الخواجة نصير الدين الطوسي مقارنة بين شخصيته و فكره
المقدمة
المغامرة في استكشاف التراث ورجالاته مهمة شائقة وشائكة في آن معاً، وبحرٌ خاض لجته المتلاطمة الكثير من الباحثين، وكان أحد المباحث -الذي سال فيه الكثير من الحبر ودار حوله الكثير من الجدل- تحديد الأهداف، والمناهج، والآليات الأفضل والأنجع في دراسة التراث. وإذا غضضنا النظر عن تقويم وجهات النظر والاقتراحات المقدمة في هذا المجال، نرى أن كل الباحثين متفقون على أهمية قراءة ودراسة التراث والانطلاق من هذه الدراسة -حتى عند من يقول بتجاوز التراث- لصناعة المستقبل؛ والجميع يؤكد أثر التراث في ما كونه من مميزات خاصة في الشخصية الحضارية لهذه الأمة، وفي أهميته في أي صيرورة مستقبلية. ولا يخفى أن تطور المسائل والعلوم الإنسانية وخاصة الفلسفة والكلام هو تطور وإنتشار أفقي، فتاريخ هذه العلوم هو مسائلها وتطورها، وبالتالي لا يمكن الإستغناء عن قراءة ما قدمه المتقدمون في هذه المجالات.
لكل ذلك وقع الاختيار لدراسة شخصية عملية كان لها تأثير بارز في مسار الفلسفة والكلام في تاريخ الحضارة الاسلامية وهو الخواجة نصير الدين الطوسي، وهذا الإختيار له أسباب يمكن إيجازها كالآتي:
عاصر الخواجة الطوسي زمناً مفصلياً، فإنه نشأ في أجواء الغزو المغولي الاول (جنكيز خان) الذي دمر الأطراف الشرقية للدولة الإسلامية، بما كان يحويه من مدارس وحركة ثقافية غنية، والغزو المغولي الثاني (هولاكو) الذي دمر قلب الدولة الإسلامية وقتل رمز الخلافة العباسية، مع ما عناه ذلك من انهيارات في البنى الاجتماعية والسياسية والمعنوية، بما كان يمثله الخليفة العباسي من وحدة معنوية جامعة على مستوى العالم الإسلامي. وقضى هذا الغزو وبشكل تام، على آخر دولة يعتبر المذهب الإسماعيلي، مذهباً رئيسياً لها.
شهد القرن السابع إرهاصات تحولات مذهبية هامة، فقد أنتهى العهد السلجوقي الذي فرض المذهب الأشعري وناصره من خلال المدارس النظامية، وبدأ يظهر الإتجاه الحنبلي-السلفي من خلال ابن تيمية وتلامذته. ونُكب المذهب الاسماعيلي بقتل أحد أئمته وتلف جزء كبير من الوثائق الفكرية لهذا المذهب عندما إنهارات دولة القلاع وحرقت المكتبات التي كانت موجودة آنذاك. وأمتاز هذا القرن ببروز جديد لعلماء الشيعة الإمامية في حوزة الحلة كمركز علمي، كل ذلك جعل هذا القرن قرن مخاض فكري كان له أثر كبير على الفترات اللاحقة .
أما على المستوى الفلسفي فقد كانت هذه الحقبة قد أعقبت ضربات موجعة وجهت إلى الفلسفة عامة وفلسفة ابن سينا بشكل خاص، من خلال النقود التي جاءت على يد الغزالي والشهرستاني والفخر الرازي بما كانوا يمثلونه من مرجعيات فكرية لها وزنها على مستوى العالم الاسلامي في تلك الفترة، وشهد هذا العصر نضوج المدرسة العرفانية على يد ابن عربي وربيبه صدر الدين القونوي.
في ظل هذا الخراب الحضاري، تفتحت قريحة الخواجة نصير الدين الطوسي، وتمثلت فيه كل ظواهر عصره الثقافية والسياسية والأخلاقية فقام بإستياعبها ورفدها في سبيل إعادة احياء الجانب العلمي والفلسفي والكلامي برمتّه[1]. ولكونه لا يشبه ،-بشكل من الأشكال-، ذلك النمط من المفكرين الذين عاشوا بعزلة؛ حيث كان من الذين تقلبوا وعاشوا في بؤرة الحياة السياسية والاجتماعية في ذلك العصر المتقلب، كان على الباحث الذي يريد الولوج إلى ساحة الخواجة الطوسي أن يعالج الكثير من الإشكاليات التي أثيرت حوله، والتي لا يمكن معالجتها معالجة وافية دون الإلمام بالظروف الاجتماعية والسياسية التي عاصرها، ولا يمكن الوصول إلى قدر معقول من التفسير و التبرير دون وضع هذه الإشكاليات في سياقها التاريخي والاجتماعي. وما يؤكد ضرورة إستيعاب هذا السياق هو أن نشاطه العملي وتأثيره بالحياة الثقافية والسياسية السائدة في عصره لم يكن أقل شأناً من نتاجه الفكري.
