كسر أصنام الجاهلية
المقدمة
علاقة التصوف بالتشيع
يتضمن التصوف، كحقل اختصاصي علمي، مجموعة من المقدمات الدراسية التي لابد منها في الإفصاح عن ماهية هذا العلم، وذلك من خلال الرجوع إلى الجذر الاشتقاقي لكلمة التصوف، وتعريفه، وبيان نشأته ومراحل نموه، والمؤثرات الخارجية التي ساهمت في تطوره، والطرق التي انبثقت منه…
فقد كان اشتقاق لفظ الصوفي موضع خلاف بين أهل الفن، وقد تراوحت فرضياتهم بين ان يكون الصوفي مأخوذا من أهل الصفة، أو الصفاء، أو الصف، أو بني صوفة ( نسبة إلى الغوث بن المر)، أو من كلمة سوفيا اليونانية والتي تعني الحكمة، أو ان تكون لقباً، أو غير ذلك.
ويرى جان شو فليي في كتابه ” التصوف والمتصوفة” ان ارجح اشتقاقات التصوف تربط الكملة بالصوف وارتدائه ( الانقطاع) وهناك اشتقاق اخر يربط الكلمة بالصفاء التطهر، والمعنى الثالث للصوفية يرجع اشتقاقه اللغوي إلى اللفظ الإغريقي سوفيا أي الحكمة تلم هي الخصائص الثلاثة الأساسية التي يثيرها معنى التصوف الانقطاع والتطهر والحكمة، وسيعمل التاريخ على ان ينوعها في شتى الإنحاء والاتجاهات.
ولئن اشتهر بين أهل العلم ان التصوف مأخوذ من لبس الصوف بما يعنيه ذلك من دلالة على الزهد والانقطاع عن الدنيا إلى الله تعالى، إلا ان ذلك لم يكن ملحوظاً في سيرة الأئمة(ع) والصحابة الأوائل الذين مثلوا المعنويات العالية والروحانية القصوى في الإسلام، وإنما كانوا يأخذون بالزنية ويدعون إلى التجمل بل ثمة نصوص تشير إلى ان ارتداء الصوف ليس من السنة في شيء. وما كان يفعله أهل الصفة من ارتداء الصوف مثلاً ليس إلا من جهة فقرهم وعوزهم.
أثيرت جملة من المقاربات التي من شأنها ان تعين على تحديد مفهوم التصوف، كتعريفه بأنه ( خلق)؛ حيث يرى أبو الحسين النوري ( ت265هـ.) ان التصوف ليس رسماً ولا علماً، ولكنه خلق. ويميل البعض إلى تعريف التصوف بالزهد، بينما عرفه ابن خلدون بأنه حسن رعاية الأدب مع الله في الأعمال الظاهرة والباطنة بالوقوف عند حدود مقدما الاهتمام بأعمال القلوب، مراقبا خفاياها، حريصا على النجاة فهذا الرسم هو الذي يميز هذه الطريقة، وذهب البعض الأخر إلى تعريف التصوف بكثرة العبادة الأمر الذي لم يرتضه ابن سينا في كتاب الإشارات حيث قال: ” المعرض عن متاع الدنيا وطيباتها يخص باسم الزاهد، والمواظب على فعل العبادات من القيام والصيام ونحوهما يخص باسم العابد، والمنصوف بفكرة إلى قدس الجبروت مستديما لشروق نور الحق في سره يخص باسم العارف ” والى هذا المعنى يومئ كل من معروف الكرخي ( ت 200هـ.) في تعريفه المشهور ” التصوف صفاء ومشاهدة”.
ومن الملفت للنظر وجود صعوبة في تعريف التصوف، وان التعاريف التي ذكرها المتصوفة لم يقصدوا بها تعريف التصوف تعريفا علميا شاملا يستوعب كل صوره وجزئياته، بل قصدوا بها التعبير عن أحوالهم الخاصة في لحظة معينة محدود فكل واحد منهم عبر عما وجد، ونطق بحسب مقامه.
مر التصوف بمراحل وأشواط لا تشكل بالضرورة تقطيعات زمنية بمقدار ما تعبر عن النهج والنزعة التي سادت المرحلة مما يوقعنا في مشكلة التداخل الزمني فيما بين المراحل، فقد كان لكل مرحلة طابعها الخاص الذي اصطبغت به فميزها عن غيرها من المراحل وذلك بسبب من تطرف أصحاب النزعات وميلهم الخاص عن الوسطية المعتدلة التي أمر بها الدين في العلاقة مع الله تعالى، وقد أدى ذلك إلى ظهور نتوءات وتشوهات اعتبرت فيما بعد علامات فاصلة للتمييز بين المراحل، ومن هنا يكاد ان يكون تاريخ التصوف المكتوب تاريخ للانحرافات والتشوهات المتراكمة في نطاق الرؤى والمسلكيات التي يمكن ان تصور علاقة الإنسان بالله تعالى.
وعلى هذا الأساس سيطرت نزعة الخوف والحزن على التصوف في القرن الثاني للهجرة وما تلاه بالشكل الذي نجده عند الحسن البصري وأمثاله، واصطبغت هذه المرحلة بالدعوة إلى ” العزلة”، و ” قطع العلائق”، و الفرار من الدنيا “، و “اليأس من الناس لتتجاوز الأنفس قلقها ويعود إليها انسها وصفاؤها.
كما سيطر على هذه المرحلة نزعة الحب والعشق الإلهي، وذلك مع رابعة العدوية في الثلث الثاني من القرن الثاني للهجرة، وقد تبلورت هذه النزعة الصوفية فيما بعد من خلال منهج استقطاب كامل للنفس في علاقتها مع الله تعالى على أساس محاولة الاتحاد بالمطلق تتمثل بالعشق الإلهي.