فلسفة الفداء
أقام معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية عصر أمس الأربعاء في مجمع الامام المجتبى، ندوة تحت عنوان: “فلسفة الفداء” حاضر فيها البروفسور الأب يوسف مونس، الدكتور علي زيتون، والشيخ دانيل عبد الخالق، قدّم للندوة الإعلامي علي زين.
افتتحت الندوة بآي من الذكر الحكيم، بعد ذلك تحدث البروفسور الأب يوسف مونس فقال: اذا بقي التفكير في الفداء في الإطار الفلسفي الذهني فقط تكون المقاربة فكرية نظرية ذهنية عقلية، او من عالم الجوهر، جوهر الفداء دون أي تجسيد لها في الواقع في عالم الفعل، أما إن قاربنا الفداء في مداره اللاهوتي الواقعي الوجودي فهو فعل وجودي، في عملية بذل للذات بحب مجاني لأجل خلاص وفداء الآخرين دون انتظار أي مقابل من قبل الشخص المخلّص أو المفتدى كما فعل السيد المسيح ببذل ذاته بحب مجاني لاجل فداء وخلاص الآخرين.
وأضاف الأب مونس، هذا البذل المجاني أو هذه التضحية المحبة دون انتظار اي شيء من قبل الآخر هي جوهر فعل السيد يسوع عند فدائه الإنسان والبشرية لإعادتها إلى حب الله بعد أن ثار الإنسان عليه ورفضه وشاء أن يكون مثله إلهًا فأخطأ في محدوديته تجاه خالقه الأزلي المطلق وطرد من فردوس سعادته، وهكذا فعل الحسين حين افتدى مجتمعه ومات شهيدًا لأجل الحق في أمته على رمال كربلاء، فالعملية ليس مقايضة بل كرم عطاء وفداء مطلق وكامل المجانية لا يشوبه أي انتقاص او منفعة أو مصلحة.
وأشار الى أنه عندما يفتدي الجندي وطنه ويستشهد لأجل حرية أرضه وكرامة شعبه الفعل هنا وطني بامتياز وانساني بكل السمو والعظمة الإنسانية، وكذلك الشهيد المقاوم الباذل ذاته فداءًا لأجل تحرير وطنه ومرافق الزعيم يفتديه حبا له، وشهامة منه وأمانة لشرف الخدمة، والتضحية بالذات بشجاعة لأجل الزعيم أو القائد، والام تفتدي ابنها بحياتها بسهرها عليه في أوان مرضه، وأضاف، حتى إننا عندما نقدّم نذورا وبخورا وشموعًا وكباشًا وغيرها فإننا نكون نستبدل الضحية التي كان واجبً أن يضحى بها بهذه الفدية الرمزية بدل الفدية الدموية.
وقال الأب مونس: إن الضحية لا يجب أن تموت لأنها بريئة، لكنها إن لم تمت لا تكون ضحية.
وختم الأب يوسف مونس بقول لرينيه جيرار: إن قلب الخاطئ لا يهدأ إلا عند سفك دم الضحية البريئة استعاضة وإرضاء لحسده وحقده وكرهه وغيرته… فالعملية الاستعاضية أو الفدائية نبع من قعر الوجدان المحب النقي الطاهر أو من قعر الوجدان الفاسد المدنس المليء بالكره والدود الأزرق. لذلك تبقى الضحية تقول: اللهم اجعل حظي بين الضحايا وليس بين الجلادين وها انا آخذ كأس الخلاص والفداء أشربها وأدعو باسمك.
بعد ذلك كان الحديث للشيخ دانيل عبد الخالق، فاعتبر أن الفداء قد لازم البشرية من البداية ولم تخلو حضارة أو دين مهما قدُم او بعُد من فكرة الفداء والتضحية.
وأضاف، أن الحضارات باختلافها وتنوعها قد تنوعت أشكال هذه القناعة، منها ما هبط بحسب وجهة نظرنا الإسلامية إلى منحدر غير إنساني، ومنها ما حسُن ليرقى إلى مستوى الحكمة ودخل سر الوجود لما حوى من إنسانية متجلية.
واعتبر الشيخ عبد الخالق أن الفداء هو المعنى الأسمى الذي يمكنه أن يواجه الأنا، إنه الضد المحمود لها، هذه الأنا التي بذرها ابليس من البداية فنخرت في قلوب العباد واستفحلت، هذه القوة الإبليسية وبهذا الحجم لا يمكن إخمادها الا بأعلى درجات التضحية، تضحية لا حدود لها حتى ولو كانت بنزع الروح.