منهج البحث
في سياق اكتشاف ودراسة أبعاد تجربة الخواجة الطوسي الفكرية سوف نعتمد المنهجية التاريخية بالاتساق مع منهجي المقارنة والتحليل والتركيب. حيث أن ((كل دراسة فكرية لا بد لها من عمق تاريخي يواكبها يوضح معالم الطريق ويضع المؤشرات التي ينبغي أن تصاغ عليها، مع فهم موضوعي للفترة ذاتها))[2]، وقد أكد هذه المقولة الدكتور الأعسم في بحثه عن نصير الدين الطوسي بقوله ((دراسة نصير الدين في رأينا تكون عقيمة وناقصة إذا لم ترتكز على دراسة العصر الذي عاش فيه، وعلى البيئة التي طبعته بطابعها))[3].
بدأنا بحثنا بإطلالة جغرافية توضح مكان الأحداث وطبيعتها، ثم قمنا باستعراض تاريخي في سبيل إيضاح أبرز الأحداث والعناصر المؤثرة في الحدث السياسي والاجتماعي في القرن السابع للهجرة. بعدها تعرضنا للسيرة الشخصية، مع التركيز على نشاط الخواجة الطوسي تلمذةً ودراسةً ؛ والأساتذة الذين كان لهم التأثير الأبرز في صياغة الشخصية العلمية للخواجة الطوسي، ثم درسنا سيرته الشخصية وفق الحقب الزمنية وعالجنا الإشكاليات التي أثيرت حوله.
بعدها درسنا سماته العلمية ومشروعه العلمي والعملي ودوره في الحقبة المغولية، وآثار هذا النشاط على عامة النشاط العلمي على مستوى العالم الإسلامي، حيث قمنا بدراسة مشروعه الأهم (مرصد مراغة) بالمقارنة مع المراكز العلمية المشابهة التي أُنشئت قبله، ودرسنا خصائصه ومميزاته وأثره في المؤسسات المشابهة التي أُنشئت بعده.
بعدها درسنا أثر الخواجة الطوسي على علم الكلام، من خلال المقارنة بين أبرز كتاب كلامي له (تجريد الإعتقاد)، وبين ابرز كتاب كلامي للشيخ المفيد (أوائل المقالات)، وذلك لتحديد التطور الذي أدخله الخواجة الطوسي على علم الكلام لدى الشيعة الإمامية بشكل خاص. ثم تعرضنا لمشروع الخواجة الطوسي في إحياء الدرس الفلسفي من خلال رده على مشروع نقد الفلسفة الذي بدأ على يد الغزالي وأكمله الشهرستاني والفخر الرازي من بعده، بعدها تعرضنا لمميزات مشروع الخواجة الطوسي الفلسفي والكلامي من خلال أبرز آراءه والتي كان لها الاثر على من جاء بعده، ثم درسنا مميزات فكره العرفاني من خلال أبرز آثاره في هذا المجال وهو (أوصاف الأشراف).
لم نتعرض للبحث التفصيلي في آراء الخواجة الطوسي الفلسفية والكلامية، ولا للمقارنة بين آراء الخواجة الطوسي وبين الفخر الرازي، وذلك لوجود دراستين في هذا الإطار للدكتور هاني نعمان فرحات[4]. ولا في نظريات الخواجة الطوسي في الإمامة والأخلاق والسياسة، لوجود دراستين في هذا الإطار للدكتور علي مقلد[5].
[1] الاعسم، عبد الأمير، الفيلسوف نصير الدين الطوسي، ص 59 .
[2] آل ياسين، جعفر، فيلسوفان رائدان الكندي والفارابي، ص 7-10.
[3] تامر، عارف، نصير الدين الطوسي في مرابع ابن سينا، ص8 .
[4] الدراسة الأولى: (فرحات، هاني نعمان، نصير الدين الطوسي وآراءه الفلسفية والكلامية، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 1986)، أما الدراسة الثانية فهي: (فرحات، هاني نعمان، مسائل الخلاف بين فخر الدين الرازي ونصير الدين الطوسي، دار الغدير، بيروت، ط1، 1997).
[5] الدراسة الأولى هي: (مقلد، علي، نظام الحكم في الاسلام أو النبوة والإمامة عند نصير الدين الطوسي، دار الأضواء، بيروت، 1986)، أما الدراسة الثانية فهي: (الاخلاق والسياسة والاجتماع عند نصير الدين الطوسي، دار الاستقلال للثقافة والعلوم القانونية، بيروت، ط1، 2001).