لاهوت التكفير وإشكاليّة التنزيل والتأويل
يتحدث القرآن الكريم في تحريف كلام الله والكلم في أربع آيات، وفي كتمان الكتاب وما أنزل من البينات والحق في حوالي ست آيات، وفي لبس الحقّ بالباطل في آيتين، وفي قول الكذب على الله تعالى وافترائه عليه في عشرات الآيات، وفي تبديل القرآن وكلام الله في حدود آيتين. إلى غيرها من الآيات القرآنية والنّصوص الحديثية – وهي بالمئات – والتي تبين حقيقة دينيّة وتاريخيّة واجتماعيّة؛ وهي أن الدين لا تقف تحدياته عند مرحلة التنزيل، وإنّما تتعدّاها إلى مرحلة التّأويل. بل يمكن القول، إن صراع التّأويل هو أشد صعوبة، وأعظم خطرًا من صراع التنزيل.
وتوضيح ذلك، أن الدين عندما ينزله الله تعالى، فإنه يدعو بشكل أساس إلى منظومة من المفاهيم والقيم الأخلاقيّة والإنسانيّة والاجتماعيّة… وعلى رأسها العدل والقسط، وهذه الدعوة تشكل تهديدًا لمصالح قوى وجماعات كالمترفين، والمفسدين، والمنافقين (لاحقًا)، وقوى السلطة والمال، والقوى التقليدية المناهضة لأي تغيير، يمسّ مصالحها ونفوذها. فتعمل هذه القوى والجماعات على مواجهة الدين في مرحلة التنزيل- أي مرحلة تثبيت نصوصه الأولى والأصليّة – حيث تكون هذه المواجهة مواجهة مباشرة، تأخذ طابعًا صداميًا عنفيًا عسكريًا، وتهدف إلى منع الدن من تثبيت أركانه وإحكام أسسه؛ لكن ما أن تكون الغلبة للدين وفئته على تلك القوى والجماعات، ويستطيع الدين أن يحكم بنيانه، ويثبت أركانه في معركة التنزيل تلك؛ حتى يبدأ فصلٌ جديدٌ من فصول تلك المواجهة. ومن هنا، إذا ما طرح هذا السؤال، وهو: عندما ينتصر الدين ويحكم أسسه وبنيانه، هل تنتهي المعركة وفصول المواجهة بشكل كامل مع تلك القوى والجماعات المذكورة ومصالحها، أم أن فصلًا جديدًا من فصول تلك المواجهة يبدأ؟
الجواب أن تلك المواجهة لا تنتهي عند حدّ غلبة الدّين في مرحلة التّنزيل، وإنّما يبدأ فصل جديد من فصول تلك المواجهة بين الدين وأهله من جهة، وتلك القوى والجماعات من جهة أخرى. سوى أن طابع تلك المواجهة، وأساليبها، وأدواتها، وأهدافها المباشرة؛ كل ذلك يكون مختلفًا عما كان سائدًا في مرحلة التنزيل، وأساليبها، وأدواتها، وأهدافها المباشرة. حيث يمكن أن نطلق على هذه المعركة تسمية معركة التأويل، أي معركة تفسير الدين، وإنتاج دلالاته.
هنا، في مرحلة التّأويل – أي تفسير الدين وتأويل نصوصه وكتابه – تصبح تلك القوى والجماعات المخالفة للدين وقواه، جزءً من الاجتماع الدّيني العام، عندما تنخرط في هذا الاجتماع، كتدبير شكلي وضروري للحفاظ على مصالحها ووجودها، ولتغيير طريقة العمل لديها، من مواجهة مباشرة إلى مواجهة غير مباشرة. ومن مواجهة تأخذ طابعًا صداميًّا عنفيًّا، إلى مواجهة تأخذ طابعًا فكريًّا ثقافيًّا. من مواجهة تعتمد أدوات الحرب والقتال، إلى مواجهة تعتمد أدوات التفسير والتأويل.
كما يمسّ التغيير أيضًا الهدف الأساس الذي تعمل عليه تلك القوى والجماعات، من إسقاط الدين برمّته، إلى العمل على ابتداع تفسير له، وإنتاج تأويل لنصوصه، يعيد تلك القوى ومشروعها إلى واجهة الصدارة، ويحفظ لها مصالحها وأهدافها.
