by الدكتور أحمد ماجد | يونيو 21, 2016 7:26 ص
مقدّمة
الحاكميّة مفهوم سياسيّ ملأ دنيا علماء الإسلام وشغل جهدهم منذ أربعة عشر قرنًا وحتّى اليوم.
من المعروف جيّدًا أنّ “لا حكم إلّا لله” شعار رفعه الخوارج في وجه إمرة عليّ بن أبي طالب عليه السلام الثابتة والشرعيّة حتّى بمعيار البيعة والشورى المعمول به آنذارك، وفي وجه “إمرة” معاوية بن أبي سفيان المدّعاة وغير الشرعية بالمعيار نفسه، وذلك على السواء ومن دون أيّ تمييز بين الإمرتَين.
ومن المعروف أيضًا أنّ الإمام عليًّا عليه السلام قد ردّ على الخوارج بقوله: “كلمة حقّ يُراد بها باطل، ولكنّ هؤلاء يقولون: لا إمرة. أما وإنّه لا بدّ للناس من أمير، برّ أو فاجر”[1][1].
“كلمة حقّ” لأنّ هذا ما تقتضيه، لزومًا، عقيدة التوحيد بعمومها، من جهة، {وَهُوَ اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولَى وَالآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[2][2] و{إِنِ الْحُكْمُ إِلاَ للهِ أَمَرَ أَلّاَ تَعْبُدُوا إِلّاَ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}[3][3]، ومن جهة ثانية، بكلّ ما بُنِيَ عليها من مفردات الهدى في مجملها ومفصّلها.
ولكنّها مع ذلك “كلمة حقّ يراد بها باطل” لأنّها تخلط بين الحكم والإمرة، وتجعلهما معًا لله سبحانه، وتبرّر الخروج على طاعة “الأمير” المفترض الطاعة لشرعيّته بكلّ المقاييس.
إذا كان صحيحًا أنّ الحكم لله في كلّ ما كان وما يكون، فصحيح أيضًا أنّ حكمته سبحانه، التي قضت أن يكون الإنسان اجتماعيًّا بطبعه، قد قضت أيضًا أن يكون “لا بدّ للناس من أمير برّ أو فاجر”. برّ إذا حكم بما أنزل الله، وفاجر إذا حكم بمقتضى رأيه، أو حرّف حكم الله بقصد جعله ملائمًا لذلك الرأي، أو غير مختلف معه على الأقلّ. إذًا، فإنّ “لا بدّ للناس من أمير برّ أو فاجر” هو أمر قدّره الله وجعله سنّةً من سنن الاجتماع الإنسانيّ، وبالتالي من مقتضيات “حكم الله” وليس مقابلًا له.
في نصّ آخر، يتّضح مقصود الإمام عليه السلام:
ثمّ جعل من حقوقه حقوقًا افترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافأ في وجوهها، ويوجب بعضها بعضًا، ولا يستوجب بعضها إلّا ببعض. وأعظم ما افترض من تلك الحقوق حقّ الوالي على الرعيّة، وحقّ الرعيّة على الوالي، فريضة فرضها الله سبحانه لكلّ على كلّ، فجعلها نظامًا لإلفتهم وعزًّا لدينهم، فليست تصلح الرعيّة إلّا بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلّا بصلاح الرعيّة[4][4].
مهما يكن من أمر، فإنّ شعار الخوارج وردّ الإمام، عليه السلام، طرح لأوّل مرّة في تاريخ المسلمين بصورة صريحة وواضحة إشكاليّة بين “حكم الله” و”إمرة الناس”، التي عرفت معالجات نظريّة وعمليّة خلال التجربة السياسيّة للمسلمين الممتدّة من تاريخ طرحها وحتّى عصر النهضة الذي يؤرّخ له بغزوة نابليون لمصر عام 1798.
