فصام الفكر السائد: بَسْطُ الإشكالية
جريدة السفير
لا تزال تتجاور في الواقع العربي العمامة والقبّعة، والمحراث القديم وأحدث الحواسيب، وما بعد الحداثة وأعتى السلفيات الفكرية، والشعر العمودي وآخر صرعات قصيدة النثر. وإذ تبدو صورة الأشياء في المجتمع والثقافة على هذا النحو من التجاور والتراكب الذي يجمع على نحو انشطاري بين أحدث البنى والتقنيات والأفكار والعادات وأقدمها، فإنَّ الفكر العربي بتلاوينه السائدة يسارع إلى استنتاج مفاده وجود قطاعَيْن – “تقليدي” و “حديث” – يتجاوران من دون تداخل أو تفاعل، وإلى اعتبار أحدهما علّة العلل التي يجب استئصالها كي يستعيد المجتمع تناغمه القديم، بحسب “التقليديين”، أو يصل إليه، بحسب “الحداثيين”.
تلتقي على فكرة الانشطار هذه شتى المنظومات الفكرية العربية السائدة: سلفيّها وقوميّها وليبراليّها، بل وماركسيّها في بعض الأحيان. وما يميّز هذه المنظومات على هذا الصعيد ليس حدًا فارقًا، أو تناقضًا جوهريًا، بل الطرف الذي يتم اختياره ومناصرته من طرفي ثنائية القديم/ الجديد. هكذا نجد، من جهة أولى، مَن يرى أنَّ استمرار القديم، أو الماضي في الجديد، أو الحاضر هو سبب ما نرزح فيه من تخلف. وأنّه لما كان الماضي هو ماضي “الذات” والحاضر هو حاضر “الآخر” (الغربيّ خصوصًا)، فإننا بحاجة إلى التماثل مع الآخر كي ندخل العصر الذي هو عصره. كما نجد، من جهة أخرى، من يرى أنّ التراث الماضي الإسلامي أو العربي الإسلامي (الواحد المفرد الثابت المناسب لجميع الأزمنة) هو الذي بلغ بنا ذرى المجد، وأنَّ العودة إلى هذا التراث الذي هجرناه فتدهورنا هي شرط ضروري وكاف لاستعادة المجد الذي ضاع بالركض وراء الغرب والحداثة المستوردة.
أمّا بين هذين الطرفين، فنجد كثيرًا من التسويات التي تحاول الجمع بينهما من دون أن تخرج عن منطقهما. وهذا ما يفسّر أنَّ المدوّنة الفكرية العربية في غالبيتها العظمى مأخوذة بتناول قضايا التراث/ الحداثة، الأصالة / المعاصرة، التقليد/ التجديد، التخلف/ التقدم، الخصوصية/ الكونية، الإيمان/ العقل، الدين/ العلمانية، الشرق/ الغرب، الذات/ الآخر، إلى أن تصل إلى أحطّ أشكالها في الكلام على الريف/ المدينة، والأكثرية/ الأقليّة… لتلصق ذلك كلّه لصقًا من دون قدرة على رؤيته في ضوءِ منطقٍ واحديّ متماسك، وتكتفي برؤيته في تقابل ضديّ لا يجمعه في أحسن الأحوال أيّ شيء يتعدى التسويات المفتعلة القائمة على النيات الساذجة التي تتوهّم القدرة على الأخذ من “التراث” بأحسن ما فيه ومن “الحداثة” بأحسن ما فيها.