هنا تبدأ المواجهة الأخطر، عندما يعمد إلى الإبقاء على ظاهر من الدين وشكله، لكن يجري العبث إلى حد بعيد في مضمونه، ومحتواه، وقيمه. هنا يعمل على استخدام الدين كوسيلة، للحفاظ على مصالح تلك القوى والجماعات، عندما توظف نصوص الدين، أو يعمل على كتمان حقائقه، وتزييف معانيه لتحقيق أهدافها. هنا يجري العمل على قلب المفاهيم الدينية، حيث يصبح ما هو أساسي في الدين – كالعدل والإصلاح – أمرًا ثانويًا، أو يمكن تجاوزه. وتصبح الأمور ذات البعد الاحتفالي أو (الطقسي) – مثلًا – أمرًا جوهريًا، كي تستخدم للتغطية على فساد السلطة وانحرافها، وانقلابها على الدين وقيمه الأساسية.
إن الخطورة في هذه المواجهة، لا تكمن فقط في أن تلك القوى والجماعات تواجه في الميدان نفسه (الاجتماع الدّيني)، أو أنّها تنافس بالأدوات نفسها (الدين ومشروعيّته)، ولا بالوسائل والأساليب نفسها (الفكر والثّقافة…)، ولا لمجرد أن تأويلها هذا ومضمونه، قد ينطلي على كثيرين، لأنّها تقدمه باسم الدّين، ولا لأنّها تملك القدرة على المواجهة من خلال توظيفها لأدوات المال والسّلطة…؛ وإنما تكمن الخطورة في أنّ تلك القوى والجماعات تعمل على هذا الهدف، وهو إنتاج تأويل للدين وتفسير له، سوف يعتمد بعد برهة من الزمن باعتبار كونه الدين نفسه، وأنّه ما أراده الله تعالى، وأنّه ما يجب العمل به لطاعة الله تعالى ورسوله [صلى الله عليه وآله] والسير على نهجه وهداه. حيث يصبح والحال هذا المرجعية الدينية في التشريع، والفكر، وبناء ثقافة الناس، ومجتمعاتهم. ليصبح هذا الفعل سببًا في تشويه الدين، والوعي، والسلوك، والثقافة، والممارسة، بل في تدمير مختلف مناحي الحياة الاجتماعية للناس ومصالحهم. هنا، لا يقتصر عبث تلك الجماعات على مصالح الناس وحقوقها، وإنما يشمل أيضًا الدين وتفسيره. ولا ينحصر فسادها في ميادين المال والاقتصاد الاجتماع، بل يتعداها إلى الفكر والثقافة والوعي والمعرفة الدينية. حيث تصبح الضحية هنا ضحيتان، الأولى المجتمع، وحقوقه، ومصالحه، والثانية الدين، وتأويله، وتفسيره. وكما تستخدم الأولى للسطو على الثانية، تستخدم الثانية للإيغال في الأولى.
هنا تتيه الحقائق، وتنقلب المفاهيم، وتغلب الشبهات. فيصبح الدّين نقمة، ولا يبقى فيه رحمة، وتصبح طاعة الله عدوانًا، والعمل بهداه إجرامًا، وتضحي العقيدة أنّ الله تعالى خلق الخلق ليقتلهم، وليُعمل الذبح فيهم. وكل ذلك يقدّم باسم الدين وشريعته. هنا يصبح الفساد صلاحًا، والظلم عدلًا، والتعصّب فضيلة، والعنصرية كرامة، والتخلّف هداية، عندما يضحي التأويل إما من السلطان، أو إليه. أي إما أن يؤخذ من السلطة، أو يكون هدفه تعظيمها وتبرير فعلها.
