طيف أرسطو
حين يتواجد حكيم في مقهى عام، قد يواجه نوعًا من الأسئلة مختلفًا عما يعهده، من قبيل: لماذا لا يحضر الملك أو حاشيته إلى المقهى؟ وبشيء من الاستدراك، سيكون جوابه عن تلك المسألة: إنما يراد الملك لأجل السياسة والتدبير وليس لأجل شخصه، وبالتالي فإن حضوره بيننا إنما هو بتوفر الأمن ونمو الاقتصاد وحسن تدبير المملكة. إن الملك يحضر إلى المقهى بما يناسب شأنه، ومع ذلك، يطرح السؤال عن معنى حضور الله تعالى في هذا العالم الإمكاني ضمن سياق تسويغي يرى إلى ان الله تعالى من طبيعة غير محايثة لهذا العالم! والمقصود هنا هو ذلك التصنيف الذي ساد ردحًا طويلًا من الزمن والذي يتوزع فيه العالم بين إلهيات وطبيعيات في سياق ثنائية نابذة تنوء بتوجه أحادي؛ ذلك أن الإشكالات التي تثار بوجه الألوهة غالبًا ما تنبع من اهتراء صورة هذا العالم (الأمراض، الكوارث، الموت..)، حتى إذا اكتمل نظام الطبيعة في سياق فهمنا، سيعتبر ذلك مؤشرًا على عدم الحاجة إلى الله !
يعود أساس المشكلة إلى نمط التفكير السائد في نظام أرسطو الفلسفي حيث توجد الأسباب الكاملة لحركة العالم في الطبيعة نفسها، ولا ينبع التغيير من نطاق آخر خارج الطبيعة، بل إن مادة العالم بنظره قديمة، ولذلك فهي تمتلك كافة عوامل استمرارها ويقائها ذاتيًا. لقد سيطر المنحى الطبيعي على فلسفة أرسطو، حتى إنه يمكن تصنيف الفلسفة على نحو كلي بوصفها (ما بعد الطبيعة). ونتيجة ذلك، إن فلسفة أرسطو أقرب إلى الإلهيات الطبيعية منها إلى الإلهيات المجردة. وسوف يستمر الأمر على هذا المنوال – باستثناء شذرات مدرسية عابرة – إلى زمن إبن سينا، حيث أعاد رسم الحدود الفاصلة بين الأنشطة الطبيعية والأنشطة الإلهية وفقًا لمنطق “اعط ما لله لله وما لقيصر لقيصر”. وبذلك انفصل العقل الإسلامي جزئيًا عن أرسطو وتميز بذلك عن العقل الغربي الذي بقي أسير الاستدراجات الطبيعية عن فكرة الإله، وما صرخة هاوكنج إلا الصدى المنظور للإله الأرسطي القابع في مخيلة ذلك العقل، والواقع لاحقًا تحت تأثير فلسفات العلم والمنطق الوضعي عمومًا والتي لم تتحرر من سطوة العامل الطبيعي في نظرتنا إلى الألوهة، بل فاقمت من حدتها وكثافتها.
وفي حين يحتفظ ابن سينا بدور لله تعالى في تدبير الكون من خلال تمييز الفاعل الإيجادي عن الفاعل الطبيعي الإعدادي، إلا أنه وفي متابعة أرسطو سوف يرى أن جوهر العالم قد وجد دفعة واحدة، وما يظهر فيه من تغييرات تدريجية هي تغييرات عارضة على قشرة هذا العالم لا غير. وسيحتفظ العالم بهذا النوع من التماسك والثبات إلى زمن ظهور الشيرازي حيث أعاد إحياء المقولة القديمة لهراكلتوس من خلال ضخ الحركة في مفاصل الطبيعة وسريانها في العالم بنحو كلي. وهو سوف يستبدل بذلك منطق “اعط ما لله لله وما لقيصر لقيصر” بمنطق “قل كل من عند الله”. وعلينا أن ندرك مع الانفصال الثاني هذا، حجم التدخل الإلهي في هذا العالم كخصوصية بارزة تعود بالفلسفة إلى مسارها الإلهي الكامل؛ فالفلسفة هنا يشار اليها بالإلهيات، وفاعلية الله تمتد الى أعمق مدياتها في مقولة الجوهر الطبيعي السيال.