وإذا لم يكن واردًا، هنا، استعادة تلك المعالجات والممارسات في التجربة التاريخيّة التي سبقت غزوة نابليون حيث ستتّخذ الإشكاليّة وضعًا مختلفًا، فلا بدّ من الإشارة إلى ما يلي:
مهما يكن من أمر، فإنّ عودة إشكاليّة العلاقة بين “حكم الله” و”إمرة الناس” إلى ساحة البحث، بُعَيد ابتداء ما سُمّي بعصر النهضة، جاء في ظروف جديدة اتّسمت بوجود وافد ضمن لنفسه تفوّقًا وتقدّمًا بانتهاج رؤًى وتنظيمات لا تقوم على أصل دينيّ مفارق، بل في مواجهة هذا الأصل وإنكاره، أو إنكار أيّ مفعول له أو تأثير في حياة الإنسان فردًا ومجتمعًا على الأقلّ، وذلك لصالح رؤًى إنسيّة دنيويّة ومحايثة بصورة خالصة.
هذا الوافد لم يكن مجرّد معطًى فكريّ رؤيويّ وسياسيّ وتنظيميّ لأقوام “لهم دينهم ولنا ديننا” ويمكن التعاطي معهم تبعًا لسنّة التعارف، وإنّما كان وافدًا مسلّحًا بهذا المعطى، وبما أثمر لديه من تفوّق علميّ وتقنيّ وتنظيميّ وعسكريّ، وطامعًا بإخضاع بلاد المسلمين واستتباعها واستثمارها، ومنجزًا لكثير من هذه المطامع وإن لم يحقّقها كلّيًّا يوم استعيد طرح هذه الإشكاليّة.
التعاطي مع هذا الوافد الجديد تعارفًا وتدافعًا، فكرًا وممارسةً، من قبل المفكّرين المسلمين، بدءًا برفاعة الطهطاوي وانتهاءً بالإمام السيّد عليّ الخامنئي مرورًا بمعظم من تصدّى لمعالجة هذه الإشكاليّة ورأى رأيًا فيها، شكّل موضوع الدراسة التي كتبها الباحث الدكتور أحمد ماجد[5][5]، وينشرها معهد المعارف الحكميّة للدراسات الدينيّة والفلسفيّة تحت عنوان: “الحاكميّة: دراسة في المفهوم وتشكّله”.
في محاولته دراسة مفهوم الحاكميّة وتشكّله، يكتفي الكاتب بالإشارة إلى انتمائه إلى “الحقل الدلاليّ الإسلاميّ” الذي يتّكئ على مرجعيّة نصّيّة يمكن الركون إليها[6][6]. الأمر الذي طرح على العقل الإسلاميّ جملةً من الأسئلة تتعلّق بماهيّة الحاكميّة ومكوّناتها وعَدَ الكاتب بمتابعتها في الدراسة التي ستعالج مسألة الحاكميّة كما وردت لدى المفكّرين المسلمين منذ بداية عصر النهضة وحتّى اليوم، حيث شهدت الإشكاليّة، بتأثير الوافد الجديد، منحًى جديدًا في الطرح، اتّخذ اتّجاهَين:
والمفكّرون الذين يعرض الكاتب آراءهم، يبحثون الإشكاليّة باتّجاهها الأوّل، وهو الغالب من الناحية النظريّة، أو باتّجاهها الثاني، وهو الغالب من الناحية العمليّة. دونما مجافاة بين البعديَن النظريّ والعمليّ في بحث كلّ منهم.
تحت عنوان “في دخول المفهوم”[7][7]، يتناول الكاتب آراء كلّ من رفاعة رافع الطهطاوي وخير الدين التونسي ونامق كمال والأمير سعيد حليم باشا، ويتناول تحت عنوان “في أدبيّات النهضة” آراء كلّ من جمال الدين الأفغاني والشيخ محمّد عبده وعبد الرحمن الكواكبي والشيخ النائيني والتّيار الإصلاحيّ الشيعيّ.
وتحت عنوان “تطوّر المفهوم بين الحربَين العالميّتَين”، يتناول آراء الشيخ محمّد رشيد رضا وعليّ عبد الرازق وعبد الرزّاق السنهوري وأبي الأعلى المودودي.
وتحت عنوان “الحاكميّة من الدولة الوطنيّة إلى الثورة الإسلاميّة”، يتناول آراء كلّ من الشيخ حسن البنّا وتقيّ الدين النبهاني.