هنا إذا ما نجحت تلك القوى في تثبيت تأويلها للدّين على أنّه التّأويل الحقّ، فإن هذا الانحراف سوف يكتسي قدسيته، وينال مشروعيته. ولن يقف عند حدود تلك القوى وفئاتها، بل سوف يعم الاجتماع الدّيني بمجمله. ولن يقتصر على زمن إنتاج ذلك التأويل وعصره، بل سوف يعمّ الزّمن الديني كله. حيث سوف يأتي أقوام، وتذهب أمم، لتعمل بذلك التأويل، فترتكب الظلم، والبغي، والفساد، وتخالف الدين وقيمه، وتوغل عدوانًا وإجرامًا وتشويهًا للدّين، وينبري المؤمنون للتضحية بكل ما لديهم، لنصرة الانحراف عن الدين، وكلّ ذلك باسم الدين ورسالته.
إنّ ظاهرة التكفير الإجرامي الذي نشهد لم تكن فلتة من فلتات التاريخ الديني. إنّ ما نقدّمه ليس مجرّد تحليل، وإنّما هو واقع التاريخ الديني كله، بما فيه الإسلامي. ولا أدل على ذلك (في الإطار الإسلامي) من ظاهرة الوضع والتحريف، التي فشت في النص الحديثي، والتي كان لها العديد من أسبابها، والتي منها السياسية والاجتماعية… وأيضًا ظاهرة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله، والتي بدأت في حياته. فضلًا عن انخراط العديد من فقهاء السلاطين في ركاب السلطة، ومشروعها المعرفي والثقافي، وابتداعهم لنصوص دينية، وأكثر من تفسير، عمل على تقديمه على أنّه البيان الحقّ، وتلقته الناس بالقبول والتسليم.
هي معركة التّأويل إذن، حيث نجحت قوى السلطة والمال والجاهليّة، في إنتاج تأويل هجين للدين، تأويل أخذ من الدّين قدسيته ومشروعيته و(طقوسه)، ومن السلطة عنفها واستبدادها وإقصائها، ومن الجاهلية عصبيتها وقسوتها ولا عقلانيتها. فكان ذلك التأويل وتراثه الديني، نتيجة هذا الاندماج العجيب لتلك العناصر الآنفة الذكر.
إنّ ظاهرة التّكفير الإجرامي الذي نشهد، لم تكن فلتة من فلتات التاريخ الديني، بل هي حصيلة أكثر من مخاض وصراع في ذلك التاريخ وأحداثه وتحولاته، حيث استطاعت تلك القوى أن تعيد مشروعها ومفاهيمها وثقافتها إلى ساحة الفعل والحضور والتأثير، لكن هذه المرة بغطاء ديني. وحيث تمكنت أن تنقلب على الدين وجوهره، باسم الدين وبلباسه. إن ظاهرة التكفير الإجرامي، ليست إلا نتاج الانقلاب على الدين، والعبث في تأويله وبيانه، وإحدى أسوأ تمظهرات ذلك الانقلاب ونجاحاته. هي التعبير الأوضح عن نجاح السلطة ومشروعها في التأثير على الدين وتفسيره. هي الدليل الأجلى على تسلل الجاهلية إلى الوعي الديني ونصوصه. وهي البرهان على ما مارسته تلك السلطة وجاهليتها من احتلال لبعض من التراث الديني وجملة من أسفاره.
إن من يحلّل العناصر الفكرية الأساسية التي تشكل ظاهرة التكفير الإجرامي (إلغاء، عصبيّة، استبداد، عنف، إجرام، شكلية دينية، قداسوية…) يصل إلى هذه النتيجة، أنها نتاج ذلك التأويل للدين، الذي هو خليط من عناصر جاهلية وسلطوية ودينية، تأخذ من الدين ظاهره، وتدع جوهره. تعمل بـ(طقوسه) وتنبذ قيمه. تستعير قدسيته، وتجافي رحمته، تأتزر مشروعيته، لكنها تقصي إنسانيّته وحضاريّته، ومعانيه الأخلاقيّة السامية.
