تهافت “العصبية” الليبرالية لدى بعض العرب
الكلمات المفتاحية: محمد نعمة، تهافت العصبية الليبرالية، العالم العربي، اقتصاد السوق، حرية السوق، حرية الفرد.
صحيح أن الديموقراطية والليبرالية قد تتعايشان ردحًا من الزمن إلا أن ما يفصل بينهما في المعنى، حقلٌ شاسع. وبالتالي إن الخلط المفاهيمي بين هذين المصطلحين أو النمطين من التصورات السوسيو- سياسية يؤدي حتمًا لتعقيد المسالة عبر تسطيحها بدلًا من تفكيكها مفاهيميًا وسبر غورها من أجل إيجاد التوليفات الملائمة لها على المستوى النظري أو التطبيقي. فإن من يريد التأمل قليلًا في هذين المفهومين لن يكون من الصعب عليه اكتشاف أن الليبرالية هي ظاهرة متعددة وفضفاضة. وقد تكون رديفة للديموقراطية كالنمط الغربي الحالي مثلًا. إلا أنها لا تنحصر في هذه الرقعة الجيوسياسية والاجتماعية ولا بنمطها هذا. فالليبرالية “الآسيوية” قد تأخذ أبعادًا أبوية وبيروقراطية، كما في روسيا بوتين، أو كوريا الجنوبية أو تايلاند. بل قد تأخذ أيضًا أشكالًا أمنية، كمثل المستبد الأسبق بينوشيه في تشيلي، أو نظام الطاغي الأسباني البائد فرانكو، أو حتى التركي الما قبل إسلامي. إن الليبرالية قد تكون “موجّهة” من علٍ وعلى الطريقة السوفيتية كما هي في مصر عهد الرئيس الراحل أنور السادات، أو في تونس الحالية. وفي أحوال أخرى قد تكون الليبرالية متشابكة مع ثقافة أو أيديولوجية علمانية (فرنسا) أو مع عقيدة دينية أو شبه دينية كما هي الحال في بولونيا وتركيا الحالية وأيضًا إيران الإسلامية.
ليست الليبرالية إذًا نمطًا اجتماسياسيًا محدد الشكل، مميز الأهداف وواضح الطريقة. هي ليست بنية، أو سقف، أو قاعدة. إنها تصور أو معاش “لزج”. وبمعنى معين هي أداء سطحي أو جانبي، لأن الليبرالية تفتقد تاريخيًا وانتروبولوجيًا لخاصية فكرية ثابتة تميزها، تمنحها ماهيتها وهويتها المحسومة والمحددة مفاهيميًا وأيديولوجيًا. إن الليبرالية ما هي إلا إعلان إنتاجي، وتحتوي ما يحتويه من “التشكيلات” المفاهيمية والأيديولوجية المختلفة والمتنافرة.
إن الكيان الليبرالي يكاد يتجسد فقط بمستويي الملكية الفردية والسوق، اللذين ينغرسان في اللوحة الاجتماع – سياسية العالمية برمتها، وتحديداَ بُعيد انهيار المعسكر الاشتراكي. ففي المنطقة العربية هناك ليبراليون قوميون مثلما هنالك ليبراليون قطريون أو جهويون. هناك أيضًا توليفة عجيبة التركيب: ليبراليون يمينيون، وليبراليون يساريون، وليبراليون إسلاميون أو مسيحيون، وليبراليون ملحدون. هناك ليبراليو السلطة وليبراليو المعارضة، ليبراليو الاستبداد وليبراليو الحرية. وما عدا ذلك من تلك الفكرة فهو يبقى وثيق الصلة بمصدرين اثنين لهذه الليبرالية.
المصدر الأول هو الخلفية الأيديولوجية والمعتقدية والتي تشكل المحرك الفعلي للخطاب الليبرالي. والمصدر الثاني هي الحاجة الدعائية المميزة في لعبة الاصطفافات الاجتماعية.
هنا تبدو الليبرالية عبارة عن يافطة، أو “جواز مرور” ليس أكثر في لعبة تموضع الاجتماع السياسي. لأن في الخلفية الأيديولوجية لليبراليين (غير الديموقراطيين) قد يكون العداء شديد الحدة تجاه الليبراليين الديموقراطيين كأن يصل إلى درجة التصفيات والقتل المنهجي، وهذا ما حصل فعلًا في التشيلي المعاصرة على سبيل المثال لا الحصر. لذلك فإن الليبرالية المعلنة ليست إلا “ماركة مسجلة” تتوظف بشكل أو بآخر في اصطفاف ما، أو في احتراب اجتماعي مرتكز على مبدأ “هنا – الآن” وليس أكثر.
إن الليبرالية العربية كمعتقد أيديولوجي، ورغم تعاقب أجيالها وتوالي افتراقاتها وتقارباتها مع السلطة ليست بصدد قطع عملي وأيديولوجي مع إشكال الاستبداد الشائع في بلادنا، ذلك لأن مهمتها لم تكن (وليست إلى الآن) بناء نظام اجتماعي سياسي يقوم على ثنائية ليبرالية – ديمقراطية واضحة. لهذا السبب نراها كيف غيَّبت وتُغيِّب في أدائها مسألة الحريات العامة للفرد وللأحزاب وللمنظمات الأهلية، وتهمِّش متطلبات جدلية الفرد والمجتمع، وعلاقات الداخل مع الخارج، والبنية والوظائف، الأهداف والوسائل. باختصار إن “ليبرالياتنا” تتهرب من مواجهة شمولية وكلية للمعضلة الاجتماسياسية التي تحاصر مسالة التقدم ومتطلباته. إن هروب الليبرالية العربية هذا يستعاض عنه بالالتباس النافر والرديء بين ما هو اقتصادي أو سياسي، وبين ما هو ثقافي أو علاقات عامة أو عمليات دعائية، وكذلك بين ما هو مصلحة فئوية أو مصلحة عامة، وبين ما هو في خدمة الخارج المخترق للداخل بفاعلية أو مصالح الوطن الخاصة به وبضروراته البنيوية والتاريخية.