ويتناول، تحت عنوان “الديمقراطيّة في المرحلة الانقلابيّة”، آراء كلّ من سيّد قطب وحسن الهضيبي ومالك بن نبي.
وتحت عنوان “الديمقراطيّة من حزيران 1967 حتّى لحظة انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران”، يتناول آراء كلّ من الشيخ حسن الترابي والشيخ راشد الغنوشي والشيخ يوسف القرضاوي والأستاذ طه جابر العلواني والسيّد محمّد باقر الصدر والشيخ محمّد مهدي شمس الدين والشيخ محمّد جواد مغنيّة والسيّد محمّد حسين فضل الله.
وتحت عنوان “تجربة الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران”، يتناول آراء كلّ من الإمام الخميني قدّس سرّه والإمام الخامنئي دام ظله.
سيلاحظ قارئ الدراسة ما يلي:
أمّا مصدر مشروعيّة ممارسة “الإمرة” بصورة سياديّة في الديمقراطيّة الغربيّة، فهو رأي الناس أو رأي ممثّليهم.
إذا استثنينا رأي الشيخ عليّ عبد الرازق، الذي يفصل بين الدين والسياسة لأنّ الدولة في نظره مدنيّة ومستقلّة عن الدين بطبيعتها وجوهرها، فإنّ الاتّجاه الغالب لدى المفكّرين الذين تناول الكاتب آراءهم كان الأخذ بفكرة التوفيق بين المصدرَين: الحكم بما أنزل الله، ورأي الناس أو ممثّليهم؛ وذلك عبر توليفات متنوّعة تلتقي على محاولة إيجاد مسوّغ من “الحكم بما أنزل الله” لإعطاء رأي الناس أو ممثّليهم نوعًا من الدور في إضفاء نوع من الشرعيّة على “الإمرة” (تكريم الإنسان، وحرّيّته، ومسؤوليّته، إلخ). ولكن إذا تعارض المسوّغان، فالذي يحسم هو “الحكم بما أنزل الله”. وهذا الاتّجاه لم يخرج عنه حتّى الذين اعتبروا أنّ الدولة مدنيّة من أمثال الشيخ محمّد مهدي شمس الدين وغيره.
الأخذ بهذا الرأي يجعل الإشكاليّة إشكاليّةً تنظيميّةً، أي إشكاليّة تحديد العلاقة بين من يمكن له أن يكشف عن حكم الله نصًّا أو اجتهادًا في ما يُطرح على “الإمرة” من مشكلات الاجتماع السياسيّ ومن يكشف رأي الناس، أو من يمثّل الناس، وكيفيّة هذا الكشف، ومأسسة هذه الكيفيّة وتلك العلاقة، في اجتماع سياسيّ يريد أن يكون إسلاميًّا بكلّ ما في الكلمة من معنى.
والله الموفّق لما فيه سداد الأمور
[1][8] الإمام عليّ بن أبي طالب، نهج البلاغة، شرح محمّد عبده (قم: دار الذخائر، 1412هـ)، الجزء 1، الخطبة 40، الصفحة 91.
[2][9] سورة القصص، الآية 70.
[3][10] سورة يوسف، الآية 40.
[4][11] نهج البلاغة، مصدر سابق، الخطبة 214.
[5][12] مسؤول قسم الدراسات النهضويّة في معهد المعارف الحكميّة للدراسات الدينيّة والفلسفيّة.
[6][13] يشير في الهامش إلى الآيتَين 70 من سورة القصص، و40 من سورة يوسف.
[7][14] يُفهم من السياق أنّ الكاتب يقصد مفهوم الديمقراطيّة أو الحاكميّة الديمقراطيّة.
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/4417/%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%a7%d9%83%d9%85%d9%8a%d9%91%d8%a9-%d8%af%d8%b1%d8%a7%d8%b3%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%81%d9%87%d9%88%d9%85-%d9%88%d8%aa%d8%b4%d9%83%d9%91%d9%84%d9%87/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.