إن نجاح تلك القوى ومشروعها في إعادة التموضع في الاجتماع الإسلامي، وإعادة إنتاج نفسها باسم الدين، والسطو على تأويله؛ كل ذلك قد أدى إلى إعطاء مشروعية دينية لمفاهيم ذلك المشروع وانحرافه، ومنحه طاقة كبيرة على العمل والانتشار، وساعد في تزويده بدينامية مستديمة لإنتاج العنف والإجرام والانقسام والاختلاف في الاجتماع الإسلامي، كلما توفرت الشروط والظروف المناسبة، لتسييل ذلك التأويل ومفاعيله. لعل هذه المقاربة تضيء على طبيعة تلك النشأة وخلفيتها، والأسباب والعوامل، التي أنتجت لاهوت التّكفير. وكيف استطاع – بدور من السلطة – أن يصبح جزءً أساسيًا من التراث الديني، ومصادر المعرفة، والسلوك، والتشريع لديه… وهي أيضًا مقاربة تسعى إلى تشخيص مكمن الخلل، لتشير إلى المنابع التي تنتج ظاهرة التكفير الإجرامي، ومفاعيلها، وجميع أزماتها.
لكن المشكلة أن هذا التّراث التّكفيري قد تمذهب، وتحوّل إلى ثقافة مجتمعات بأسرها. وهي تملك الكثير من نفوذ السلطة وسطوة المال. وتملك من قدسية الدين ومشروعيّته، ما يجعل من دعوتها وأفكارها مادة سهلة النفاذ إلى نفوس الكثيرين، عندما توظّف لغة الدّين ونصوصه، وتستغل العاطفة الدينيّة، لممارسة الاستقطاب والدعوة والتجنيد، بل عندما تستغل أهم الرموز الدينية لتحقيق جملة أهدافها وسياساتها.
المشكلة الآن أنّ هذا التراث التّكفيري قد أصبح ظاهرة معقّدة ومنتشرة. له رجاله، ودعاته، ومساجده، وجامعاته، ومدارسه، ومصادر تمويله، ومنابره الإعلامية، ووسائل إعلامه، وتنظيماته، وأحزابه، وجمعياته. بل وأنظمة سياسية تتبنى فكره وثقافته، وإن تبرّأت من بعض أفعاله. ودعمًا إقليميًا ودوليًا، عندما يصبح التكفير أداة في ساحة الاحتراب الدولي والإقليمي.
إن ما تقدّم قد يوصل إلى هذه النّتيجة أنّه إذا كانت ظاهرة التّكفير ظاهرة مركبة لها أبعادها الفكرية والدينيّة والثقافيّة والإعلامية والمالية والاجتماعيّة والسياسيّة… فإن مواجهتها يجب أن تكون مواجهة شاملة، تأخذ بعين الاعتبار كافة الأبعاد التي ذكرنا، ولا تقتصر على بعد دون بقية الأبعاد.
وقبل كل شيء ينبغي توفّر الإرادة الصادقة، وشجاعة الموقف، التي لا يحول بينها وبين تحمل مسؤوليّتها أي عامل سياسي أو مصلحة اقتصادية أو سوى ذلك. كما ينبغي الكف عن استخدام وتوظيف هذه الظاهرة في أي صراع دولي أو إقليمي، لتحقيق أهداف ومصالح ظرفية، لكنها قد تؤدي إلى تحويل التكفير إلى وحش إجرامي يفتك بالمجتمعات وأمنها.
إن مواجهة هذه الظاهرة تحتاج إلى مشروع شامل وجذري، وإمكانيّات كبيرة، وتعاون الكثير من القوى، وتسمية الأشياء بأسمائها. لأن المديات التي وصلت إليها هذه الظاهرة حاليًا، هي مديات غير مسبوقة في التاريخ الإسلامي، بل والديني أيضًا. وهي تزداد انتشارًا واتساعًا يومًا بعد يوم. وباتت أخطارها تهدد العديد من المجتمعات وأمنها وجميع أوجه الحياة لديها. وهذا ما يتطلب عدم المداهنة في تشخيص الأسباب الأساسية الكامنة خلفها، وخاصة ما يرتبط بالجانب الأيديولوجي والديني والثقافي… ومنبعه ومؤسساته، بل ومجمل المنظومة التي تنتمي إليه، وتدعمه وتعمل على الترويج له، والدعوة إليه، حتى لو كانت أنظمة تتلطى بالدين، وتلتحف رداءه.