الشيعة في لبنان من التهميش إلى المشاركة الفاعلة
تمهيد
في تغيّر أحوال شيعة لبنان
لم يكن شيعة لبنان موضع اهتمام استثنائيّ سياسيّ أو بحثيّ أو إعلاميّ قبل عقود، كما هو حالهم اليوم. لكنّ التحوّلات الاجتماعيّة-السياسيّة التي شهدوها في بداية السبعينيّات، ولم تكن مألوفةً في تاريخهم، ولا في تاريخ لبنان، دفعت بعض الباحثين الغربيّين قبل سواهم إلى الكتابة عن الشيعة وعن دور الإمام الصدر في التحوّلات التي بدأت تحصل في داخل الطائفة، وعن تأثير تلك التحوّلات وذلك الدور على مستقبل لبنان نفسه، وعلى مستقبل الطوائف الأخرى فيه.
كما كتب الكثير من الطلّاب الشيعة منذ الثمانينيّات رسائل وأطروحات جامعيّة عن الشيعة، في جامعات عدّة في لبنان والخارج. ولا نستثني ما سبق وألّفه بعض علماء الطائفة عن تاريخ جبل عامل خصوصًا في القرن التاسع عشر. وكذلك بعض الأبحاث ذات الطابع السياسيّ-الاقتصاديّ التي ركّزت في مطلع السبعينيّات على ما سُمّي بأحزمة البؤس التي عشّش فيها الفقر والإهمال حول العاصمة بيروت عندما انتقل إليها الوافدون الشيعة من الجنوب والبقاع بحثًا عن العمل في المدينة. كما التفتت دراسات أخرى إلى التداخل بين تجمّعات الشيعة وبين المخيّمات الفلسطينيّة التي عاشوا في داخلها حينًا، أو إلى جوارها حينًا آخر، في الضواحي الشرقيّة والجنوبيّة للعاصمة.
ولم تكن الدراسات عن لبنان عمومًا تهتمّ بالشيعة كطائفة، لا على المستوى الاعتقاديّ، ولا على مستوى الفاعليّة أو الدور السياسيّ. ولا يعني ذلك أنّ تلك الدراسات لم تكن تنحو هذا المنحى في منهجيّة بحثها، فقد كتب الكثير عن الطائفة المارونيّة على سبيل المثال، وعن تاريخها، وعن تشكّلها الاجتماعيّ والسياسيّ والثقافيّ وعن علاقاتها بالغرب، وعن إدارتها السلطة بعد الاستقلال، وعن صراعها من أجل تلك السلطة في القرن التاسع عشر، في حين ندرت الدراسات المماثلة عن الشيعة، لأنّ هؤلاء أصلًا افتقدوا الأدوار الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة في القرن الماضي وحتّى سبعينيّات القرن العشرين. ولأنّ بعض الباحثين عندما كتب تاريخ لبنان، اختزل أدوار طوائفه ومكوّناته بدور الطائفة الحاكمة والمهيمنة وتاريخها. فأصبح تاريخ لبنان السياسيّ مقصورًا على تاريخ الموارنة، وتاريخ التعليم في لبنان محدودًا في تاريخ البعثات التعليميّة الأجنبيّة التي عملت في جبل لبنان، وتاريخ الصراعات وأسبابها يتلخّص في الصراع الدرزيّ-المارونيّ، وحتّى صورة القرية وعاداتها وأزياؤها في كتب القراءة في لبنان تختصرها صورة القرية في جبل لبنان وحده، وليس في أيّ منطقة لبنانيّة أخرى، أو إلى جانبها.
وقد ساهم في غياب الاهتمام البحثيّ التاريخيّ والسياسيّ بالشيعة في لبنان أنّهم كانوا في غالبيّتهم العظمى في أسفل السلّم الاجتماعيّ، لم ينالوا حظًّا من التعليم، ولا من الوظائف حتّى البسيطة في إدارات الدولة، التي دأب زعماؤهم على المطالبة بالحصول عليها منذ الثلاثينيّات. وكان الشيعة يعملون في مهن متواضعة (باعة متجوّلون وحمّالون وما شابه ذلك)، خصوصًا من أتى منهم إلى العاصمة بيروت في مطلع القرن التاسع عشر، عندما كانت هذه العاصمة في خضمّ تحوّلاتها الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة باتّجاه التحديث والتغريب الذي لعب الفرنسيّون مع النخب المحليّة المسيحيّة الدور الأبرز فيه؛ أي إنّ الشيعة عاشوا في تلك الحقبة على هامش الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة، فلم تلتفت إليهم الدراسات العلميّة كثيرًا لقلّة فاعليّتهم ولمحدوديّة تأثيرهم. الأمر الذي سمح لاحقًا، مع احتدام الأزمات السياسيّة في لبنان، باستحضار تلك الحقبة من هامشيّتهم لرميهم بأشكال شتّى من التهم العقائديّة والسياسيّة (من الضلال إلى التبعيّة) بشكل لم تتعرّض لها الطوائف الأخرى في لبنان التي كان لها بنيتها العقائديّة الخاصّة، وارتباطاتها الخارجيّة، السياسيّة والدينيّة على حدّ سواء.