وقال: إن الفداء أخذ أشكالا متنوعة عبر الزمن، من فداء لأجل الآلهة إلى فداء للأرض والوطن، إلى فداء للزعيم والقبيلة والطائفة وغيرها.. والمشترك في كل ذلك هو التضحية بما هو غال ونفيس.
وختم الشيخ دانيل عبد الخالق مداخلته بالقول: إن الفارق بين الشهادة والفداء ضئيل رفيع يتعلق بالمقصد الذي يتم الفداء لأجله، والكنيسة في مرحلة ما جعلت من الشهادة في سبيل كلمتها ضمانة لدخول الأبدية، ولها في ذلك قدوة هو الفادي الأكبر من وجهة نظرها حيث افتدى السيد المسيح عليه السلام العالم أجمع، وكذلك الإسلام قد زكا وانتشر بفضل شهدائه واعتبرهم أحياء عند ربهم، ولولا الشهادة لما قامت الأمم وكثير من المجتمعات ما استقامت لولاء شهداء سكبوا دماءهم وزكوا بأرواحهم لإحقاق الحق،
وأشار إلى أن التاريخ قد سجل شهادة أذهلت العالم، عندما أقدم فارسها على الشهادة وهو متيقن بمصيره حيث قال: شاء الله أن يراني قتيلًا وأن يراهن سبايا، وقد افتدى نفسه لتصويب التراخي الذي أصاب الأمة الإسلامية بسبب ميلها إلى الدنيا، وبرغم كل المغريات التي عُرضت عليه فقد أبى أن يقوم إلا بما هو مقتنع به، فدوّت كلماته ولم يستطع التاريخ تخفيف هولها: إني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي.
وكان ختام هذه المداخلات مع الدكتور علي زيتون حيث اعتبر أن القضايا الكبرى التي يفديها الإنسان بحياته تصنّف عمله هذا في أعلى مقامات الفداء. والفداء في علاقته بالموقف من القضايا الكبرى متعال على ذلك الموقف؛ لأن الموقف، بحد ذاته، ليس فداء متحققًا. فصاحب الموقف قد يقدم على الفداء وقد لا يقدم. كثيرون من أصحاب القضية الفلسطينية، فلسطينيين، وعربًا، ومسلمين وإنسانيين مقتنعون بعدالة هذه القضية، ولكنهم ليسوا جميعًا مستعدين للشهادة من أجلها.
وأضاف، أن الفادي بناء على ذلك، إنسان سلوكه عين قناعاته، ونستطيع وصفه بأنه إنسان التوهج.
وأشار الدكتور زيتون إلى أنه ولئن قصرنا الفداء على الشهادة، لأنها قاعدة التحرر في هذه المرحلة التاريخية، فإن ذلك لا يقلل من مستويات الفداء الأخرى ولا يلغي وظيفتها. فإذا تطلّب الموقف أن نضحي بأموالنا حفظًا للقضية، تكون هذه التضحية منتهى التضحية في هذه التجربة بالذات. وإذا تطلب الأمر المبادرة إلى الاستشهاد وافتداء القضية بالروح كانت الشهادة عين الفداء ومنتهاه، لا بل كانت
أرقى أنواع الفداء، فالحسين (ع) حين خرج للإصلاح في أمة جده وكان الاصلاح هو القضية الملحة الكبرى بعد أن عاث يزيد فسادًا وإفسادًا، حين جعل الدنيا متعالية على الدين، فإنه يكون قد اختار القضية وانحاز إليها على حساب حياته، أراد للدين أن يكون متعاليًا على الدينا، ومع السيد المسيح (ع)، ووفق الرؤية المسيحية، نصل إلى ذروة تعني من ضمن ما تعنيه، افتداء البشرية جمعاء وحتى يوم الدين.
وختم الدكتور علي زيتون مداخلته بالقول: إننا ومن أجل الانتصار في معركتنا التاريخية الفاصلة هذه، فضلًا عن الفداء، نحتاج إلى جهودًا ثقافية إعلامية تبرز صورة الفداء في التاريخ الإسلامي عبر رموزه المعروفة، وصورة الفداء في تاريخنا الحديث، وعبر رموزه المعروفة أيضًا. معركتنا ليست معركة عسكرية فقط، إنها معركة صراع الأفكار، ولعل المواجهة القائمة الآن داخل ثنائية (الفداء/الانتحار) إنما تدل على أن الصراع بين الحق والباطل قد بلغ أوجه، لقد شحذ العدو آخر أسلحته وعلينا أن نعرف كيف ننتصر.