نحو رشدية عربية (1)
عنوان هذه السلسلة الجديدة من المقالات القادمة له قصة جديرة بأن تُروى؛ بدايتها عندما كنت طالبًا فى السنة الثانية بقسم الفلسفة بجامعة فؤاد الأول في عام 1944، وكان أستاذي العظيم والمتواضع إسمه محمود الخضيري، ومتخصصًا في الفلسفة الإسلامية. طبعتُ محاضراته على “الآلة الكاتبة” ومازالت عندي في مكتبتي الخاصة.
واللافت للانتباه في محاضرته الأولى مسألتان: المسألة الأولى خاصة بتحديد المقصود من مصطلح الفلسفة الإسلامية، وكان رأيه أن الفلسفة الإسلامية تشتمل على عدة علوم هي على النحو الآتي:
- الفلسفة أو الحكمة، ونعني بها دراسة الفكر الإسلامي الذي هو امتداد للفكر الفلسفي اليوناني.
- علم الكلام أو التوحيد أو أصول الدين، وهو العلم الذى يختص بانتصار العقيدة الدينية.
- التصوف، وهو يؤثر الوجدان على العقل.
- علم أصول الفقه، وقد أضافه مصطفى باشا عبد الرازق وهو ينشغل بالبحث في اختبار أحكام الاستدلالات الفقهية.
أما المسألة الثانية فخاصة باتصال الفلسفة الإسلامية بالفلسفة اليونانية، وهو الأمر الذى يستلزم دراسة الترجمة، أي ترجمة الكتب اليونانية في الفلسفة، سواء عن اليونانية مباشرة أو عن لغات أخرى سبق أن ترجمت إليها المؤلفات اليونانية ومدى تأثيراتها في مختلف وجوه الفكر الإسلامي.
إلا أن الذي لفت انتباهي في المحاضرة الثانية هو قول أستاذى الخضيرى إن حركة الترجمة أكثر مما نهض بها هم من غير الإسلاميين، بل يكاد يكون كل التراجمة من غير المسلمين، وليس من العدل إخراج هؤلاء من الفلسفة الإسلامية، هؤلاء جميعًا كتبوا باللغة العربية. فإذا سميناها فلسفة عربية صدقت الكلمة عليهم وانصرفت إليهم وإلى غيرهم، وهنا دار في ذهني سؤالان:
السؤال الأول: لماذا يكاد كل التراجمة من غير المسلمين؟
والسؤال الثانى: هل الأصوب أن يقال فلسفة إسلامية أم فلسفة عربية؟
ولم أكن مؤهلًا فى حينها للجواب عن هذين السؤالين، وبالتالى لم أكن مؤهلًا للدخول فى حوار فلسفي حولهما مع أستاذي فأجلت الجواب.
وفي السنة الثالثة كرس أستاذي الخضيري محاضراته لشرح نظريات الفيلسوف الإسلامي ابن سينا في كتابه المعنون النجاة، وهو كتاب معقد في تركيباته الفلسفية، ومع ذلك فقد كنا نردد عبارة هي على النحو الآتى: “شرح الخضيرى على ابن سينا أصعب من كتابات ابن سينا”. ومن هنا كان أستاذي الخضيري يحرضنا على مشاركته فى ذلك الشرح. وكنت أنا من الذين استجابوا لهذا التحريض لكي أدرب عقلي على فهم ما هو مغلق وتفكيكه في عبارات مغايرة، وفوجئت بأن أستاذي يدخل معي في حوار من أجل مزيد من الفهم.
والجدير بالتنويه أنه طلب أن يكتب كلٌّ منا بحثًا فى إحدى نظريات ابن سينا. وقد كان عنوان بحثى “نظرية الفيض عند ابن سينا”، وكان التقدير “ممتاز”. ومع ذلك فالسؤال لازم: ماذا كان يقصد ابن سينا بنظرية الفيض؟
كانت المعضلة عند ابن سينا وغيره من الفلاسفة الإسلاميين كيف تفيض الكثرة عن الله الواحد الأول الذى لا كثرة فيه؟ وجاء جواب ابن سينا على النحو الآتى: يفيض عنه في البداية عقل واحد تبدأ عنده الكثرة بسبب أن هذا العقل يفكر في الله الذي هو علته ويفكر في ذاته فتفيض عنه ثلاثة أشياء: عقل ونفس وجسم. ويستمر الفيض حتى العقل العاشر المسؤول عن إدارة هذا العالم الذي نعيش فيه.
وليقل ابن سينا ما يقول ولكن تقدير “ممتاز” فتح شهيتى للبحث عما يقوله فلاسفة إسلاميون آخرون فماذا حدث؟