التأويليّة الإسلاميّة وسؤال المعنى
يتمّ تناول النصّ من خلال ما يثيره من معانٍ تنسبق منه إلى ذهن القارئ، ويتجلّى المعنى وفق مستوياتٍ متفاوتةٍ تساهم فيها المفردة اللغويّة إلى جانب تركيب الجملة والسياق الكلّي، فيكون للجملة بما لها من تركيبٍ خاصٍ دورًا مرجعيًّا في الإضاءة على المفردات اللغويّة وتفسيرها، كما يكون للسياق العامّ مرجعيّته في رسم تفاصيل الصورة الكلّيّة للنصّ، من خلال ضبط إيقاع الجمل وانتظامها بحيث يتشكّل منها نسيج النصّ وروحه. وبهذا، يتجلّى النصّ وفق سياقاتٍ وأساليبٍ مختلفةٍ بأشكالٍ ومستوياتٍ متعدّدة، الأمر الذي يؤكّد على ضرورة ملاحظة هذا التشابك الكلّي كشرطٍ للاستنطاق، واستقامة القراءة، بعيدًا عن أحاديّة النظرة التي من شأنها توتير النصّ في مدلولاته المحتملة والحيلولة دون استنطاقه ومعننته. وقد تنشأ الصعوبة في القراءة من داخل بيئة النص، نظرًا لاحتوائه على مادّة غنيّة بالدلالات، تفترض مستوى من القراءة تسمح باستجلاء الزخم الكامن فيه، كما هو الحال بالنسبة للنصّ القرآني، إذ “كلّ كلمة في الآية ذات رصيدٍ ضخم، وكلّ عبارة وراءها عالمٌ من الصور، الظلال، المعاني، الإيحاءات، القضايا، والقيم”. وقد تنشأ الصعوبة من خارج النصّ حين يراد إسقاطه وتسييله وفق واقع ظرفي خاص أو توجّه ذرائعي معيّن، ويفضي ذلك إلى تطويع النصّ وَلَي عنق الدلالة فيه بما يناسب وجهة النظر المحدّدة. هكذا بدا النصّ القرآني ملتبسًا غائمًا في كثير من المفاصل الأساسيّة للتاريخ السياسي والاجتماعي والثقافي في الإسلام، نقع على هذه الحقيقة في عبارة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم للإمام علي عليه السلام: “يقاتل بعدي على تأويل القرآن، كما قاتلت على تنزيله”[1]، وفي تحذير الإمام علي عليه السلام لابن عباس من الانزلاق في معمعة التراشق الجدليّ مع الخوارج: “لا تخاصمهم بالقرآن، فإنّ القرآن حمال ذو وجوه، تقول ويقولون، ولكن حاججهم بالسّنة، فإنّهم لن يجدوا عنها محيصا”[2]. وما ذلك إلّا بسبب غنى النصّ وقابليّته للاستثمار وفق الأفق الثقافي الخاص بالقارئ، فإن انفتاح هذه الإمكانيّة من شأنه أن يهيّئ أرضيّة خصبة للتأويل ويلقي بظلاله على سؤال المعنى الملحّ كقضيّةٍ محوريّةٍ تتطلّب علاجاتٍ منهجيّةٍ جامعةٍ تسمح برسم المعالم الكلّية للنظريّة القرآنيّة في التفسير، وتنأى جانبًا بالروح الجدليّة التي ساهمت في تأطير النصّ وفق آليات خاصّة أفضت لاحقًا إلى تحجير حركة الفكر. وقد شهد سؤال المعنى أشدّ مراحله جدلًا واضطرابًا بين المسلمين في موضوعة الصفات الخبريّة، وهي الصفات التي ينحصر طريق إثباتها بالأدلة النقليّة فحسب، سواء ما يتعلّق منها بذات الله تعالى، كالوجه، اليدين، العينين، الساق وغير ذلك. قال تعالى: ﴿خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾[3]، أو ما يتعلق بأفعاله جلّ شأنه، كالاستواء، النزول، المجيء ونحو ذلك. قال تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾[4].
[1] الشيخ المفيد(413)، الإرشاد، تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم االسلام لتحقيق التراث (لبنان- بيروت: دار المفيد طباعة- نشر وتوزيع، الطبعة 2، 1414- 1993م)، الجزء 1، الصفحة 127.
[2] خطب الإمام علي عليه السلام (40)، نهج البلاغة، تحقيق الشيخ محمد عبده (لبنان- بيروت: دار المعرفة للطباعة والنشر، الطبعة 1، 1412-1370 ه. ش)، الجزء 3، الصفحة 136.
[3] سورة ص، الآية 75.
[4] سورة طه، الآية 5.