخر ما يصدره عن القدس وقضيّتها، راجيًا أن ينال الكتاب موفّقيّةً بقراءة أصحاب القضيّة الحقيقيّين له.

 

[1] تفصيل ذلك كلّه، منذ فترة حكم اليبوسيّين للمدينة وحتّى عهد صلاح الدين الأيّوبي وأولاده، مذكور بتفصيله في المقالة الثانية من الكتاب بعنوان “القدس: المدينة الوازنة في التاريخ الإسلاميّ” للكاتب الدكتور إبراهيم بيضون.

[2] تفصيل الكلام على الحملات الصليبيّة بعد وفاة صلاح الدين وارد في المقالة الثالثة من الكتاب بعنوان “القدس من بعد وفاة صلاح الدين حتّى الحملة الصليبيّة السابعة” لكاتبها الأستاذ الدكتور سهيل زكّار.

[3] راجع، للخوض في تفصيل هذه المسالة، المقالة الأولى من الكتاب بعنوان “القدس ومنهجيّة الالتحاق والاندماج” لكاتبها الدكتور حسن جابر.

[4] يلفت الدكتور جابر، في المقالة ذاتها، إلى خطورة وضع المسلمين في أيّامنا هذه، إذ تقبع القدس من جهةٍ تحت الاحتلال الصهيونيّ، فيما تقبع مكّة المكرّمة تحت سلطة حكّام هم في واقع الأمر خدّام قائمون على تطبيق السياسات الغربيّة في المنطقة. وذلك له ما لا يخفى من دلالات خطيرة على فقدان المسلمين، واقعًا، لكلا المدينتَين اللتين دارت الحركة الروحيّة والتشريعيّة للإسلام بينهما، واللتين لن تتمّ رسالة الإسلام مع ظهور المخلّص إلّا بينهما، لما فيهما من رموز إسلاميّة مقدّسة (المسجد الحرام والمسجد الأقصى)، فراجع.

والله من وراء القصد

معهد المعارف الحكميّة

حسين السعلوك


لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<