لقد فصل الليبراليون العرب وما زالوا يفصلون بين حرية السوق وحرية الفرد، (أنظر إلى تَغني ليبراليي لبنان والعراق بـ”حرية السوق” وبنفس الوقت إمعانهم في استلاب حرية الأفراد من قبل طوائفهم الدينية أو تغاضيهم عنه). هذا الفصل أو الانشطار هو أيضًا بين احترامهم النموذجي للالتزامات، وللعقود الدولية. وبين شرعية التحرر الوطني وضرورة البناء القومي الذاتي للدولة السيدة على ترابها ومؤسساتها ومصالح مواطنيها. هذا الانشطار ينسحب أيضًا عند الليبراليين العرب بين استعراضيتهم العارية والعزلاء دفاعًا عن ليبرالية معولمة اكتساحية، كان سبق أن أسّس لها قبل العقدين الثنائي الانغلوساكسوني المحافظ رونالد ريغان ومارغريت تاتشر محطمة عمال المناجم وملهمة الدموي الليبرالي بينوشيه، وبين جهل أو تجاهل المستلزمات الهادفة لتهيئة ولتعزيز ولتحصين البنى الإنتاجية والاستهلاكية للمجتمع وذلك من اجل منافسة ملائمة ومردود مؤكد وموزع بإنصاف. الليبرالية العربية كأيديولوجيا، لم تستطع حل مشكلة الاستقلال الوطني المزمنة. ولقد بدت عاجزة عن إيجاد تخريج لائق للمعضلة الاجتماعية. إن عجزها هذا يبدو متجسدًا في:
– ازدياد حدة الاضطراب الاجتماعي الناتج عن الفساد، والمحسوبية، واستفحال الاعتباطية، والاستنسابية في العلاقات بين الأفراد والفئات وفي الأطر المؤسساتية نفسها.
– تجاهل قضية هامة لاستقرار المجتمع وتقدمه عنينا بها قضية التنمية الوطنية المستدامة، وبرامجها ومأسستها.
– عدم القدرة على حل مشكلة توزيع، وإعادة توزيع الثروات بعقلية مواطنية جديدة، وبمنهجية عقلانية جديرة بالتجديد، وبالرقي، وبالعدل .
هذا هو الحال الذي كان عليه الرعيل الأول من الليبرالية المعاصرة والتي تنازلت عن الاستقلال الوطني، ووجدت خير تعبير عنها في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي في حزب الوفد المصري الذي استقوى بالاحتلال الإنكليزي من أجل بسط سيطرته الداخلية وكانت الحصيلة أن يجد نفسه فاقدًا المناعة الوطنية والشرعية المجتمعية. إن هذا الفقدان الأساسي لمشروعيته لم يدفعه للتعويض عنه عبر أداء اجتماعي تطويري، أو عبر تصور لمجتمع يكون أقل اضطرابًا وأكثر عدلًا. ولذلك كان انهياره حتميًا ودراماتيكيًا. أما الجيل الثاني من الليبراليين العرب فقد انتهز فسحة موت جمال عبد الناصر الجسدي والسياسي لكي يشهر انسحابه من قضايا الاستقلال العربي وتحديدًا من قضية القضايا: فلسطين. فإذا بشعار “مصر أولًا” للرئيس السادات يتمظهر انقطاعًا وانكفاءً نحو الداخل، وأيضًا احترامًا “للتعهدات الدولية” ما لبث أن تعمم: “المغرب أولًا”، “الأردن أولًا”، “لبنان أولًا” وهكذا دواليك. فأصبحت العبارات الانسحابية كمثل “تعبنا من الفلسطينيين” أو “هدّتنا القضية الفلسطينية” شعارًا ليبراليًا بامتياز اصطحبه الوعد بجنة “الانفتاح”، فرأينا بعد ذلك نتيجة هذا الأداء: الانحباس الخانق بين مطرقة عقدة النقص والانبهار بقوة الغرب، أو المعونات المسيّسة من جهة وبين سندان شره الإثراء الاعتباطي وغير الشرعي والفساد من جهة أخرى.
إن الانكفاء عقيدة السوق سوف يتخذان بعد ذلك شكلًا جديدًا، وهو ما يسمى حديثًا بـ”الواقعية السياسية الليبرالية”. أي بما يعني القطع مع قضايا المنطقة، وبما يعني كذلك تقبلًا إراديًا وتمسكًا قصديًا بما هو مرسوم أو معروض للمنطقة هذه وأهلها. وهذا ليس بجديد في تاريخ “عصبية الليبرالية” لدى بعض العرب، لا بل إنه يمثل استمرارية نهج وعقلية تعتبر ذاتها جوهريًا في مديونية فكرية ونفعية مع الأقوى دوليًا أولًا، وفي انحيازية حدّية تجاه الداخل ثانيًا. إن هذه الواقعية السياسية لا تجعل من الليبراليين العرب، مجرد عديمي الفعالية على مستوى المنطقة، بل على العكس، فسيكون لانكفائهم تأثير فعلي كبير الأهمية من حيث تأييد ديناميكية تفكيك، وتفتيت المنطقة من جهة، وازدياد الاستئثار والفساد الداخلي من جهة ثانية.