ترافقت الحرب الإسرائيليّة الطاحنة على لبنان، في صيف 2006، التي استهدفت القضاء على حزب الله بوصفه حركة مقاومة، ترافقت مع أسئلة طرحها صحافيّون وباحثون لبنانيّون وعرب وأجانب عن علاقة الشيعة بهذه المقاومة، وعن مدى استمرار تأيّيدهم لها، وكشفت تلك الأسئلة – ومعها الرهانات التي ربط البعض مصير الشيعة ومصير لبنان والمنطقة بها – أنّ الكثيرين لا يزالون يجهلون البيئة التاريخيّة والنفسيّة والاجتماعيّة والسياسيّة التي ساهمت في التحوّلات التي يعيشها شيعة لبنان عمومًا، وفي الانتماءات التي التحقوا بها وفي الخيارات المصيريّة التي دافعوا عنها.
بدأ الاهتمام الجدّيّ بالشيعة كطائفة من الطوائف اللبنانيّة، بحاضرها وتحوّلاتها ومستقبلها، عندما لاحت بوادر مشروع الإمام الصدر في توحيد جسد الطائفة ووعيها الجنوبيّ-البقاعيّ. قبل هذا التاريخ، كان الشيعة في هاتين المنطقتين يعيشون حالتين منفصلتين على مستوى الوعي، وعلى مستوى التمثيل السياسيّ لزعاماتهم التقليديّة. هكذا احتشد، ولأوّل مرّة في تاريخ لبنان الحديث، مئات الآلاف من شيعة الجنوب والبقاع معًا تلبيةً لنداء الإمام الصدر، وفي أكثر من تظاهرة، للاعتراض على الحرمان الاجتماعيّ والسياسيّ المزمن الذي لحق بالطائفة قبل الاستقلال وبعده. فكان الأمر بداية تحوّل عميق على مستويات عدّة في واقع الشيعة في لبنان. فإلى تجانب وحيد وعيهم بهويّتهم كطائفة، بغضّ النظر عن أماكن سكنهم وانتشارهم، أراد الإمام الصدر أن يدفع هذا الوعي، في الوقت نفسه، في اتّجاهين متكاملين، سيكون لهما لاحقًا، في ظلّ ظروف جديدة مؤاتية، التأثير المهمّ و”الاستراتيجيّ” على واقع الشيعة كلّه، وعلى مستقبل التوازن الطوائفيّ في لبنان، وعلى مستقبل لبنان نفسه. إذ بات من المستحيل أن نفهم تاريخ لبنان المعاصر، أو أن نستشرف مستقبله من دون متابعة ما يجري من تحوّلات على مستوى الطائفة الشيعيّة. وهو الشرط الذي لم يكن مطلوبًا تاريخيًّا، لا على مستوى ولادة لبنان الكبير، ولا في لحظة الاستقلال، ولا حتّى بعد ذلك.
أمّا الاتّجاه الأوّل الذي أراده الإمام الصدر للشيعة فهو وعيهم بلبنانيّتهم وبحقّهم في مطالبة الدولة التي ينتمون إليها برفع الحرمان عنهم، وبالحصول على التنمية المتوازنة في المناطق التي يعيشون فيها أسوةً ببقيّة المناطق اللبنانيّة (بدل الانكفاء والصّمت). والاتّجاه الثاني هو حقّهم في الحماية من الاعتداءات الإسرائيلية، خصوصًا في جنوب لبنان، وهو ما سيتحوّل بعد ذلك إلى حقّهم في حمل السلاح للدفاع عن أنفسهم في مواجهة هذه الاعتداءات المتكرّرة من دون أيّ رادع (بدل الاكتفاء بالشكوى والتظلّم).
استحوذت شخصيّة الإمام الصدر ومواقفه وسياساته على الاهتمام السياسيّ والإعلاميّ في لبنان وخارجه. ومن خلاله تحوّل الاهتمام إلى الشيعة عمومًا، وإلى متابعة التحوّلات التي كانت تجري في داخل الطائفة نفسها لأنّ الإمام الصدر كان قد بدأ ببناء المؤسّسات التعليميّة والمهنيّة والاجتماعيّة التي لم تعرفها الطائفة طيلة عقود طويلة ولم تحصل على خدماتها المفترضة من الدولة ومؤسّساتها. ولأنّ هذه الدعوة لبناء المؤسّسات ترافقت مع دعوة أكثر خطورة وأهميّة هي الدعوة، لأوّل مرّة في تاريخ لبنان، لتشكيل حركة مقاومة ضدّ الاحتلال الإسرائيليّ، في حين كانت الثقافة السياسيّة السائدة والرسميّة على هذا المستوى هي ثقافة حماية لبنان من خلال “الضعف”، وليس من خلال المقاومة أو القوّة. هكذا، سيزداد الاهتمام على المستويات السوسيولوجيّة والسياسيّة والديمغرافيّة وغيرها بشيعة لبنان بعدما بات دورهم أكثر تبلورًا على المستوى السياسيّ تحت قيادة دينيّة وسياسيّة، جعلتهم أكثر جرأةً في المطالبة بحقّهم، وبالتالي أكثر “تهديدًا” لمعادلة الاستقرار الطوائفيّة التي لم تكن عادلة تجاههم منذ الاستقلال…
أكثر من رائع يتناول معلومات تاريخية هامة ومعاناة الشيعة سابقا أسبابها،حيثياتها،ونتائجها. تحياتي لكم
شكرًا لكم، ولمتابعتكم القيمة. نسأل الله لكم دوام التوفيق.