تقوم مقولة الشيرازي على أساس من تصوره للجوهر السيال، ويمكن تصور هذا الجوهر كما نتخيل طيف ألوان غير محدد بلون خاص، كغيمة عابرة يمكن أن نرى فيها أي شيء نتخيله، وهي ليست سوى غيمة نرى من خلالها ما في مخيلتنا فحسب. وفي حين يمكن أن تتحول الغيمة إلى موضوع لاسقاطاتنا وتصرفاتنا الذهنية، إلا أن طيفًا من الألوان سوف يحتوي على جميع الألوان بالفعل دون أن يتميز أي لون فيها عن الآخر. وقد نستحضر الألوان واحدًا تلو الآخر ثم نقوم بتجميعها في لون واحد نفترضه في مخيلتنا بنحو ضبابي لا تميز فيه، ثم نطلق على هذا المجموع إنه طيف من الألوان. ولكن لا شيء يمنع من أن يكون ما استحضرناه من حالات فردية هي نفسها حالات افتراضية لا وجود لها في غيمة الألوان هذه، وإنما هي افتراضات أملتها مخيلتنا أو كيفية رؤيتنا لذلك الطيف السيال. ليس ثمة لون متميز، هو مجرد طيف لم تعتد لغة الانسان يوما على التعبير عنه.
هكذا يتحول جوهر العالم إلى طيف أثيري يخوض لجة هذا الوجود، ككتلة هائلة من الحراك الدائم، لا شيء يمنع عن سيرورتها سوى استقطاع تخييلي لمفاصل معينة منها، يمكن تسميتها باسماء ما انزل الله بها من سلطان. ومن ثم، فإنه لمن دواعي سرور العارف أن يتم تحديد معالم لرؤية فلسفية وفق معطيات يتأيد بها مذهبه في نظرته إلى العالم… ولا يستنكف الشيرازي أن يكون قد استقى معالم هذه الرؤية من طيات العرفان نفسه، ولذلك سوف ينهمك في تأصيل رؤيته للحركة الطبيعية الشاملة، استنادًا إلى أحد البنود الأساسية لفلسفته والقائم على أساس نظرية الحركة الجوهرية في عين الخلق الإيجادي المستمر.
وبطبيعة الحال، سوف يضيق المجال هنا عن استعراض كل ما جادت به قريحته الفلسفية في تصويره لعالم؛ الثابت الأكبر فيه هو ذلك الحراك الدائم، بحيث تكون العلة الإيجادية فاعلة تحديدًا في مجال ذلك الثابت، وتكون الحركة الذاتية فيه من مقتضيات هذا الخلق. كما سوف تضيق الفسحة لبيان أن العالم ذو طبيعة مادية، ولكنه أيضًا متعدد البنى، متسلسل الحلقات.. فهو في جانب منه ذو طبيعة جسمانية، ولكنه ليس جانبًا محايدًا؛ بل هو متداخل البنى بحيث تؤثر تلك البنى بعضها في بعض في إطار ذلك الحراك الذاتي الدائم. وإذا كان العالم أكثر من مجرد جسد، فالاقتصار في الرؤية على جانب دون آخر سوف يوقعنا في التفكيك بين حلقات هذا العالم. وبالتالي، سوف يغيب عنا أن الملك يحضر إلى مقهى هذا العالم من خلال تدبير خاص، يأخذ فيه الوزراء والأمراء والجند أماكنهم المقررة، وسوف يتردد مثل ذلك السؤال.