ما يوحّد تيارات الفكر العربي السائد المختلفة هذه هو، إذًا، منطق الثنائيات الواحد الذي يتلخّص بالقول إنَّ مجتمعنا وثقافتنا منقسمان إلى اثنين، أولهما شرقي، ذاتي، تقليدي، أصيل، أكثري… وثانيهما غربي، غريب، حديث، نخبوي، أقلّي… وإنَّ العلاقة بين الإثنين، في جوهرها، علاقة تضادّ واغتراب متبادل لا تتعدّى إمكانية المجاورة المفتعلة أو المفروضة أو المشتهاة في أفضل الأحوال. ويمكن، تبعًا لمنطق الثنائيات هذا، إقامة جدول بعمودين نضع “الذات” في أعلى أولهما و”الآخر” في أعلى الثاني لتتعاقب تحت كلّ منهما تلك الصفات الجوهرية الثابتة التي تميّزه. فـ”الذات” تراثية، أصيلة، تقليدية، متخلّفة، خصوصية، دينية، مؤمنة، خارجة على العقل، شرقية، أكثرية، ثابتة، لا تاريخية… سواء أكان ذلك مدحًا أو قدحًا، أمّا “الآخر” فحديث، معاصر، جديد، متقدّم، عالمي، علماني، عاقل، غربي، أقلّي، متحول، تاريخي… سواء كان ذلك تقريظًا أم تثريبًا.
ما يوحّد هذا الفكر الفصامي هو ما يريد أن تقنعنا به تياراته على اختلافها من أنَّ ثمة نطاقًا من العالم (ومن المجتمع) لا يمسّه التحول في حين أنَّ نطاقًا آخر ديدنه التحوّل؛ نطاق خارج التاريخ وآخر تاريخيّ؛ وأنَّ التناقض لا يخترق أيًّا من طرفي هذه الثنائيات الجوهرية الثابتة، فلا وجود لصراع داخل الذات ولا داخل الآخر. لا وجود لصراع في الثقافة الغربية بين فكر راديكالي وآخر رجعيّ، أو بين فكر علمي وآخر بعيد عن العلم. ولا تمييز أيضًا في مجال “الذات” بين محمد عبده وعبد الله العلايلي من جهة وابن باز والقرضاوي من جهة أخرى.
تبدو صورة المثقف العربي لهذا المنطق إمّا صورةً أحادية الجانب أو فصامية في أفضل الأحوال. فهو إمّا مغترب عن ذاته أو مغترب عن العصر، أو توفيقي متمزق بين الذات والعصر. أي أنّه إمّا مثقف حديث يحمل ثقافة “الآخر” وتتأكّد هويته كمثقف من إطار مرجعي “غربيّ” لا علاقة له بالحركة الاجتماعية والتاريخية الداخلية، أو مثقف تقليدي يحمل ثقافة الذات الأصيلة، أو أنّه بين بين، يحاول أن يجمع الطرفين مغلّبًا طرفًا على طرف من دون خروج على القاعدة التي تنتظم المنطق الثنائي. فالثقافة في هذا المنطق ليست مجالًا لصراع اجتماعي وفكري، شأنها شأن المجتمع المعقّم من الصراع. ووظيفة هذه “الثنائيات” أن “تلغي” الحركة المادية للصراعات الاجتماعية والفكرية التي تخترق جميع مجالات الحياة المجتمعية ومستوياتها بلا استثناء، وأن تحلّ محلّها حركة وهمية بين “ذات” وهمية أسطورية جوهرية لا يخترقها التناقض ولا الصراع، و”آخر” وهمي أسطوري جوهري خالٍ من أيّ صدوع أو انشقاقات. وبذلك يتحول التاريخ ذاته إلى جوهر متكرر ثابت من دون تبديل، وتبدو جميع الصراعات التي عرفها تاريخنا ويعرفها حاضرنا على أنّها صراع بين العربي والأجنبي، أو المسلم والكافر، أو الشرق والغرب، أو الأكثرية والأقلية.
هكذا توحّد التعمية والوهم هذا الفكر الذي ينشرهما على اختلاف توجّهاته. غير أنّ السؤال الذي يطرح نفسه هو كيف عرفنا أنّه فكر أعمى وواهم؟ هل من سبيل لمقاربة أخرى بعيدة عن منطقه الفصامي؟ هل من سبيل إلى مقاربة مجتمعنا وثقافتنا مقاربة واحديّة تراها بنيةً واحدةً هي التي تفسّر حتى الفصام والانقسام إذا ما وُجدا، وتراهما بعين بصيرة وعقل منقشع الأوهام؟